شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
غريب في حوش النورة
حوش ((النّورة)) واحد من تلك الأحوشة الكبيرة التي كانت تقع بالقرب من المسجد الذي يؤمه الناس مصلين في روضته وزائرين ضريح صاحبه صلى الله عليه وسلم، وكان الحوش يقع بالقرب من البستان المعروف باسم ((الصافية)) نسبة إلى آل الصافي إحدى الأسر العريقة والكريمة في البلد الطاهر.
كنت ألمح هذا الرجل الذي يخرج من بوابة هذا ((الحوش)) في أوقات مختلفة، أسمر اللون حاد الملامح دائم التفكير ولهذا فهو لا يحدث أحداً، ولا يجرؤ أحد على إيقافه في الطريق بغرض الحديث معه، وكثيراً ما كان الناس في تلك الأيام يقفون مع بعضهم يتحدثون في شؤون دنياهم، وهي شؤون بسيطة لا تكاد تتجاوز دائرة المأكل والمشرب والملبس.
يدخل صاحبنا ((السوق)) الذي تختلط فيه أصوات بائعي الخبز مع أصوات أصحاب الحرف الأخرى، ويبقى صوت بائع خبز الإفطار هو المتميز بين تلك الأصوات التي تنطلق في عفوية متناهية تشبه العفوية التي كانت عليها أخلاقيات الناس وتصرفاتهم، البائع أمامه ((طاولة)) ذلك الخبز المتميز ينادي عليها قائلاً: ((الشريكة.. ستة هلل.. قرش ونص))، يمد صاحبنا يده لتلك الطاولة.. يتناول رغيفاً ويقلبه ثم يدعه إلى رغيف آخر.. حتى إذا عثر على الرغيف المناسب وضع ثمنه أمام البائع ثم انصرف، يذهب إلى الناحية الأخرى من السوق حيث تنتشر حوانيت ((البقالين))، يشتري ((تلقيمة)) (قليل من السكر وقليل من الشاي) التي يضعها البائعون في قصاصات من ورق الصحف، ويلفونها بطريقة هندسية عجيبة فقد كان الناس يستخدمون أيديهم في كل شيء، لم يعرفوا الآلة بعد ولم يفرطوا في الاعتماد عليها كما نفعل نحن الآن، خطوات قليلة وإذا الرجل أمام باب كبير يلج منه الناس إلى مكان متسع تنتشر فيه تلك الكراسي الخشبية والمعروفة باسم ((كراسي الشريط))، ودلف إلى ((مقهى)) سمعت أنه كان لرجل من أهل مكة ثم تركه لرجل آخر تعهده بالرعاية، لم أعرف المالك الأول الذي عاد إلى مسقط رأسه بعد سنين قضاها بين أصدقائه من أهل المدينة ولكن عرفت الرجل الثاني.. كان شيخاً لإحدى الحرف.. يقف والسكين في يده، والخروف أمامه ليس من قطرة دم تصيب ذلك الثوب الأبيض الذي يرتديه كان أنيقاً حتى عندما يخرج صباحاً من مدخل ((باب قباء)) إلى ((الخان)) وأراه كذلك عندما يعود أدراجه على قدميه في وقت متأخر من النهار، وليس في هذه الصورة أي مبالغة في الوصف، فكثير من أصحاب الحرف كانوا على هذه الشاكلة من الناقة في الشكل والسماحة في الخلق.
وجلس صاحبنا على أحد كراسي الشريط يتناول ((رغيفة)) مع الشاي الذي تفوح منه رائحة النعناع ((الحساوي)). ثم غادر المكان إلى ساحة ((الحرم)) وربما إلى حارة ((الأغوات)). كانت تصرفاته هادئة، ولكن من يدري ماذا خلف هذا الهدوء ووراء هذه السكينة؟، وذات يوم وقبيل صلاة العصر، خرجت من باب ((جبريل)) ووجدت صديقي ((الزين)) شارد الذهن، سألته: ما الأمر؟ قالي لي: ((الله سلم)) صاحب الحانوت الصغير - الذي كان يقوم بالقرب من بيت ((البالي)) - كاد يقضي على يد الرجل إياه ساكن حوش النورة والسبب بسيط، لقد كان الرجل الهادىء يهم بدخول الحارة ثم تراءى له أن يحمل ((تنكة الجاز)) - والتي يضعها صاحب الحانوت بالقرب منه - من مكانها ثم يضعها في مكان آخر، وحينما اعترض صاحب الحانوت واسمه ((البركة)) على فعلته هذه، ما كان من صاحبنا إلا أن أمسك برقبته، وبدأ الرجل يستغيث بالناس ولكن لم تستطع أن تنزع قبضة الرجل القوية من عنق هذا المسكين.. وعندما أخفقوا جميعهم دعوا بعض رجال الشرطة الذين تعاونوا جميعاً وأنقذوا صاحب الحانوت من موت محقق.
وسألت الزين وأين ذهب البركة؟ ((لقد ذهب إلى داره بعد أن تمزقت ملابسه وسالت الدماء من وجهه)). وحين حدّثت صديقي ((ابن عيسى)) رحمه الله بالقصة - وكان يمسك بمسبحته ويجلس بالقرب من بيت المرحوم - عابدين سندي، ابتسم ثم قال: الناس لا تعرف هذا الرجل الهادئ.. كثيرون كانوا لا يستطيعون أن ((يُعَلّموا)) عليه بالعصا.. كان نمطاً فريداً من الرجال الشجعان، ثم صمت صديقي ابن عيسى فهو لا يحب الحديث عن الماضي كثيراً، وضع عمامته على رأسه ثم غادرنا إلى ((الرباط)) ولم يخرج منه قط ولم ندخل إلى الرباط إلا في صباح ذلك اليوم الذي نعاه ((الزين)) إلينا في المنام ثم في اليقظة ووقفت بين ((ابن جبل)) والزين نبكي رفيق دربنا.
ومرت سنون عدت بعدها إلى الأرض المباركة، وحين سألت صديقي ابن جبل - وهو أحد البقية من أصدقائي: كيف حال فلان؟ أعني صاحب حوش ((النورة)) أدار صديقي حبات مسبحته وأغمض عينيه ثم مسح دمعة جرت على خده، لم يتحدث هو الآخر غادر المكان وتركني وحيداً.
كم يلوذ أصدقائي بمنازلهم يعتصمون بها، وألوذ أنا بالماضي أنقب فيه عن صبح وليل بهي وأصوات يتسلل نغمها الشجي من فتحات ((الرواشين)) لتستقر في نفوسنا التي لم تكن تشقى بما تشقى به اليوم من هموم هذه الدنيا الفانية:
آخر الكلام:
والشهر في كل أرض عشره قمر
والشهر في أرض طه كله قمر
وكل أيامها عيد يجد كما
أن الليالي بها في سعدها غرر
البدر فيها جلي لا استتار له
والبدر في غيرها يبدو ويستتر
تلك المعاني التي شاهدتها رسمت
عندي لها سيرة تحلو بها السير
يا طيبة الخير أشواقاً معجلة
إلى متى أن أستأنى وأنتظر
يا قائد الجو أنزلني إذا لمعت
لعينك القبة الخضراء والحجر
فوقفة عند أبواب المدينة لا
تبقى من الشوق مطوياً ولا تذر
 
طباعة

تعليق

 القراءات :867  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 89 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة الفيصل بن عبد العزيز

نائبة رئيس مجلس مؤسسي ومجلس أمناء جامعة عفت، متحدثة رئيسية عن الجامعة، كما يشرف الحفل صاحب السمو الملكي الأمير عمرو الفيصل