شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات
• حينما يتحدث اثنان بما يشبه البوح.. أي بما يطرد النوح يستطرد الحاكي ((شاكي وتسمع منه))!.. هو يستطرد فلا يفوته شيء، أما أنت فيفوتك أكثر الشيء!
هو لا يسأل عن الفوات.. يكفيه البوح، أما أنت حينما تصطفي نفسك في لحظة سارحة تجتر ما سمعته منه تشعر بهذا الفوات.. تفتش عليه.. تعتزم في نفسك أن تسأله غداً ليسرد عليك ما سرد..
هذا هو الفوات الذي لا يرتجى، فأنت أقدر منه على التذكر لحظة بعد أخرى بعض ما باح به. أما هو فالبوح قد أراحه فأنساه صور الملامح التي سكبها في بوحه..
قد يسرد عليك الحكاية كما كانت لكنه لن يكون مثلما كان معك أمس.. هناك وضع، وحالة، ومشاعر فرضت سلطانها على ما قاله، فهي حلية ذلك، وهي المؤثرة فيك أن تنسى.. أن تتذكر، أما هو فالحكاية هي عنده ولكن أين الديكور؟!..
وجربت أن ألبس هذه الحكاية التي سردها، فأغير الأسماء، والأمكنة، وأتكلف الوضع، وأزخرف الحالة لأكون أنا البواح!!
وجلس يسمع.. لقد ((أنخم!)) حسبها حكاية صحيحة كنت أنا بطلها..
لم يكن هناك صدق فيما حكيت.. كان خيالاً، لكنه كان الصدق حينما سمع!..
هي حكايته هو.. سمعها بصدق لأنها لامست مشاعره.
كثير مما نكذب فيه قد يكون هو الصدق في الذين يستشعرون وضعاً، وحالاً لهم!!
وضحكنا من هذه الكذبة البيضاء. من هذا الصدق العميق.. مني وفيه!
وإذا بي أتغير كأنما نبشت الدفين الذي ذهب.. ذكرني به وضع جديد.. غنة من صوت جديد، فأخذت البوح، وأخذ هو السماع!
لا أدري.. هل يعيد التمثيلية معي، أم أن كلنا في ((الهوا سوا))؟!!
مع فارق واحد هو مثله أن يكون حياة لحياة.. مثلي أن أكون حياة ذاهبة الشخوص.. باقية المعاني!
التجسيد، والشخوص من لوازم الحياة للحياة.. أما المعاني فهي فواصل بين الذكريات يستريح البوح في واحدة.. يجعل النوح على واحدة!
لا تصدقوا هذا.. إنه ((هدرشة)) مزكوم.. حرارته 39،5.. يشرب الماء مر المذاق، ويأكل الخبز أبو دقيق معطن.. مشوي على طريقة التجفيف تحت الشمس!!
• وأرسلته جدته العجوز الكسيحة.. يشتري لها زهرة ((نيلة)) تصنع منها صبغة خفيفة تسترعيب البقع على ثيابه.
لم يكن يعرف غير جدته والحوش.. لم يذهب إلى كتاب بعيد يشهد منه الجديد في المدينة، ولا يعرف كيف ذهبت أمه بموت عاجل، ولم تكن المدرسة مرغوبة في عقل الكبار، يخافون على الصغار منها.
وإذا زارهم أبوه خطف قبلة منه فلم يذق لها طعماً فهي خاطفة تسرع، ومخطوفة لا تشبع، فلا زال في جوع إلى القبلات، فهي ألذ ما يطعمه الآن، لا يستعطيها من أحد، وإنما هو يعطيها للغوالي عنده، يأخذ الخدود والأكف يقبلها حباً في حب، واحتراماً لحبيب غالٍ.
وأخذ القطعة ((استنبولي)) أي القرش، عشرة بارات أربع هللات.
وبالوصف وسؤال الرجال الكبار عرف ((زقاق جعفر)) أن فيه دكاناً ((للقازنلي)) يبيع النيلة!!
ودخل الزقاق، فشعر بنسيم بارد، بعد لفح السموم لأن الظل والمسارب ثلجت اللفح، وبردت السموم، فود لو كان بيتهم في زقاق جعفر، في مكان بارد، وفيه دكان ((القازنلي)) لا يضطره إلى بعيد يمشي حتى يشتري الزهرة.
ونظر إلى الدكان.. دكان طوله متران، وعرضه متر، فتح قسراً في جدار البيت، كأنما أحدث بعجة في السدة المدخلة إلى القاعة.
ونظر إلى هذا المعلب في القوارير، أصفر، أخضر، أحمر، ما هي؟.. ما هو؟..
واشترى النيلة ولم يرفع عينه عن الألوان، فأعطاه القازنلي واحدة صفراء، حلاوة موزية.
فالآن عرف الحلاوة الموزية، وجدها شيئاً جديداً مرغوباً فيه أكثر من الحلية.. التمرة التي كان يأكلها من يد الجدة.
ورجع فإذا هو يسمع دوياً يرجع صداه كل ما في الزقاق من مسارب ومداخل، وتهتز الجدران.
وذهب يجري خائفاً كالناس حوله، كلهم جروا.
فالمدافع من جبل ((سلع)) تضرب أهل العوالي.. مساكين لا.. يستاهلوا. لا. إيش ذنبهم؟
لا تسأل.. هؤلاء خانوا الدولة.
وسمع الكثير، وارتمى في حضن جدته، فوجدها تبكي!
ـ لماذا تبكين؟!
ـ قالت: خالك ركب ذلوله، وذهب مع سيف العوجان يقتل قومه.
أنا خائفة أن يقتل!! قتلونا في القصيم، ونقاتل معهم هنا!!
• .. ويعلو الرمز في بيئات تحول دون الوضوح والدنيا اليوم على حال من الغموض البليد، والوضوح الفاجر لا ينتصر عليها إنسان إلا بالرمز القاهر يتنفس به إنسان يحس، وتنفجر به بلادة في ما حوله ليقضي على الوضوح الفاجر، يريد أن يحوله من إنسان روح إلى جسد شر!.. فالبلادة عند الذين يطردون من أنفسهم التعلق بالمثل، ويفرون عن الحقيقة الواقعة، والوضوح الفاجر عند الذين يطاردون بالركض والقذف واللامبالاة كل ما هو مثل.. كل ما هو تاريخ.. كل ما هو قيمة. كأنما إنسان اليوم يريد أن يفرض حياة الغجر على دنيا البشر!!
بلادة ألا تناضل دون حبك.. دون تاريخك، وفجور أن تهدم القيم بالبلادة المستكنة فيك، وبالذكاء الطاغي في هؤلاء.. اسميهم: قتلة الفضيلة، كأنما يريد هؤلاء الراكضون بالبوينج، والصاروخ أن يكون الإنسان راكضاً في البنك.. راكضاً في البيت.. يطلبون منه أن تنتحر الدقائق الهادئة المريحة لتحيا ثواني قلقة ضائعة في الزحام.. لا ترحم صاحبها، فكيف يرحم هو غيره؟!.
إن البلادة إذا ما اعتورت محيط إنسان، وإن الذكاء الراكض الرافض والمغرض إذا اعتور نفس إنسان كلاهما يهزم بالفنان.. ذلك أنه لا بليد.. ذلك أنه يرفض الركض، فالريشة في يده ذكاء، وهي أيضاً أناة، من هنا شريت الرمز المقهور في انحباسه.. الباهر في انطلاقه عصا تضرب البلادة، وتوقف الركض.
اليوم شريت هذا الرمز في معرض ابنتنا الغالية ((صفية بن زقر)) لقد وقفت أمام بلادة أضاعت التراث بعامل البلادة وعامل الركض، فأخذت تصنع تاريخاً بالريشة يصور لنا التراث الذي ضاع في أدوات كنا نحيا معها، وحيوان كنا نعيش به. وأزياء كان سترها ضافياً علينا. إنها في كل معرضها هذا.. في كل الصور صانت التراث.
ـ قال لي أحمد أبار: انظر إلى ((دزقة الشاهي)) لقد ضاعت من كل بيت.
ـ قلت: نعم، لكن هذه الفنانة حفظتها على الصورة، وهناك نظرة أخرى: ليس في كل هذه الصور الإبراز لمأساة فرد، وإنما هو كل البروز للمآسي التي ألغينا بها التراث بالجري وراء ما هو ضخم، والطرد لما هو فخم ((الفخامة غير الضخامة))!!
• مسكين هذا الإنسان يصنع لنفسه أبراجاً وأعشاشاً وفراديس ومخابئ ومقبرة وآمالاً ويأساً وفرحة وترحة، ونصراً وهزيمة، و.. إلى آخره.. كل هذه من قوة الضعف فيه تستحيل في أي حال منها إلى ضعف القوة له، أو تسلط القوة عليه.. يستحيل عليه أن يعيش بغير هذه المعذورات.. في تناقضها تناسقها.. ومن قساوتها تصارعها.. من فهمها بلادة ذكية، أو ذكاء بليد، وهو لو لم يكن كذلك لتحجر الذهن، ولمات إحساسه، وتفهت حياته، وأعاد يمشي القهقرى إلى (وراء الوراء)!. فكل التقدم والتفوق له.. هو من عراك هذه التناقضات.. من صراع الجزء المحس بالجزء المتألم.. لكل المنفعل إحساساً وألماً!!
• عشت أياماً في أشهر لما تبلغ العام بعد أجتر ذكرى مؤلمة.. أتلمظها بلذة خائفة من خبر جاءت به واحدة تروي أنها رأت صورتها - أعني صورة التي جاء ذكرها - مصادفة.
ـ قالت: رأيت صورتها على نعش حينما أخرجت من مقبرة في طريق تهشمت فيه سيارة كانت تركبها مع..
وابتلعت الخبر.. أغص به.. أضحك من بكاء دفين.. أبكي من ضحكة معلنة.. أرسمها ((كالاكليشيه)) أقابل بها من يعرض لي من هؤلاء السائرين بنا معهم. أوهم الذين نسير بهم معنا، سائرين في سؤال: ما هو الخبر.. كيف حال الجو؟!.. وهم لا يدرون أن الجو هو هذا الخانق المعذب حامل تبعات الهوى على كتفيه.. وجاءت مصادفة أخرى فقالت واحدة: لا.. لا.. لم نكن معه!.. قلت: وهل تتحدين حينما تعودين بالسؤال عنها، والأنباء بالجريدة التي نشرت الخبر والصورة؟!.
ـ قالت: لأنتصر في هذا التحدي سآتيك بالخبر اليقين عن حياتها!
وهنا جاء فعل المتناقضات.. أضاع الألم اللذيذ ليحل محله الألم التافه.. الألم اللذيذ هو أن تكون حياتها في وجداني ثباتاً لا يتغير يعطيني حق الامتلاك لها.. سوف لا تكون لغيري.. أنانية. لكنها لذة لا يضار بها أحد.. أنتفع بها حباً في الحب.. تسمو ذلك عن الأنا لتكون هي.. أما الألم التافه فهو أن أجدها ولا أجدها.. تستحيل اللذة إلى حسرة من فقدانها، حقاً لا أشعر بامتلاكها فقد يمتلكها وجدان آخر.
اللذة في الألم كما هي فلسفة أرسطبوس.. كما هي كلمة جبران: ابتغوا اللذة في الألم وابتغوا الألم في اللذة.
أما الحسرة فألم تافه بجذوره أمل أحياناً ما.. الخيبة فيه تتضخم بتلك الحسرة.. لقد أحسنت تلك التي أخبرت أولاً.. وما قصدت الإساءة التي أخبرت ثانياً. لكن هذه المتناقضات هي التي تحسن وتسيء!!.
• الصيف ربيع حياتنا.. في صحرائنا وواحاتنا. وهو جنى الربيع في الحياة.. حياة السمر، وقطف الشجر، ورعي الكلأ من الحياة.. فيه ملاعب الفرحة وفرحة اللاعبين.. أتراباً.. أتراباً.. كواعب وفتياناً.. ليس أكرم منه في الفصول.. في جوده ونداه.. هذه الواحات.. خيرها في الصيف.
كنا نعيشه.. لا نسأل عن الرمضاء.. نمشيها، لا نحمل الشماسي ويكفينا ظل نخلة وإذا بنا اليوم نستجير من الصيف لا نطيقه.. نعيش في كهوف أرغمتنا عليها المكيفات.. نترك الطبيعة ونعيش الصناعة، وكنت أتحمل حرارة الشمس كأنما أنا عاشقها، أرضيها وترضيني لأن وراء المشي فيها ما يرضيني وأرضيه.
وذكرني به الحمار.. فقد صرت اليوم أركب سيارة فإذا بي أعود إلى الكهف.. أما الحمار فقد كنت أركبه أو أقوده فأنقاد به إلى فلاة واسعة.. أشق به الوادي لأصل إلى النخلة أتفيأ ظلالها لأجد ما يرضيني!.. والحمار.. حمار لو أترفوه بالعلف المنقى.. إن هذا العليق سواء من الحلبة أو شعير من البصرة أو قضب بذرته من القصيم أو من أختها من المدينة.. ولو غروه بالسمن الشفوي.. أو حتى حنكوه بالملح من ((مجز)) أو مجزان على ساحل ((الرايس)) أو ألبسوه الكشحة والجلجل، أو جللوا ((الولايا)) بالمخمل، ولو كانت هذه ((الولايا أو البراذع)) من شغل ((أبو ديبرباله)) في المناخة، أو شغل الريس في سوق الليل.. فما زلت غاضباًً على هذا الحمار رغم إحيائه الذكرى في نفسي - هو حمار الحاج ميلاد المغربي.. كان عند ميلاد الحاج الجزار المتخصص في الذبح، في المجزرة أيام زمان حمار أسود ((غطيس)) أي فاحم. مقطوع الذنب - يعني ابتر! - أترفه كل الترف.. يعشق ركاب الحمير أن يركبوه.. وكنت أحد هؤلاء العشاق، وترقبت يوماً أن أكريه من المكاري أنزل به إلى العيون.. خطأ أن تقول: نطلع العيون كخطأ أن تقول نطلع المسفلة.. فالصواب هو الطلوع إلى العوالي، أو المعلاة، أو هو التسنيد إلى نجد أو النزول إلى تهامة!
وجئت أحمل صينية ((تبسي كنافة)).. من شغل الشيخ صالح شرف النابلسي، وليس هناك أحسن منه صانع للكنافة يعني من بحرة..! واكتريت الحمار الأسود، فإذا أنا على ظهره، ((والتبسي)) في حجري، وإذا هو كالهبوب.. حتى إذا خرجت من الباب الشامي حرن، ((وجحش)) والتفت بمكر ليذهب إلى المجزرة.. لا يريد أن يسير إلى أمام.. ونزلت عنه في الرمضاء أحمل الكنافة على رأسي، وأقوده لا من قدامه، وإنما أسوقه الهوينا من ورائه.. ورأى حماراً فأخذ يجري، ولم أركبه إلا بصعوبة كادت تضيع الكنافة مني، ودخل الحمار إلى ((ضيف السيد)) فإذا بي أنزل عنه، أداريه، أمشي الهوينا معه.. يريد أن يرجع وقلت له: إنك لحمار.. أمك من حمير ((الحرة)) وأبوك من خلائف الحمر اليهودية في خيبر!.. ورأى حماراً بعد أن قطعت وادي قناة وأخذ يجري كأنما هو اليهودي لا يمشي إلا بعون رفيق حتى إذا غاب الحمار ((جحش)) ولم أصل به إلى ((المدافعية)) في هجير الرمضاء إلا بعد لأي، فدخلت إلى النخل أحمل ((التبسي)) على رأسي.. يلقاني بها الأحباء فسلمته لواحد وضربت الحمار سوطين.
الطريق إلى مزوده.. يجد العلف المنقى فيه، فرفع رجليه وأخذ يجري ليعود! ولا أدري كيف كنا نتحمل حرارة الصيف. لكنها نوازع الكنافة! ولا أدري كيف يشق علينا الصيف. ولكنها نوازع الكيف والتكييف.. فوازع الكهولة!
يا للشباب المرح المتصابي روائح الجنة في الشباب.. الشباب جنة.. رغم الهجير والكهولة ((جُن)) - .. بضم الجيم - تسوق إلى الزمهرير.. إن لم يتداركنا ربنا برحمته، ولا أدري فلعلّ هذا الحمار قد أنجب من هو أشد حميرة منه، فالعرق دساس!!
• كدت أذهب كأحد أفراد البعثة الأولى التي ضمت السيدين أحمد العربي ومحمد شطا والسيد ولي الدين أسعد. أمد الله في حياتهم فكم لهم من يد بذلوها في تعليم أجيال بعدهم!
قرأت الإعلان في أم القرى (الجريدة) وبحثت الأمر مع أبي لأتقدم بطلب يضمني إليها، فلم يمانع صراحة.. أي لم يواجهني بالمنع بل قال: شاور الشيخين محمد صقر وكان في المدينة، ومحمد العلي التركي وكان في مكة.. أسأل الله لهما الرحمة.. فقد كانا إنسانين يبذلان الخير تعليماً ونفعاً وتأديباً.
السيد محمد صقر قال: لا تذهب.. أبوك يريدك مسجدياً تتعلم فيه وتدرس، ولا مكان للعلم ينحصر فيه.. المكان هو الرغبة والأستاذ والكتاب، وهم هناك مثلنا ونحن مثلهم.. لا فرق إلا في الحصيرة والرتابة..
وكتب إليَّ الشيخ محمد العلي التركي: لا تذهب. أريدك هنا فهو خير لك، أعرف أن أباك سيزوجك فتزوج وعلى الله ثم عليّ الباقي.
وسألني أبي.. بماذا أشار عليك الأساتذة؟ قلت: نصحوا ألا أذهب.. فقال: هذه رغبتي لقد خطبت لك فلانة، وبعد أسبوع نعقد لك عليها.. فتزوجت، وأنجز محمد العلي التركي وعده لقد كانت يده هي اليد التي جعلت مني أستاذاً أعلم زملائي وإخواني، ومن المصادفة السعيدة أنني وأستاذي محمد صقر قد عيّن كل منا أستاذاً في يوم واحد، هو قد عاد إلى مكانه، وأنا شملت بتقدير!!
زملاء وأصدقاء لم تتغير نظرتهم إلي لأني لم أغير عملي لهم ومعهم وبهم. يعرفون قلة حصيلتي من العلم، ولكنهم يثقون بأني أجد لهم الجواب بالمراجعة لقد تعلمت منهم وتعلموا كيف نقرأ؟ كيف نراجع! والحصيلة الحاصلة التي لم أشعر بندامة أن لم أذهب، بل إني أعتز بشعور المتعة بهذا الكفاح في سبيل المعرفة نتعلمها على ضوء فانوس وفي غربة من الكتاب والمجلة. حتى إذا اقترب الكتاب وما إليه تخاطفته الأعين القارئة ليكون مزقاً كورق، وليكون غذاء عقل كفهم ومعرفة..
أكتب هذا دليلاً للذين حالت ظروفهم دون سفرهم، فلديهم الكفاح والجامعة والكتاب.. لديهم من النور واليسر أكثر مما كان عندنا. العلم رغبة وكفاح.. ونحن في حاجة إلى كفاح أقوى في سبيل المعرفة.
• شرقت بالدمع حتى كاد الدمع يشرق بي..
كان البكاء نزيفاً من الداخل.. ذلك أقسى الحزن أن تكون في نفسك على غير ما تكون في حاضرك مع إنسان!..
كنت الحاضر الغائب.. يسألني: ما بك؟.. أقول: لا شيء..
لكن التشابه في الحالات يعطي صاحبك السائل الإجابة التي يريد منك، إجابة من نفسه كأنما أنت هو، أو هو أنت.. غير أن الفارق بعيد.. هو يحن إلى الذكرى.. أما أنا فقد أحنتني الذاكرة!!
ذاكرته حية.. عائدة، أما ذاكرتي ففاقدة الوجود.. تعيش ترغم الفقدان المجسد إلى إيجاد معانيها.. ماثلة في النفس!!
كنت أقرأ في مجلة تكتب خبراً عن انتصار فريق في لعبة.. ينسبون هذا الانتصار إلى بطل قد ذهب.. ذكرى البطل قد تكون جاءت بهذا الانتصار.. لهم مجدهم.. أما أنا فمن ذاكرتي قد جاءت تحطم ما وجدت لابني لها الوجود في نفسي!!
هم تذكروه، فذكروني بها!!
كان البطل قد ذهب بها معه.. فأصبحوا يذكرونه، ولا يتذكرونها.. أما أنا فحينما قرأت اسمه كانت هي التي ذكرتني به..
لقد مات، ولم يكن قاتلاً، ولكنه حينما ذهب بها أصبح شارعاً في تقتيل نفسي أنفساً تتمزق.. في كل يوم يمزق بذهابه وذهابها هذه النفس!
كدت أنساها، لكن الأبطال إن لم يذكروك بأنفسهم لأنك لا تعيش على مجدهم.. ذكروك بما صنعوا في حياة أو موت.. بهذه التي تحيا في نفسك!.
لقد ذهبت في الحريق، فخمدت النار التي أحرقت، لكنها أوقدت النار التي ما زالت تحرق.. هذا مجدها.. مجد الحب يبعث في الانتصار حينما أصبحت الحفيظ على الذاكرة لأكون الحفيظ على الذكرى!!
من هنا.. صنعت الإجابة له، وما زال السؤال قائماً عنده، وهذا فارق آخر.
أنا قد تحددت إجابتي، أو استجابتي بها، بقيت في نفسي ف ((الأنا)) فيَّ أجدها بهيجة لأنها بذهابها أصبحت لي لا لغيري.. أما هو فبقاء الحياة يتعبه لأنه يريدها أن تكون له، ولكن الغفلة تعتريه.. لا لأنه يخاف نفسه ألا يكون لها، وإنما يخاف أن تكون هي له، وليست له!!
شيء مكرب أن نعيش على الذاكرة.. وأشد كرباً أن تبكينا الذكرى!!
حفظها الله.. تلك التي أشعلت فيَّ المعرفة عنها لتكون هي المعروفة دائماً لدي!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :894  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 578 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة الفيصل بن عبد العزيز

نائبة رئيس مجلس مؤسسي ومجلس أمناء جامعة عفت، متحدثة رئيسية عن الجامعة، كما يشرف الحفل صاحب السمو الملكي الأمير عمرو الفيصل