شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فقير في ديار الرحمة (2)
دخل الخيمة، كان كل شيء بسيطاً وجميلاً في الوقت نفسه، أحب الجلوس في تلك الرحبة القائمة أمام الغرفة الوحيدة في خيمة ((الطويل)) ولعلّ الوقت الذي كان يفضله للنظر إلى ما وراء تلك الخيمة هو وقت الغروب، الشمس يحتضنها الأفق البعيد، المرأة تقيد الدواب وتنثر أمامها ما جمعته بيديها من ((الربيع)) الذي يسقيه مطر الشتاء، فتاة في مقتبل العمر تحمل إناء الماء قادمة من حائط البئر حيث يستقي أهل القرية، ثم تفرغه في ذلك الإناء الفخاري الذي يقوم تحت شجرة صغيرة زرعها أصحاب ((الخيمة)) منذ زمن بعيد.
تذكر الفتى والدته عندما كانت تنزح الماء من البئر عندما كان سيل ((أبي جيدة)) يغمر ((وادي بطحان))، وتذكر ((الزير)) الذي يقوم بالقرب من بئر دارهم في المدينة.. يحتفظ فيه الناس بالماء في أوقات الصيف الشديدة الحرارة، حتى إذا دعتهم الحاجة إلى استعمال الماء وجدوه بارداً..يتوضأون منه لصلاتهم.. أو يرشون به الرحبة التي كانت تقوم أمام الدار حتى لا يفسد الغبار المتصاعد مدخل الزقاق الذي كان يعيش فيه الناس كأسرة واحدة، لكن الأمر الذي لم يألفه هذا الجهد الكبير الذي تبذله المرأة الكبيرة في عجن ((الحنطة)) وصنع الخبز، ثم الوقوف أمام الفرن حتى ينضج الخبز فوق تلك النار التي تشتعل في أعواد الحطب والقش، ويسأل نفسه: ألا يضايق المرأة التي قاربت السبعين ما يتطاير من تلك النار من شرر، ألا تشعر بألم في أقدامها من طول الوقوف؟
إنها امرأة تقوم مع أذان الفجر.. لتمسح على ضرع ((البقرة)) ثم تبدأ في حَلْب الحليب من ذلك الضرع بطريقة لا تنزعج معها هذه الدابة التي تسرح بها ((الفتاة)) صباحاً في الوادي ثم تعود بها قبل أن يعود رب الدار من السوق، تذكّر الأجسام المترهلة، وحدث نفسه في همس قائلاً: تلك ضريبة الحضارة المعاصرة التي ذهبنا في الاعتماد عليها إلى أقصى حد، ((رشاقة)) الجسم لا تكون بالرياضة كما نعتقد.. الرياضة جاءت لتصلح ما أفسدته الحضارة.. الرياضة الحقيقية هي ذلك الكد المتواصل من شروق الشمس إلى غروبها، وهذه الحركة العفوية التي يجد الجميع فيها راحتهم الحقيقية.
وطرح السؤال.. لماذ لا تأتين من القوم ((إلى المقام))؟ وقبل أن تجيب سألته: هل أعجبك ذلك المنظر البهي؟ فقال: نعم، فقالت: أنا لا أذهب.. لست ((مسالية)) (ليس لدي وقت فراغ)، وانطلق وحيداً يمشي بين المنعطفات الضيقة التي يصعب عليك المشي فيها لوجود أشجار ((التين الشوكي)) وهو منظر لم يعهده في بيئته التي نشأ فيها، وقف أمام البناء الجميل.. جاءت ((الحفيدة)).. فتحت الباب قائلة: أأنت ضيف في هذه القرية؟.. هز رأسه وابتسم في وجه العجوز التي جاوزت السبعين من عمرها، ثم عقبت قائلة: والدي كان من أهل العلم، كان يحدث أهل القرية ويعلمهم أمور دينهم.. الله يرحمه.
ثم مسحت دمعة طفرت من عينيها بطرف الخمار، لقد كانت امرأة طاعنة في السن، لكن الخمار كان يغطيها من رأسها إلى أخمص قدميها. تذكر حديث والدته التي عاشت طفولتها في بادية المدينة: ((جدتك لأمك الله يرحمها عاشت وماتت لم يكن أحد يرى شعرها ويدخل في هذا بناتها وأخواتها)) إنها الفطرة التي تفسدها فلسفة المدنية، وإنه ((مفهوم)) الشرف الذي أصبح البعض يعتبره تخلفاً، وإنه ((الستر)) الذي كان الناس يدعون الله أن يكرمهم به كلما قاموا وقعدوا!
أضرمت ((الحفيدة)) النار في ((الفاخر)) ووضعت ماء في ((المقراج)) كانت قد نزحته من بئر ((الشريف))، وهو ماء عذب ونظيف، جلبت النعناع ((الأحرش)).. نظفته من الأعواد، ووضعته في إناء خاص به، سكبت الماء من المقراج في إناء الشاي المصنوع من المعدن بعد أن وضعت حبات من الشاي الأخضر في داخله ثم رفعته بيدها لتضعه فوق ((المجمر))، تركته يفور، ثم أضافت إليه أوراق النعناع وعدة قوالب من السكر، ((السكر)) تعادل أهميته في الدوار ((الحنطة)) و ((زيت الزيتون))، يأخذونه هدية في الأفراح، ويأخذونه مواساة في الأحزان، وعندما سكبت الشاي في ((القدح)) ظن أنها سوف تناوله إياه، ولكنها أعادته إلى الإناء ثانية.. فعلت ذلك عدة مرات قبل أن ترفع الإناء إلى أعلى ثم تجعله ينزل مباشرة إلى القدح.. كانت ((الرغوة)) أول ما أثار فضوله عن ((الشاي)) وكيفية صنعه في قرية ((الفقير)) الذي كان يدفع الفتى لقضاء يوم كامل هناك ثم يعود أدراجه إلى المدينة الصغيرة، مع حلول الظلام وعلى وقع أقدام العربات التي تجرها الدواب قادمة من سوق ((جمعة مطل)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :693  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 86 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.