شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صحافة وكتابة
ـ حتى في الحب لا أحب الزحام، ولا يعني هذا أني أحب الوحدة، وأعشق الغربة.. ولكن ليس من طبعي التباهي بالانتصار على أحد.. لا خوفاً من الهزيمة، فالهزيمة لا ضرائب عليها.. تدفعها هي فقط لا غير.. إني أخاف الانتصار لشخصي في أي معركة وجدانية.. لأن ضرائب الانتصار قد لا أستطيع دفعها!
من هنا، أتخذ في بعض الأحيان من ((كلمة ونص)) متنفساً ابتلع فيه الهزيمة، واقتلع الانتصار!.. محطة استراحة.. فمثلاً: أجد بعضنا لا يقدم على موضوع يكتبه ابتداء، فأتقدم لأكتب فيه، فلا أجده في اليوم الثاني إلا فاقداً ((السقاطة والأنقرفيس)).. أصبح ((كل جماعة يشتري يا واد))!
يذكرني ذلك بالحجاج الجنوبيين أيام زمان.. يرحم، أيام السقاطة و ((الأنقرفيس))!.
وفي حال آخر.. أجد موضوعاً كلهم كتب فيه.. زحمة.. تكاد تضيع الفكرة.. أهرب من هذا الزحام إلى فكرة جديدة أرسلها بعد!
لا يجزعني أن أكون الأخير ما دمت وراء الجماعة رداء لهم، أو حتى ((قشاشاً))!.. ورضي الله عن صفوان بن المعطل!..
مزاج، أو حالة.. لهذا سأتبجح في اليوميات عن مواضيع حجبتني عنها الزحمة!!
* * *
• في المأتم عادة يجلس الناس للعزاء بأدب، وسكينة، ووقار.. صمت من الكلام إلى درجة الهمس، أو السكوت.. عدم استعمال أي شيء باليد.. السكون يخيم على الجميع كأن على رؤوسهم الطير.. لا أحد يستطيع أن يجرؤ على ((شخطة)) كبريت.. يولع سيجارة.. لأن الإنصات إلى القرآن يعلم الناس الأدب..
لكني رأيت صديقاً لنا هو أكثر صداقة لأصحاب المأتم قد وضع ((الغليون)) في فمه.. هم يسمونه ((البايب)) تقليعة جديدة يجربون فيها طريقة تشرشل، أو ((جون بول)) آخر، يتكلم والبايب في فمه.. ذلك أحدث لهجة جديدة في اللغة الإنجليزية أخنت على اللهجة أيام شكسبير من اعوجاج الفم!
استكثرت ذلك منه.. كيف يشرب الدخان وهو جالس للعزاء!!
نصحته حين قمت إليه، فانصاع.. اعتذر بأنه قد نسي نفسه!!
حالة قلق.. الله يعين الناس هذه الأيام، وتذكرت الأستاذ حمام في قصة رواها لنا.. قال: كان أحد الشيوخ من الأكابر يقرأ القرآن في مأتم لمصري كبير من حقه أن يحضره الكبراء حتى رئيس الوزراء، والتفت الشيخ فوجد أحد الوزراء قد وضع السيجارة في فمه فقال الشيخ: صدق الله العظيم، وهب قائماً يترك المأتم، فلما أمسكوا به قال: لن أجلس حتى يتأدب هذا الذي يشرب السيجارة والقرآن يتلى.
• يظهر أن الزمن والأوضاع والأحوال هي التي تملي على كاتب هنا وهناك أن يقول مثلما يقوله الآخرون.
كل الفارق هو اتساع النشر لما يقولونه، وضيق الانتشار لما نقوله..
ذكرني هذا بكلمة فاخرة من صديق كبير حضر قبل خمسة وعشرين عاماً مؤتمراً ضم كباراً من العرب في بلد عربي..
وانتهى المؤتمر، وجاء صاحبنا إلى بلده، فجرى حديث معه.. فقال وهو فرح فخور: كلهم مثلنا، سرنا معهم حتى تحاذت الركب.. هم ((زينا ولا فرق))..
ـ ومرة أخرى يذكرني ذلك كله بكلام سمعته.. كنت قائلاً له من قبل.
تحدث به صحفي كبير في إذاعة عربية.. هو يروي كلامه، ونحن صناع كلامنا..
ـ قلت من قبل: إن القارئ هو كاتب ما يقرأ حينما يرفضه أو يقبله..
والكاتب قارئ لما يكتبه إذا وجد ما يلاحظ عليه من عيب أو نقص أو ندامة..
ـ وقال الصحفي الكبير: إن القراء هم الذين يغيرون ويبدلون ما يكتب يومياً أو دورياً.. فما يعجب القارئ تستمر الجريدة في نشره، وما يرفض تلغيه..
وليس هذا بالشيء القليل.. فإنه يعطينا الفهم لقيمة الجريدة من الفهم لقيمة القارئ.
إن يقظة الجريدة لمطلب القارئ هو أساس نجاحها، تعطيه فكرها من فكره..
وهو يأخذ فكرها لفكره، ويعطيها فكره لتفكيرها..
إن أي جريدة لا تعبأ بالقارئ فسوف تجد نفسها قارئة نفسها..
وإن أي قارئ لا يعبأ بأن يفكر لجريدته، فإنه سوف لا يجد نفسه قارئاً ما يفيد..
قسر الزمن، وتشابه الأحوال يعطيان الكلمة الواحدة لحال واحد لا يختلف من مكان إلى مكان، فليس هناك كبير أو صغير عن التفكير المحتد بمقتضى تداعي الأحداث والأفكار..
• لم أسمع أن البنات يلدن الأعداء أو هم الأعداء إلا أمس، فلقد وجدت بجانبي ((كليلة ودمنة))، فأغراني أن أطالع فيه تسلية.
قرأت باب ((الطائر فنزة)) فوجدت فيه هذا الكلام.. فهل هي عقلية ابن المقفع الفارسية حملته على ذلك، أم هي شبعة من الثقافة العربية الحاملة عليه؟
لا أرى أن أمة من أمم الأرض قد ذاقت طعم العداوة بأسباب البنات إلا الأمة القبلية في عصر العرب الجاهلي.. يتقاربون بالتزاوج كعمل العقل لتقارب الأرحام والأنساب.. هذا يحميه أخواله إن جار عليه أعمامه.. فالخال عندهم والد..
فكم من إخوان أنصفوا ابن الأخت فأخذوا حقه وصانوه.. فالقربى بالخالات والأخوال جلبت الصداقة والصدق.. وهي أيضاً في أوضاع شتى جلبت عداوة ولد البنت إن جار أخواله على قومه وأعمامه، أو قتلوا أباه..
أحوال شتى فيها الكثير من الطيب والجميل جلبته البنات..
وأحوال أخرى جلبت عداوة ابن كليب على أهل أمه حين قتلوا أباه وحاربوا قومه..
وأحسب هذه الأخيرة ولادة الأعداء، لا تكون قانوناً يفرضه سابق البلغاء.. معلم البيان عبد الله بن المقفع..
فالبنات حبيبات، يضعن الحب ويلدن الأحباء كما هو قليل أن يلدن الأعداء..
فابن المقفع كان يشخص حالة مر فيها.. إنه قد بلي بنكبة الأعمام من ابن الأخ.. لا من الأخوال.. فما نكبة المنصور وهو الخال لعمه عبد الله ابن علي، وإنما كانت النكبة لأنه عم.
فهل ولد الأبناء الأعداء؟
وقليل ذلك.. وهو لا يصلح قانوناً.. يرحم الله ابن المقفع فقد قدم على رب واسع المغفرة.
• أستاذنا الرافعي كتب تحت عنوان ((كلمة ونصف)) فلا عيب علينا إذا ما قلدناه.. بل إنه يسعدنا أن نشعر قارئنا بذكراه.
ـ عندما يتحول الفكر إلى حب نسميه عقيدة.. أي عقيدة، كل وما فكر وما أحب، أو من أحب.
وحينما يتحول الحب إلى فكرة نسميه عقدة أو فلسفة.
وحينما يكون الحب مجرداً من الفكرة نسميه طبيعة.. أو هو العادي.
وحينما يكون الفكر مجرداً من الحب نسميه الواقعية، التجرد.
وحينما يكون الحب جموحاً في تحقيق رغبة نسميه شهوة، مطالب حيوان.
ـ وحينما تكون السرقة مجداً يصبح المسروق مستضعفاً أو راشياً.. وإن خلا من هذين فهو السارق لنفسه.. أباح لسارق أن يسرقه..
ـ وحينما تكون الأمانة أو العفة ضعفاً أو بلادة في نظر بعضهم. يصاب المجتمع بردة أخلاقية تنزع الفضائل وتزرع الرذائل.. يذل بها الكريم ويكرم من أجلها اللئيم..
ليكون رد الفعل في الصورة التي تنسب فيما أذكر للإمام علي.. ((احذروا صولة الكريم إذا جاع وصولة اللئيم إذا شبع)).
الكريم لن يكون واحداً.. وإنما هم الذين أصيبوا بالردة الأخلاقية.. وأما اللئيم فواحد وإن تعددت الصور.
ـ حينما تمضغ الشاة ورقة برسيم فإنها لا تفكر باجترارها.. كل عملها أن تأكلها الآن وإن اجترتها بعد.. عملية ديناميكية.. قصرية.. لا اختيار لها.
لكن الإنسان حينما يأكل لحم أخيه يمضغه يجتره.. هو ليس له معدة تجتر لكن عملية الاجترار في عواطفه.. يجرجر صاحبه إلى موقف مرذول، علّ الناس يصدقونه فيما قاله فيه.
ـ التفوق أو النجاح ستار سميك يغطي كل المعايب.. فيه فتحة.. يظهر منها وجه يشير إلى الناس.. كل الناس: اتبعوني!
ـ والفشل ثوب فضفاض فيه مئات الرقع، كمضربية الدرويش، كل رقعة يطل منها وجه.. وعلى كل رقعة يمتد لسان.. الوجه يقول: ابعدوا عن طريقي.. الجربان يعدي.. وألسنة البشر تقول: مسكين!
ـ بعض الشعوب تطرد الموت بالحياة.. وبعض الشعوب تطرد الحياة بالموت.. سلاحها في يد الجبناء وأموالها في يد البخلاء.. ورأيها إملاء الدخلاء.. وحكمتها من أفواه السفهاء.
• وأمسكت باليد الأكرة أريد أن أفتح الباب، فعندي إذن سابق - ندخل البيوت من أبوابها ونستأذن من أهلها ونسلم، فوجدته مرتجاً أغلقه إنسان يكتب.. كانت هوايته الكلمة فاحترفته الكلمة!.. يريد أن يخلو من غوغاء تأتيه سائلة عن الأخبار، والجو والسيارات والسواقين، والبصل والبطاطا، والفليت والذباب والإنفلونزا ومشلحي الكفرات وهي على أبواب العمارات!
وأذنت لنفسي بالدخول أسحب لساني إلى سكوت.. أمنعه عن أي سؤال من هذه الأسئلة الرتيبة يتخذها الناس مداخل لمخارج.. يأتي منها بعض ما يريدون.. أقله العكننة. وبعضه سرد الأخبار في مكان آخر!
وجلست في مكاني أتسرمد فيه متقمشاً في لحظات أعيشها، نخوض حيناً فيما يخوض فيه لاغ من هؤلاء اللاغين، أو نخوض معاً في حديث وحديث.. إذا ما اجتلينا أو خولنا.. نلمس جوانب الفكر والنفس والحال والأمل والسأم.. أتعلم فيه الإجابة وأتعامل فيه مع السؤال في حوار لا يعجزنا من يلغو لنكتب، ولا يلهو بنا من يتلهى عن وضع الحرف في سطور بيضاء سؤددها في سوادها من سيادة الكلمة المصفاة بالوازع النظيف للغرض النظيف!..
غرض الكلمة دائماً نظيف حتى ولو كانت مقزعة جارحة، فالعصا آلة نظيفة في يد المربي.. يزجر فيها من هو راحم.. فبعض الناس يستأهلون أن تشوى آذانهم بكلمة لعلّ قلوبهم تصحو من لؤم يركبون به الناس!
الكلمة بوازعها من كاتبها، ولموردها لا بد أن تكون لها هذه الركائز الثلاث، فإذا وجدتني أحبك لا بد أن أجدك صاحب وضع أو أهلية لهذا الحب.. لكن الضريبة عليّ ألاَّ أرضى لك أن تعيش السارق المسروق، أو الراشي المرتشي، أو الكاذب في غفلة زمان خدع الناس فصدقوه!. حبي لك يجعلني أمسك بالكلمة المقذعة كعصا المربي أرجو منها الصنو للحب فلا يذهب هدراً كموضوع فشل.. إن غوالي الوجدان يحرص على صونها الأمناء لتاريخهم وأحبابهم..
الحياة ليست عطاء من يد تسيطر بها على آخر، وليست استعطاء تستخذي به أمام مستعين..
الحياة عطاء من وجدان المعاني وأخلاق وسلوك وصداقة، يحترم فيها الصديق صديقه.. يحترم الذين يحترمونه.
إنه بهذا الحشد من الكرامة يستطيع أن ينتصر على المخزلين والناكرين.. تلك كلمة.. قلتها وأعترف بأن كل حرف فيها له ظله الواضح على مقاس إنسانه الذي لم يتضح بعد.
• في الصيف يستجم الإنسان.. يستريح - يعني يأخذ إجازة ((يغير هوا))..!!
وفي الشتاء يستجم الحيوان، ولو دفن نفسه في جحر من الثلج.. هي راحته، بل هو دفؤه.. كما النبات يصوم في وقت معين - يعني يستريح من الامتصاص - الكفاء فيه - يعني بقاء الكفاءة - من قوة امتصاصه لنفسه، وأنا كإنسان أسأل قارئي لعلّه يمنحني إجازة.. فقبل أن أمنحها لنفسي، أو استمنحه عكاظ.. أستأذن القارئ.. أي قارئ؟!.. لا تحسبوني أعني المستجيب.. يستحسن كل ما تحسن فيه.. فللقارئ السالب المناقض كل الحرمة.. مثله مثل القارئ المستجيب.. كلاهما يزودني.. على الأقل بالحرص على الإرضاء كالتصميم على الإغضاب.. فمتعة الكاتب أن يكون بين هذين.. موجب يحثه، وسالب يستحثه!!
أفكر.. إذا رزق الله، وطلعنا إلى الطائف.. نكون لعبنا وبطلنا!!.. وإذا حالت العقابيل، وأبقتنا ((صاردان طاح على بردان)) نصبر على الندى.. الندى يعني الضباب، وليس هو الندى يعني الجود (!!).. فالجود من الموجود.. يعني وجود الكرم في النفس.. لا وجود المتخمين بما لا يجودون به، وليس هذا المتخم الذي أعنيه هو المتخم بالمعرفة.. إنما هو المتخم ((بالمغرفة))!
قوة أن يستمر القلم في يدك تكتب الكلمة.. لا تستعيرها من المنفلوطي، كما يفعل بعض المتخمين بالمعرفة الآن - أيام زمان!! - ولا تستعيرها من مسخر باليد العليا تخضع لها اليد السفلى.. تسخره أنت بالإكراه لأنه يمد يده، أو تخضعه بالود لأنه يفتح قلبه، أو تحتال عليه بالمسكنة.. تعطيه خلجاته.. كما إنسان استسعر عليه حيوان!..
وكفاءة أن تكتب ما تريد.. وقدرة أن تكتب ما لا تريد.. سواء أكان هو المراد منك بالتسخير، أم المراد لك بالسخرية طلباً لمنفعة، أو إرضاء لمن تمسكن بين يديك حتى إذا تمكن ((تملعن))!! فالقوة طاقتك المعدة يعني هي ((الفولت)) و ((الأمبير)) والكفاءة إبراز الطاقة مرونتها.. تلوينها.. حتى تلويعها، والقدرة زخرف هذه المرونة في الكفاءة والقوة.. ليس هذا تعريفاً كقانون المدلول، وإنما هو قانون الحرف المطلول.. أتعرف به على فهم لتفهم ما أريد، أو لأفهم ما تريد، لكن هذا الاستمرار بالقوة، أو بالقدرة، أو الكفاءة، تكتب وتكتب.. قد يكون مبعثه من تضاعيف الاستضعاف، أو مفعول الضعف هو مسخر القوة والقدرة والكفاءة لتكون السخرية من عجزك، وحتى الاستعلاء ليس هو من مظاهر القوة.. لأنه القوة المفتعلة لستر الضعف!
السخرية من عجز تموت به الحروف على سنان القلم.. يكتب ما لا يريد ليرضيك بما تريد!.. وحتى انصراف السائمين منك عنك قرأوا.. وقرأوا حتى إذا أصابهم ((القرف)) من السرمدية المملة نفد صبرهم على الطعام الواحد!.. لا يسألون عن القوة والقدرة، وإنما سؤالهم عن تقصير الكفاءة.. عن الضعف في التلوين والتجديد!.
الضعف لك فيك.. من نفاد الصبر.. يلقي بك القارئ في سلة المهملات ومن الإنفاق المستمر ينتهي به رصيد: ((جبال الكحل تفنيها المراود، وكثر المال تفنيه السنون))!
رصيدك ينتهي وينفد من نضوب المعرفة، وجفاف الإحساس وانعدام الصدق في العبارة.. لانعدام الصادق من التعبير!! الأكفاء لا يسخرون من الأكفاء، وإنما المضحلين.. المقحلين ابتلانا الله بهم ولو بالتحدث معهم.. لا تجدهم إلا الساخرين من كفاءة الأكفاء!
صياغة السيف كفاءة لكنها تبدو الكفاءة الأروع إذا ما نقدها وحكم على جودتها صائغ ((كابن باني)) ولكنها تبكي حتى وإن لم ينقدها، أو أثنى عليها صبيان الصاغة الذين ما صبوا لهم الفنجال، ولا حزموهم حزمة الرجال!!
والملل الطويل قد تقدر عليه بالتمرس السرمدي.. أما الكلمة ((الأصانعي)) القصيرة.. يعني الإيجاز فصعب أن ترسل إنشاءها ترسلاً، أو خبرها مرسلاً.. الإطناب سهل بالممارسة قد يستطيعه الذين ألفوا الإدمان على الكتابة، ولو كانوا من سراق المقالات، أما الإيجاز فصعب لأنه ممارسة للفكرة والرأي والكلمة، ولأنه العبء.. الامتلاء من كل ما حولك بما هو فيك ولك منك.. بهذا البسط من مقام الكاتب والقارئ نصحت لنفسي أن أتوقف قليلاً استجم شهراً في الصيف.. أستريح من عناء، وأريح القارئ من غثاء.. فهل أمنحها؟!.. إلى الآن لم أقدم الاستدعاء لمنح هذه الإجازة!.. الاستدعاء عليه طوابع ببضع قروش.. يعني شيء يطير الريال!.. قد تكون هذه القروش السبب في العدول عن الإجازة!!
• .. وكثير هم الذين تغيظهم هذه الكلمة: ((كما)).. أشاعها العكاظيون.. بعضهم يتهامس باسترذالها، وبعضهم يملك من الحب - ولا أقول الجرأة - أن يصارح بخطئها!..
كأنما من يكتبها قد اقترف الانحراف عن البيان - بالانحراف عن تقنين اللفظ!..
هي لا تدخل إلا على الأفعال.. قانونها، نحترم القانون، وعلى رأسنا ما سنه البصريون من أن التواتر في السماع هو القاعدة، والشاذ لا يؤخذ قاعدة، ولكن.. لماذا لا تضعون قانون الكوفيين على رأسكم؟.. ولنعم بهم.. من أن لكل سماع قاعدة؟!
البصريون أكثر احترازاً، والكوفيون أشد احتراماً وتوسعة! وما زلت - ورغم تبذّل اللهجات - فإني أحترم سماع باديتنا في سلامة النظم.. في تركيب الجملة، وصحة اللفظ، ولو تبذّل النطق به كلهجة..! فألفاظهم أصلها فصيح.
ويعجبني قول طه حسين: إن اللغة ينبغي أن نملكها.. نتوسع فيها.. كما هي تملكنا.. نعتز بها، أما أن نكون عبيداً لا نتحرك في الاشتقاق الواسع والتعريب المتسع فهذا شيء أحسبه الجمود يضر ويحجر فلنفصح الكلم الإعرابي العامي ليرتفع، نغلق الباب على الانحدار بأسلوب كله العامي لا أصل له!..
كنت أنكرها كالمنكرين، ولكني قد أحببتها، فأرغمني حبها على أن أتنكر لإنكاري!.. وكيف أحببتها؟.. ألأن كاتباً في عكاظ كتبها؟.. أم لأن كاتباً عربياً آخر نقلها عن السودان فكتبها؟!
لا.. لقد أحببتها ظهر يوم في الهدا.. كنت مقبلاً من الهدا في مقهى يملكه إعرابي من ثقيف.. من هوازن، ولما أردنا الرحيل حمل طفل معي قطاً أصفر اللون.. مطعماً بحبات باللون الكميت.. كان ((البس)) في المقهى سرحاً ولكن يظهر أنه ((خرج بيت)) طيب!.. أنيس.. لم يشاكس الطفل حينما حمله، وقلت للهوازني: أهذا قطك؟!..
ـ قال: أخذتموه؟!.. وشعرت بهزة من الطرب لهذه اللفظة ((أخذتموه)).. لم يقل أخذتوه، وإنما زاد الميم انتماء إلى عرق.. جعل هذه اللفظة من أعلى الفصيح، فكأنما أسمع نافعاً مولى بن ابي نعيم يقرأ بها القرآن!.. طربت كثيراً.. حتى إذا ناولناه حسابه قال لنا: ما طولتم.. ليت كل الناس ((كما كم))!.. قال هذه الكلمة.. فتنكرت لإنكاري.. لأن بدوياً من بلدي نطق بها، فلا عيب على ((عكاظي))! أن يكتب بلهجة إعرابي!
والسودان أخذها منا.. فإذا كان أعرابنا يقولونها، والسودان يتكلم بها.. فإن السماع منهج يصبح دليلاً يعذر فيه كاتب إذا ما وضع هذه اللفظة طرفة.. كتحفة من وجدان الأعراب!
وفي اسطنبول لقيت ((صالح أوزجان)) عضو الرابطة الإسلامية فلما تكلم معي نقلتني ألفاظه ولهجته إلى ((الحرة)).. إلى خيبر كأنما أسمع أحد قبائلها، يتكلم مثل ما تكلم ((صالح أوزجان)).. فهو من جنوب الأناضول ومن أصل عربي، فكيف انتقلت لغة ((الحرة)) إليه. ولهجة بني رشيد ومن يقاربهم في المنزل لا في المنزلة من عنزة، وولد محمد؟!
إن السماع أعطى ((صالح أوزجان)) لهجة الحرة وألفاظها.. انتقل بالهجرة إلى شمال سوريا، وجنوب الأناضول!..
عيب هؤلاء الحاجرين أنهم لم يرضعوا لبان العربية من الثدي، وإنما تجرعوها من المرضعة الزجاج!!
• كدت أتمزق من ضيق الضيق.. كان مضاعفاً كأنما هو ركام في وسطه نار لما تترمد بعد.. عليه رائحة الدخان كأنما هو شياط لحم.. كأنما القلب في توهجه جمرة لم تتفحم بعد!!
ليس هذا في نفسي من نفسي، وإنما هو بما فيها، وبما هو عليها.. ضيق تعيشه وضيق يتراكم عليها من حيث المعايشة معها!..
ودخلت إلى المكتب نفسه في عكاظ، فوجدت حرفوشاً لما يبلغ الدرجة الكبيرة للحرافيش قد تسلطن على كرسي عريض، وقفت على الباب أنظر إليه، وكأنما كنت أعشى النظرة من جهرة الشمس تظلم العين حينما تدخل مكاناً ضوؤه حالم. نظرت إلى هذا الحرفوش فحسبته إنساناً آخر من الذين تقمصوا بمكانة في نفوس الآخرين، ونظرت مرة أخرى حين قاربته..
ـ قلت له: ظننتك الفلان.. تعال اخرج من كرسيك، وانظر نظرتي لترى أنك تشبه هذا الفلان!.. وضحك الجميع، فإنه إذا قام من الكرسي لا يبقى فلان فوقه!..
ـ قلت: لا تعتبروها نكتة.. هي سرقة الضيق.. صور لي بالعشوة أن أراه غيره.. حتى إذا سرقتني لأنسى أنه غير هذا الفلان جئت بهذه النكتة!.
إنها ليست نكتة لأنها فاضحة الضيق.. أراد أن يسرقني من بهجتي فسرقته البهجة بالكلمة لتنفرج النفس فأصبح في لحظة ذات أبعاد.. بعدها الرابع تقبل الكلمة.. هذا التقبل لم يطرد الضيق. وإنما أوجد سعة السعة.. إذن.. حينما يأكل الإنسان نفسه بالاجترار لشيء ضاق به فإنه يضيع، وحينما تأكل الكلمة المبرقشة الضاحكة مع صحاب يفهمون فإنك طارد لهذا الاجترار لا تبقي أثراً منه، فلقد خرجت أضحك لا بملء شدقي، وإنما بما تسعه رئتاي.. بما ينبع من هذه المضخة: القلب.. لقد ذهب الضيق بضحكة صديق.. بكلمة رفيق.. ما أيسر المسعدات، وما أغنى المكربات، إنك لن تكرب إلا بما يعتري غواليك، ولكنك لن تكرب إذا ما طرحت غوائلك تغتال نفسها.. هكذا ذهب الضيق، جاءت السمعة، واضحكوا معي!!
• .. وتنسمت أشم عبير ترابي.. فإذا بي أشعر بيقظة الوجدان قد أصابته نعمة من أمنة النعاس، فكأنما أنا أصحو لأنام في خدر العبير، وأنام لئلا أصحو على هدير محركات الطائرة.. وليس ذلك نومة العجوز وصفها حكيم يوماً فقال:
ـ لقد أصبحت أنام في الملا.. وأسهر في الخلا.
أي ينام وسط الناس، ويسهر في الخلوة بعيداً عنهم يتطلب فيها النوم، وكأنما هو يطرد الكرب بالناس.. ينام آمناً.. بصوت الإنسان يسمعه.
وهو لا ينام في الخلوة لأنه يكون وحده.. يطوي نفسه على كرب موقظ.. لا يطرد إلا بشيء مخيف من أحلام اليقظة تطرد إرهاقاً غيرها ليكون بها كل الإرهاق..
إنها نومة السكينة.. اطمئن إليها وبها بعد سفر طويل مرهق من بومباي إلى بيروت، ومن بيروت إلى جدة.
وإنها لصحوة السكن.. أسكن في غبطة الوجود بين الأهل والإخوان.. يلقاني كل ومقاس حبه.. أو مطالبه.
وكل يطالبني أن أكتب عن الهند.. كيف رأيتها أمس قبل خمسة وثلاثين عاماً، وكيف أراها اليوم بعد الاستقلال ومخاض التجربة؟..
ولست بمستجيب لكل ما يريدون.. فالكتابة عن الهند ليست الخطوة الأولى فيها الملاحظة بالإعراب عن المشاهدة وإنما هي تكلف المراجعة والمطالعة والتفكير والتحليل والقبول والرفض، وطرح ما يعتقده الإنسان صواباً لأنه أصبح الخطأ الآن، وكل هذا محفوف بالأماني والمحاذير والإرهاق والانطلاق.
أعد أني سأكتب الفصول عن الهند.. لا للهند، فهي في غنى عن ذلك، ولكن لغيرها من الذين يحبون البقاء على صواب قديم أدركته التخطئة بالفهم الجديد.. فالصواب والخطأ ليسا في واقع ما هناك، ولا في دوافع من هناك ولكنهما في التصور عن هناك.. والصورة عن الشيء في ذهن قد تختلف عنها في واقع أمرها أو في ذهن آخر.
دعوني عن الكتابة عن رحلة خمسة عشر يوماً.. إلى رحلة طويلة.. هي رحلة الإنسان مع واقعه ومطالبه وآماله وترابه.. سواء كان لذاته.. أو كانت كلها لبيئته.
فإن البيئة تحكم السلوك.. وهي طليعة الحياة.. فعلى الذين أرادوا النقل بالمسطرة من تطبيقات بلد ليطبقوها في بلدهم هم خاطئون لأن ما يصلح لبلد لا يصلح لآخر.. والمسؤولية تحتم انتزاع الفرحة بما يستحسنه الآخرون لزرع تطبيقات توائم عقائدهم وتقاليدهم.
إن النقل بالمسطرة لأي تجربة.. أو لأي تطبيق.. هو تقليد لا يأتي بالأصالة.. الأصالة تبني الذات لبناء في البيئة تقبله ولا ترفضه ومن هنا يصعب الموضوع على الكاتبين وإن سهل على الفرحين بالتقليد والانبهار بما رأوا..
ومن هنا أيضاً لا أتعجل لأني سأتمهل وفي العجلة الندامة وفي التأني السلامة.
• وتجيش في نفسك الأحاسيس.. كل الأحاسيس.. وتنفعل أفكارك، يصهرها عمق التجربة.. وتكاد تقرأ في الهواء كل ما تشعر.. كل ما تفكر، سطوراً منسقة..
وتتلفت حولك.. إنك في ((الشارع)) تسير!
فتجري.. تتجه إلى غرفتك.. أو إلى عالمك الصغير!
تريد قبل أن تتبخر انفعالات نفسك وضعها على الورق..
أنت تعشق الكلمة، بواسطتها فقط تستطيع رؤية ما بداخلك.. في حروفها تثق.. فتسكب نفسك وروحك معاني لا تكتمل إلا عندما تصافح أعيناً أخرى، ومشاعر آخرين..
وها أنت تجلس إلى مكتبك.. قلم بين أصابعك.. وورق طوع إرادتك.. والابتسامة، بطموح ما زالت على وجهك..
لكن شيئاً يحدث!
الابتسامة تتحول إلى تقطيبة على جبينك.. والقلم بين أصابعك يتسمر.. لا يريد حراكاً.. والأفكار والمشاعر قد تجمدت في زاوية ما بداخلك.. وتكاد تحطم القلم بين يديك.. أو ترميه أرضاً، تدوسه بقدمك..
ولكنك فجأة تتذكر معاني فلسفية كتبها الوالد ((الزيدان)) ذات يوم:
((إن العلم لا يفسر بالإرادة، ولا يكسر بالهوى.. هو دائماً الآسر حينما يعبر عن النفس.. لئن كان مجرد آلة فإنه بنوازع النفس هو محركها.. والقلم بالتعبير كالمبرد إن لم يحطم القيد دفعة واحدة.. فإنه يفتت الحديد بالاستمرار.. بمحاولة الانتصار)).
وهنا نترفق بالقلم.. وندرك بأن علامة السخرية التي رأيتها ترتسم على محيا قلم إنما هي انعكاس لشيء ما بداخلك.. وتتجه صوب نافذتك.. تتأمل محتويات تلك الفلسفة.. وتحلل الفلسفة الكامنة خلف المعاني.. وتستند برأسك إلى زجاج النافذة.. ترقب الطبيعة.. السماء.. تستمد منها معاني الحياة.. كل المعاني.. كلها.. وتهمس..
نعم إنني أدري.. إنه ليس القلم.. ولكنه أنا! أو تغمض عينيك لتعترف! إني أخاف، فتنتحر انطلاقاتي..
لا أخاف يأساً.. ولا أخاف ((خوفاً)).. كما أني لا أخاف انطلاقاتي، ولكني أشفق عليها..
إني أخاف على نفحات روحي من أعين لم تر قط من خلال منظار ((هوفمان)).. أعين لا ترى وإنما تعسف فقط!
وقد ترد عليك نفسك قائلة:
إن السبب غير مقنع.. إن الأعين ليست كلها متحجرة.. وليست كلها رؤية من خلال منظار ((هوفمان)).. هناك ظلال أخرى تصل ما بين اللون الأسود واللون الأبيض! إن الانطلاقة حين تخطها أحرفاً.. تصبح ملكاً بكل تلك الرؤى.. وليست بملكك.. إنها عطاء نفسي وفكري يجب علينا ألاّ نقبره بداخلنا لمجرد أن هناك من لا يستوعبه.. وبالتالي يرفضه.
وتستمع إلى حديث نفسك.. أو ربما هو حديث إنسان ما أو أناس آخرين يشاركونك حياتك ثم ترتسم..
وتجلس إلى وريقات تفرشها..
ثم تفرغ.. لتقرأ ما كتبت.. فيشوب ابتسامتك شيء من الحزن.
إنك تقرأ صورة لرواسب ذلك الخوف في نفسك..
إن الصورة تؤلمك.. وقد تؤلم آخرين معك.. فهل يقدرون؟
ولكن سرعان ما تتلاشى نغمة الحزن.. أنت الآن تعيش دون خوف.. دون رواسب.. أنت الآن تملك انطلاقتك، ولا تملكك!!
لقد ملكتها فقط عندما تأكد لك بأن منظار ((هوفمان)) حقيقة تتعمق من خلالها كل الرؤى في مشاعرك..
وتتأصل الابتسامة في داخلك.. ولا تملك إلا أن تبكي سعادة.. وتتمنى أن تحل سعادة مماثلة في نفوس الآخرين.. بل في نفوس كل الآخرين!
• بعض الناس يجلدك بكلمة.. أنت في حاجة إلى عملية سلخ لهذا الجلد السميك.. إذا ما تقطع بالجلد تفسح القلب كأنما النزف عملية حجامة لتطهير الدم!!
الجلد هنا ليس ((بكرباج)) فصاحبي الذي جلدني بالكلمة لا يستطيع أن يمسك ((الكرباج!)).
ـ قال لي: كنت اليوم في دار التربية.. رأيت أشغال اليتيمات.. كلاءة الشؤون الاجتماعية لها أمرها. وتفوق اليتيمات نحن الكاسبون لثوابه.. لنا.. رحمة.. عناية تكتنف مشاعرنا بهذه التحية للقائمين على الميتم أو المشغل للطلبات فيه.
ـ قال لي صاحبي: رأيت أشغال اليتيمات رائعة.. يتيمة من غلاوتها كأنما هي الدرة في تاريخ نفسنا الإنسانية.. رأيت الأشغال والتحف ستعرض في مزاد علني في الحفل الذي تقيمه الشؤون الاجتماعية تحت رعاية سمو الأمير مشعل، فسألت - يعني صاحبي سأل.. اسمه محمد عبد الواحد - ذهب من عكاظ يواكب الاستعداد للحفلة لتغطية عكاظ حق الانتصار واسع الانتشار - قال الصحفي المذكور!!.. سألت القائمين: ماذا تصنعون بالقيم المدفوعة؟.. وكنت أحسب الإجابة: أن تأخذ كل يتيمة قيمة ما صنعت. أو أن يكون بعض الدخل عوناً لتحسين في المشغل.. لكن الإجابة قالوها لي: لقد أجمعت اليتيمات على أن القيمة كلها المدفوعة لكل قطعة فنية تجمع فترسل فداء للفداء.. عوناً للفدائيين!.. هنا ليست الكلمة للمال.. الكلمة للحوافز والدوافع.. الكلمة لقلب يتيم أعطى اليتامى في فلسطين بعض ما كدحت من أجلهم!.. وأتم قوله يستظهرني الإجابة عليه!.
ـ قلت: الألم يحس بالألم.. اليتيم يعرف معنى اليتم و.. و..
ثم قلت:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إِلا من يعانيها!!
• تقرأ في بعض الأحيان ما يكتبه إنسان ما، فتتعثر في الفهم.. تلقى بهذا القروء أرضاً.. تقول: لا نفهم.. لم نفهم..
هذه مشكلة بسيطة.. المشكلة المعقدة - لأنها ليست صحيحة - أن تقول: لن نفهم ما كتب هذا الكاتب.
تظن أنك تجرحه.. تتهمه بالإغلاق. هذا صحيح حينما قلت: لا نفهم، وهو صحيح أيضاً حينما تقول: لم أفهم.. ففيهما التجريح، أما لن نفهم، فإهانة لك ليست استهانة به.
لو أعدت القراءة مرة أخرى لوجدت الفهم الصحيح.. تفهم ما أراده، أو أكثر مما أراد، أو حتى النقيض لما أراد.
بالأمس قرأت عبارة في سطر واحد.. تجاوزت عيني لفظة واحدة، قلت: لم أفهم.
ـ قلت: لا أفهم لكني أحجمت أن أقول: لن أفهم، هذا عيب.
ترفضك القراءة إن قلتها.. يطردك الكتاب إذا ما تعاملت معه بهذه الجملة..
فأخذت السطر أقرأه مرة ثانية فإذا به يستقيم للفهم لأني حين دققت النظر أنهضت الكلمة التي سقطت، فنهض بي الفهم لهذا السطر.
قد يقول واحد: كيف يكون السطر معجزاً في فهمه؟! إني أقول له: الإيجاز المكتوب معجز، والإيجاز المقروء له المرتبة نفسها في الإعجاز، الكثير من القارئين يفهم الكلمة المطولة لأن السباق، والسياق والترجيع والتردد عوامل موضحة.. أما السطر المضغوط فليس هناك سباق أو سياق، وما إلى ذلك. وإنما هناك ألفاظ معدودة تكوّنت بها كلمات محددة حصرت معانيها في شيء محدد، فإن تجاوزت عينك لفظة منها قلت: لم أفهم.. لا أفهم، وإن تجاوزت نفسك بالسأم حتى تقول: لن أفهم حكمت عليها - أعني على نفسك - بالاستنامة إلى التردد والسأم.. إلى الانصراف عن الكد والجهد في فهم الكلمة.
الكلمة كثيراً ما تجبر على الكد والجهد.. لتكون مفهومة..
لكن.. كما قال أبو الحصين.. ذلك الثعلب: من يقرأ.. ومن يسمع؟!
أو كما قال الريحاني أمين: لكي تفهمني.. ينبغي أن تقرأني وأنت جالس!!
• الكاتب الرتيب - أعني الذي يكتب يوميات - ملزم أن يجعل موضوعه: الناس.. يكتب عنهم.. يكتب لهم، يدغدغهم حيناً، يقسو حيناً.. يعدو كذلك، أو يتهافت إلى تحت كذلك..
مزاح!.. أساسه طبيعي فيه، لأنه هو الذي سحبه إلى هذا الموقف، ثم زاده الانطباع التزاماً به، لكنه لا يحب أن يثقل على الناس بشيء من أزماته.. بحال من أحواله غير أنه واحد من الناس.. بشيء من التجريد يصنع من إنسانه إنسانين.. واحدهما من الناس، والآخر هو!
قبل أسبوع فاجأتني لحظة مؤلمة كاربة من خطأ المترجم لبرقية باللغة الإنجليزية.. - قال: من سميرة؟.. قلت: ابنتي، فسكت قليلاً، ثم قال بشيء من الأسى: إنها مريضة بمرض غير قابل للشفاء، قلت: سرطان؟.. سل.. سكر.. أماتت؟.. قال: مريضة بمرض لا يشفى، كدت أنهار، تماسكت.. حملت نفسي أجرها إلى مكتب الصديق السيد ياسين طه، قال: ما بك؟ قلت له الحكاية، وأنفاسي تنقطع (إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض) فنهض السيد ياسين وجاء بالبرقية مكتوب عليها بالحرف العربي الفصيح كترجمة لها: عظم الله أجرك - سميرة!.. فإذا هي برقية تعزي فيها بزوج خالتها أو هو زوج أختها من الرضاع كقرابة ثانية، حبيب كوثر رحمه الله.
ورغم الترجمة الفصيحة التي أراحتني قليلاً، فقد شغلت، فسجلت مكالمة إلى لاهور، وما اطمأننت إلا حتى كلمتها يوم الجمعة!
هكذا نكون آباء.. نسعد بالطفل بعض السعادة ويكشفنا شقاء بالاهتمام بهم والحدب عليهم والحنان والمسؤولية.
وأخيراً.. تمت فرحتي اليوم.. جاءني تقرير من المستشار الثقافي يثني عليها لتقدمها ونجاحها فغمرتني سعادة أزالت تلك الشقاوة التي جرعنيها خطأ مترجم أراد ألاَّ يفجعني بأسلوبه الذي استطاع، فأوجعني كثيراً حتى أفقت اليوم.
أتحسبوننا نكتب لكم وكلنا خلي؟!
لا.. إن شجوانا مضاعفة بشجوى كل قارئ.. لا نريد أن نعلن له هذه الشجوى لأن رحمتنا له تلزمنا ألاَّ نشقيه بعاطفة نحونا.
القارئ.. قال: كل أمانينا أن يكون سعيداً، فإن هذه السعادة له وفيه هي السعادة نرتاح لها من كل ما يشجي!!
• حقوق الطبع محفوظة شرط يوضع على كل كتاب طبع في حياة مؤلفه، إذناً منه، حجزاً لحق، تحملاً لمسؤولية واستفادة من غلة ثم التشريف لصاحبه.
وبعد وفاته ينتقل الحق للورثة كميراث ورثوه فأصبح ملكاً لهم كان يملكه أبوهم، إلا أن يحبسه على عمل خير أو جهة معينة أو أن يبيح لطابع أن يطبعه لينفع الناس به، كل وقيمة ما يعطى مما ألف، ومن حكم في ماله فما ظلم.
وقد اتفق الإنسان في كل مكان على احترام هذا الحق، ولكن ما بالنا لا نلتفت لكتاب مات مؤلفه من زمن بعيد فأصبح طبعه مشاعاً لكل مستفيد، ومستغل ونافع، فمثلاً تفسير ابن جرير أو أحد الصحاح أو المعاجم، أو أمهات أخرى في التاريخ وما إليه يطبع كل منها على غفلة من يريد، أو في مطابع ومكاتب تطبع وتستغل، حق ضاع على أصحابه فأصبح المشاع بين الطالبين والشارين والبائعين.
من هنا أريد أن أسأل مقترحاً.. ألا يمكن وضع حد لذلك لا حجزاً له، وإنما لزيادة الانتفاع به انتفاعاً جماعياً؟
الاقتراح أدعو إليه، وهو تشكيل هيئة على مستوى الفكر العربي، أو مستوى الأمة العربية، والإسلامية أيضاً.
نضع نظاماً لطبع الأمهات، ولو عن جامعة الدول العربية، ليكون الطبع وفق هذا النظام. وفيه ما يوجب على طابع لكتاب مؤلفه من القدامى، أن يودع نسخاً لهذه الهيئة، وبعض نسخ لمكتبة في كل بلد، ثم جزءاً ولو قليلاً من القيمة من ثمن الكتاب كنواة لصندوق الكتاب العربي، لتكون الحصيلة معينة لطبع كتب لم تطبع بعد، وليكون للأمة سلطان على كنوزها!
يعني أن الأمة سترت حق المؤلف القديم، تصرفاً وإجازة واستفادة، حفظاً لسمعة الكتاب المطبوع، ورصيداً لطبع غيره، اقتراح ظريف، قد يكون خطيراً، أرجو أن يكون تليداً بعد، وخميراً نأكل الطيبات منه.
• ورق أسمر أو أبيض تشرق صفحته بشيء يدعوك أن تلاعبه بكلمة تكتب.. أو بحرف لم يتم كلمة بعد.. أو بخطوط عرجاء عوجاء يداعبك بعض المستكنهين لأحوال النفس، ليقولوا: أنت قلق.. أنت تعب.. تفكر في شيء لم يستقر فهمه ولا الشروع في عمله.
وترخي أذنيك.. تسمع ما يقولون، فتصدق مرغماً بحكم الوضع النفسي لك، وبتحكم الصورة المشوهة التي كتبت أو رسمت على الورق.. ثم أنت بعدها ترجع إلى نفسك.. تلتقط أنفاسك فتخرج ناطق الحرف.. لسانك لهؤلاء وتقول: هراء.. تخريف!
وأمسكت الورق قرطاساً يتلوى تحت عين غير باصرة ما فيه.. وإنما هي متبصرة باليقظة الوافدة لصحوة من خمدة الصمود أمام القلق.. إلى وثبة بالزحف الشجاع على كل عدم حولك.. تجد في وجدانك وجدان الشيء الذي فقدت، وهو الانصراف فالابتعاد عن الخطوط العوجاء والعرجاء. إلى خط مستقيم واضح، وحرف مستملح مليح..
فإذا القرطاس الأسمر أو الأبيض قد تزين بحلية عنبرية، قطرات من رعاف القلم.. تكتب بها عنها لها كلمات.. تقرأها فتجد راحة البوح، ولا يعنيك أن يقرأها أحب الناس إليك فيرمي بها على الأرض ويقول: ماله يصدعنا بالقرطاس وما عليه من معايب هو صنعها، ثم يزيدها عيباً آخر بهذا المرح المستخلص من الترح.
وأود أن أقول له: أنت بهذا لا تعرف قيمة الطرد لأتراحك باصطناع الفرح والمرح!!
هبه تمثيلاً تتستر به، هبه حبالة تصيد بها إغضاب الذين يشفقون على قلقك ويقتلعون بالإشفاق كل الجلد في نفسك. ليكون هذا الصنيع منهم شماتة مقنعة واضحة في نبرات العيون الناطقة بالومض. غير فاضحة بانحرافات اللسان يعوج بالمعاريض.
وأخذت القرطاس، أدفعه ليكون موضوع ((كلمة ونص)) أفهمتهم شيئاً؟
لم تفهموا، ولا أنا، لم أفهم..
خطوط عوجاء عرجاء على قرطاس، نظلمه بها، ونظلم أنفسنا كذلك.
• عجوز يدرج نحو التاسعة والسبعين من عمره كما يقول هو، ذهب إلى مكة يحسبني هناك. وأخذ يسأل عني. فلم يدله أحد.. لا شأن لواحد أن يقول له في جدة..
لكن موظفاً وكبيراً تبرع فقال: هو في رابطة العالم الإسلامي.. وذهب الشيخ إلى الرابطة في ((المعابدة)) يجر نفسه جراً، ووقف عند الباب، يسأل ويسأل فما دله أحد. لم يقل له واحد ملك شعبة من شعب الإيمان البضع والسبعين شعبة: ليس هو بالموظف في الرابطة.. ثلاثة أيام يتردد وهو يسأل.
وأخيراً رأى فتى لعلّه لم يبلغ الحلم بعد.. فقال له: في جدة أسأل عنه في جريدة عكاظ أو في جريدة البلاد. وسمعت أن بيته في ((الكندرة)).
أليست هناك رحمة لعجوز؟ خنزوانة تجهل.. وغفلة جاهلة بأكثر من الجهل نفسه.
كلمتي للموظف همام.. أسأله!
ألم يقرأ قبل سنوات مقالاً في صورة حديث صحفي كتبه صديقنا الأستاذ عزيز ضياء في جريدة البلاد.. وفيه على لسان الأمين العام للرابطة بأنه لا علاقة لي بها - وأني لا أتقاضى راتباً منها.
ثم هو ألم يقرأ خبراً كتبته.. أعلن لمراسليَّ من الأصدقاء ومن إليهم.. ألا يرسلوا بريداً لي على عنواني في الرابطة.
كل هذا نشر.. وما زال حضرة الموظف الهمام لا يتورع فيتبرع بدلالة العجوز على مكان خطأ.
ليست هذه تبرؤا من النسبة إلى الرابطة، فأنا صديق لها، ولكني غير عامل بها، ولا متعامل معها، فما بال هؤلاء الناس يتخلون عن دلالة الطريق لشيخ نخلته السنون.
هكذا القطيعة بين الناس أصبحت سمة الحياة الجارفة بقلقها ومدنيتها.
واعتذرت للعجوز، ولكني ما عذرت نفسي ألاَّ أكتب عن مفارقة كهذه.. فلا يهمني أن أكون مجهولاً من صاحب يعرفني حق المعرفة.. وإنما همني من هذا الصاحب أن يعرف شعب الإيمان لعلّه يعمل فيرحم الشيخ المسلم..
الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها كلمة.. لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق...
• مدهش: مدهش وأكثر من مدهش أن تقرأ ((مع الفجر)) يكتبه في غياب صاحبه محرر في عكاظ اسمه ((علي مدهش!)) شاب صغير السن.. يشق طريقه، وما كان ينبغي لقلمه أن يصنع كلمة في عمود يومي اختص به رئيس التحرير.. لجريدة هو أحد المحررين فيها! ولو كان عبد الله خياط رئيس تحرير عكاظ يقلد غيره أو يبخل على الطليعة أن يتقدموا.. أن يبرزوا لما رأينا (المدهش) يملأ فراغاً.
والدهشة ليست في عقلي، ولا هي من إدراكي، ولا تجد بؤرة في عواطفي.. فلست من الباخلين على أحد بالتقدم إذا ما كان جديراً به.
لا أبغى بحمد اللَّه منزلة
غيري أحق بها إذا راما
ولست من الذين يصنعون الركام دماراً في نفوس شابة تتطلع إلى الفوز، لكن هذه الدهشة تصيب الذين يبخسون الناس أشياءهم.. يحسبون أن الحياة كلها: أنا ((أنوية)) ما أفظعها! مع أنهم لو عرفوا لوجدوا أن الحياة هي: نحن.. ((نحنية)) أجملها!
لقد عرفنا الباخلين لنجدهم يعيشون وحدهم، وعرفنا الباذلين فوجدناهم يعيشون للناس.. بالناس.. مع الناس!
ولست بهذه أزجي تحية لولدي ((علي المدهش)) وإنما هي التحية لسعة الصدر، وقول البذل، وإفساح الطريق في رجل اسمه ((عبد الله خياط)) وهي أيضاً أرسلها نصيحة ليعدل الباخلون عن بخلهم، ولا أريد أن أسمي (!!).. فحبي للجميع يلزمني بحب الخير للجميع.. حتى يعلم الذين يعطون مشافرهم أن الحياة أقوى من عبث الأحياء!
ولو كان الخياط حاضراً لما سمح لي بنشر هذا، ولكني أغافله فأنشرها كأنما أنا أطلب التأييد لما صنعت، ولما أصنع، ولقد صنع الخياط خير ما يصنع مفسح الطريق لغيره حينما نشر افتتاحية بقلم فتاة.. أنا جدها كما نعتتني.. أبوة الرعاية، وغنى النفس.. كما أفسح الطريق ((لعلي مدهش)) ولغير علي مدهش!..
تحية لكل مفسح طريق.. فالحياة هي المستقبل.. وعلى الذين كتبوا ((بيضة الديك))! يدلون بها علينا بأنها مجدهم أن يعرفوا أن المستقبل غير ما صنعوا!!
• أنكر بعضهم على الصديق ((عبد الله جفري)) ما كتبه في ((الحوار)).. جرى بينه وبين الشيخ عن القدامى، ولم أذكر ذلك لأني أعرفها لم تكن حملة، ولم يكن فيها شيء من التجريح، ولو فرض كل ذلك لكان من المعيب ألاَّ يأتي عبد الله جفري بالبديل.. أما وقد أتى بي حينما سد الثغرة هو وجيله فلا غبار على ذلك!!
الخطأ منا جميعاً أن يسكت بعضنا فيكتفي ببيضة الديك، أو أن يحاول بعضنا أن يجر زمان الآخرين إلى زمانه، وأكثر من هذا الخطأ هو الاستعلاء.. فرض الأستاذية.. سواء بالممارسة لها، أو التلميح بها على سبيل الصمت، كأنما الصمت يقول: ((بلاش شغل عيال))!!
ألم يكن ما عملناه أولاً كان ((شغل عيال))؟! اقرأوا ما كتب من قبل. وللأكثرين على الأخص الذين صمتوا الصمت المطبق فلا تجدون إلا كلمة واحدة رشحت كاتبها لأن يكون موظفاً كبيراً، وأديباً مشهوراً، وطليعة ظافرة تأبى ألا تكون قاهرة، وليس هذا في بلدنا فقط فقد أصبح الجيل الجديد في أكثر من بلد عربي ينكر الاستعلاء منهم - أي من طه حسين والعقاد وغيرهما بأستاذيتهم، وبالآراء الجديدة، وبالثقافة العريضة، وبالنفس المتطورة، والفعالية المغيرة، ولكن الجيل الجديد - وإن احترم ما قاموا به وما قدموه له - فإنه لا يطيق أن يحترفوا به لعبة يمتطون أكتافها، فلا يكون إلا صورة طبق الأصل لهم!!
من هؤلاء المستعلين أذكرهم هناك، ولا أريد أن أذكرهم هنا.. أذكرهم هناك لأن الدليل بهم أقوى وأتغافل عنهم لأن ((القرف)) أقسى!.. إبراهيم الورداني أصبح كاتباً كبيراً بعد أن قسا عليه الصاوي محمد، وكان أحد المستعلين، رفضه رفضاً قاسياً.. أبى أن ينشر له مقالاً.. كان هذا الرفض الحافز لأن يكون الكاتب الكبير، والداعي لئلا يكرر هذا الاستعلاء على الجيل بعده، ثم ليكون أكثر رفضاً للذين يستعلون على الناس!!
فنحن بالاستعلاء، وبالنظرة الشزراء نطرد أنفسنا حينما نكون أساس الانفصال.. كان ينبغي أن نتقبل الجديد بشيء من رحابة الصدر.. لا نرفض الكل، وإنما نبصر بالباطل ونفرح بالحق..
الذين يجيئون بالبديل فينصبون قاماتهم يسدون الثغرة ليس عليهم معابة إن قالوا حواراً مثل ما قاله الجفري!!
لكي نبني الحياة بالكلمة ينبغي أن تستمر الكلمة كراية يسلمها جيل إلى جيل بعده.. إن الراية ستتمزق إذا صندقت في مقصورة كاتب يستعلي، وشيخ لا يرحب بالجديد!!
• .. وكثر حوله السعار، وتناولته أخبارهم.. فتارة ينقلونها بألسنتهم وأعينهم، وتارة يكتبونها في أوراق، ويدسونها في البريد، أو يناولونها لخادمه في مكتبه الكبير. كلهم.. يريد التقرب إلى السيد الكبير بشيء واحد يحسبونه يسره.. بينما هو في الواقع يؤذيه.. يزعمون أنهم الناصحون له.. كأنما هم يبصرونه من خيالهم بحال ولده الوحيد..
ـ قالوا له: إن ولدك سرق بيض الدجاج من حظيرة خاله.. إن ولدك يذهب إلى صديق له يركب معه الدراجة يلعبان في فناء الحديقة التي تملكها جدته!
وكبر الولد، فلم يتركوا الوالد.. قالوا له: إن عطارد يلعب كرة القدم في قهوة.. يسبح في ابحر.. رأيناه يأكل شاورمة.. نخاف عليه من المرض.. يسابق في السيارة الموتيسكلات..
وأكثر من هذه الأشياء، وكتبوا عن ما هو أقذر مما يفعل الابن، أو لا يفعل.. فنقلة الأخبار إذا استمرأوها. صاغوها كذباً وصدقاً.. بل وإنهم ليمعنون في تعمد الكذب أكثر.
إذا كان كل يوم تقبل منهم رسالة أصبحت راتباً، فلا بد أن نكتب، ولا مناص من أن يكون فيها الخبر.. صادقاً في القليل.. كاذباً على الأكثر!
وكان جواب الأب لكل ناقل خبر.. لكل كاتب رسالة: هل هو يكذب؟
ـ فيقولون له: لا.. ما جربنا عليه الكذب.
وأكثروا عليه، فجمعهم، وأخذ يقول: لقد أكثرتم عليَّ، ولم تفطنوا لسؤالي.. هل هو يكذب؟ لم تفطنوا لذلك لأنكم كنتم في عماية السعاية.. تحترفون نقل الأخبار، وكنت أجزيكم أجراً على ذلك، العماية، والطمع جعلتكم لا تفهمون سؤالي. إذا لم يكذب الطفل. أو الشاب، أو الرجل أو الأنثى، فالنهاية حميدة، الصدق يقتل كل هذه الزلات.. يبصره بضررها، ما دام لا يكذب فسينتهي من كل ما يسيء، الكذب تستصغرونه، وتقترفونه.. بينما أنا أستهوله.. أراه أساس المفاسد كلها.
وأرادوا النهوض فقال الأب: لا تذهبوا هكذا.. لتقولوا إن هذا كلام والد يعطف على ولده. ثم تعيدون الكرة.. تنقلون إليَّ الأخبار عنه، اجلسوا حتى أقطع دابر ذلك.
ونادى عطارد: أليس من العيب عليك أن تقول عن أبيك أنه ((آغا))؟
ـ قال: نعم.. لقد قلت ذلك لفلان - أحد الحاضرين - ولكن لم أقصد أنك خصي، وإنما قصدي، وصدَّق ما أقول وأنت تعرف ذلك، أني أردت بكلمة آغا أن أصف بها تصرفاتك، فكل أهل البلد يقولون عن التصرفات التي لا تفهم إن صاحبها آغا!
ـ قال: صدقت.. في حدود ما تفعل، وبما أردت لكن هذا الصدق منك هو الكذب بالعين بالنسبة إليَّ.
لقد قلت الصدق حقاً إني آغا، فأنا يا ابن أخي مجبوب وخصي.. تزوجت أمك باتفاق بيني وبينها لتكون في رعايتي بعد وفاة أبيك أخي، هكذا علمتك الصدق ولو كان جارحاً لي.
وأريد أن أرفعك لتصدق هذه الشتيمة منك في عرف هؤلاء نقلة الأخبار، فأردت أن أبين لهم شجاعة الصدق مني، ومثالية الصدق فيك.. جعلتك تنطق بالحقيقة التي ما أردتها وإنما هي أرادت أن تكشف نفسها، أنت ولدي لأنك ابن أخي.
وهنا هرب نقلة الأخبار، وذهبوا لا يرجعون، أما الولد فقد أصبح مكان عمه سيداً كبيراً يبصق في وجه كل من نقل إليه خبراً!!.
• كيف تهرب الكلمة المشعة المشرقة ذات الرونق الجميل.. المعبرة عن الأبعاد العميقة في أغوار النفس، ومظاهر المجتمع؟
كيف تهرب من المعدين لأنفسهم لاقتناص الكلام وإرساله؟!
الجواب بسيط.. الإعداد احتراف، وكثيراً ما تهرب الغوالي من المحترفين، والغوالي تأتي من وجدان الهواة، وهي على قلتها أكثر روعة مما يأتي على ألسنة المحترفين!!
المحترفون مكثرون.. والمكثار لا يسلم من العثار.. إن بعض الكلمات تسمعها مرسلة من إنسانها فتغبطه عليها رغم الغيظ من أنها جاءت منه، ولم تأت منك، لأنا نحبها أن تكون قد جاءت منا.. لنا.. لكم.. نسمعها.. نصفق لها.. نغتاظ بالضحك البهيج فرحاً بها، وبالآهة الباكية لأنها ذهبت عنا كأنما هي ملكنا سرق منا.. ليس هذا ثناء عليها فهي، وإن استأهلته فإنها في وهمنا المغالي بالثقة أو الغرور نحسبه قد سرقها من الفحول.. كأنما الكلمة قد حبست على إنسان معين!
وقد تسكن لواعجنا حينما نعالجها بأنها صادرة من هذا الإنسان المعين الكبير في الثقافة والمكان، ولكن.. كيف تسكن النفس إذا أشرقت من غير هؤلاء؟
سؤال حصيف في حدود المقارنة بمقاييس الحجم والكم. ولكنه سخيف بميزان القيم الإنسانية في نفس إنسانها..
إن الإنسان بإحساسه ومشاعره هو الكبير بها ولها. وعنها.. الكيف هو القيمة في إنسان ما.. من أي نوع كان، ومن أي قدر، فالمصدر الأصيل للتعبير الأصيل والرصين هو النفس من أي إنسان!
وكم هي الكلمة هذه معبرة.. طابعة سمة في وجداني.. في هذا الوصف.. وصف الحال المستكن المعلن في إنسانها.. من روعتها أخذت مني هذا الوصف الرشيق: إنها التمرد النبيل.. فأنا ما كنت أغتاظ منها حتى ارتحت لها لأنها أعطتني أن أقول كلمة رشيقة.. ذات جرس في أذني: التمرد النبيل!!
ما الفرق بين تمرد، وتمرد؟!
الفرق كبير، وإنه لأعمق حينما يكون في وضع واحد، والشرح طويل.. لكني أقتصر بمثالين: إيمان بلال تمرد لأنه شهادة بالحق. لكن دوافعه هي طرد الطغيان للسادة المعذبين له، أما تمرد خالد بن سعيد ابن الأكرمين فهو تمرد لأنه شهادة بالحق.
في الخطوة الأولى كبلال، ولكنه في الدوافع تمرد لطرد السيادة من نفسه.
• أتريدني أن أضع رقم (1) لكاتب اسمه ((ع)) ورقم (7) لكاتب اسمه ((ع)) مكرر، ولآخر اسمه ((ف)) أعطيه رقم (3).
((فال الله ولا فالك!!)) فلست مدير سجن أضع رقماً على قميص أزرق.
ولست مدير مستشفى المجاذيب أضع رقماً على قميص أصفر، أتريد أن أمسخ الأسماء فأضع الأرقام بدلاً عنها لكتاب عرفوا بأسمائهم.
إن هؤلاء وأولئك قد أصبحوا كما تقرأ لهم بشيء اسمه الحرق والكرب والألم والأمل.. لتريد أن يوضعوا في أرقام كأنهم ((أورطة)) عسكرية ذاهبة إلى حلبة تمرين إنهم اليوم عرفاء.. نقباء أركان في جيش الفكر والرأي والكلمة.
هم جنود المعرفة.. والمعرفة تعريف بكيف وكم وقيم لا أرقام صماء.. تحسبها درجات التقييم وإنما هي دركات الخطأ في التقسيم غير المستقيم.. وسكت.. حتى قال: لقد فتحت في رأسي فكرة فلن أعود لهذا ((التفنيط)).
الفكرة هي أن أعرف لكل واحد قدره، فلعلّ خيره في واحدة يوافي خير غيره في ثلاث.
ـ قلت له: من هو القادر على الصواب في كل وقت؟ على صدق التقييم في كل حال. إنه لو صدق مرة لكذب هو نفسه مع الواحد نفسه في مرة أخرى!
إن أكلة الفول المدمس - كما هو قول الدكتور الأستاذ العميد طه حسين - أمد الله في عمره - تغير تفكير آكلها.. فمرة يستجيد فيعطي رقماً عالياً. ومرة يستقبح من كثرة الغازات المكربة تفرض عليه كربها ليكرب بحكم غيره فيعطي رقماً نازلاً.. فإرهاق المعدة إرهاق للفكر وإرهاق الفكر إرهاق للمعدة.. وصاحبنا للرقم المفنط ما هو إلا معدة قد يكون لها فكر. يخطئ ويصيب وإن هو أصر على التفنيط فخاطئ متروك..
• طالب في الثانوية العامة، أدركته حرقة المتاعب فأحب أن يكون مراسلاً لواحدة من صحفنا العربية السعودية، ولعلّه إن وجد الفرصة.. فأعانوه بالمادة وبالتشجيع ليصبح متعباً لنفسه وللآخرين مراسلاً وكاتباً وقارئاً!!
كلف نفسه فزارني فحمدت له حب التطلع لزيارة أب. وحب الاطلاع.. جعله يقرأ ويقرأ حتى عرف كثيراً مما هو ظاهر على السطح.. ولا عيب عليه أن تغيب عنه ما هو مطمور في كهوف النفوس التي ضامها حين ضمها شيء مرهق، وأفحمها الشيء التافه.. تقسر عليه.. لأن تكون معتلية بالتوافه.. مخبأة عن الدسم يمتنع عليها أن يظهر، وتمنعه هي أن يعلم فلا يعلن!!
وسأل: رتب لي هؤلاء الكتّاب - وأغلبهم من العكاظيين - على درجات كل باسمه ورقمه؟ وأضحكني سؤاله ولكني عذرته ، فما زال حديث عهد بالترقيم كتلميذ، فلا عيب فيه إن غمرته هذه المشغلة الرقمية ترتيباً في درجات، ورتابة في سنوات.. فهو يعيش الترقيم.. اسمه وأمامه رقمه تلميذاً في كل فصل، سنة في دراسة، ورقة امتحان.. نتيجة، نجاح، قيمة تفوق، إن الرقم كسبه بما يستأهله في حاضره ومستقبله.
ـ وقلت له: أنت معذور في هذا السؤال.. ولكن لن أعذر نفسي إن أنا أجبتك عليه كما تريد.. فهؤلاء الذين سميت ليسوا في حلبة امتحان مدرسي. إنهم في معركة الحياة. ومصارعة الأحياء.. فهي وهم تعطى ويأخذون الرقم صيتاً أو إخفاقاً.. رعياً أو طرحاً، مجداً وإهمالاً.
ليس في قدرة أو طاقة أو قوة أحد أن يفرض أرقاماً في خياله يضع منها رقم الرجال.. قد يريد بعض الواهمين ذلك ((يفنط)) الرجال على هواه، يضع المنازل والمقامات بحسب ما يشتهي حباً لفلان، وإغضاء من فلان آخر أو غضاً وهضماً لفلانين آخرين.. أو خوفاً من الفلان السليط!
هذا يفعله الذين يحسبون أن ذلك قيمة لهم، رقماً يأخذونه لأنفسهم.. إنهم واهمون، فأقدار الرجال لا ((يفنطها)) صاحبنا.. وإنما هي تفرض نفسها بعملها وخلقها وإنتاجها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :947  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 576 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثاني - النثر - حصاد الأيام: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج