شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جليس الخوخة وأنيس الرستمية
عندما دخلت ذات يوم من ((خوخة الصديق))، رأيته يجلس وبين يديه مصحف يقرأ فيه، وعندما حان وقت صلاة الظهر رأيته يقطع المسافة بين الخوخة والصفة مسرعاً، ثم يسلك ذلك ((الزقاق)) الضيق الذي يصل المسجد بروضة البقيع، ولعلّ فضول النفس قادني لمتابعة رحلة هذا الرجل.
لقد توقف برهة من الزمن عند ((العين)) ثم دخل إلى بناء عتيق واختفى خلف سور ذلك المكان المتميز في هيئته الظاهرة من بين جملة الأشياء التي تحيط به، ولكنها لحظات عاد بعدها الرجل أدراجه إلى ((الحرم)) واتخذ فيه موقعه السابق الذي أصبح معروفاً به ودالاً عليه، إنها رحلته اليومية المعتادة بين الحرم والحارة، ولكن رحلتي معه استمرت أعواماً طويلة سمعت فيها من القصص حول شخصيته شيئاً كثيراً واحتفظت لنفسي بكثير مما عرفت، فلقد أصبح الرجل صديقاً حميماً لي، ولكنها صداقة من طرف واحد، وتلك حالة ليست شاذة في هذه الحياة، فقد تكون الصداقة غير متكافئة ويكون الود كذلك.. وكثيراً ما ترضى النفس البشرية بهذا الحيف في حقها، ولا تتجرأ على إعلان شكواها أو البوح بتباريح وجدها، ففي الشكوى شيء من المرارة ومن البوح ما يعد خيانة للنفس فيما رضيت به أو استمرأته وتعودت عليه.
دخلت البناء العتيق في الحارة فرأيت صاحبي يجلس أمام غرفة صغيرة في ذلك الفضاء الواسع الذي تتناثر فيه الغرف التي يرضى ساكنوها من دنياهم باليسير من العيش، فهم إذا خرجوا إلى هذا الفناء من دورهم صبحاً أو عصراً، انكشف أمام أعينهم ذلك المنظر الذي يبعث في النفس طمأنينة وسكينة لا يعادلها شيء في هذا الكون، إنه منظر القبة الخضراء التي تحتضن ذلك النور الذي أخرج الله به هذه الدنيا من الظلمات التي كانت غارقة فيها، وهدى الله به قلوباً كان يرين عليها الكفر وتمزقها شكوكه وظلماته.
يجلس صديقي وحيداً أمام غرفته.. لا بد أنه يتلذذ بتلك الوحدة وتحقق نفسه أقصى حالات وجدها من خلال تلك العزلة التي عرف بها بين بقية القوم الذين كانوا يستوطنون ذلك المكان ولا يطيقون البعد عنه فضلاً عن النزوح منه، يجلس وعيناه ملتصقتان بذلك اللباس الذي يحمله بين يديه، يقلب أطرافه ثم يبدأ في حياكته، تُرى لماذا يصر على هذه الحياكة عصر كل يوم؟ لقد سمعت أنه كان في مطلع حياته يمتهن ((الخياطة)) وكان بارعاً في صنعته، هل يستعيد بهذا الصنيع شيئاً من ماضيه ((الغامض)) أم أنه ينأى بنفسه عما يقع فيه الآخرون من حديث، ولهذا فهو يوهمنا بأنه منشغل بشيء من شؤون هذه الحياة.
عبد الرحيم - وهذا الاسم الحقيقي لهذا الرجل - يبتسم في وجوهنا بين الحين والآخر، ولكنها ابتسامة باهتة لا تعبر عن مشاركة حقيقية منه لمجلسنا الذي كان ينعقد بين العصر والمغرب، ويؤمه أهل الحارة ثم ينصرفون عنه مع مغيب الشمس، فـ ((الرستمية)) يسودها الظلام ليلاً فهي لا تعرف شيئاً من تقنيات الحضارة المعاصرة التي لم يسلم منها موطن في هذه الأرض، لربما ابتسم ((عبد الرحمن)) وفي نفسه شيء من هؤلاء الناس الذين تركوه لمعاناته دون أن يظهروا التعاطف معه أو يحاولوا التخفيف من مأساته، ولربما ابتسم لأنه يريد أن يقول لهم إنه يعيش ((نعيماً)) لا يعرفونه الذكر والتدبر، وحلاوة اليقين والرضا، ولقد اقتربت منه مرة حيث يجلس في المسجد، فلم يزد على أن قال لي: متى نذهب إلى دكة جلال؟ والدكة - الشيء الوحيد الذي أتذكره من حديثي معه - هي موضع في جبل ((سلع)) المعروف.
وسألت نفسي هل تتوق نفس صاحبي بين الحين والآخر لمخالطة الناس ومجالستهم - وهي الشيء الطبيعي الذي فطرت عليه نفوس جميع الناس - ولكن الحنين شيء وواقع الحياة شيء آخر - ومع هذا فقد كان صديقي يحب الحياة والناس حتى وهو بعيد عنهم عندما رضي بتلك العزلة التي لا يعلم أحد لماذا اختارها منذ أكثر من ثلاثين عاماً وحتى وقتنا الحاضر بعد أن كان يُدعى بالأنيس بين جلسائه من أهل الحارة أو نظرائه من أهل حرفته.
لقد كان صاحبنا يستيقظ مع آذان الفجر الأول، يتسلل مع فناء الرستمية.. يسمع أصحاب الدور المجاورة للعين وقع أقدامه.. يملأ ((القلال)) بالماء حتى يشرب منها الناس صباح اليوم التالي ماءً عذباً بارداً، ثم يقوم برش تلك البرحة التي يؤمها الناس من كل مكان للاستمتاع بالجلوس وشرب الشاي فيها عصراً، وكأنه أراد أن يقول لهم: لقد افتقدتم حضوري بينكم، وجلوسي إلى جواركم، ولكن روحي تطوف بالأمكنة التي أحببتها وتعلقت بها، وإن كنتُ قد حبست لساني عن الحديث معكم فلقد وجدت ما أشتغل به خيراً من ذلك.
لقد تذكرت شيئاً هاماً يخص صديقي الذي عرفت أنه ما زال يعيش في مكان لم يختره هو بنفسه، لقد كان ((عبد الرحيم)) يميل إلى اللون الأسود في لباسه، ولكنه لم ينجز إلى هذا اللون إلا في تلك المرحلة من حياته التي اختار فيها ألا يُرى إلا في موضعين اثنين فقط، وهما ((الخوخة)) و ((الرستمية)) وفضل أن يشرب من ماء الحياة المتدفق من تلك العين قبل أن يصيب الآخرون منه نصيبهم.
لقد شرب ((عبد الرحيم)) من نبع الصفاء ولكنه لم يبخل على الآخرين بما يحبون أن يصيبوه من دنياهم هذه، أو يشتغلوا به من شؤونها، فترك لهم ما يحبون.. واكتفى بما انشغلت به نفسه واستغرقت فيه روحه، وهام فيه وجدانه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :640  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 90 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج