شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خبر ((أبويا))..؟
ومع أني تعودت أن أهابها اذا بدتْ منفعلة أو غاضبة، فلا أدري كيف وجدت في نفسي الجرأة على أن أرفع صوتي أكرر:
.ـ. أنتي جاكي خبر أنّو مات؟؟
ومشت في ملامحها سحابة حيرة، وكأني رأيت عينيْها تكادان تذرفان دمعة، فاغضيت وأخذت أتقدمها في المشي إلى البيت، وكان موقفنا لا يبعد عن الباب أكثر من بضعة أمتار، وقد تقدمتنا وفتحته منكشة، التي لا أشك في أن أذنيها كانتا معنا، فما كدنا نتوسَط الدهليز المعتم، حتى رأيت أمي تسرع إلى الديوان وهي تطلب من منكشة بالتركية أن تسرع إليها بكوب ماء.. كان الأنفعال في نفسها عاصفا، ولكنهّا تحاول أن تكبته بكثير من الجهد.. ورأيتها تخلع القسم العلوي من الملاية والبيشة، وتلقي بهما جانبا، ثم تلقي بنفسها على ((الطُواَّله)) في أحد طرفي الدكة... جاءتها منكشة بالماء فنهضت وشربت جرعة أو أثنتين، ثم عادت إلى الأستلقاء ونظراتها إلى الأرض... وقفت بالقرب منها لحظات ثم حين وجدتها لا ترفع بصرها إليّ، أو هي تتجاهل وقوفي، تراجعت إلى الطرف الثاني من دكة الديوان وجلست، مغضيا، شاعرا بأن سؤالي قد تسبّب في إزعاجها، ولكن ما لا أزال أعجز عن تفسيره حتى اليوم، هو أني ظللت بدوري أكابد حالة نفسية لا أستطيع أن أحددها حين وجدتها تلتزم الصمت... لا تجيبني على السؤال الذي طرحته... السؤال الذي لا أدري لم طرحته أصلا ، بعد تلك الوقفة ونحن نخرج من منزل ذلك الدكتور... ترى ما الذي جعلني أربط بين سلسلة الأحداث، منذ تلك الأحاديث التي ظلت تدور حول غياب أبي، وذلك الخطيب الذي وسّط العم صادق فأرسل بنتيه لمفاتحة أمي عنه... ثم ما تلاحق بعد ذلك من الكثير الذي يبدو أنه ظل يترسّب في ذاكرتي، ويعنكب في مشاعري عن زواجها الذي حسمت الموقف منه بالرفض، ومع الرفض تلك الكلمة التي قالتها، وماتزال ناميةً مزدهرة في نفسي وهي:
:ـ. عزيز هوه عريسي..
وأكثر من ذلك كله، أني ـ في تلك السن ـ قد ربطت بين خبر موت أبي، وبين احتمال زواجها.. بعبارة أخرى.. كان قد استقر في نفسي، أنها لن تتزوج الا إذا جاءها خبر عن موته.. وإذ ظلّت مستلقية، ونظراتها إلى الأرض، بينما انصرفت منكشة، إلى تجهيز وجبة الغذاء، فقد ذهبت إلى ترجيح احتمال أنها قد تلقت خبرا عن موته فعلا. ولذلك فهي ستتزوج دون شك.
ولكن ما علاقة الدكتور بحكاية زواجها؟؟؟ ووجدتني أتذكر زجاجة (الكينالاروش) وحبوب الكينة.. ثم صينية (الصوبريك).. وهنا وجدت نفسي أكاد أتمنى لو أني أستطيع أن أنشب أظافري في وجه منكشة الأسود.. إذ لم يعد عندي أي شك في أنها هي.. هي التي تقوم بدور ما.. ولكن كيف؟؟؟ ما هو الدور الذي تقوم به هذه العجوز السوداء اللعينة؟ كيف استطاعت أن تجيئنا بتلك الزجاجات من (الكينالاروش) وحبوب الكينا بدون أن يرى الدكتور أمّي؟؟ أو يكشف عليها كما هي عادة الأطباء؟... ثم تلك الصينية من (الصوبريك)... ما الذي جعل خادمة الدكتور تصنعها وترسل بها هدية دون سابق معرفة أو علاقة؟؟؟
لم تتكلم أمّي... وطال صمتُها، وحين رامقتها من مكاني رأيتها وكأنها قد استغرقت في النوم... فالتزمت من جانبي الصمت.. ولكن دون أن يكف تفكيري في الكثير والأهم الذي ظل يلح على ذهني هو الخبر عن موت أبي.. هل جاءها هذا الخبر؟؟؟ متى؟؟؟ ومن الذي جاءها به؟؟؟ اني لا أفارقها لحظة واحدة من ليل أو نهار، ويندر أن أغيب عندما تزورنا الخالة فاطمة أو غيرها من النساء، وهن اللائي يجئن بالأخبار.. وبطبيعة ملازمتي لمحلي بينهن، فأنا لا يفوتني ما يروينه أو يتحدثن عنه من الأحبار. ثم وجدتني أتساءل: أتراها قد غيّرت رأيها في الزواج؟؟؟ ألم تقل أكثر من مرة أنها لن تتزوجّ حتى لو مات أبي وأن (عزيز هو عريس) ؟؟؟
* * *
في ذلك اليوم ساد بيني وبينها صمت بدالي مقصودا، أما بينها وبين منكشة، فقد كان الحوار. يدور بالتركية التي يفوتني الكثير جدا من مفرداتها، ولكني كنت أحزر الموضوع الذي يدور حوله الحوار بينهما.. في البداية بدت أمي منفعلة ثائرة، ولكن تلك العجوز التي أخذت أفقد شعوري الطيب نحوها، كانت تلتزم ضبط النفس، وقد يبلغ بها الأمر أن تحتدم وأن يتسع حملاقاها المحمرّان أحيانا، وعلى الأخص حين تكرر عبارة معينة فهمتها فيما بعد وهي (أنت فتاة شابة...) ثم كلمات مثل: (ليس لك أب.. ولا أخ.. ولا رجل قريب...) ثم قد تستدير بنظرتها نحوي، وهي تقول ما معناه: (وهذا ولد صغير.. ومتى يكبر؟؟؟ ومتى يمكن أن تعتمدي عليه؟)... وكان أغلب ما تجيبها به أمّي: (الله كريم.. يمكن أن يجي أبوه في يوم ما... ونحن بخير... دكاكين زقاق الزرندي ستؤجر.. والأجرة تكفينا.. ولن نحتاج إلى أحد.) ثم تضيف أنها سوف تشتري مكنة خياطة (سنجر)... وهي تجيد أشغال الأبرة... حتى التطريز بالقصب تجيده، وسوف تشتري منسجا من النوع الممتاز.. بل أضافت أنها تستطيع أن تعلمّ الفتيات الخياطة والتطريز، والقراءة والكتابة أيضا... بل تستطيع أن تعلمهم الفارسية إذا أرادوا فهي قد تعلمّتها من جدِّي، الذي قالت في مناسبات أخرى ـ أكثر من مرة ـ أن بنات العوائل الراقية (الأكابر) لابد أن يعرفن الفارسية، إلى جانب التركية، والعربية وأهم ما يجب أن يتعلمّنه منها، هو (تجويد) قراءة القرآن الكريم.. وتحمّست وهي تتحدث عن فكرتها لتقول ولكن بالعربية وبنبرة فيها اللهفة والجدّية والعزم:ـ.
:ـ. خلاص يا منكشة... هادي القاعة أيش بها؟؟؟؟. نقدر نخليّها (كُتاب) وتعليم خياطة وتطريز... والبنات رايحين يجو.. وكل وحدة تدفع مجيدي في كل شهر.. ولا حتى نص مجيدي.. يعني عشرين بنت بعشرة مجايدة.. يعني جنيهين عسمنلي دهب...
ولكن منكشة كانت تصغي إليها دون أن يبدو أنها تهتم بشيء مما تسمع... ولقد أدركت أن شأنها الأهم، الذي تستهدفه وتكاد لا تتهاون أو تتراجع عن تحقيقه هو أقناع أمّي بالزواج... ومن هذا الدكتور بالذات... الذي ما أكثر ما كانت تثني عليه وتطريه، وتردِّد الكثير من مزاياه فهو من أكبر العوائل في اسطنبول... وعلى كتفه ثلاثة نجوم، وفي هذه الأيام أعطوه حصانا يذهب به إلى (الخستخانة العسكرية) وسائسا خاصا... غير الجنديين الذين يخدمانه ثم الأهم من كل ذلك أنه (دكتور)... وإذا تم علاج الجنود الجرحى من عساكر الباشا، سوف يبقى في المدينة، إلى أن يتم (الصلح الكبير).. فيسافر إلى اسطنبول...
* * *
ولابد أن أقول أن الأحداث في هذا الاتجاه أخذت تتسارع. ليس فقط في اتجاه زواج أمّي من هذا الدكتور، وإنما في اتجاهين معا.. أحدهما ضد الآخر.. ولم يكن في الاتجاه المضاد إلا موقف أمي وحدها في مواجهة الخالة فاطمة، وابنتها بدريّة، بل وفرضت نفسها على الموقف، (خاتون الهندية)، التي كانت لا تتردد في أن تقول لأمّي أو عنها إذا كان الحوار بينها وبين الخالة فاطمة:ـ.
:ـ. هادي مجنونة... ما هي دارية أنّو الناس اللي ما رجعوا من الشام كلهّم ماتوا... واما الناس اللي كانوا في بلدان تانية.. كلهّم كمان ماتوا بالرصاص وبالمدافع يعني لما تفضل تنتظره عشرين سنة كمان، ما هي رايحة تشوفه...
وتقول الخالة فاطمة وليّ الشيشة في يدها، وهي تنفث دخانها من منخريها الواسعين في جلسَتها في صدر الديوان:
:ـ لكن.. برضه عمّك محمد سعيد، بيقول ما يمكن فاطمة تتجوز، الا بعد ما يغلّق الولد سبعة سنين، ويشهدوا الشهود أنّو مافي عن أبوه حِسْ ولاخبر من يوم ما سافر.
من جانبي، لم أكن أدري هل (غلّقت السبعة سنين) التي يتحدثون عنها.. ولذلك، فقد اتجهت إلى أمي وأنا نائم إلى جانبها ذات صباح وسألتها:
:ـ. يا ففَّم.. قو ليلي... أنا غلّقت سبعة سنوات؟؟؟
:ـ. وليه بتسأل؟؟؟
:ـ. عشان سمعت خالة فاطمة بتقول...
وقبل أن أتم جملتي قالت:ـ.
:ـ. أنتّ قل لي.. أنت تبغا تغلّق سبعة سنوات ولاَّلأ...؟؟؟
:ـ. لأ... ما أبغا أغلّق سبعة سنوات.
وضحكت ضحكة خفيفة وأحاطتني بذراعها وهي تقول:
:ـ. خلاص... ما دام ما تبغا تغلّق سبعة سنوات... أنت ما تغلّق سبعة سنوات الا بعد سنة ونص...
:ـ. هيّه النص قد ايه يا ففَّم؟؟؟
:ـ. نص السنة ستة أشهر...
وأحسست كأني قد حققت نصرا لم يكن يخطر لي على بال... فأنا لا أعرف عدد شهور السنة... ولكني استطعت أن أصل إلى أن هناك ثمانية عشر شهرا (لأغلّق) سبع سنوات... وسألت أمي بلهفة:ـ.
:ـ. طيب... طيب ياا أمي.. السنة كم يوم؟؟؟.
وعادت تضحك... ولم أفهم شيئا من حسابها لعدد الأيام... ولكني وجدت أن هناك مئات من الأيام بيني وبين أن (أغلِّق) سبع سنوات.. فضحكتُ، بل كدتُ أقفز فرحا وأنا أقول لها:
:ـ. خلاص ياففَّم... مافي جواز.. موكده؟؟؟
وما كادت تسمع هذه الجملة، حتى ضمّتني إلى صدرها بشدة، وأخذت تقبّلني بحرارة، ثم شرعت تمسح وتحك رأسي بيدها، وهي الحركة التي تعودت أن أجد النعاس يثقل جفني معها.
* * *
ولكن، رغم هذه المئات من الأيام التي لابد أن تمر (لأغلّق) سبع سنين، فقد بدا واضحا أن موضوع زواجها، إذا انتهت هذه الأيام، قد أصبح مفروغا منه... وأن الذي سوف يتزوجّها هذا الدكتور الذي لم تنقطع منكشة عن نقل أخباره بمناسبة وبلا مناسبة.
خلال هذه الأيام، إنتهت السنة، وبحلول السنة الجديدة، استلمت أمي أجرة الدكاكين في زقاق الزرندي... ومرة أخرى ستة جنيهات عسٌّمنلي ذهب... والعجيب أن منكشة كانت أكثر فرحة بها من أمّي نفسها... وبعد الغروب من اليوم الذي أستلمت فيه أمي هذا المبلغ، كانت منكشة تحتفل بتجهيز وجبة دسمة من ((الرز البخاري))، ومعها (المعرّق) وتتحرك بكثير من الخفة، وفي صوتها نبرة مرح... لم أكتشف سببها إلاّ بعدما فرغنا من تناول العشاء، وأخذت تملأ أكواب الشاي، إذ سمعتها تقترح على أمي أن تشتري أقمشة قالت أنها رأتها في السوق، وأن تجهّز لنفسها فساتين تقوم بخياطتها خيّاطة اسمها (هديّة) لا تأخذ لخياطة الفستان أكثر من (مجيدي ونصف)... ثم تضيف تلك العجوز باللغة التركية كلاما لا أفهم منه شيئا، ولكني أحزر أنه عن الزواج.. وعن الدكتور.. والشهود.. والسنوات السبع الخ...
* * *
مع أن الأمور كانت تسير في اتجاه الزواج، ومع أن أمّي كانت دائما تبدو مشغولة البال أو مرتبكة أو محرجة، فإني لا أنسى حتى اليوم، أن عاطفتها نحوي كانت تزداد حميميَّة. ولعلي لا أخطىء إذا قلت أني كنت أرى في نظراتها، شيئا أفسّره اليوم بأنّه الأشفاق والأسى...فإذا حان وقت النوم ـ وكانت عادتي أن أنام إلى جانبها ـ تحرص على أن تضع احدى ذراعيها تحت عنقي، ثم تضمنّي إليها،، فإذا كان ضوء الفانوس أو القمرية على وجهها فأني كثيرا ما كنت أرى في عينيها دموعاً تحرص على أن تحبسها، وأسمعها تبتلع.. ربما كان ما تبتلعه هو انفعالها.. لا أشك في أنها كانت لا تجهل أنها مقدمة على أمر فيه الكثير الذي يخيفها عليّ... إذ ماذا يا ترى سوف يكون مصيري، بعد زواجها إذا تزوّجت؟؟؟ لم أكن أعرف شيئا مما يتعرّض له أبن الزوجة من زوجها... ولكن هي لاشك كانت تعرف الكثير وفي اللحظات التي تلف ذراعها حول جسمي الصغير وتخنقها العبرات، كانت ترى عشرات الاحتمالات.. عشرات الأحتمالات التي لن تخلو من تعرّض الأبن ـ الذي هو أنا ـ لقسوة الزوج بل ربما لضربه، وبالعصا أو بالحبل، كما سمعت أو تسمع عمّن تزوّجن، من أُمهات أولاد أو بنات.
* * *
ولم يعد أحد من اللائي يزرن أمي أو تزورهن يتحرّج في أن يتحدّث عن زواجها أمامي وعلى مسمع منّي... وكانت لبعضهن طريقتها في تهنئتها بأنها سوف تتزوج الدكتور، بحيث تعقب منكشة بعد أن يخرجن، بكلام طويل أحزر أن معناه أنهن يحسدنها، ولذلك فأنها تسرع لتشعل النار، وتفتح كيس مجموعة أعشاب البخور، تحرقها في وعاء نحاسي صغير وتتجّول بها في الديوان والدهليز، وهي ترتّل أو تقرأ، ثم تقف على رأس أمّي في مجلسها وتدير الوعاء حوله... وهو اجراء أو تصرف تعودت أن أراه، منذ ذلك اليوم الذي قام فيه الزاكور باخراج (الساكن) من الحَنِية.
وأخيرا... بعد غروب يوم الخميس، سمعنا تصفيق الخالة فاطمة من دهليزها، ثم عندما أسرعت إليها أمي سمعتها تقول:
:ـ. عمّك محمد سعيد رايح يجيكم ـ وأنا معاه، وبعد صلاة العشا... عشان يقول لك ايش تقولي للقاضي لمّا تروحي مع عزيز إلى المحكمة يوم السبت.
وبالفعل، جاء العم سعيد في الموعد، وجاءت معه الخالة فاطمة، وكانت أمّي قد لفت نفسها في ((شرشف)) وأسدلتْ على وجهها قطعة من (الشاش).. وحين كانت منكشة تعد الشاي.. بدأ الحديث عن المحكمة.. وعن الكلام الذي سوف تقوله أمي للكماخي.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :756  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 48 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .