شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيام العدّة... وليلة لن تنسى
واستطعت ان أفهم، ان شهور العدة ثلاث اشهر وبضعة أيام، لاتخرج أمى خلالها من البيت، ولا تقابل أو تتحدث الا إلى النساء... والأهم من كل ذلك انها يمكن ان تعود إلى عصمة أبي، اذا جاء قبل أو خلال هذه الشهور الثلاثة. والشهور الثلاثة تسعون يوما...فسرعان ما تذكرت حبات الفاصوليا، ألقي في كل يوم حبة منها في زجاجة (الكينالا روش)... ولست أدرى، لَم أخذ الاحساس بأن ابى لابد ان يظهر خلال هذه الفترة القصيرة، يتنامى ويلح، ويشد في الالحاح، مع الكثير من القلق وحريق يجتاح اعمق اعماق النفس، إلى جانب التخوف إلى حد الفزع والرعب، من ذلك اليوم الذي سوف تنتهي فيه الشهور الثلاثة، واسمع أو أشهد زواج أمي من هذا الذي ماتزال منكشة تتحدث عنه ،، وتكاد تجعل منه ملاكا، هبط من السماء، ولا هم له أو لها إلا الزواج من أمي. ولا احتاج ان اقول أنى في كل يوم اتخفى فيه في المكان الذي أخبي فيه زجاجة (الكينالا روش) لألقى فيه حبة الفاصوليا، كنت احاول أن اتصور ابي داخلا علينا... ولكن... اغرب ما في هذا التصور انى لم استطع قط ـ وحتى اليوم ان ارسم لوجهه، أو قوامه، أو هيئته، ملامح معينة بحيث، اقول انه هو هكذا لونا أو طول قامة، أو هنداما،.... أو صوتا... ولا بأس استطرد عن الموضوع بهذه المناسبة إلى حكاية حُلم... حلم رأيته عندما كنت نائما في سريري في فندق (امبيريال) في تايبية... رأيت فيما يرى النائم رجلا شيخا ربما تجاوز السبعين أو الثمانين من العمر، عارى الرأس بشعر فضي يتهدل على كتفيه وحول عنقه في اردية بيضاء... يقف على عبتة باب الغرفة... ولكن الباب مفتوح... تمتد وتترامى عبره مساحة لاحدود لها من فضاء، يشبه ذلك الذي نشاهده حين نكون في الطائرة... فضاء غائم، بحيث، بدا لي في الحلم، كأنه يدخل من باب طائرة إلى الغرفة... ودون ان يداخلنى خوف أو توجس من اى نوع بدا لى ان اسأله: من هو ؟؟ ماذا يريد ؟؟ فاذا به قبل ان انبس بكلمة واحدة... يقول لي:ـ
:ـ. زاهد... زاهد...
:ـ. ابويا ؟؟؟
:ـ. زاهد... زاهد.
ثم... استيقظت من نومى، وصورة ذلك الشيخ، بشعر رأسه الفضي المهتدل على كتفيه واقفا على عتبة باب الغرفة، وخلفه ذلك الفضاء، الغائم، وهو لايقول شيئا سوى كلمة واحدة... كررها: (زاهد... زاهد..)... وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة ـ طيلة حياتى التي رأيت فيها مخلوقا، استقر في ذهني انه أبي.
واعجب مافى قصة هذه الرؤيا، انى حين عدت من تايبيه إلى بيروت ومنها إلى جدة، فوجئت بأن زوجة ابنى ضياء حامل في شهرها الثاني... وان ابنى وزوجته قد اتفقا، دون سابق علم بالحلم الذي رايته في تايبيه، ان يكون اسم وليدهما اذا جاء ذكرا... (زاهد)... والأعجب انهما لم يقولا لى شيئا عن اختيارهما هذا الاسم.. وللأمانة اقول انى لم اقص عليهما قصة الحلم الذي رايته في الصين.. بل وللأمانة ايضا، لم اكن اعلق، أو اهتم كثيرا، باحياء ابى (زاهد)، في شخص حفيدي... كانت هذه المسألة لاتعني شيئا بالنسبة لى... فاذا بهما يفاجآنى عندما رزقا بوليد ذكر، بأنهما يسميانه (زاهد).
وزاهد ضياء عزيز ضياء بن زاهد اليوم في الرابعة عشرة من عمره، في السنة الثالثة من مرحلة الكفاءة،... وهو وحيد ابويه... ومازال كلما دخل علي مكتبى، اتذكر ذلك الشيخ الذي تجاوز الثمانين من العمر، ولم اره قط الا في الحلم.. كما لم اره بعد ذلك، ويدور في ذهني سؤال:ـ.
:ـ. ترى هل زارنى في ذلك الحلم... ليقول لى، انه سيظهر في شخص هذا الحفيد ؟؟؟
* * *
ومع مرور الايام، انتهت الشهور الثلاثة، وايامها التي ادخلتها في زجاجة (الكينالا روش)... وبطبيعة الحال دون ان يظهر لابي اثر... وما زالت اذكر ذلك اليوم أو تلك اللحظة التي القيت فيها الحبة التسعين من حبات الفاصوليا في الزجاجة... يبدو ان احساسي بالفجيعة قد تلبد، بحيث القيت الحبة ،، واعدت الزجاجة إلى مكانها، وخرجت إلى باب الزقاق، وفى ذهني ان الامر قد انتهى، ولم يعد امامي الا انتظار زواجها... والزواج في منطقي تلخص وتضاغط، في مضمون واحد هو أن أمي هذه التي لم انم قط ألا إلى جانبها وفى حضنها، بعد وفاة جدى، رحمة الله، سوف تتزوج، وسوف أنام / أنام انا... ؟؟؟
سوف انام انا... أين ؟؟؟ لن اكون إلى جانبها وفى حضنها... وهي اين سوف تنام ايضا ؟؟... مسألة لاتحتاج إلى ذكاء بالنسبة لطفل حكم القاضى بأنى في السابعة من العمر... سوف تنام إلى جانبه هو... هو ذلك الرجل الذي تقرر تماما ان تتزوجه بعد ان القيت آخر حبة فاصوليا في زجاجة (الكينا لا روش)... الحبة التسعون، تمامَ أيام الشهور الثلاثة، وما هي الا أيام حتى يتم هذا الزواج، الذي كنت ارى خلال الأيام الأخيرة من ايام (العدّة) كيف اصبحت احاديث الخالة فاطمة جادة... وبنتي العم صادق، واخريات، ومعهم منكشة، تدور حوله فقط، وما لابد ان تستعد له أمي بشراء اشياء كثيرة، من (جوه المدينة) ومن حوله (مغازة العم اسماعيل)، وليس لها وحدها، وانما لى ايضا، ومنها احذية جديدة وجوارب وملا بس داخلية، واقمشة من (اللاس) و(القرمسود)...
ولأول مرة، سمعت، كلمة (المَهْر)..... والنقاش الذي يدور حوله... كم ينبغي أن يكون ؟؟؟ فاذا التزمت أمي الصمت، تقول الخالة فاطمة:
:ـ. هوّه صحيح انتى يافاطمة (عَزَبَة) وعندك ولد... لكن برضه، انتى شباب... اللى قدّك لسه لا اتجوزوا... ولا جابوا بزورة... يعني لازم يكون المهر.... وتتردد في اكمال الجملة لتقول أخرى:
:ـ. يعنى ماهو اقل من عشرين جنيه عُسمنلي.. وهنا تتدخل منكشة لتقول بعربيتها المكسرة:
:ـ. هادا دكتور، مافى معاش كتير... كمان هو اسراف.. اسراف
وتستمر السهرة، على هذه الأحاديث تتخللها حكايات من تزوجْن من البنات، في تلك الأيام... وتلك الأيام هذه، تعنى ماقبل الحرب، وهنا تتساءل الخالة فاطمة
:ـ. ياترى كم كان المهر اللى دفعه زاهد يابنتى يا فاطمة ؟؟؟
وتجيبها أمى
:ـ. الحقيقة ابويا (الله يرحمهم) هو اللى يعرف... لكن انا سمعت أمى (الله يرحمهم) قالوا، أنو المأخر هو اللى عليه الكلام... وابويا هو اللى اشترى الفرش والمفارش، وحتى طقم الصفرة، وكل شيء..... اشترى كل شي من اسطمبول ثم، يرَبدُ وجهُها، وهي تقول:
:ـ. وكله راح... الحرامية في حماة سرقوا كل شيء.. حتى الحُجَج...، ومنكشة تقول البدو، اللى دخلوا بعدما خرج فخرى، نهبوا كل شيء.
وفى ليلة من هذه الليالي التي كانت تنقضي، في بيتنا أو في بيت الخالة فاطمة واحيانا عند (خاتون الهندية)، لاحظت ان بعض الأحاديث كانت تدور فيما يشبه الهمس مع النظرات التي ترامقني، بينما اتظاهر انا بأنى لا الاحظ شيئا.. ولم احتج إلى ذكاء أو تفكير طويل لأدرك، انهم قد قرروا ان يكون زواجها (غدا....) ولأول مرة اسمع ايضا كلمتى (المِلْكة) بكسر الميم وتسكين اللام... و (الدُّخلة)... بالدال المضمومة المشددة واللام المفتوحة... ولم افهم ماتعنيها، ولمن ما كان يقال، هو أن (الملكة والدخلة سوا)... وفهمت فيما بعد، ان العقد، والدخول بالزوجة، سيتمان في ليلة واحدة..
وان هذه الليلة... هي (القابلة) أي (الآتية) غدا
في اللحظات التي كنت اسمع فيها هذا الكلام كنت اتابع كل كلمة واجهد نفسي لأفهم ماتعنيه دون ان استفسر عن شيء، لأني قد اقتنعت، بحس لا اشك في انه قد تبلد تماما بأن لافائدة من الاستفسار عن امور يفهمونها، وليس على الا أن التزم الصمت حيالها.
وكان مما قذف بي في احشاء وحشة قاسية، عبر ذهول وبلاهة، ان (بدرية) قد انقطعت عن التواجد معنا في هذه السهرات.... اصبح من النادر تقريبا ان تجيء.. وفهمت من الهمس الذي كان ـ يدور عنها ايضا انها (ماشاء الله تبارك الله) حامل.... ولم اكن اجهل ان الحامل تعاني من متاعب، وقد تضطر إلى التزام الفراش... ولم تغب عن ذاكرتي،. صورة خالتي خديجة، ايام كانت حاملا في عبد المعين...
ولكن... في تلك الليلة... فوجئت بأن بدرية جاء بها زوجها إلى منزلنا بعد صلاة العشاء... احسست وانا اراها تدخل الديوان، كأنها لم تجيء الا لأنقاذى من الوحشة التي اصبحت اعيش بين براثنها... وفى الحقيقة.. كان من اسباب الأحساس بهذه الوحشة التي أمي نفسها قد باتت مشغولة عنى... أو هكذا كان يخيل الي... بل الجميع كانوا مشغولين عنى، اما بتجهيز الفاستين الجديدة.. أو استعجال خياطة الثياب لي...
كان التعب والإرهاق باديا على (بدرية) ولكن ذلك الشحوب الذي سرى في محياها زاداها جمالا وتألقا... فما كادت تأخذ مجلسها، حتى اسرعت تاركا مكانى لاجلس إلى جانبها... والتفتت اليّ، وابتسمت... واحاطتنى بذراعها... وهي تقول:
:ـ. ماتيجي، انا وانت، ومنكشة... نسوىّ شاهي... انا ماشربت شاهي من بعد العصر.
ونهضِتْ... فاسرعت انهض معها... وكانت منكشة في تلك الحنية، وقد اضاءتها باللمبة العلاقي... وما كدنا نجد انفسنا وحدنا حتى اخذت بدرية وجهي بين يديها تتأملنى وفي عينيها تعبير، عن الاشفاق والرثاء، عبرت عنهما بالدمعة التي جهدت ان تحبسها، ولكنها انذرفت، فلم املك الا ان ارتمى في حضنها... وان اجد نفسي اجهش باكيا... مختنقا بانفعال هزّ كياني كله... كما هزّ كيانها هي ايضا... وكان من حسن حظنا ان منكشة كانت مشغولة عنا بما في يدها من اطباق تغسلها.
* * *
وجاءت الليلة التي سموها (القابلة)، والتى تقرر ان تكون فيها (الملكة والدخلة معا)..... تركونى مع بدرية، التي اتفقوا معها ان تظل معي، إلى ان يتم كل شيء... إلى ان يتم العقد، الذي علمت بعد ان الذي حضره مجموعة منهم العم محمد سعيد، ورجل آخر هو العم (عبد النبي)... ولعله هو الذي قام بقراءة الفاتحة وما اليها والعم صادق، وآخرون ذكروا اسماءهم فيما بعد، ومعهم اوفى مقدمتهم الدكتور بطبيعة الحال
ولم اكن اجهل عندما تركوني مع (بدرية) انهم فضلوا ان يبعدوني عن مشهد قدروا انه يمكن ان يحملنى على البكاء، أو على اى تصرف يحرج الموقف كله... مع ان المجلس العلوى كان مظلما، فقد اقترحتْ بدرية ان نصعد اليه لنرى من نافذته التي تطل على الزقاق الرجال الذين سوف يخرجون من بيت العم محمد سعيد...
ولم يطل تربصنا في النافذة... فقد اخذ الرجال يخرجون واحد اثر الآخر... وكل منهم يردد (مبارك... مبارك)... وساد الشارع الظلام بعد ذلك... وهبطنا (بدرية) وانا إلى الديوان... في انتظار ما لابد ان يتم... وهو ان تذهب أمى إلى بيته... إلى بيت الدكتور الذي اصبح زوجها..
وكالصاعقة التي تحرق الاشجار العاتية، كان السؤال الذي وجدت نفسي اوجهه إلى بدرية.:ـ.
:ـ. وانا ؟؟؟ وانا ياخالة بدرية.... فين اروح؟؟؟
وبصوت مختنق... ويدها الرقيقة على كتفى قالت:
:ـ. انت ؟؟؟ انت تروح معاها ياعزيز..
:ـ. مع أمى ؟؟
:ـ. ايوه ياعزيز مع امك...على بيته.. بيتكم الجديد.
وكان.. اذ ماهي الا بضع دقائق حتى جاءت أمى ومعها منكشة والخالة فاطمة... واسرعوا يلبسوننى الملابس الجديدة.. والحذاء الجديد... ومشينا.. إلى ذلك البيت... بيت الدكتور.. في زقاق الطوال...
وبعد... فأنى اكتب هذه السطور وقد تجاوزت السبعين من العمر... ولا استطيع ان انسى تلك الليلة الأولى التي نمت فيها على سرير صغير... وحدى... في غرفة حسنة الأثاث... وحدى تماما لأول مرة... بعيدا عن أمي... عن ذراعيها وعن حضنها... لأنها نامت مع زوجها.
* * *
وبعد، فتلك نهاية الجزء الثاني من هذه الحياة... ولا أكاد ابدأ الجزء الثالث الا وأدخل معركة... ؟؟ معركة وضعتُ انا خطتها منذ اللحظة التي استلقيت فيها على ذلك السرير الصغير، في الغرفة وحدى... ؟؟؟ ثم معركة اخرى... بدأت مع رياح الحرب... حربٌ ما أقلَّ من يذكرها في هذه الأيام..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :714  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 51 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الأول: من المهد إلى اللحد: 1996]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج