بين النقد والجمال
(1)
|
(1) |
أبى صديقي الأستاذ عبد الله عريف
(2)
إلا أن يشيع كلمتي المتواضعة التي تحدثت فيها إلى الناس في ندوة الإسعاف عن الفضائل والرذائل وطائفة من فنون القول ومذاهبه -بمناحة تصطنع الهيبة للموت اصطناعاً- فنشر عنها كلمة دعاها "ضريبة الإعجاب" قال إنها صدى فني العالي، وأقول أنا إنها صدى ضميره الحي. وحرارة فنه المستوفز. |
والكلمة التي تتضمن نقداً دقيقاً ومناقشة هادئة لفكرة ساقها الاستطراد عفواً، في مقدمة حديثي. |
ولقد كنت حرياً أن أتقبلها كدلالة على رأيه الطيب فيَّ فلا أعر لفكرتي المنقودة بتفصيل أو تأييد حرصاً على أن لا يظن بي التعصب لما يجري في كلامي مجرى الفكرة السانحة، وفرقاً من أن تعد نظرتي إلى النقد نظرة الجفاء والتنكر. |
لكن من حق الأستاذ عليَّ أن أمد يدي إليه، مكبراً فيه شجاعته وثقته بنفسه ووثاقة فهمه، ومن حقه علي أن لا أدعه يظن أنني قد قلت كلمتي وفرغت منها، فليس أحب إلي من النصب في سبيل تعديل الموازين ومعاناة الحقائق واحتمال مشقة الهدم والبناء في نفسي وفكري، فإن كانت الحياة حياة باستمرار حركتها، وتجدد دواعيها وتعدد صورها، فالنفس ما تكون النفس العميقة إلا بما يجيش بها من أسباب التغيير والتحول والتقدم والتقهقر. |
وأنا ذو مزاج سؤوم، لا أدع الزمن يفجعني في طمأنينة شعوري بطرافة الأشياء، وأية حقيقة من حقائق الفكر. أو متعة من متعات الحس. أو طوبى من طوبيات الخيال الخلاب، يبقى لها جمالها على الزمن للماضي أو يفض الختام كل يوم عن جمالها ومعانيه جديدة أخاذة؟ |
إنما يصيب الأديب لذته الفنية، والفيلسوف متعته الفكرية من علاج الجديد وابتكاره، وحتى إذا عرض له القديم المألوف سلك إليه غير سبيله المطروقة. |
وهل أضمن لهذا من النقد الذي تراد به القوة في ميزان الحدود والقيود والهدف والذي يهدم قديماً متداعياً ليقيم جديداً ثابتاً؟؟ |
والقول المرسل يكفي له النشاط ولكن تقنين القواعد، يقتضي النشاط والمقدرة والدفاع عنها يتطلب الصبر والقوة، فلا يحسبن الصديق أن سآمة المزاج ضعف ونضوب، فإنما هي قوة وحفول. |
وقد لا تكون لي أعصاب الناقد ويكون لي إحساسه. ولكن لا تكون لي ملكته وخصائصه. وقد تتهيأ لي طبيعة الشاعر المشغوف بالحياة وجمالها المتطور وأحرم من طبيعة الشاعر المتطلع إلى حقائقها وأسرارها المكنونة فأكون أديباً أو شاعراً يتحدث إلى الناس عن فكره ونفسه، لا عن الفكر والنفس فما يمنعني هذا النقص أن أجول مجال القوي للعارم الموهوب وما دمت حياً له حق الأحياء في العيش، فلي حق الناس في التفكير. |
وللأستاذ الصديق أعصاب الناقد وحسه وملكته وخصائصه ونفس الشاعر المفتون بجمال الحياة وقبحها، والمأخوذ بحقها وطبيعة الفيلسوف الهائم بحقائق الحياة والمعنى بأسرارها. فلماذا لا يكون من حقه أن ينقد الأخطاء ويقوّم المعوج وينطلق في جو فنه الفسيح متأملاً واعياً، يسمي الأشياء بأسمائها ويردها إلى مصادرها. |
ولست أدري لم اختار الصديق أن يبدأ بي. إلا أنه عرف في رحابة الصدر للنقد. والصبر على ما تجره نظرة الاتهام من مضض أم لأنه أراد أن يفهم الناس عنه أن الصلة الصحيحة بين ندّين جديرة بأن تزداد امتزاجاً وقرابة بالصراحة والاختلاف لا بالائتلاف والتستر؟! |
إني أرحب به وبنقده ترحيب الصديق بالصديق، وأرجو أن لا يقنع من النقد إلا بما يغلغل في الأعماق، ويكشف أدق العيوب، وأخفاها ببصيرته النفاذة وفنه الذواق. |
* * * |
وضريبة الإعجاب تجلوها طبيعة صديقي النمومة، لصديقي الظاهرة وليس لي إلا فضل اكتشافها والإشارة إليها. |
هي صورة الناقد الصريح أو الناقد المتهكم لا يمنعه الاعتراف بقيمة المنقود وأثره أو يوهن منه بأسلوب الرمز والإيماء السافرين ولكن طبيعته النمومة تشي به فتجعل هذا الرمز المبالغ في إخفائه، سراً فاشياً وحركة ملحوظة. وما زالت نظرة الناقد أو طبيعته أميل إلى خيانة صاحبها وخذلانه، كما تخون العاشق تقطيبته المصطنعة وإشاحته المتكلفة، فتكون كلاماً يقول كل حرف فيه ما لا يقوله الكلام الواضح والبيان المقصود. |
قال في فاتحة كلمته: |
"إن انصياع الجماعة واندفاعها أقوى منهما في الفرد". |
و "وإن الفرد وسط الجماعة أقوى شعوراً وإدراكاً من الفرد وحيداً". |
وهذا تمهيد واضح الاتجاه لكلمة نقد عارية قوية، تهز بعنف ما تضمنه حديثي من آراء، ونظرات في سبيل تقدير أثرها في نفوس الجماعة السامعة فماذا يريد أن يقول؟ |
إن كان هذا الحديث قد أعجب الناس واستفز أفكارهم ونفوسهم فليس لأنه خليق بأن يبلغ هذا المبلغ منهم، بل لأنهم جماعة ولأن الجماعة أقل تمييزاً من الفرد فهي أسرع استجابة. |
هكذا يريد أن يقول صديقي الأستاذ، وكلمتا التمييز والاستجابة هنا سيظنهما إقحاماً ومغالطة وهما تعديل مقصود بجملته التي تتضمن معنى أن الجماعة أكثر انصياعاً للمؤثرات من الفرد. وعلماء الاجتماع يقولون أو أحسب أنهم يقولون إن تأثر الجماعة واندفاعها أسهل من تأثر الفرد واندفاعه لأن شأن الجماعة أن تفقد قدرتها على التمييز والتعقل أمام المؤثرات العنيفة فهي لذلك أرهف شعوراً وأقوى وأقرب تهيجاً على نقيض الفرد الذي هو أقدر منها على التمييز والإدراك فيكون أقل انقياداً وأكثر تعقلاً. |
إذن فالفرد بين الجماعة المتحمسة أضعف إدراكاً لأنه أقل تمييزاً كما يقول علماء الاجتماع وليس أقوى إدراكاً لأنه أقوى شعوراً كما يقول الناقد. |
وإذاً فقوة الشعور لا تقابل قوة الإدراك فالذي يضعف تعقله بين الجماعة المنفعلة بمؤثر عنيف لا يفقد شعوره بل يحتدم لأن الشعور إحساس والتعقل فهم وما دام الفرد وحيداً أقوى شعوراً وإدراكاً منه بين الجماعة المأخوذة فمعنى هذا أنه أضعف شعوراً وإدراكاً خارجها وهذا تناقض ملموح لا تعرف فيه القاعدة سبيلها القويم ولو حللنا ما يقوله الأستاذ الصديق بطريقة أخرى لعلمنا أنه يعتقد أن الفرد + الجماعة = أكثر انصياعاً للمؤثرات، فالفرد - الجماعة = أقل انصياعاً للمؤثرات وأن الفرد + الجماعة = أقوى شعوراً وإدراكاً. والفرد - الجماعة = أضعف شعوراً وإدراكاً. وإذن فالأقوى شعوراً وإدراكاً = أسهل انقيادياً. والأضعف شعوراً وإدراكاً = أصعب انقيادياً. وهكذا تأخذ الجماعة خصيصة الفرد في هذه القاعدة. ولا شك أن التقاء الشعور والإدراك في قانون الأستاذ أو في مثله الذي ساقه سبب هذا الارتباك الواضح. فهل من حيلة يرتجلها لتقينا حرج التقاء الساكنين؟؟ كما عند النحاة. |
والحب شعور كلما ازداد قوة انعدمت ملكة التمييز والإدراك والاختيار في العاشق فلو قال قائل إن الحب يقوم على الفهم والإدراك أو الاقتناع والاختيار لا على طغيان الشعور وعمق التأثر لما قال إلا كلاماً يصلح أن يكون قاعدة محدودة أو قاعدة حادثة خاصة. وما دام الصديق يتحدث عما يقوله علماء الاجتماع فهو حريٌّ بأن تزحمه بمحصولنا الضعيف منه. على أن لا يضيق ذرعاً بهذه الدقة التي نقتنص بها دعاية سانحة ونود أن نطمئن بها إلى مقدرتنا على التحديد وإن كنا نعتقد أن الإطلاق أسهل السبيلين وأهون الشرين. |
والعبرة هنا ليست بخطأ الصديق في المقابلة بين الشعور والإدراك ولكن بما نمت عليه طبيعته في هذه الكلمة المنطلقة لا سلطان لعقلة الواعي عليها فهي حقيقة قام معناها في النفس سافراً، وإن تبرقع بألفاظ الإطراء المسرف. |
إن الأستاذ الصديق لم يكن يعنيه ما يقول علماء الاجتماع في شأن الفرد والجماعة ولكنه أراد أن يعلل اندفاعه في الإعجاب والتأثر بحديثي الملقى ويعتذر بأن هذا الإعجاب إنما كان أثر اندماجه اللامنتهي في حماس الجماعة فلا غرو أن يكون له رأي خاص بعد أن يخلو إلى نفسه. |
فما هو هذا الرأي؟ هو أن الصورة الجميلة لا تفقد تأثيرها في النفس الذواقة مهما طال إليها النظر المشغوف وارتوى منها الحس المفهوم فهل هذا صحيح؟. |
|