شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المصادرة بدل ((الْفَلَكَة))..
(لا أخفي أني ارتعبت، وداخلني من الخوف مالم يسبق أن أحسست بمثله قط... ونسيت تماما العلاقة بين تلك (الكريولة) وهي السرير الفخم المزخرف وبين عملية الختان التي يسميها الأتراك (سُنَّتْ) ـ بضم السين، وتشديد النون وتسكين التاء ـ وهم يقصدون سنة الختان ـ بل منذ تلك اللحظة حرصت على أن أتجنب الدخول في غرفة (الكريولة) هذه التي كنت أرى بابها المغلق، بابا إلى ذلك المصير المجهول. وأخذت اتمنى، وأدعو الله سبحانه، أن يحدث في الدنيا أي حادث كالحرب مثلا، فينسى البيت حكاية الختان أو (الطهور) كما يسمونه في المدينة وحواضر الحجاز.
ثم خلال الفترة التي تسبق شهر ربيع الأول (وكان يسمى شهر المولد) وهو الشهر الذي ولدت في اليوم الثاني عشر منه، وقد فهمت مما يدور من الحواربين (منكشة) وتلك العجوز الطيبة (أمي باجي) ثم بين الجنديين، وهاتين الخادمتين السوداوين أن هناك مجموعة من الاستعدادات التي شرعوا يقومون بها استقبالا ليوم هذا الختان، ومنها أعمال نظافة المنزل الذي كنت أراه نظيفا، وكانوا هم يرون فيه ما يستحق أن يبذلوا كل ذلك الجهد لتنظيفه الطائل.. من ذلك على سبيل المثال تنظيف جدران المنزل كلها بما فيها السقف ثم الأجزاء الخشبية كالأبواب والنوافذ، و (الرواشين) والأجزاء التي تسمى (الشيش) وهوالمُخرَّم الذي يسمح بدخول الهواء، وأن يرى من بالداخل الشارع أو الزقاق دون أن يراه احد من المارة وهذا عدا الزجاج، الذي يفتح للهواء ويغلق إذا كانت الغرفة، من مستوى (الصالون) في أيامنا يعد دائما لاستقبال الضيوف. أما (الدرج) من الحجر الأسود ـ ولا أدري لماذا لم تكن من (المرمر) كالدهليز... أما هذه (الدرج) فقد كانت تنظف مرات ومرات، بنوع من المكانس الخاصة بغسل الحجر وتنظيفه.
وبطبيعة الحال لم انقطع خلال هذه الفترة عن الكتاب... فقد تدربت على سلوك أزقة ومنعطفات منطقة (مقعد بني حسين) المظلمة والمسقوفة أحيانا، والمضيئة بما يشبه فتحات، بين كل مسافة وأخرى. وتوثقت علاقتي في الكتاب بأسعد الذي كان يأتيني بأخبار (القشاع) بين المناخة والساحة وعن (المشاكلة الكبار) وكيف جرح أحدهم، ولكن (الدم مدفون).. أي إنه لم يدع على الذي جرحه بنبوته في جبهته ويضيف أسعد أن العسكر في (باب الشامي) هم الذين أوقفوا القشاع والمضاربة قبل (الليل)... وحين علم أني أصبحت أسكن (مقعد بني حسين) قال إنه لم يسمع بقشاع اشترك فيه (عيال) من هذه المنطقة... وأضاف إنه يتمنى لو أني أجيء معه يوم الخميس القادم لأرى القشاع كما يراه هو والأطفال من سكان زقاق الطيار والسيح.
أما أهم أخبار أسعد، فقد كانت أمه (الحبلى) رفضت الرجوع لزوجها، وأن أباها يقول لها (بيت أبوكي هوه بيتك.. انتي وأسعد) ولذلك فأسعد مطمئن إلى أنه سوف لن يعود إلى بيت زوج أمه، الذي كان يضربه كما كان يضربها هي أيضا و (بالمداس).
وكان من الذين توثقت بيني وبينهم العلاقة في كتاب العريف ابن سالم (مالك خليفة)... وهذا بالذات، علمت مع الأيام أن أباه من (السادة) ومن كبار أهل المدينة واستمرت علاقتي به إلى أيام الصبا وطلائع أيام الشباب.
وتطورت تصرفات (الشقاوة) و (العفرتة) بيننا، ومنها الاستمرار في تكسير الأباريق.. وعندما اشترى الكتاب أباريق من الصفيح.. لم نتردد في قطع ما كنا نسميه (أخشامها ـ جمع خشم)، وهذا إلى جانب مسحوق كنا نشتريه من العطار ونحتال لنفثه عندما ترتفع أصواتنا بالقراءة.. فإذا بنوبة من (العطس) تنتشر لتصل حتى إلى العريف... ولم يكن الشيخ الجليل يجهل هذا المسحوق، فيأمر العريف (محمد) بتفتيش كل واحد منا، فإذا وجد أثرا للمسحوق في جيب أحدنا، فأن نصيبه تلك (الفلكة) و (الفرش) بينما نوبة (العطس) مستمرة.. ومعها الضحك المتواصل، على الذي وقع في الفلكة و (أكلها) والضمير عائد على (العلقة). ثم ابتكر الشيخ، عقوبة جديدة غير الفلكة و (الفرش) وهي مصادرة أي مبلغ يجده في جيوبنا.. ولكنها مصادرة مؤقتة إلى أن يحين موعد (الصرفة) فينادي كل من أخذ منه قرش، أو أكثر، ويعطيه ما صودر منه ولكن بعد (مصع) أذنه إلى أن تحمر. ومع أننا كنا نؤكد في كل مرة كلمة (توبة يا الشيخ) فإن التوبة هذه كانت مجرد كلام... إذ ما أكثر ما عدنا إلى هذه التصرفات، وكان اخطرها بعد قطم (اخشام الأباريق الصفيح) تفريغ كل ما في الحنفية الجدارية من الماء... وكانت هذه عملية تعاونية يتفق عليها، بين ثلاثة أو أربعة.. يدعى كل منهم بأنه (محصور) برفع إصبعه الصغير واقفا ويده الأخرى بين فخديه.. فيخرجون على التوالي.. وما هي إلا دقائق حتى يتم تفريغ الحنفية من الماء.. فالأباريق مقطوعة (الأخشام) والحنفية لا ماء فيها... ومع ذلك فقد كنا نسرع للصلاة في وقتي الظهر والعصر... وقد افتانا أحد الكبار من الزملاء بأننا نستطيع أن نتيمم.. وعلمنا التيمم.. وهذا ما شجعنا أو أغرانا بأن نواصل تخريب الأباريق، وتفريغ الحنفية الجدارية من المياه... وأذكر أن أمي سمعت عن تصرفاتنا و (شقاوتنا) فهددتني بأنها إذا سمعت أني اشترك في هذه التصرفات، فإنها هي التي سوف تعطيني (علقة عند الله خبرها). ومع أني أعرف أنها لا تتردد في تنفيذ تهديدها فقد تغير احساسي بالرهبة من هذه التهديدات، لأني كنت قد تعودت على رؤية علقات الكتاب ونتائجها مع من يقعون تحت طائلتها، إذ لا يلبث الواحد منهم أن يعود إلى نفس (الشقاوة) ويأكل نفس العلقة، ربما أكثر من مرة في الشهر الواحد.
* * *
بعد عودتي من الكتاب في أحد الأيام رأيت أن عمليات تنظيف البيت لم تقتصر على البيت، جدرانه ونوافذه وأبوابه وسلالمه.. بل بدأت تمتد إلى (الزقاق) الذي يقع فيه البيت.. فقد رأيت الجنديين (اسماعيل ومحمد علي) ـ ومعهما أكثر مْن عاملين من (التكارنة) يزيحون عن أرض الزقاق التراب، وما تجمد من الطين، بعد هطول الأمطار... بل ويمسحون اعتاب المنازل المجاورة.. وهي من (الحجر الأسود)...
ولم أفهم شيئا في أول الأمر.. ولكن مالبثت، أن فهمت من الجنديين... وقد أصبحت أفهم الكثير من اللغة التركية التي يتحدثان بها... ـ انهم يعدون ليوم (الختان)... وتساءلت بيني وبين نفسي عن علاقة الزقاق بهذه العملية.. فهمت حكاية تلك (الكريولة) والغرفة المزخرفة، وحكاية التنظيف واسعة النطاق في داخل المنزل... ولكن (الزقاق كله).. من باب منزلنا إلى باب (عثمانية هانم) الذي يبعد عن بابنا بأكثر من عشرين مترا... لم استطيع أن أفهم شيئا، وبدا لي أن الجنديين والعاملين الأسودين لا يعرفون شيئا سوى أن هذا هو المطلوب.
وفي الكتَّاب سمعت حكايات كثيرة عن الأفراح التي يقيمها الناس في يوم ختان الأولاد ومنها عداد الخرفان التي تذبح، وتعد لغذاء أو عشاء المدعوين من الرجال والنساء... ولكن أهم وأفظع ما ملأني رعبا هو أن الذي يبكي وهو يختن يحتقرونه، ويظل في نظر جميع أقرانه، بل وحتى في نظر أبيه وأعمامه (خِرِنْتَه) ولا يستحق أن يعتبر (رجال)... والخرنتة هذا في مفهوم الناس، أنه مخلوق أقرب إلى الأنثى أو البنات.. ومعنى هذا أن عملية (الختان) هذه تحتاج إلى الشجاعة والقدرة على احتمال الألم عند (الختن) الذي يقوم به (المزين بالموسى.. ثم يكبس مكان القطع بالبن، والملح)... وقلت لنفسي وأنا اسمع هذا الكلام: (البُن) طيب، وأقصد أنه لا يسبِّب (الحرقان) كما سبق أن سمعت من يحي، ولكن الملح هو (المصيبة)... أي جرح يوضع عليه هذا الملح، لابد أن يكون مثل النار.
* * *
وكان شهر (المولد) كما يسمى ربيع الأول قد بدأ.. وكنت أتوخى أن أسمع عنه ولأني أعلم أني ولدت في اليوم الثاني عشر منه، قدرت أن (المصيبة) وهي عملية الختان سوف تتم في ذلك اليوم... ظللت أحرص على الذهاب إلى الكتاب كل يوم، وفي الطريق إليه والعودة منه كانت تدور في ذهني المتاعب التي اقترب من موعدها يوما بعد يوم ولذلك فقد أخذت أخطط، وأفكر في طريقة اتخلص بها من اليوم الذي يجيء فيه (المزين) بالموس والبن والملح. ولا سبيل إلى الخلاص إلا بالهرب، إلى المزارع، والعمل وراء حمير السواني... نفس الفكرة التي ظلت تراودني وكان يفكر فيها يحيى بعد زواج أمي.
ولم أتردد.. فقد بدا لي أن ألجأ إلى يحيى، ليرشدني إلى الطريق الذي أصل به إلى إحدى المزارع التي لاشك أنه يعرف الكثير منها... ولذلك فعندما خرجت من الكتاب قبل اليوم الثاني عشر من شهر (المولد) انطلقت إلى الساحة، ومنها إلى بيت يحيى في زقاق الحبس. وجدته عند باب منزله.. فتلقاني بفرحة كبيرة.. وأجلسني إلى جانبه على دكة من الحجر الأسود توضع عادة على أحدى جانبي المدخل. وأخذت أقص عليه الحكاية كلها، وانتهيت إلى أن رجوته أخذي معه إلى احدى هذه المزارع التي يسمونها (البلدان) فإذا به يضحك ويقول لي متسائلا: (انت اتجننت؟؟؟) ثم أضاف: (انت ناسي انو زوج أمك ظابط.. يركب الحصان.. وعنده عساكر تحت أمره... هادا يجيبك ولو دخلت تحت الأرض).. ولم اقتنع.. بل أخذت أتوسل إليه.. أن يخبرني.. دون أن يذهب معي.. عن أسماء المناطق أو الحواري التي توجد فيها هذه (البلدان) فقال (كل البلدان في العوالي وقبا والعيون) ثم أضاف: (العوالي وقبا تخرج لها من (باب قبا)... أما العيون تخرج لها من (باب الشامي) ثم أضاف محذرا وهو يرمش جفنيه بسرعة وانفعال: (ترى اصحا تروح في الليل.. يقولوا الطريق (مقعود) البدو ياخدوك ويبيعوك...).
ولم يفتني أن أسأله عما آل إليه حاله وقد ادخلوه كتاب (القبة) في المناخة عند الشيخ حامد؟؟؟ ضحك ضحكة صغيرة وهو يقول: (ما في غير إني آكل العلقة، حتى ولو حفضت اللوح... قول معايا.. ربنا يكسر له يده).
وعندما أخذت اتسلل بين أزقة (مقعد بني حسين كانت الشمس تقترب من الغروب... ولذلك فالظلام بدأ ينشر رهبته على المنعطفات... ومع ذلك فقد كنت أعرف كيف أسلك طريقي إلى البيت... وكانت المفاجأة.. إني قبل أن أنعطف إلى الزقاق الذي يقع فيه المنزل كان أمامي الجندي (اسماعيل) بقامته الطويلة.. فما كاد يراني حتى رفع كفيه ورأسه إلى السماء وهو يقول: (الحمد لله... الحمد لله) ثم أخذ يسألني أين كنت؟؟؟ وما الذي أخرني عن موعدي حتى ذلك الوقت؟؟
وكان الرد عندي جاهزا... لفقته في طريقي منذ اللحظة التي غادرت فيها يحيى في زقاق الحبس... وهو أني فقدت (جزء عمّ) الذي أصبحت أحفظ منه القرآن إلى جانب اللوح وظللت أبحث عنه. في الكتاب... وفي الطريق... وحتى في الحرم، حيث صلينا العصر قبل الصرفة.
واقتنعت أمي بما قلت، وَسَلِمُت طبعا من أي عقوبة كان لابد أن أتعرض لها لو أحست أني أكذب.. وحمدت الله.. ودخلت ما كنا نسميه (البستان) وارتميت على أحد المقاعد (الخيزران)... وبينما أنا غارق في هموم (المزين والموسى.. والبن والملح).. سمعت من يناديني باسمي.. ولكن بصوت أقرب إلى الهمس)... رفعت رأسي.. لأرى من (مِنْور) بيت الجيران وجه فتاة تبتسم.. وتسألني (متى؟) وتشير بكفها لتوضح أنها تسألني عن موعد لم أشك أنه موعد ذلك اليوم الرهيب... يوم الختان... فقلت: (ما أدري.. لكن يمكن بعد كم يوم..) ضحكت ضحكة خفيفة وتساءلت (انت خايف؟؟؟ موكده؟؟) ولم أنكر إني خائف فعلا فلم أقل شيئا وانما هززت رأسي والتزمت الصمت. فقالت: (انت رجال... كيف تخاف؟؟).
وكان لهذه الكلمة (أنت رجال...) أثر السحر في نفسي ومشاعري... فقد ذكرتني على الفور بكلمة (بدرية) في زقاق القفل.. ثم بكلمات أمي عندما قالت (عزيز هوه رجال البيت)...،... ووجدت نفسي أردد (رجال البيت؟؟؟)... ثم اشرع بضياع معنى هذه الكلمة منذ تزوجت أمي... إذ أن (رجال البيت) هو زوجها (عمي).. ثم في البيت غيره.. اثنان.. كل منهما عنده بندقية (أم خمس)... فكيف أكون أنا (رجال البيت؟؟).
سألتها عن اسمها.. وكيف يمكن أن أصل إلى بيتها؟؟؟ وعرفت الاسم.. ووصفت لي كيف أصل... ولم يكن في ذهني أن اختفي عندها.. ولكني أحسست بأن في هذا المنور مخلوقا... فتاة ذكرتني ببدرية... بابتسامتها العذبة... وعينيها الجميلتين... ظللت في مكاني... إلى أن ارتفع صوت أذان المغرب... فغابت هي عن (المنور)... ونهضت أنا عن المقعد لأقضي ليلة أخرى في انتظار (المزين والموس.. والبن والملح).
وجاء يوم (عيد المولد) كما كان يسمى اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول.. ولم يظهر ما ينذر بيوم (الختان)... ومع احتفال البيت والناس جميعا بهذا اليوم، والزيارات التي يتداولها الجيران، أخذت مخاوفي من يوم الختان تخف، أو تغمرها مشاعر الفرحة باللائي يزرن أمي، من صديقاتها الكثيرات... ومنهن إلى جانب (بنات عثمانية هانم) جارتنا الخالة ((أم الفرج)) وابنتها تلك التي أطلت على من منور منزلها.
وكان من آداب السلوك أن أغادر المجلس حين يزدحم بالزائرات، أو أن أجلس بعيدا، بحيث لا أضايق أحدا من الجالسات... ظللت أصغي لما يدور من أحاديثهن، وكان أكثرها عن اللذين عادوا من هجرتهم بعد الحرب، أو الذين جاءتهم أخبار عن الذين لم يعودوا، لأنهم فضلوا الإقامة في الشام.
ولكن ما أسرع ما انتقل الحديث إلى الختان... وكانت الخالة ((أم الفرج)) هي التي تساءلت عن موعده، ثم أضافت ما فوجئت به فعلا، وهو أنهم ـ أي أمي وعمي ـ سوف يجيئون في يوم الختان با]المزيكة).. وهي موسيقى الجيش.. وسوف تظل هذه ]المزيكة[ تضرب ـ وهذا هو التعبير عن العزف ـ في الصباح، وبعد العصر، وحتى صلاة العشاء.
ولمحت نظرات أمي، وهي تلتفت إلى حيث كنت أجلس، وكأنها تحذر من أن أسمع عن الموعد.. ولم أسمع فعلا... لأن الخالة أم الفرج قد فهمت... ولكني أدركت أن هذا اليوم لم يعد بعيدا ورجحت أنه في الأسبوع القادم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :851  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 62 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.