شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فقير في ديار الرحمة (1)
وطأت قدماه ذلك الكثيب المرتفع في القرية.. لم يخرج الناس بعد من دورهم، ولكن الطيور غادرت أوكارها ووصلت إلى هذا الكثيب الذي نمى ((الربيع)) حول كل شواهده التي ظنها في البداية جزءاً من التكوين الطبيعي للأرض، فإذا بها أحجار أودعها أهل الدنيا مشاعرهم وأحاسيسهم إزاء من رحلوا إلى عالم الخلود، وسأل نفسه لماذا تختار هذه الطيور عالم الأموات وتنأى عن عالم الأحياء، أتراها وجدته أطيب مقاماً وأكثر أمناً.. أم لأنه لا يزاحمها أحد هنا على قوت يومها ولا يترقب الآخرون وصولها فتفقد حريتها التي وهبها الله لها وجاء الإنسان ليسلبها هذه النعمة وينتزع منها هذا العطاء.
كان من قبل يخشى (المقابر) ولكنه في هذا الصباح وجد نفسه قد تحررت من مثل هذا الشعور.. ولفت نظره وجود بناء وسط ما يسميه أهل القرية بـ ((الروضة)).. وعندما اقترب من البناء الحجري القديم وجد رجلاً يتخذ من حائطه مسكناً له.. إنه كوخ من الأخشاب يقيم فيه ذلك الرجل الذي أشعل النار في الربيع، ووضع إناء الشاي وكأنه لا يملك من متاع هذه الدنيا سوى هذا الإناء.. ودثاراً يفترشه حيناً ويتغطى به حيناً آخر.. أليست هذه الدنيا أرضاً نمشي اليوم - عليها - ويمشي الآخرون فوق أديمنا عندما تحتضننا ذات يوم؟
دفعه فضوله للحديث مع الرجل الذي اختار عالم الأموات ليقيم فيه مع تلك الطيور التي تغشى هذا المكان صباح مساء، وعندما حدّث هذا الرجل - الذي عُرف باسم ((الفقير)) في أرجاء القرية - بما تفيض به نفسه من أشجان كان جواب ((الفقير)) مقتضباً: كل شيء في هذه الدنيا يسير في حاله.. نعم كل شيء إلى زوال!
لقد عرف هذا الفقير بفطرته الحكمة التي عرفها الفلاسفة والمفكرون. لقد عرفوها عن طريق العقل.. وعرفها صاحبنا عن طريق الوجدان.. وعندما سأل الزائر واحداً من أهل القرية عن هذا الرجل ابتسم الأخير وقال: لقد ولد هذا الرجل بين أكناف هذه القرية وكان في طفولته جميلاً.. خشيت عليه والدته كما يقولون من أعين البشر.. وحفظته داخل صندوق وعندما كبر قليلاً أصبح لا يستطيع السير على قدميه لطول الوقت الذي أمضاه داخل الصندوق.. ولم يبق في القرية من يحتضنه، فاحتضنته أرض المقبرة يقضي فيها صيفه وشتاءه، لا شدة الحر تؤذيه، ولا نزول المطر عن هذه الديار يقصيه، ثم قال: عجيب أمر هذا الرجل.. لقد كان لأحدهم حاجة فذهب إلى الجبل وقضى فيه دهراً يعبد الله ويسأله قضاء حاجته.. وفي نومه جاء الهاتف يقول له: أين أنت من فقير القرية؟ ونزل الرجل من صومعته وجاء إلى الروضة يطلب الدعاء من الفقير، وتذكر صاحبنا الأثر المشهور ((أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي)).. تذكر ((الكامل)) و ((عاكف)) و ((الرشيدي)) وهم يجوبون أسواق المدينة يجري خلفهم الناس.. وهم يجرون لتلك الغاية التي تتطلع إليها الروح، وينشدها الوجدان، ويلهث الناس في دنياهم.. وهم يلهثون ليواسوا محتاجاً، ويفتحوا طريقاً أوصدت وينتزعوا الأشواك من دروب الحياة. يروون الأرض الظامئة بماء الحب.. يجلبونه بلا طلب، ويسكبونه بلا ثمن، ثم يختفون في المنعطفات حتى لا يصيبهم حجر من جاهل، ولا تنالهم كلمة سوء من مكابر.
يا صديقي، يا أبا الفيض، اشتاقت إليك الرحبة، قدماك لا تفارق المقام.. وشفتاك تتمتم بكلمات الذكر، ونفسك يرتقي بها الشوق إلى عوالم الروح فينعكس ذلك الشوق على الوجوه فإذا هي مستبشرة، وعلى القلوب فإذا هي مطمئنة.
صديقي في القرية يتحدث عنه الرجال والأطفال و ((الهجالات)) (النساء الطاعنات في السن). ((الزاهية)) تخرج من خيمتها في الدار.. ترتدي خمارها.. تحضر له الشاي الأخضر.. ثم تعود لخيمتها ولا تحدث أحداً، ولكنني أنصتُّ إليها وهي تودعه وكأنها تقول له: أخي يا أبا شعيب لا تنسني من دعوة بحسن الختام.
ولم يفتح الفقير باب كوخه لأحد أياماً معدودة، جاء ((الحفيد)) وفتح الباب الموصد، فوجد الفقير وقد استقبل القبلة وارتفع إصبعه بالشهادة، ونادى المنادي في القرية ((مات ولد الحمان)).. ترك الناس في القرية الأرض التي يزرعونها وتفرقوا من حول فوهة البئر التي يستقون منها ونزل الأطفال من فوق الكرمة التي يجمعون من أغصانها حبات التين.. وجاءت الزهراء ((مولاة المقص)) تمشي منحنية الظهر، دامعة العينين، تقدمت النعش وهي تقول: لقد مات ((أبو شعيب)) وبقيت القرية من دون فقير.
وجئت إلى القرية كعادتي في كل عام.. صعدت على ظهر الدابة إلى الكثيب، وأجلت نظري في جميع نواحي الروضة.. لقد ذهب الكوخ الذي كان يقوم قبل عام واحد في الأرض، أين ذهب الفقير؟ إنه واحد من تلك البقية التي تأنس نفسي إليها، بل إنه أكثر من ذلك السر الذي يجذبني للقرية وأهلها، وجدت (الزهراء) تقف أمامي تقودني إلى الخيمة وهي تقول: لم ينسك الفقير فلقد سأل عنك قبل أيام من رحيله، وأحسست بيدها تربت على كتفي وأنا أبكي فراقه، كانت يدها كتلك اليد التي تحتويني عندما أستيقظ من نومي في صغري وأنا في حالة من الذعر والخوف.. كانت في عطفها عليَّ مثل ذلك القلب الكبير الذي احتضنني بحبه صغيراً وكبيراً، لقد تصورت الفقير في خاطري.. وهو قول: كل شيء يا حاج في هذه الدنيا يسير في حاله!! كلمة من عالم الطهر والصفاء والروح.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :659  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 85 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.