شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حوار
ـ الأصيل تعطل اليوم.. أخرج في لحظاته أرى كما قالوا: ذهب الأصيل على لجين الماء.
لم أجد هذا الأصيل.. كأنما الشمس قد تبرقعت بالحياء.. من هذه المزنة.. هتانة على جدة فأصبح لجين الماء.. قد أذاب ذهب الأصيل.
كان عصراً من أيام الجنان.. لا هو بالمظلم المعتم ولا هو بالصاحي الوضوح!!
كانت مزنة في السماء.. أشرقت بها فرحات في القلوب.. كأنما النعيم قد توخانا وما تخطانا نعيم نحسه على أجسامنا من روح في وجداننا.. واستراحة لعضلاتنا.. وأمل في نور الربيع، من نور اللجين على ذهب الأصيل.
هتانة فتانة.. أنعشت شاباً كان بجانبي.. كاد يطير.. قلت: تطير يا عروس الندى لتترك أرملة القدر؟!
لم يعد صاحبك أرملة... فإن العشق زوج لا يموت.. بعيد هذا العاشق عن الترمل والثكل واليتم.. لأنه كل يوم في حياة.
وسألني: أحينما سألت فناناً.. أن ينغم بالعشاق.. كنت تستمطر المزنة؟!
ـ قلت له: أوتشك أن تلباثية العاشقين.. ما هي إلا واقعية المزنة؟!
ـ قال: وما هو العشاق؟
ـ قلت له: نغم لا أغنيه.. وإنما أتغنى به.. لعلّك تعرفه كضارب عود أكثر من معرفتي كضارب قلم.
ـ قال: أعرف فقد أنكر عليك بعضهم أن تذكره هكذا دون معرفة؟!
ـ قلت له: قد أكون عرفت اسمه بالسماع.. وما أتقنت رسمه بالتسمع قارئاً لما في الكتاب عنه أتحب أن تعرفه كسطر من ثقافة؟!
خذه.. هو قسمان: العشاق المصري من مقام ((الدوكاه)) والعشاق التركي.. من مقام ((البيات)) فلئن كان محمد عبد الوهاب سيد من غنى ((بالبيات)) فإن أم كلثوم هي الصوت الذي أحسن ((للسيكا)) بما لم يحسنها أحد مثلها.
وما زلنا نغني للسماء.. تسقي العطاش الذين عرفوا عشقهم لأرضهم فلم يرضهم أن يعقوا.. ولو أسقاهم حيناً جدب.. لكنه غنى النفوس بالحب للتراب.. جعل من بيت الشعر القوة والمدد والعدد.
وتركني الشاب.. ذهب ليطير.. ولم أذهب لأقعد.. فما زال قلبي يطير حواليه.. يتلو عليه آية تحفظه ليغنم وينعم بالمزن الهتون.
• تلفون.. تلفون..
((الو.. الو.. مين أنت؟)).
ولم يفصح عن اسمه، إنما قال:
((يعني يا أستاذ مشتهي تسوي مدير مستشفى؟ أهو!! ما بقي إلا هذه؟؟ عاوز تنافق وتداهن علشان الفترتين، تقوم تفتح دهليز، تدهلز به هكذا؟!))
ـ قلت له: ((الجواب حاضر، بس أولاً قل لي: اسمك إيه؟)).
ـ قال: ((ما فيش لزوم وما أريد جواباً.. يعني راح تقول إيه، ولا إيه؟؟)).
وأرخى السماعة بشيء من الغضب. على طريقة المراهقين حينما يعاكسون في التلفونات!!
وضحكت لأنشد هذا الشطر من شعر أستاذنا التونسي محمد عبد القادر الكيلاني.. ابن خلدوننا:
((تسعى لهم وهمو عليك شقاق)).
يا أيها المراهق المدلع، إني أعرف: أن طالب الوظيفة لا يوظف!!
بقي أن تعرف أنت ومن إليك، أن شر أيامي واردأها تلك الأيام التي كنت فيها موظفاً عبداً. وجهلت بسببها الكثير، وتعلمت منها ما جعلني أشفق على الفكر أن يوظف. يضيع وراء خشب، ويذوب زمانه في تقليب الأوراق روتينياً، يشرح بما يلزم، أو ينفذ ما يلزم مشروحاً من غيره.. يجري وراء رئيس مشغول فلا يتلقى جواباً إلا من وراء الأكتاف في الدهليز الموصل من الصالون إلى باب السيارة..
وخير أيامي تلك الأيام التي كنت فيها معلماً ولا أحسبني إلا فيها هذه الأيام وأنا أدير الحوار معك مفهماً باسمي على القرطاس لا كما كتمته في أسلاك التلفون.
إن الاختصاص والفن والعلم مجال أوسع من أن يحصر على مكتب.. ((فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) ولئن يشفي الله بك مريضاً أو عاجزاً خير لك في نماء العلم، وحسن السيرة من الجري وراء الفاكهة المعطنة، واللحم المشفت.. والفرّاش المكلف بكنس وتنظيف الطريق والغرفة، ثم هو يثقل ويرمي عقب السيجارة في مكان كان قد نظفه وهو ماش.
أما النفاق والمداهنة، فهي في الهمس، أو في الرقص وراء الفازة.
هو ليس في الجهر الواضح تقول ما عندك.. وحسابك لا تخشى به إلا الله..
لو شعرت أنت، وأنا معك وغيرنا معنا بعمق المسؤولية وواجب المرحلة التي نسير فيها لوقفت على الثغرة تسدها قدر جهدك..
سامحك الله..
• عبد الرحمن العلولا..
شاب لا أعرفه، ومن الرياض.. كتب إليَّ كتاباً أتجاوز عن ذكر ما جاء فيه من ثناء واستملاح، لأذكر الإجابة عن سؤاله..
سألني النصح فيما يقرأ؟!
الكتاب كان قدامي على ركيزة لا هي بالخوان، ولا هي بالمكتب.. شيء مستطيل من خشب، ورفعت لأقوم.. أعود إلى البيت. ولعلّي زورت في نفسي تأخير الإجابة إلى ما بعد..
لكن المظروف سقط، وتناوله هذا الجالس بجانبي. يمنعني من القيام!
ـ قلت: اقرأه.. وقرأه فأخذ يضحك بوقار عليه طابع الفجاءة لي..
ـ قال: أتعرف من هو هذا العلولا؟
ـ قلت: لا أعرفه!!
ـ قال الصديق الشاعر الأديب محمد الفهد العيسى: هذا أنا خاله!!
ـ ((أنا خاله)) قالها بجرس يعربي، فيه غنة المدينة، وفيه رقة نجد، فذكرني بهذا كله.. باللفظ نفسه، والجرس، كأنه هو.. سمعتها مرة.. ((أنا خالها)) من أديب خان الأفغاني الشامي خال الملكة ثريا، ملكة الأفغان. كانت شامية أفغانية، شامية لأن أباها محمود طرزي باشا، وأفغانية لأن زوجها أمان الله خان رحمه الله.
جرس أديب خان قد اكتسبه من القرآن، هو في أذني أحلى من جرس طه حسين وناهيك به، ومن جرس أحمد فتحي ومن مثله!! ومحمد فتحي وقليل أمثاله. وجرس الشيخ أبي الفتوح نادرة الوجود في حياة اللفظ تخرج من أشداق ملبية للقرآن.. هذا الجرس يجعلني أقول للعلولا: اقرأ القرآن.
فبالقرآن يفقه قلبك، ويسمو بيانك، ويصلح إيمانك، ويلاقي الكلمة لسانك.
أتعرف السماجة تجدها على أسلوب الكاتب؟ لا تحسبها عن جهل باللغة.. وإنما هي عن الجفاء للقرآن.
القرآن صان العربية أن تنتصر على لسان.. حتى فحول العرب من النصارى حينما بلغوا الذروة في البيان فإنهم ما بلغوا ذلك إلا بقراءة القرآن وتفهمه.
ثم اقرأ كلام الأكابر في تراجمهم، ونهج البلاغة والبيان والتبيين والبخلاء وكليلة ودمنة ورسائل الأكابر.. حتى إذا تمكنت اقرأ لكل أحد.. وفي الشعر عليك بالأحمدين الثلاثة.. المتنبي، المعري، شوقي، ولا تنس ابن الرومي والشريف الرضى، والثلاثة الإسلاميين من قومك: الفرزدق وجريراً وشيخ النصرانية الأخطل.
• .. وجاء يحمل الغضب في عينيه.. فقد تواضع سلمه الله، فلم يحمله في لسانه، ولا تعامل به معنا في يديه، وإن كان هناك تعبير يزيد على ما حملته عيناه.. فهو بهذه التكشيرة.. فتح بعدها فمه ليتكلم. فظهر في الفتحة ناب قد اصفر، واستطال على المجموعة من الأسنان والأضراس.. حتى لحسبته لم يذهب إلى طبيب الأسنان!
ولم أشأ أن أعبأ بعين غاضبة، ولم ألتفت إلى اليد الفارغة من الغضب، فكل ما ((استرعى انتباهي)) هو هذا الناب المصفر البارز.
وسألت هواجسي: هل عنده شيء طفح به هذ الناب؟!
فلئن سأل، وسأل فسأجيب، ولكني لن أترك سؤاله عن نابه الناتئة كمنشز على سطح الفوهة التي هي فتحة الأشداق..
ـ قال: لقد قرأت كلامك عن الشيطان.. لا يتجسد لأصدقائه، والمطيعين له.. لأنهم من طاعته يسمعون الوسوسة فيمتثلون!
ـ قلت: وأي شيء في ذلك أغضبك!.. ألا تكون أنت الشيطان قد تجسدت أمامي؟!
وانتظرت أن يجيب، وهنا كان ذكياً تشيطن بجواب بارع أعجبني لذة السخرية بي..
ـ قال: دعك عن الورم يا أستاذ.. تريد أن أفهم أنك لست من أصدقائه فجعلتني إياه أتجسد أمامك لتباهي غداً بأنك قد طردتني؟!
ـ قلت: أخجلتم تواضعنا، وآثرتم كبرياءنا فما نحن وذلك، لكن هذا الغضب والعناية بالحضور، والحماسة والناب الأصفر كلها تجعلني أتخيلك كأنك هو!
ـ قال: اسمع.. أنا لست الشيطان نفسه، ولكني من أصحابه.. أنت وأمثالك جعلتموني من أصدقاء الشيطان.. تتظاهرون بالبراءة منه وأنتم أصدقاؤه.. تصبون الكلمة الرحمانية في آذاننا وقلوبكم شيطانية.. تظهرون بيننا على أنكم الآباء المعلمون بينما أنتم - بالاستعلاء - تحرموننا من أن نمارس تجاربنا، وهي باب العلم.. تستعلون حتى بما تقطعونه في سبيل الشيطان. وتنظرون إلينا بحقارة حتى لو كنا من جنود الرحمن.
لقد رأيت الشيطان اليوم فقال: اذهب لهذا الذي يحاول طردي من حظيرته وقل له إنك ما زلت في حظيرتي، فما كتبته عني كان من وسوستي، وجئت إليك لأقولها لك.. قلت له: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ولكنك حين وصلت إلى هذا الحوار مع الشيطان فإن الإنسان فيك سيغلبهم كما غلبتني أنا حينما بصرتني ببواعث الانفصال والفصام بين جيلين!!
• سؤال أطرحه على نفسي هو:
هل أكتب عن الاقتراح البريطاني.. بنسف قرار مجلس الأمن، وهو - أعني قرار مجلس الأمن - اقتراح بريطاني في الأصل صدر بالإجماع؟
أم أكتب عن قرار مجلس الأمن هذا.. أبطل أي مشروع قبله حتى النقاط الخمس؟
الإجابة: لا أريد أن أكتب عن ذلك!!.. فمثلي كمثل ذلك العجوز، ومعه حرمه المصون عجوز أخرى أقبلا على الشيخوخة، وجلسا وحدهما في البيت لأن الأبناء والبنات كبروا.. كل منهم، أو منهن ذهب إلى بيته. ولا طفل صغير لديهما يقولان له: ((افو.. امبوه.. بشبش.. حبوه.. دحه.. كخه (!!))) .
ففتق لهما العجز، ومن حبهما في التدليل ألفاه.. عاشا عليه السنين الطويلة.. وقد اقترحت السيدة حرمه المصون عليه - ولا أقول أنا! - أن يجعلا من نفسيهما طفلين.. كل منهما يعامل الآخر على أنه طفله.. فأقول لزوجي بدلاً من اسقني ماء: امبوه!.. فتسقيني..
وإذا نهتني عن شيء قالت لي: افو..!
وإذا رغبتني قالت: دحه!..
وإذا نهرتني قالت: كخه!..
وعلى هذه الصورة أعاملها، فأقول لها: أف.. دح.. كخ.. حبوه!!
وجرت الأمور على هذه الصورة..
وبينما كان الرجل - الأب - الذي هو نحن يملأ الدلو من الصهريج انزلقت رجله فسقط في الصهريج، فأخذ يعالج الغرق بالصراخ والخبط بيديه، والرفس برجليه.
وسمعت الزوجة صراخه فوقفت تنظر إليه وهو موشك على الغرق، وأخذت تدلّله وتقول له:
((اسم الله عليك!.. بتسوي بشبش؟.. يا عمري.. خليني افسخ وانزل معاك!..)).
ـ فقال لها: ((يا حرمة أنا بدي أغرق.. جريني من إيدي بطلنا دلع!!)).
وجذبته من يديه، ومن يومها تركا لغة الأطفال.. لعلّهما قد وصلا إلى لغة الرجال.. الآباء.. إلى لغة الأمهات صانعات التاريخ.. منجبات العظماء!
صورة قد تكون تافهة، ولكنها تنطبق على وضع تافه!!
• قال لي: ألم تجد غير بشار، جعلت الكبار يجرون ذكره وشعره على ألسنتهم؟.
ـ قلت: وأي شيء في ذلك؟ إنه مولى مضر من هؤلاء الذين نالوا العلم المعلق في الثريا.. ثم هو رأس المولدين.. أي إنه ثالث الرؤوس في طبقات الشعراء بحسب الترتيب الزمني، جاهليون ومخضرمون، ومولدون أو محدثون.
ـ قال: إنه كثيراً ما مارس المجون!
ـ قلت: وكثيراً وأكثر ما قال أجود الشعر سارت به الأمثال وطارت به الركبان.
إن هذا البصير المولى قد فخر بمضر فقال بيتين ما سبقه إليهما مضري على الكثرة الكاثرة من شعرائها.. وما لحقه بها مضري، فلا زهير وعنترة ولبيد، ولا ضرار بن الخطاب وابن الزبعري، ولا المخزومي والعرجي، ولا جرير ولا الفرزدق ولا المتنبي والشريف الرضي.
إنه قائلها:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة
ذرى منبر صلى علينا وسلما
ـ قال: كلام هجص وورم.
ـ قلت: لا، لا تقس هذا على وضعك اليوم.. فما قالها إلا وفي يده إمبراطورية في الشرق لم يكن غيرها.. وملك في الأندلس ولا أرقى منه في زمانه..
إنه يرى بوجدانه ذلك السماع للصوت الزبطري في عمورية.. فقد كان السيد المضري في بغداد يقول: حيث أمطرت فخراجها لي..
وقد كان السيد في قرطبة يقول: لئن ذهبت بغداد بدمشق فإن حضارة الحمراء ستذهب في فم التاريخ مجداً تسيل عليه الدموع في بغداد والمشرق كله، وتحفظه الضلوع في كل شبر عربي.
ـ قال: وغيرها أنشدني:
ـ قلت:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
فإن الخوافي قوة للقوادم
ـ وقال:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
ـ وقال لي: إن أمسكت عن اعتراضك.
ـ قال: لقد سكت.
ـ قلت: واسكت عجوز الأفراح التي وسوست لك بما تندرت به هذه الساعة.
• حوار سمعته بين جيلين.. جيل الذي نيف على الستين وجيل لم يبلغ الثلاثين بعد.. لمست الفارق بين مشاعر الاثنين.. لا أقول إنه الفصام أو الانفصال، وإنما هو الفرق الدقيق، أو الكبير بين القناعة والاندفاعة!.. بين اللذة من فتور اللوعة، وبين التولع في تطلب اللذة!
القناعة في جيل الستين حمد وشكر، وليست هي الجمود.. فبعض الشيوخ أكثر تحركاً، ولو لابستهم القناعة.. وبعض الشباب بطيء الخطوة ولو كان شديد التطلع!
ـ قال الشاب للشيخ: ما بالي أراك تفرح بالقليل.. ترضى به بينما حولك في العالم الكثير، والكثير لا يرضيني إلا أن أكون المستحوذ عليه.. لا لنفسي وإنما لبلدي؟!
ـ قلت له: اضرب لي مثلاً بالقليل الذي أرضاني، ودعني عن الكثير الذي تريد أن ترضى به؟!
ـ قال: إذا فتحت مدرسة في قرية صفقت لها، وإنك لتصفق لمدرسة فيها مائة تلميذ وتلميذ أكثر من مدرسة فيها مائة تلميذ حتى التلفاز في القصيم أكبرته وصفقت له.. حتى المستوصف في وادي العيص تريده.. إن هذه الأشياء ليست بالكثيرة، ولا بالكبيرة.. هناك ما أطمع فيه مما هو أكبر وأكثر!
ـ قلت له: هو الخيط الرفيع فارق بيني وبينك.. أنا رأيت العدم.. عشت الألم.. لهذا أفرح بأي مصباح كهربائي في شارع يحل محل ((الأتريك)) حل محل الفانوس.. حل محل القنديل.. الذين قرأوا على الشمعة يفرحون حينما يقرأون على الكهرباء.. الذين كاد يغشي أعينهم الرمد يشترون قطرة ((البوسيد)) كأنما هي الإكسير أراحتهم من ((التشمة)) و ((الصرافة)) و((الحك)) بحجر جهنم..
إن بعض هذا الوجود - مما تستقله - هو خير من العدم الذي كان يستقلنا.. يركبنا وكثير هي الأشياء، فلا تحسبني أريد أن أجمد على القليل.. إنما أريد أن أتطرى مع نفسك بالطراوة في نفسي.. تلمس بعض جوانب ما تختلف عليه لنتفق على حمد بعض الموجود، وبالأماني نجد فيها ما تريد.. إن بعض الشكران تسجيلاً قد يكون فيه جانب من التحفظ أو الاحتفاظ، ولكن لا تنس أن فيه جانباً آخر هو الحض على المزيد ليتحقق الكثير الذي يرضيك!!
• الوقت السريع يمر، واليوم امتحان، فأخرج سيارته وركبها يسرع بأطفاله إلى المدرسة يؤدون الامتحان..
هو من أهل هذا البلد.. لكن عمله ألزمه أن يلبس القميص والبنطلون!..
وبينما هو حريص على الوصول مبكراً، أشعلت الإشارة الحمراء فوقف من شدة حفاظه على النظام.. لأنه واعٍ وفاهم ويحترم نفسه وبلده ونظام حكومته..
وكان وراءه سائق وقف، جزع هذا المحجوز به وبالخط الطويل أمامهما في شارع المطار.
وأفسح الطريق فسار يميل إلى شارع في الشرفية فيه المدرسة.. وما زال السائق الذي كان وراءه يمشي خلفه.. ولم يكد ينتصف الشارع حتى سبقه من كان خلفه يعترض طريقه.
كان مثله في لباس.. قميص وبنطلون.. بجانبه طفله كما أن في جانب صاحبنا طفلين.
وأخرج السائق الغاضب الذي تقدم يعترض لسانه بكلام حاد وشرس.. ((ما تعرف تسوق كان تخطيت قبل الإشارة حتى أسرع وراءك..)) أنت ((فلسطيني)) فقال: ((تراك.. الخطأ على من جعلك سواقاً عنده ومسكك سيارة..)).
وسمع السعودي هذه الشتائم.. وعرف من لهجة شاتمة أنه هو الفلسطيني. فوقف أمامه وقال له: يشرفني أن أكون فلسطينياً!.. ألست أنت فلسطيني؟.
ـ قال: لا، لا، أنا لبناني..
ـ فقال صاحبنا، لا تنكر.. أنت فلسطيني فأنا أعرف كل شبر في فلسطين فقد كنت هناك.. لماذا تسب نفسك؟!.
ـ اسمع أنا سعودي من أهل هذا البلد.. وسأحتملك لأنك ضائع في نفسك لو احترمتها لما شتمت نفسك..
وجاء شاب يسلم على السعودي باحترام ويقول: ما عليش يا عم..
ـ فقال: أنا حزين لمثله.. وهنا احمر وجه الشاتم واعترف بأنه شتم نفسه واعتذر..
حكاية.. كل الخطأ فيها على ضياع النفوس بإرهاق الأحداث..
• رائد الفضاء المخلف عن الرحلة بسبب الحصبة أو ((العنقز)) كان يعيش طوال الرحلة أمراضاً ثلاثة.. في أول الأمر، ولكنه قد صحّ الآن من هذه الأمراض الثلاثة ليعيش المرض الوحيد..لا يشفى منه إلا إذا كان أحد الرواد في أبوللو 14!!
قبل أن يصعد كشفوا عليه فخلفوه لأنه مريض. أمر عادي، ولكن حينما وقع العطب في السفينة نسي مرضه، وتنازعه المرضان المثلثان لأولهما: مرض الأنانية في الإنسان.. يرتاح لأنه سلم من الهلاك. ومرض الطموح في الرجل. والتربية في المجند ذلك يقول له: أحمد السلامة. أما الثاني مرض الطموح فيقول له: لقد فاتك المجد.. لقد فاتتك هذه الصور المتلفزة.. هذه الروعة في جوانح الفاقدين.. هذا الصمود في مشاعر المفقودين.. هنا جاءه المرض الرابع، فالطموح قد تحقق الآن بسلامة الرواد. لم يحمد السلامة بل إنه يحمل على مرضه وحتى على الأطباء الذين اكتشفوا مرضه، لقد صنعوا له الشفاء من مرضه العضوي، ولكنهم لم يصنعوا له الشفاء من مرضه النفسي إلا إذا صعد إلى فوق.. فوق في أعالي الفضاء!
ولكن.. هل يكون هناك عطب ليكون له مجد الناجين، أم أنها ستكون رحلة عادية؟!
أحسب أنه حتى ولو وطئ القمر فلن يشفى من نكسة الطموح! أو نوازع الطموح.
هو الآن يشعر أنه فاته الشيء الكثير!
وفكر معي صديقي: إنك قد أمرضته فلا يشفى أبداً، قلت: هو كذلك لكن صعوده مرة في أبوللو 14 يضع البلسم على الجراح. قال: وهل هناك رابعة عشرة؟!
ـ قلت: نعم.. إن لم تكن قريبة فإنها كائنة، فالعلم جشع لا يشبع.
ـ قال: ألا ترى أنها مناورة للتعطيل أو للتأجيل؟!
ـ قلت: قد يكون التأجيل، أما التعطيل فلا، فلئن شبعوا من القمر، فهناك كواكب أخرى، العلم جشع لا يشبع!!
• نجلس في أبراج عاجية، ولو كانت أكواخاً، أو غرفاً ليس فيها رياش وأثاث ((مدوكر)) المهم أنها غرفة تعزلك عن الناس، وتفصلك أن تكون ذاتاً متحركة تشغل نفسك بما يفيد الآخرين.
نحن هؤلاء الذين نجلس في اعتزال عن الآخرين المتطلعين نرتكب خطأ ضاراً بنا وبغيرنا.
بنا، يعني نحرم أنفسنا من متعة الاستزادة والفهم والتطلع، فلربما يأتيك سؤال من شاب.. يفتح لك باباً من المعرفة حينما يحملك على التقصي والبحث.
وبغيرنا.. هم هؤلاء الذين يحبون أن يعرفوا عن طريق الحوار والنقاش أشياء كثيرة يفهمون ملامح منها.. ويريدون الواضح أكثر وأكثر.
ومنا نحن يحدث شيء.. هو الذم والحملات على هؤلاء الذين لا يعرفون مثلما نعرف.. ويعتقدون ما نعتقد..
هذا إجحاف وجور، لا نعطي، ولا نتصل، ولا نعلم ونحرم أبناءنا من كل ما عندنا.
اللوم أساسه ينبغي ألا يصب إلا على الباخلين والمنعزلين والحارمين والوارمين..
فلكي نقضي على انفصام وانقسام ينبغي مرة ثانية أن تكون حركة فكرية تعطي الصواب، وتأخذ التصويب إذا ما أخطأت، وتمنح الفرصة للسائلين أن يتحركوا في اتجاه الحوار معك.
لست في هذا أشير إلى واحد بعينه، ولا إلى آخر، وإنما أضع الإشارة على كل من يلبس ثوبها، وكان مسلكه هو ما ذكرت..
لقد جلس إليّ شاب مترف الذهن والبيئة والشباب، ما كنت لأقترب منه. حتى وجدتني أتقرب إليه بسؤال منه عن انفتاح ذهن ورغبة ملحة جعلني أشتد من اشتداد القوة في تطلب الإجابة.. أذكر ما أعرف، وأعد بأن أرجع متى أعرف..
هذا الشاب هو الذي جعلني أشعر بما نقترفه من إجحاف بهؤلاء.
• حوار معه.. كانت الكلمة فيه طارئة فرضت نفسها لأنها أصبحت التحويلة للحوار.. لم تكن في الأصل بدايته، ولكنها في النتيجة هي مداره ونتيجته..
ـ قلت له: إن الصفحة ذات الرقم المعين لها اليوم طعم جديد فيه شيء حريف - حراق - لم تصنعه الحرافة، وإنما تصنعه بجهد التطويق.. لا من فوات الطاقة، وإنما هو الهروب من سرمدية المعطى جرعات متوالية لقارئ تخم بهذا الشيء.. قد ابتلعه لأنه ما وجد غيره يبل الريق، أو يسكت المعدة!
ـ قال: ليس هذا صحيحاً من فعاليتي، ولا هو بالجديد من افتعال أنتهجه، وإنما هو تفاعل الناس المحسة باحترام الكلمة أولاً.. لاحترام القارئ أولاً مرة أخرى!.. إن هذا التفاعل هو من مكاسب القراءة المستمرة، والالتقاء الجيد، والانتفاء عن كلمة لا يحتار بها قارئ.. الانتفاء اختيار، وهنا تكمن الصعوبة، أنت تقرأ وتقرأ ستجد ما تطلب.. أما الاختيار لتعطي فهو الصعوبة، وأيضاً ليست الصعوبة أن تختار، لكن الصعوبة أن تعطي ما يحترم.. فالاختيار صعب من ناحيتين.. من ناحية أن أذوق فأعطى، ومن ناحية ثانية أن أعطي القارئ تذوقه!
ثم أردف.. كأنما انتهى هذا الشيء تقريراً منه لحقيقة ما هو فيه.. عن ما أراد، أو ما أريد به، وانتقل بسرعة ليسأل: هل هو واقع صحيح ما يقومه الجيل عن جيل جديد.. من أن الجيل الجديد لم يأت بشيء، ولا يستطيع أن يأتي بشيء حتى لو أراد؟!
ـ قلت: ليس هذا هو الواقع الصحيح، وإنما هو الشيء الطبيعي.. اندفاعاً للدفاع عن الذات. وبالتالي عن العمل.. عن الفعالية خوفاً من التحطيم، ليس في طاقة القديم أن يحول دون نهاية الحياة، ولكن في طاقته أن يدافع عن حياة حياته: عمله الذي أنتج، فهو يخشى أن يمارس جيل جديد عملية تحطيمه.. هو طبيعة لإثبات الذات لا أكثر ولا أقل، فليس منه تحطيم التالين بعد، والجديد طبيعي أن ينتقص من أقدار القديم لأن في ذلك ليس الدفاع عن الذات وإنما هو إثباتها، وتثبيتها ليسير دون معوّقات.. ذلك يحول دون أن يضيع، وهذا يحاول أن يشيع، وإلا فقديم الأمس كان جديده، وجديد اليوم هو قديمه غداً.. المسألة تنتهي بخاتمة هذا الحوار!
ـ قلت له: إن الرائد ينبغي ألاَّ يهزم. والناشئ ينبغي أن يخدم.. الفعالية لا يمكن التسامح فيها.. أما الاكتساب فمن الممكن المصالحة في اقتسامه، ونمائه.. الفعالية هي الموهبة، وقد تكون هي العبقرية في أصحابها، الاكتساب هو تنمية العبقرية.. تنشئة المواهب، إن الفعال الصحيح هو الذي يتقبل بفرحة فعالية الآخرين حينذاك سيكون هذا التقبل جزءًا من فعالية - إن لم يأت بها مباشرة - فإنها قد أتت منه، ولو بكف الأذى عن السارقين، طريق الانتقاء لما هو أجود وما هو مقبول!
• هو صديق أرتاح إليه، ويرتاح إليَّ.. كنا في سيارة ذاهبين قادمين من زيارة واجبة! ورأى صاحبي شيئاً أعجبه. فقال: كان في مقدوري أن أملك هذه ومثلها وأكثر!
ـ قلت: أهي ندامة عن حسرة؟ أم هي الذكرى تحمد بها الله على ما أنت عليه من قيمة وقوام، وتشكره على أن لم تكن لك هذه ومثلها وأكثر؟!
أتحب أن تكون لك هذه، وتفقد ما عندك مما أنعم الله به عليك؟
ـ قال: ما عندي شيء أفقده، أو أتفقده!
ـ قلت: تعني العقار والنضار والنشب والعروض؟
ـ أما هذا فما عنيته ولا خطر في بالي.. فالذي أعنيه هو شيء آخر أغلى من كل ما يملك من عروض!
ـ قال: تحدث دون أن أسأل.. أريد أن أسمع.
ـ قلت: كان لي صديق كثير التأوه، كثير الشكوى، فسرت معه في زقاق، فأوقفني أمام بيت كبير في حارة الباب، فأنظرني الحجر والطين، يلمسها بيده.
ـ وقال: هذا الحجر، هذا الطين، حملته وأنا يافع.. كنت أعمل في الحجر والطين بأجر يومي قدره نصف مجيدي، أي عشرة قروش، أعول أباً كان مريضاً.
ـ قلت: وأنت اليوم ألا تقدر أن تشتريه أو تنشىء أكبر وأجمل منه؟
ـ قال: نعم.. نعم.
ـ قلت: هذه ذكرى ينبغي ألا تؤلم، إنها عنوان الحوافز لأن تكون كثير الحمد لله. أنعم عليك بمعرفة وتعلم وغنى، فلماذا تتأوه كلما رأيت إنساناً منعماً عليه، أفلست أحد المنعم عليهم؟
ـ أما كان من الجائز أن تصبح قرارياً، أو معلماً ينادونك ((يابا)) بدلاً من هذا الذي أنت فيه؟
المعلم إنسان كادح حمد الله على ما ناله.. وأنت إنسان أقل كدحاً وفي مكان مرموق.. أفلا تشكر وتنفرج نفسك عن هذا الضيق؟
هذا مثل..
وهناك الآخر!
أتذكر فلانة وفلانة وهما أختان، زوج الكبرى قد اتسع له ما يملك من قيمة في الذات والامتلاك والعزة، وزوج الصغرى على باب كريم.
فهل تعرف أيهما الأسعد والأهدأ بالاً؟
إنها الصغرى، انظر إلى بنيها، جمالاً في الصورة وكمالاً في السلوك وغنى عن الناس. وسلاماً من كل الناس. يتعلمون ويحترمون فما أكبر فرحتها إذا ما نظرت إلى واحد من ولدها.
أما تلك فماذا تراها؟ إنها في كبر، إنها في قلق من كثرة ما تملك فتهلك!
ولقد ماتت الكبرى فما وجدت بجانبها إلا عناية الصغرى وأبناء الصغرى.
وماتت الصغرى فما سار وراء نعشها واحد من أبناء الكبرى.
ضياع البطر! وصون الشكر، ذلك ما وقع!
وسكت صاحبي يقول: اللًهم احفظ لي ما أملك من نعمة الخير في نفسي، والخير في أهلي وولدي..
واللهم لا تشمتنا بمبطر، ولا تبطرنا بمقبل! وأنعم علينا في الحامدين الشاكرين.
• قال لي: حضرته - وأشار إلى ابنه - لا يريد الجلوس في الدكان.
ـ قلت: مخطئ، ومصيب في آن!.. هو مخطئ ألا يرغب الجلوس.. يتعلم منك.. يحفظ عنك، ومصيب أن تفرض عليه أن يكون معك طوال النهار تحبسه معك، إن في هذا حجزاً له يكربه، فهو قد ألف قسماً من الوقت أتاحته المدرسة له، حتى المذاكرة هي فسحة لأن فيها تغيراً من وضع أمام الأستاذ إلى وضع أمام نفسه. دعه يجلس في الأيام الأولى ساعة أو ساعتين، ثم أفسح له الطريق ليذهب إلى البيت.. إلى فسحة أخرى.
إن فرض القيود السرمدية هي فارضة التفلت من هذه القيود. لا تكن يابساً فتكسر، ولا ليناً فتعصر.
أعد تاريخ حياتك طفلاً.. تصور ما جرى لك، كثيراً مما ضايقك وتمنيت إن لم يكن.
إن حبس الفتى على رغباتك كلها لا يطوعه لك، وإن إطلاق الفتى لرغباته كلها يبعث العصيان في نفسك عليه.. من هنا يكون الانفصام والغياب، وسوء التفاهم.
أذكر مرة في حياة إنسان ما أن والده قد زرع أحواضاً كثيرة من الحنطة، فلما أينعت، واستوت السنابل على السوق كلف زارعها ابناً له يحرس هذه الحيضان من الطير لا تأكل الحنطة، استمر أياماً لكنه استوحش.. لم يكن هناك أحد يؤانسه.. ضاق، وكأنما أبوه أشفق عليه، فجاءه قبل المغرب بأقل من ساعة، وأخذه إلى حفل كبير، وتركا المزرعة، وفي الصباح، وجداها خاوية على عروشها.. نزلت عليها العصافير فأكلت الحنطة كلها.. لسبب: الضغط على طفل، والرحمة من أب. لو تركه يحرس ساعات، وناوب بينه وبين أجير للحراسة لما تأزم الطفل، ولما أشفق الأب، ولما خسرا الحنطة، هكذا.. القسوة تضر، ولو برحمة متأخرة، والكزازة، البخل عما أشد ضرراً لأنهما السبب في حجز الطفل، وفي الرحمة الفجائية، وفي خسارة القمح!!
• قال لي: أنت مكبوس.. يعني مكتوم النفس لا مكتوم التنفس!
ـ قلت: ليست المشكلة أن تكون ((مكبوساً)) تطحن أعصابك أزمة عابرة، أو مستديمة حتى الأزمات في النفوس تصبح هذه الأيام كالعاهة المستديمة!..
المشكلة هي أن تعجز عن التنفس بالبوح.. تعبر عن ما تأزمت به حال لديك، والمشكلة أكثر هي ليست من فقدان الشجاعة، وليست من الفرس، وإنما هي من الاستحياء.. تعرض لك الأزمة النفسية من خبر مدمع، أو حال موجع ليس هو خبرك، وليس هو حالك وإنما هو حال ودموع من تعرف أحياناً، ومن يعرفه لك إنسان آخر!
ـ ((مكبوس)).. لا من الاستحياء أيضاً، وإنما من الآذان التي تنغلق أتوماتيكياً إذا سمعت كلمة خيرة عن أحد، أو دعوة خيرة لغوث أحد، وتنفتح أوتوماتيكياً إذا ما سمعت المعابة، أو تلمظت على خير عرض حالاً لمسكين!
ـ ((مكبوس)).. لأن الصمت إرهاق، ولأن النطق ضياع!
وسكت.. لأنه انقلب مكبوساً أكثر مني.. ونطقت أكتب لأنه سألني وأجبت، فتنفست.. بقي هو أن يسأله غيري ليتنفس!!
• أصبحنا لا نقرأ.. يعني هذا التجميد في ميوعة الحياة..
عندما كانت حياتنا صخرية كنا نتسلق صخورها بالقراءة.. حينما ذاب كل شيء أمسكت الحاسة القارئة نفسها تصونها عن الميوعة، فلا تجد إلا أن تجمد..
التجمد فيك كقارئ توقف عن الحركة في متابعة الفكر الإنساني،والميوعة حولك كقارئ تبعثر جهدك، فلا تمسك بشيء. أفضل أن أتجمد على ما أمسكت لئلا أذوب في هذه الأشياء التي لا تمسك!!
الأشياء الثمينة في المكتبة الإنسانية، أو مكتبة اللغة الشاغرة أصبحت بعيدة المنال لأسباب نحسبها مانعة ألا تذوب.. بينما هي وافدة كالحمى تصيب إنساناً في فلاة لا يجد العلاج، أو الطبيب.. العلاج والطبيب لقارئ هو ألا يتجمد، وأن يستورد كل ما كتبه الفكر الإنساني.
أصبحت - بعد سطرين مما كتبت قبلُ - أفضل أن أذوب مع كل ما يقرأ.. ولا أتجمد مع الذي قرأت!..
تناقض؟!.. لا.. هو هكذا الكاتب قارئاً.. والقارئ كاتباً، لا بد أن يعيش التناقض ليصنع المواءمة.. هو مسؤول عن ما يعطيه للناس، لكنه ليس مسؤولاً عن ما يأخذه لحساب الناس.
• في حوار بيني وبينه قال: أريد أن أحب ولكن الزحمة ضيقت عليّ أن أجد من أحب. أنا لا أحب الزحام..
ـ قلت: أنت مثلي تماماً.. كنت لا أحب الزحام حتى إذا زاحمني أحد تخليت دون ألم.. لماذا!.. لو تخليت عنه دون من يزاحمني عليه لأشبعت نفسي من ألمها. لكني حينما يطردني الزحام عنه لا أشعر بهذا الألم.. أهذا حب؟.. كنت أحسبه الحب.. عشت عليه في أكثر من حالة.. غير أني الآن أكاد أمج هذا الأسلوب.. أحسبه تفاهة، فالفرار من الصراع جبن الأنانية. لو كنت شجاعاً - يعني أتحمل الألم - لكان الرفض في الزحام أكثر إيلاماً لأنه الهزيمة!..
أما التخلي لسبب منهم.. لسبب مني فهذا شيء غير ذلك.. إنه بانتصاره هو عليّ فانتصار الحبيب حبيب إلى النفس، فعلى أقل تقدير كنت ميدانه.. نتصارع فيه.. أفقده، ولا أخسر هذا الميدان الذي هو أنا، وإن كان بانتصاري عليه فشيء حبيب إلى الأنانية أسترخصه ولكنه من ناحية أنه ميدان فيه بعض العزاء.. على أقل تقدير أرى في وجداني هذا الميدان فيه شيء من الذكريات، فالمنتصر والمنهزم هو نوع من أوضاع الصلة.. أما المنتصر دائماً فهو الأصيل دائماً.. الحب نفسه وذكرياته!
الذكريات حياة الجمال في هذا الجميل. وحياة المحب على كل الأحوال!
وحين أفلست بعد أن تعلمت لم أجد في نفسي قبولاً لأن أجد من أتصارع معه.. يعني ذلك أني فقدت إلى حد بعيد الحبيبة والحبيب!
بصراحة.. لأني غير صالح لذلك.. لا إغراء.. لا زخرف.. ولا حتى ما استبدل به المتنبي ماله وخيله!.. لأن منطقي أصبح غير معجب.. قديم عف عليه الزمن.. لكني سأنتصر.. لن أكون منهزماً.. حيث لا حبيبة ولا حبيب، ولا كفاءة في أن أجدهما فإن عندي كل الكفاءة لأن أحب ما هو أغلى، فلئن فقدت من هو أغلى فلا عائق إن هو الأغلى.. ذلكم هو حب المحب!..
هذا ميداني أتحدى من يلقاني فيه، فإني سأنتصر عليه.
حب الحب.. جمال الشيخوخة، وكمال الإباء، وفضيلة الأصفياء!
• قال: أنت شيخ تصابى.. تتعلق الشبان ليزفوك في هودج!! فحينما فقدت عرس الحياة جئت تطلب التعويض..
ـ قلت: هذا غير ملائم للواقع.. فحبي للطفل أبى الرجل.. أملى في الرجل صانع التفوق في المستقبل.. هو دافعي من أول يوم وقفت فيه معلم صبيان.. في كل مرحلة لم أبخس إنساناً حقه.. في كل رحلة رافقت المقدمين على نجاح..
برئت من إلحاد.. وتبرأت من كلمة قالها أحدهم قبل خمسة وثلاثين عاماً: أنت تشجع فلاناً! ألا تعرف أنه إذا تفوق سينساك ويهملك؟
ـ قلت: إذا ما ذكر نفسه بالتفوق فيه.. فإني لن أنسى نفسي واضع لبنة في بناء أعتز بصونه ونمائه..
* * *
• وقال آخر: أنت تجبن عن مصارعة هؤلاء الشبان ومقارعتهم..
ـ قلت: لم أختلف معهم على شيء ينالني منهم.. بل إني أحبذ أن يكون أول حجر يرمون به هو الحجر المسلط على الخطأ ولو كنت هدف الحجر إذا ما كنت من الخاطئين..
أما إن اختلفوا على أنفسهم.. فلست عليهم بمسيطر!..
وإن تخلفوا عن الحق، فشأن غيري أن يردعهم عن الباطل..
فقد أسعى جهدي لتمرير رأيه.. ولا أحب أن أكشف اللحم في السوق!!
ـ هما قالا ذلك.. فلم أنهزم.. لأنه جرأة على الحقيقة، ولا يهمني إلا دافعي ووازعي، ولكن.
ـ قال الثالث: لا.. لا.. إنك تسوس عقولهم، وتوسوس لهم وتفسد رأيهم..
ـ قلت: هنا يكمن الخطر.. هنا دافع حقدك، وسوء قصدك.. فليت ولدي من صلبي يسير على إيماني ورأيي في ترابي وقومي ووطني.
قل غير هذه..
إني أدفع الجرأة.. وأتسلط بالنشاط.. وأحاور الرأي لأني أحب الجهر.. وأكره الهمس.. وأرفض الكبت..
ثق أنك حينما تقول هذا لواحد، فإنك تريد أن تسلبه كفاءته في تمييز الأصدقاء والرجال.
لا حقد، لا إفساد.. إنما هو الحب لكل المتفوق والمتفوقين.. أما سواد القلب والحقد القاهر فمتاع الذين يحبون أن يعيشوا وحدهم.
• والفتى الذاهب إلى بعيد يتعلم.. جاء اليوم يتكلم.. ذهب يحمل تكليفاً.. وجاء يضع تشريفاً، كان حمله الأول أماني الوالدين.. وأصبح عمله الأول العمل للقادمين والحاضرين حتى تحسبت أن شيئاً جديداً ورائعاً قد تجسد أمامي في كيانه.. من لسانه..
طفل كنت ألعب معه.. أناغيه وألاغيه، فإذا هو رجل يلعب بي بجد من القول.. يحاور ولا يداور، يصاول ولا يتطاول، يحاول ولا يتحول.. يتناول خير ما يعرف.. ولا ينالني بسر مما عرف.. يرسل كلامه كأنما هو في الواقع يحدد قانون مسيرتي معه في قابل.. أعطيته من عاطفتي حياة مسيرتي له.. ويعطيني من عقله الشيء المفروض غير المرفوض.. يفرضه هو، فأصبحت بهذا كله صديقاً لا أباً.. وأصبح بهذا كله الابن الصديق.. يلتصق بي بالانطلاق، لا أسبغ عليه قيداً.. يجتر به الشقاق إلى فراق.
ـ وسألته: كل هذا مسلم به.. ولكن ما أنت صانع له؟
ـ قال: لا تجزع.. أحسب أن غيرك يفجع إذا ما أخبرتك بقراري.. فبعد عام سأنتهي لأكون منك بك معلماً في أي مجال.. لا يغريني أن أكون معيداً في الجامعة.. ولا يبعدني أن أكون مدرساً في قرية.
ـ فقلت له.. أتصنع التهجم: ماذا تتوقع من إجابتي؟ هل تحسبني أقول: لا؟.. لقد سعيت قبل أن أسمع هذا منك ليكون الذين سبقوك على النهج الذي أردت.. أساتذة ومعلمين.. ولكني فجعت بما لا أقدر عليه إن استجاب لي طالب عز عليه مطلوب.. حتى الذين كانوا الحريين بأن يستجيبوا.. فيكثرون من المعلمين.. وجدت في وجوههم استغراباً.. يستنكر عليَّ هذا الطلب.. يحسبونه المطلب الرخيص..
ـ قال لي واحد منهم: كيف؟ أتريد من ابنك أن يكون أستاذاً؟..
ـ قلت: نعم.. فالبلد في الحاجة الماسة إلى المعلم لا إلى المدير.. فأعجب لحامل الإجازة العلمية ألا يستفاد من علمه إلا توقيعاً على استمارة.. أو حديثاً بالإشارة!
وضحك.. فقلت: أنت محق في أن تضحك.. إلى أن تسخر.. لأنك إنسان قد سخرتك البطنة.. إلى أن أماتت الفطنة.. أما غيرك.. فلم يسخر لأنه مسير بما يدعو إليه نهضة في هذا البلد.. يرجو أن تسير بالعلم وبالمعلم.. فلا تتعثر بالمسلطين الساخرين؟..
وسكت الفتى.. لأجد دمعة أخرى كان فيها بلسم الجراح.. وكان بها الطلسم.. لا تختفي به ذخائر المحبة.. وإنما هو شيء من الرقية الطيبة الحلال.. ألقوها عليه.. أسأل الله أن يحفظه من نكسة تقتل عواطف الرجال وآلامهم.
الحب.. حب هذه الأرض وقاية من كل شرور المستقرضين بالعلم.. بالمعلم.. نقضي على هذه الشرور.
• سمعتهما يتحدثان على قارعة الطريق، ولشد ما تسمرت قدماي!! أسلم عليهما، وأسألهما عن فحوى الكلمة التي قالها سالم لسعيد..
هما كهلان من كهول الحارة القدامى.. وأنت في بلد قلّ أن ترى في شارع.. أي شارع واحداً من الجيرة الأقدمين. كله جديد، كله طريف، ذهب بالتليد، فالشيء المقرر في حياة المجتمعات أن القادم الجديد يطرد الساكن القديم.. فقريش البواطن.. أجلوا قريش الظواهر، والأحابيش أجلوا البواطن.. وهكذا.. حتى أصبح اسم دار أبي سفيان القبان، وحتى أصبحت سقيفة بني ساعدة شيخ النمل، أو السحيمي.
ـ وسألت الشيخ.. إيش قلت؟
ـ قال: قلت: الحمد لله على نعمة الجهل، فاعترضني سعيد ينكر عليّ ذلك، ينكر أن الجهل نعمة أحياناً.
ـ قلت له: فسر لنا..
ـ قال: الجهل النعمة هو الذي لا يخرج بك إلى ضلالة ولا يدخل بك إلى أذى الناس.. تعلم ما ينفع لخاصة نفسك، ولا تتبعثر بشك ولا تهلك بالحيلة.. انظر إلى هؤلاء الذين جعلوا العلم نقمة..
النقمة في العلم، أو بالعلم هي في حامليه، ما استطاع أن يصلح أخلاقهم فزادهم العلم نباهة ذكر، وذكاء ذهن صلحت لأدوات الشر والفساد بين الناس.
إنك تعرف فلاناً صاحبنا، وتعرف أني بعيد عنه، جهلي النظيف، أبعدني عن علمه المتسخ ((يفتي على الإبرة، ويبلع العتلة)) كم مرة أبكى يتيماً أضاع حقه، وأرملة استرذلها في غمط حقها.
كرهت المعايشة معه، وقد كنت أحب أن أتعلم منه.
وهكذا.. فالجاهلون في الأدغال لا يعملون على قتل الإنسان.
فالجهل تجد منه الحماية، أما العلم فأين نجد الحماية إذا ما سلطه إنسان على إنسان ((حيلة)) ((خدعة)) ((قنابل)) ((غارات)) قوة حماقة.
• للمرة الثانية. وفي المطير حملني صديقي الشاب في سيارته إلى البيت.. لا أدري أذلك مصادفة أم هو العمد منه. يعجبه في هذه اللحظات التي تضحك فيها الأرض من بكاء السماء، أن يضاحكني وأضاحكه!.
كان الحديث في المرة الأولى عن شجونه. وكانت شجونه شجون المترفين الذين يعلقون عيونهم على أهداب البلكونات!. أما الحديث الثاني فمن شؤون أخرى ليس فيها شجن. وإنما فيها شدو!.
ـ قال لي: كيف يستطيع أن يكتب أخونا ((عبد الله جفري)) كل يوم.. يعنى هذا من القراءة، أم أن هناك شيئاً آخر؟!.
ـ قلت: هما واحد.. القراءة أولاً والشيء الآخر أولاً!
ـ قال: أسلوبه يعجبني. ويعجب الكثيرين!
ـ قلت: والكثيرات أيضاً!.. أحسبك تسأل عن هذا؟.. انظر إليّ لتسمع.. لا أريدك الآن أن تعلق أهدابك إلى فوق. فليس هناك إلا حبل الغسيل!.. أحياناً النظرة إلى تحت تعلو بك إلى فوق، فالذين لا تحث لهم لن يكون لهم فوق. الجذور تحت.. يعني الحياة تحت.
وهنا مستنى عصا المعلم المشاء.. لأقول له:
ـ في هذه الخمسين عاماً التي عشناها. يعني وعينا أن نعيش لها.. نبتت عندنا أساليب.. كل أسلوب أعلن عن كاتبه.. إذا ما قرأته، ولم تر توقيع صاحبه قلت هذا فلان. هؤلاء أصحاب الأساليب كأنما برزوا في حياتنا الكاتبة على نسق متسلسل... تحسبهم المتوارثين يحفظون للأسلوب مكانه: حمزة شحاته، فحسين سرحان، فعزيز ضياء، فمحمد عمر توفيق... لكل واحد من هؤلاء الأربعة تمطى أسلوبه علينا.. غطانا.. ولحفنا. فلقد قرأت في ((رانجون)) قطعة لحمزة شحاته في صوت سفري إلى الهند، ولكني قلت لصديقي الشيخ محمود شويل: ((كاتب هذه حمزة شحاته)) ذلك لأنى. ولكي أقيم الدليل على نفسي، قرأتها بصوت مسموع فكان الجرس هو جرس حمزة. وقد وقع لي قبل أن أصل إلى التوقيع أن أعرف الكاتب حسين سرحان، وعزيز ضياء، ومحمد عمر توفيق. لقد حجبت الأيام هؤلاء إلا في النزر القليل. فجاء صديقك ((عبد الله جفري)) خامساً لهؤلاء يكتب بأسلوب مميز كأنما هو صحوة من فترة غفوة!.. لهذا يقرأه الكثيرون والكثيرات... غير أنه أوفر من أولئك حظاً لأن الكثيرات أصبحن يقرأن!.
ـ قال: وأنت؟!
ـ قلت: هم.. يمتصون قصب السكر.. وينضحون بالشهد... أما أنا فأغترف وأتدفق!
• سؤال ألقاه أخونا م. ع:
س - ما هو أحب شيء إلى المرأة؟
ج - هو أن تكون أماًً.. فالأمومة أحب شيء لها. فهي قوامها وقيمتها ومدار رغبتها ومسيرة حياتها.
س - والجواهر والفساتين؟
ج - هذه ((محدقات)) وكماليات. شهوات. تتزين بها المرآة حينما تتبدى للذكر. ((من ذكر وأنثى خلقهم)).
هي أم ولا شيء غير هذا.. وكونها الأم يعنى ذلك أنها الأنثى.. والأنثى لا يمكن أن تكون بلا زوج.. الذكر.. مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
س - إجابة ما كنت أتوقعها. لقد ((فهمت الحقيقة)) وأفرغت الفهم الدقيق لي.
ج - الأنثى الأم غالية. فلم استرخص الإجابة عنها. فرق كبير بين الأم والأب!
فالأب الذكر قد يصرف ماء الحياة. وقوام الحياء في كل مصرف نبلا لشهوة. ارضاء لنزوة. لأنه لا يحسب حساب الأبوة قطعاً وهو يتشهى ويفعل.
أما الأم فهي مورد ومصنع. لا تنصرف إلا وهي تعرف البنوة والأمومة. فإنها في التشهي والنزوات والهفوات تنقطع نفسها حسرات. هي الباكي بعضها على بعضها، غالية البضع. مرهفة الحس.. في أشد حرصها على غواليها!.
ماء الحياة في الذكر بعيد عن القلب. أما هي فحول القلب في هذه الترائب في صدرها..
تعطيه لطفلها طعاماً.
لطفلها طعاماً غذاء من ثدييها.
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ.
هي مصنع البنوة، وغذاء الابن، ورحمة الخالق، من هنا.. الجنة تحت أقدام الأمهات أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك.
ومن هنا أيضاً، حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة.
س - لقد قسوت على نفسك ذكراً أباً!
ج - لأعطي أمي حقها، لئلا أبخس أم ولدي حقها، لأرحم البنت في هذا الزمان المستغول، إنها عاشت تحت غول من الكبت.
• قلت له: هي واحدة من ثلاث. من صالحك أن تسأل عنها قرينة حياة: الفاغية تخاف نفسها، والغالية تخاف غيرها، والفارغة لا تخاف نفسها، ولا تخاف غيرها، وإنما هي تخاف الخوف، وتأمن الخوف في كل لحظة لها مذاق!
ـ قال: هذا كلام يسأل الوضوح، ويرفض التعمية، ويرغب التعريف بالدليل، والعلامة والميزة. وحتى المعابة، عن كل واحدة منهن.
ـ قلت: إن التي تخاف نفسها رفضت أن تعيش تجارب عدة فهي تكبح الرغبة لا تخضع لإغراء، وترفض الافتراء، وتود أن تجد الأمين المؤتمن، وهي أيضاً لا ترجئ الحبيب إذا ما كان الأمين، ولا تلجئه إلى ممارسة الحيلة معها، فهي تتعرف وتتعرف حتى تعرف، ثم تعترف فتقع في شباك إنسانها الذي يحترم خوفها لأنها به حافظت على نفسها حتى حفظته هو لنفسها!
ـ قال: والثانية؟!
ـ قلت: التي تخاف غيرها؟!
ـ قال: نعم.
ـ قلت: إنها هي التي تقع من تجاربها مع الذي يجسد الخوف فيها. كان قبله مزاجاً فأضحى طبيعة. إنه يمتلكها بهذا الخوف، فتصبح عبداً له يسومها بالحذر منه وبأسلوب المخادع الملاين.. الخوف الطبيعة حينما يتربص بها ساعته المريعة فيمثل لها نفسه الرجل الرائع. فتقع بين يديه سيداً لها يحكمها بالخوف، ويتسلط عليها بالمذلة!
ـ قال: والثالثة؟!
ـ قلت: التي لا تخاف نفسها ولا غيرها؟!
ـ قال: نعم!
ـ قلت: هذه ستكون عبدة نفسها من تصورها أنها سيدة نفسها حينما تأمن بالوهم لتكون المرفوضة من إنسانها، لأن وضوح الاستقلال فيما يمنعه من أن يمارس حياة إنسان مع إنسانة لأنها تشمخ بالأمن في نفسها طوال أيامها الشابة المرحة. حتى إذا فرغت النفس من حماية النفس جاءت تجري نفساً جديدة تسأل إنسان فيصعب عليها أن تجده لأن الزمان قد صنع لها الخوف من نفسها ومن غيرها لتكون كالثانية.. حينئذٍ تعيش الحيرة والحسرة. إن ملاك الأمر في نيل الأنثى رجلها السكن والمطمئن هي أن تخاف نفسها فلا تخاف غيرها. أو لا تأمن نفسها، فمخافة النفس هي مجلبة الأمن في الأنثى، ولا شيء غير ذلك.. إن التي خافت نفسها عاشت حياتها آمنة برجل لا يخيف ولا يذل!!
• ليس كالحوار جالب ثقة.. مثبتاً لقواعد كرامة. وطارداً لرأي لا ترضاه.. معلماً لفكرة تفيد.. به لقاح الفكر وغذاء المعرفة. وتفشي الرأي، وهو بهذا كله لا يصدر إلا عن عدة كقوة في عارضة الجدل.
أو هي القوة في المعروض للحوار.. يستأهل نطاح قرنين، ولو كانا، ولو كانا غير قرنيين.. به تنمحي الفوارق بين الاثنين المتحاورين فرداً أو جماعة.. الفوارق تنمحي ولو ساعة جدل، والحجاج يكبر صغيراً.. يرتفع بالرأي ويتواطن كبيراً احتفالاً بالرأي.
وكثيراً ما تكون غير عارف بمسألة أو فكرة.. فإذا بالحوار يفتح لك باباً تجد المسألة عندك.. وجوابها في المخزون رصيداً في عقلك الباطن، أو أنت تأخذه من عندي سؤالاً ليكون عندك الجواب، أو يكون الجواب من عندك لمسألة وجدتها في لحظة الحديث تطرحها ليجيب.. فإما أن ترضى بما أدلى به - أعني تقتنع - فلا مجال للغضب في الحوار، وإما أن تناقضه ليكون صوابك صواباً عنده، أو لا يكون.
إن الحوار مران، ومعاناة.. لا تعنت.. يأتي بالممارسة للمدارسة.
فمثلاً.. تحدثت إلى صديق مثقف من الهند قال:
ـ نحن نخوض التجربة المريرة في برامج التنمية تعجزنا عن تمامها مشاكل ومشاكل.. سواء من الداخل أو من الخارج.. ليست هي الأفواه الجائعة التي تحيرنا، وليست هي الأرض تريد الحرث والزرع، والمصنع ليكون الإنتاج نواة النماء. وإنما هو هذا الشره.. أو هو الإسراف في توقي عدوان علينا.. لو استرحنا من نفقات التسليح لخطونا خطوات كبيرة في التنمية.. هذه المرارة التي نشعر بها ليس سببها ما ذكرت لأنه سبب عارض.. السبب الصحيح هو أنا حصلنا على الاستقلال دون أن نقدم كثيراً من الضحايا.
ـ قلت له: الاستقلال هو الهدف والغاية، أما الضحايا فوسيلة.. لم تستطيعوا استعمالها.. بهذه الفلسفة أو المبدأ أصله غاندي فيكم. ((اللاعنف)).. اللاعنف يعني لا ضحايا كأنما تريد أن تمسك بالاستقلال وقد سالت دماء يرهبها الشعب.. بالعكس.. إن الدم يبعث الجرأة على الدم.. إن الهند في آلامها الطويلة كانت هي الضحية الكبرى، وغاندي في مصرعه كان ضحية يعادل الآلاف.. لقد ذهب واحداً ولكنه بالكيف لا بالكم ضحية كبرى رسخت في أعماق الهند كألم طويل المدى. عميق الأثر.. إن الضحايا لا يجري وراءها إلا من يريد التصفية على طريقة هتلر، أو من يتذرع بالتطهير على طريقة ستالين!
ـ قال: لا أريد هذا.. لو قدمنا كثيراً من الضحايا لوقانا شعبنا كثيراً من نفقات التسليح حينما يكون كله جيشاً يدافع عن أرضه ولو بالمدي والفؤوس والعصي.. هذا الذي أريد!
ثم أردف قائلاً:
ـ إن مشكلتكم مع إسرائيل لم تكن وليدة وعد بلفور، ولا أنشئت باعتراف ترومان، ولا طغت بالمعونات.. كل هذا كان يمكن ألا يؤثر لو أنكم قدمتم كثيراً من الضحايا..
الشعوب التي تقدم الضحايا لا تمكن عدوها أن تكون ضحيته.. يسيطر عليها كل يوم بعدوان جديد.. لو أنكم في عام 48 استمررتم في الحرب ولو على صورة العصابات، أو الكومندوز ((الفدائيين)) لانتهيتم من إسرائيل لكن بعضكم دخل الحرب وهو ينتظر الهدنة. وبعضكم رأى الهدنة نهاية المطاف، وحتى في حربكم الأخيرة خفتم من تقديم الضحايا على صور شتى.
ـ قلت له: لقد تعلمنا هذا الدرس.. لقد بدأنا نقدم الضحايا.. كما قال شاعرنا شوقي:
ولا يبني الممالك كالضحايا
ولا يؤتى الحقوق ولا يحق
وحررت الشعوب على قناها
فكيف على قناها تسترق؟!
• حوار كحديث بين أكثر من واحد، وأقل من خمسة!
ـ م: كنا في مرح ليلة أمس، نسينا ما نطلب لنعيش في ذكرى ما نحب، ومن نحب!!
ـ ج: لم أكن معكم لأني لم أكن ضائعاً خارج نفسي. ولم أكن ضائعاً من التي هي نفسي.
ـ ز: يا للشباب المرح المتصابي روائح الجنة في الشباب.
والشباب مصاص تفاح، يطرد الترحة وينسى الفرحة، يتقابل المنعشات ويقتل المنغصات.
ـ ع: والشيخوخة؟
ـ ز: هي امتصاص واجترار، تبلع وتختزن، ولا تمثل فتطرد، كل شيء يأتيها تحمله حتى إنها تستثقل الفرحة خوفاً منها وتستدر الترحة راحة فيها، فإن اليأس هو أملها الملح، فمن أعاجيبها أنها تغترف القلق راحة وديدناً فلا تمله.
ـ ج: أو تقسو على الشيخ إغراء للشباب؟ أم هي الحسرة؟ أم هي غير ذلك؟
ـ ز: لا قسوة وإنما اعتراف، ولا إغراء وإنما هو تحذير، ولا حسرة وإنما هو الحرمان ألم لذيذ.
ـ س: ما هو الفرق بين الألم اللذيذ واللذة المؤلمة؟
ـ ز: الحب والهجر والوصل والعذاب ألم لذيذ وتهذيب مريح. أما التشهي والنوال وعقابيل الجنس فلذة مؤلمة.
فما من ألم ملذ تبغي عنه توبة. لكن اللذة المؤلمة هي الرغبة قسراً بالندامة إلى التوبة.
ـ ش: ما هو الجمال؟
ـ ز: الجمال كل شيء. كل حي، كل حياة تأخذك فقوة الأسر في أي شيء أو حي تعشقه، أو حياة تعشقها هو الجميل، هو الجمال.
أما ما يبعدك يقصيك، فلا تأخذه، فلا يأخذك فهو القبح، القبيح.
من هنا تفاوتت النظرة إلى الجميل والجمال.. فارس يبهرك، ملاكم ينتصر، زين يخطر خطرة الهيفاء.. حلوة.. زهرة.. حصان.. بناء.. كل هذه حين تأخذك نفسك لنفسها هي التي أسميها الجميلة.. والجمال.. لا مقياس.. ولا نظام.. وإنما هو التجاوب والتلاقي كهربة يرسلها إليك تمغنط ذاتك لذاتها.
هذه القوة المغناطيسية هي دفق الجمال واندفاعه وأخذه وأسره.
فالطاعة له جمال في نفسك من جمالك في نفسه. لنفسك أخذها. لتأخذه بها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :989  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 575 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ترجمة حياة محمد حسن فقي

[السنوات الأولى: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج