شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المقدمة
بقلم: معالي الشاعر الكبير حسين علي عرب
الشاعر أحمد إبراهيم الغزاوي، اسم شهير ملأ الساحة الشعرية في المملكة العربية السعودية على مدى يزيد عن ستين عاماً، فأعجب وأطرب وساجل وعارض، وهو الشاعر الوحيد صاحب الحوليات في الأعياد والقدوم والسفر والمناسبات المختلفة، لم يكن يضارعه أحد من داخل المملكة في هذا المجال وإن كان غيره من بعض شعراء الجزيرة العربية الكبار أمثال خير الدين الزركلي وفؤاد الخطيب وأبو الأقبال اليعقوبي شاعر فلسطين وغيرهم في بعض المناسبات.
وكان الشاعر محمد بن عثيمين شاعراً "فحلاً" عاصر الملك عبد العزيز رحمه الله في كثير من فتوحاته ومناسبات تأسيس المملكة العربية السعودية، وكان شاعراً "طليعياً" في اللغة "بليغاً" في المعاني قضى في الخمسينيات الهجرية بعد أن نظم وألقى كمية من الشعر العربي الممتاز الذي يذكرنا حين نقرؤه بشعراء العصر الأموي وأوائل العصر العباسي، لأنه شعر يجمع بين فحولة المعنى وجمال العبارة وجمال السبك، وإن كانت أكثر معانيه تنتمي لعصور سابقة ضليعة في الأداء ولا غرابة في ذلك فالشاعر هو ابن بيئته.
وللشعر العربي حالات أو صفات مختلفات قلّ أن تجتمع في شاعر واحد ولكن هناك حالتان تتسيدان المواقف وهما حالتا الذاتية والتفاعلية مع الأحداث.
ويكاد يكون جميع شعراء الجاهلية من مدرسة الشعر التفاعلي مع الحوادث ولا تستثني من ذاك إلا أمثال طرفة بن العبد والشنفري والشعراء الصعاليك، فقد كانت أشعارهم ذاتية، أي تعبيراً، عن أغراضهم ومشاعرهم وشجاعتهم وأخلاقهم، بعيداً عن المفاخرات القبلية والأنتمائية والتفاعلية التي يحمل لواءها شعراء مثل امرئ القيس الذي تقلب بين الغزل والفخر والمديح والحوار الذي دعته مناسبات شبابه ثم محاولة المطالبة بدم أبيه الذي كان حاكماً على بني أسد وأحلافهم بينما هو من اليمن وخصومه أو قاتلوه من نجد ومعروف ما كان بين القبائل في الجاهلية من عداوات وثارات وغارات وتفاخر وتكاثر، حفل بها الشعر العربي في وقت كانت فيه ولادة شاعر القبيلة مدعاة للفخر والتفوق، فقد كان الشاعر هو صوت القبيلة ومسجل تاريخها وأمجادها ومخلد انتصاراتها والمدافع عن هزائمها ومخالفاتها وتخلفها كما قال أحد الشعراء عن الحال التي عاشها:
لو كنت من مازن لم تستبح ابلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
وهي حالة مزرية، كئيبة ربما تسمى في رأي نقاد الشعر الجاهلي الذي في أغلبه شعر نستطيع أن نسميه اجتماعياً يتحدث عن القبلية ومفاخرها وتاريخها ليفاخره شاعر آخر ويتزايدان في التفاخر والتنافر، ولا يضير الشاعر أن يصرف بعض الوقت في وصف فرسه أو ناقته وصفاً دقيقاً أو يصف مرابعه وأرضها وسماءها ومواقعها لأن ذلك يمثل جزءاً هاماً من حياته، وهو شيء طبعيّ جداً لا يمكن أن يعتبره النقاد منقصة يوصم بها الشاعر بل العكس هي مفخرة تعبر أدق التعبير وتصف أجمل الوصف طبيعة الحياة التي يعيشها ويمارسها بصدق لا يدخله الزيف ولا الكذب ولا الإدعاء.
ومن النقاد من يجاهر بوصف الشعر العربي القديم جاهلياً أو أموياً أو عباسياً أو كما يريد أن يدعي فيصفه بأنه شعر مديح وأن القصيدة تأخذ من الغزل مأخذاً بعيداً ربما كان متكلفاً، وهذه حالة أكثر من يجاهر بها الشعراء الشعوبيون ويأتي في رأس هذه القائمة أبو نواس وبشار بن برد وأمثالهما من الذين يرجعون إلى أصول غير عربية، وهذه الحالة التي يقولونها ليس الغرض منها إلا إثبات الوجود بين هذه الكثرة الغامرة من شعراء العرب المجيدين.
ولا ننكر أن ابن الرومي وأبا نواس وبشار بن برد ومهيار الديلمي كانوا شعراء في الذروة ولكن بعضهم ظلموا أنفسهم وظلموا الشعر العربي بانتقاصه بسبب ما وصفوه به، ونحن نرد عليهم بأن الشعراء العرب لم ينتقصوا هؤلاء الشعراء، لم يبخسوهم شيئاً من الاعتراف بمكانتهم الشعرية بسبب أصولهم أو أساليبهم الشعرية التي ربما خرجوا فيها كثيراً عن المصدر الذي يصدر عنه الشعراء العرب من التفنن بالمكارم والأخلاق والكرم وحسن الضيافة والشجاعة.
ويكفي في ذلك أن نذكر أبا نواس وما تحمله شعره من انفلات من مزايا الأخلاق وإطلاق العنان لنفسه من التغني بالخمر ووصفها وحياة الاختلاط القميئي بالجواري والغلمان وسخريته من العرب وشعرهم وأطلالهم وتعبيره عن الشوق العارم الذي يصل حاضره بماضيه.
فمثلاً حين يقول امرؤ القيس في مطلع معلقته المعروفة:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسِقْطِ اللِّوى بينَ الدَّخولِ فَحَوْمَلِ
وحين يقول طرفة بن العبد:
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وحين يقول الشريف الرضي:
ولقد وقفتُ على ديارِهم
وطلوها بيد البلى نهب
وكثيراً من هذه المواقف المؤثرة، هنا يسخر أبو نواس فيرد بقصيدته التي مطلعها:
قل لمن يبكي على رسمٍ درس
واقفاً ما ضرّ لوْ كان جلس
ثم يبلغ من السخرية والانتقاص مبلغه في قصيدته التي يقول فيها:
راح الخلي على رسم يسائله
ورحت أسأل عن خمارة البلد
يبكي على طلل الماضين من أسدٍ
لا درّ درّك قل لي من بنو أسد
ومَنْ تميم ومَنْ قيس ولفهما
ليس الأعاريب عند الله من أحد
ونحن لا نلومه أن يفخر بأصله وقومه ولكنا نلومه على هذا الحقد الذي يحمله لقوم تعلم لغتهم وأنشد شعرهم وصاروا منه كما صار منهم ومع ذلك لا نذكر أن شاعراً عربياً واحداً رد عليه إما ترفعاً وإما استهانة وكيفما كان القول فعنصريته جنت عليه في حين أن أحداً لم يجن عليه أو ينتقصه.
ولذلك فإن مهيار الديلمي الشاعر العباسي الكبير لم يؤاخذه أحد حين قال هذه القصيدة التي نجتزئ منها هذه الأبيات:
أعجبتْ بي بين نادي قومها
ذات حسن فمضت تسأل بي
سرها ما علمت من خلقي
فأرادت علمها ما نسبي
لا تخالي نسباً يخفضني
أنا من يرضيك عند النسبِ
قومي استولوا على الدهر فتىً
ومشوا فوق رؤوس الحقبِ
وأبي كسرى على إيوانه
أين في الناس أب مثل أبي؟
قد ورثت الفخر عن خير أب
وورثت الدين عن خير نبي
فجمعت المجد من أطرافه
سؤدد الفرس ودين العرب
أقول لم ينكر أحد من الشعراء على مهيار الديلمي افتخاره بنسبه وقومه وماضيهم وحاضرهم لأنه لم يتعد على أحد ولم يلمز أحداً وهو وإن كان فارسياً فقد كان هواه عربياً وكان قريباً جداً من الشريف الرضي.
والشريف الرضي معروف مكانه نسباً وشعراً وعلماً وعفة نفس وسمو خلق وقد رثى مهيار الشريف الرضي بقصيدة تعتبر من عيون الشعر العربي، وكان كل الشعراء المولدين سواء كانوا من الفرس أو الروم أو الأحباش مثل الشاعر الأموي نصيب، لهم مكانتهم المعترف بها من قبل العرب.
إن العرب والمسلمين عامة لا يبخسون الناس حقوقهم ومكانتهم، فحسبنا أن نعلم أن بلالاً وعمار بن ياسر الفارسي وصهيب الرومي وإن كان عربياً ثم صار مولى بحكم الجاهلية، إن هؤلاء كانوا من صحابة رسول الله، بل كانوا من أفاضل الصحابة فيقول النبي صلى الله عليه وسلم (سلمان منا آل البيت) ويقول سيدنا عمر رضي الله عنه عن بلال (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا).
وفي عصر التابعين تولى القضاء والفتيا في العواصم الإسلامية علماء من الموالي فكانوا مكان تقدير العرب واحترامهم والتلمذة عليهم والأخذ عنهم.
ولا نريد أن نغفل دور الإمام الأعظم أبي حنيفة في الفقه والفتيا حتى قال فيه الإمام مالك (أنه لو أراد أن يقيم الدليل على أن سارية هذا المسجد من ذهب لاستطاع) ويقصد بذلك مسجد رسول الله الذي كان أبو حنيفة إذا حج رحل إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي وهناك كان يجتمع بالإمام مالك إمام المدينة فيتذاكران ويتناقشان في علوم القرآن وفي مقدمتها الفقه ويظلان على هذه الوتيرة حتى يسمعا آذان الفجر فينصرفا إلى الصلاة مع الناس ثم يرجع كل منهما إلى داره وقد استفاد فائدة قصوى، والغريب أن الإمام أبو حنيفة حج خمسين حجة وفي كل حجة كان يزور المسجد النبوي ويتواصل النقاش بينه وبين زميله الإمام مالك على مثل ما كان منهما في العام السابق وكانا من أفضل التابعين فلم يضق أحد منهم بقول زميله ولم ينفعل، لأن كل واحد منهما يريد أن ينشر الحق والدليل والرأي الأرجح، حتى قال الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو تتلمذ على الإمام مالك ولكنه لم يجحد مكانة أبي حنيفة وقال جملته المشهورة (الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة). هكذا كان الرجال وهكذا كان العلماء الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"ورثة الأنبياء". وهكذا يجب أن يكون الرجال والعلماء والأغنياء وأصحاب الحرف من جميع المسلمين أهل صدق ووفاء وأمانة وإخلاص.
لقد طال بنا الحديث وربما خرجنا من الموضوع بعض الشيء، ولكن السياق إذا استحكم في قضية ما لا يملك المتحدث أن يقطعه أو يبتره ليدعم به رأيه أو حجته في الموضوع.
ونعود للشعر من حيث تحدثنا أن بعض النقاد يضيقون بشعراء العربية الكبار من الإفراط في وصف أفراسهم وركائبهم فنكرر إن ذلك من أثر الصدق والوفاء والتقدير لمراكبهم ولو كانت من الحيوانات التي لا تعقل.
والحقيقة أنها تحس إحساساً عميقاً بالإخلاص لسيدها الذي يتعهدها بالغذاء الطيب والماء الزلال ويريحها ولا يكلفها أكثر من احتمالها.
وهذا الإحساس يكاد يكون متوفراً في كثير من الحيوانات التي يتعايش معها الإنسان ومنها القطط والكلاب والتيوس والإغنام في حين يكون مفقوداً في كثير من الناس الذين يحتاج الإنسان إلى التعامل معهم على مدى حياته المقدرة من عمره، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حين يرسل عماله لأخذ زكوات الإبل والغنم وغيرها يوصي المأمور أن يأخذ الزكاة المحددة من أموالهم وإبلهم وأغنامهم وأن يردها على فقرائهم ثم يضيف إلى ذلك أمره لعامل الزكاة بقوله (وإياك وكرائم أموالهم) يعني منع العامل أن يتعرض لخاصة مراكب أصحاب الأموال من الخيل والأنعام والأغنام العزيزة على أصحابها بل عليه أن يتجنب ذلك، ويستوفي الزكاة من عامة الأموال وليس من خاصتها.
ونعود إلى الموضوع مرة أخرى ورأي النقاد في المقدمات الغزلية من الشعر الذي يبدأ بها شعراء الجاهلية والإسلام بعضهم أو أكثرهم، فيستغربون ذلك ويعتبرونه من شعر الصنعة أو من سقط الكلام ونرد عليهم بما يأتي:
أمّا أن يكون الغزل صنعة فهذا لا يستقيم مع فهم الشعر المطبوع والموهوب، وهم الذين لو أرادوا صناعة الشعر فعلاً لما استطاعوا لأنهم أصحاب مواهب غريزية تجري في دمائهم، يستوي في ذلك منهم الجاهل والمتعلم وقد كان أكثر شعراء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام غير متعلمين ولكن لأنهم عرب أقحاح ويعبرون بصدق في قصائدهم ترى الشاعر صحيح العبارة رائع المعنى واسع الخيال لا تستعصي عليه القافية ولا يختل بين إصبعيه الميزان، وما رأينا أي شاعر منهم يفاخر أو يعارضه بسليقة طبيعية سليمة خالية من اللحن أو القصور في الأداء بل معجبة ومطربة في آن واحد.
إما أن يكون ذلك من سقط الكلام فهذا كلام مردود لأن النص الشعري بما يحتويه من معانٍ وخيالات ووصف ومديح أو هجاء أو غير ذلك يعتبر مقدرة، لذلك يقدرها العرب ويحتفلون بها ويعتبرونها أثراً من آثارهم وعلماً من علومهم التي يتسابقون إليها ويتفاضلون بها.
بقي أن نسأل لماذا كان العرب يبدأون قصائد المديح بالغزل؟ لأن الشعر العربي في جاهليته وأمويته وعباسيته وسائر أطواره لم يشذ عن هذه القاعدة.
الرأي عندي أن هؤلاء الشعراء أصحاب ذائقة شعرية فارعة وخيال باهر ومتناسق وفهم نفسي عميق لحالة الممدوح الذي ربما كان أميراً نافذ الكلمة أو شيخاً مرهوب الجانب أو زعيماً قوياً.
وكانت الحالة بين قبائل العرب وقادتهم وشيوخهم حالة اضطراب وتسابق على الكسب وتفكير في اتقاء بعضهم شر بعض لا يختلف ذلك في أي شأن من شؤونهم.
وكان الشيوخ والأمراء والزعماء دائماً في حالة تفكير وتدبير في العدو، وضرورة إعداد العدة لمغالبته والفوز عليه وكانوا لذلك يبذلون الكثير من دمائهم وأموالهم للمحافظة على سيادتهم.
وكان استدعاء الشعراء وإكرامهم حالة ضرورية لهم، لأن الشاعر أول صاحب قدرة على الدفاع عن قبيلته وممدوحه، ثم هو قوة أو عدة أو محام بشعره عن القبيلة وشيخها أو زعيمها.
وكان الشاعر يتقرب إلى الأمير بالمديح والآخر يستقربه بالعطاء.
وكان المديح في ذلك الوقت يحتاج إلى جسارة ومهارة وترويض لأفكار الممدوح وأعصابه المتوترة بالتفكير في الحوادث السابقة والحالية والقادمة.
في هذه الحالة يأتي دور الشاعر يبدأ مقدمة شعره بالغزل ليخفف من توجه ممدوحه الصارم أو أعصابه المتأثرة وتفكيره الشارد، أي ينقله من حالة لأخرى ويأخذ بتوجيه تفكيره في الحب والغزل والحب والجمال وما يضيفه على القصيدة من صفات مغرية وخيالات مجنحة فيهدءد من غلوائه ويسترعي انتباهه إلى ما يريحه ويسره ويفض عنه المشاكل والموانع التي تعاينها نفسه فيحيل نهاره سروراً وليله فرحاً وحبوراً وفي هذه الحالة النفسية الصافية يتخلص الشاعر من الغزل إلى المديح ومن المديح إلى طلبه أو غايته ليجد ممدوحه مسروراً متجاوباً لقضاء حاجته بل محتاجاً إلى استبقائه طمعاً في ودّه وقربه وضناً به على أعدائه لئلا يتحول منه إلى غيره.
طبعاً كل الأمم العربية والرومانية والفارسية وغيرها يعيشون هذا الاضطراب في الأحوال المدنية بشكل أو بآخر ولكنهم لا يملكون ما يملكه العرب من ذكاء ولماحية وحسن استخدام للعبارة أو القصيدة وترويض الأعصاب النافرة والأفكار الثائرة وحسن التخلص من الغزل إلى المديح إلى غيره من الحاجات والمطالب.
يضاف إلى ذلك أن الطبيعة العربية طبيعة إيجابية متكيفة مع واقع الحال والنفوس سرعان ما تتخلص من الغضب إلى الهدوء، ومن الهدوء إلى السرور، ومن السرور إلى الكرم أو الرضى أو العفو حسب مقتضيات الوقت وتنوع الحاجات.
وقد شرع الله تعالى أسلوب الخطاب والجدل بالتي هي أحسن فقال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم.
هناك نفر من الأدباء والكتّاب والنقاد الشعوبيين الذين أفرزتهم حالات الضعف في العصر العباسي، الذين شككوا في نسبة الشعر الجاهلي وكثير من الشعر العربي، وادعوا أنه من صنع الرواة الأدعياء من العصر العباسي مثل حماد الراوية وحماد عجرد وغيرهم من الذين اشتهروا بالزندقة أو الوضع لأنهم يرون أن العرب أمة أمية وأنه من غير المعقول انتقال قصائد مطولة كالمعلقات وغيرها في العصر الجاهلي وهي مطولات يستحيل حفظها وتسلسلها على ألسن الرواة عدة قرون دون تغير أو نقص أو زيادة.
وهذه أراء المستشرقين والذين جروا مجراهم مثل طه حسين وسلامة موسى وغيرهم الذين لا يعرفون السليقة العربية التي تستطيع حفظ الشعر وإلقاءه وروايته جيلاً عن جيل وقرن عن قرن.
ويكذبهم الواقع العربي فقد كان الشاعر العراقي الكبير عبد المحسن الكاظمي إذا حضر حفلاً مفاجئاً وقف يرتجل قصيدة في المناسبة لا تقل عن ثمانين بيتاً أو تزيد وكان يلاقى بالإعجاب والتقدير من السامعين.
ولدينا شعراء نبطيون أمثال خلف بن هذال العنزي وغيرهم كثيراً من الذين يلقون في الحفلات الرسمية قصائد مطولة غير مكتوبة ذات معاني جميلة فماذا عساهم يقولون غير ذلك؟ وكان قبلهم شعراء عظماء نبطيون أمثال الهزاني وابن سبيّل وبديوي الوقداني والشريف بركات لا يزال شعرهم يروى ويردد ويحفظ حتى الآن.
وشيء آخر وهو ما الذي يستفيده هؤلاء الذين يسمونهم بالوضاعين من نظم شعر من طراز المعلقات وهي من أعظم أساليب الشعر الجاهلي وهم لا يجنون من وراء ذلك مالاً ولا جاهاً لأن أصحاب المعلقات توفوا قبل ذلك بقرون.
ثم هم الوضاعون كانوا في العصر العباسي ولكل عصر من عصور الشعر العربي أسلوب ومعانٍ واستعمالات خاصة بذلك العصر، فالشعر الجاهلي يختلف عن شعر العصر الأموي والأخير يختلف عن العصر العباسي وهو (أي الشعر العباسي) يختلف عن شعر هذا العصر في استعمالات اللغة ومفرداتها، وتراكيبها، ومعانيها، وخيالاتها، ومناسباتها الإسلامية التابعة للإمبراطورية، حتى دروس النحو العربي كانت تدرس في البلاد العربية ومن ضمنها مكة المكرمة باللغة التركية كما كنا نسمع.
هذه القومية الطورانية دعت إلى تحدي القوميات الأخرى مثل الألبانية والأرمنية والعربية، فتألفت جمعيات شتى في سوريا ولبنان ومصر وغيرها مما دعا جمال باشا السفاح كما كان يسمى إلى ارتكاب مجزرة في دمشق وأخرى في بيروت بقتل كثير من دعاة القومية العربية الأمر الذي اضطر بعض رجال العرب في مصر وسوريا والعراق ولبنان الاستنجاد بملك الحجاز الشريف حسين بن علي، فجاء من مصر القائد المصري الشهير عزيز المصري والقائد القسيوني ومن العراق نوري السعيد وبعض رفاقه ومن سوريا كذلك وغيرهم كثير من أحرار البلاد العربية للاستنجاد به لإعلان الحرب ضد تركيا.
وقد كان الأمير فيصل بن الحسين في دمشق حين كان جمال باشا يبحث عنه لقتله لولا أن هرّبه آل الركابي ليلاً من دمشق منفرداً على ناقة استطاع الوصول بها إلى الأردن ثم التوجه إلى حيث مقر أبيه في مكة.
كل هذه العوامل وغيرها مما يطول شرحه شجعت الملك حسين بن علي على إعلان استقلال الحجاز والخروج على الدولة العثمانية التي خلعت قميص الإسلام وأطاحت بالخليفة وحاربت العرب في كل مكان وأعدمت كثيراً من وجوههم وأعيانهم ولم يطل الوقت قرر هذا الانقلاب المشؤوم الطوراني التحالف مع ألمانيا ضد الحلفاء مع أن الدولة العثمانية آنذاك كانت في أشد حالات الضعف والتفكك كانت بريطانيا وفرنسا تسيطران على أكثر أجزائها سيطرة مباشرة ابتداء من شمال إفريقيا إلى مصر إلى سوريا وفلسطين ولبنان والعراق، وكان البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج الفارسي يعج بأساطيل الحلفاء، وكانت هزيمة الأتراك مؤكدة لأن الأعداء يحيطون بالدولة من كل جانب.
وحلت الهزيمة بالفعل بألمانيا وتركيا ولكن هذا لم يكف أن أنتهى الأمر بالبلاد العربية والإسلامية إلى الاستسلام على يد قائد تركي اسمه مصطفى كمال فأدخل العلمانية وغير الحروف التركية التي كانت تكتب باللغة العربية إلى كتابتها. بالحروف اللاتينية وألغى الخلافة الإسلامية، وكانت كل هذه الإجراءات استجابة فورية لشروط الحلفاء الذين كانوا منزعجين لوحدة الخلافة الإسلامية التي استمرت أكثر من ألف وثلاثمائة وثلاثين عاماً تجمع تحت لوائها مختلف الشعوب العربية والفارسية والهندية والأوروبية الشرقية والغربية والأفريقية على ما كان يشوبها في بعض الأحيان من ضعف وتفرق وخلافات وتوحد وقوة مما لا يخلو منه زمان ولا مكان.
هذه الوحدة أو دعوة الوحدة التي تسلسلت منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فشملت البلاد العربية فيما ضمت في عهد خلفائه مملكتي فارس والروم وأفريقيا ثم شملت في عهد الأمويين الأندلس وكانت في طريقها إلى فرنسا لولا تفرق الأمراء ومعركة بلاط الشهداء.
ولكنها لم تنم ولم تستسلم فقد استطاعت أن توطد أركانها وتبرز بعلومها الدينية والفقهية والفلسفية والرياضية والفلكية والعلمية والجغرافية في عهد العباسيين.
ثم لما ضعفت الخلافة العباسية بفعل دوافع الزمن قامت على إثرها الخلافة العثمانية، وكانت سرعة فتوحاتها مبعث الدهشة حتى استطاعت في وقت غير طويل أن تحتل عاصمة الأرثوذكسية القسطنطينية ثم تعدوا إلى اليونان فبلغاريا ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ثم لم تقف إلا على أسوار النمسا في شمال غرب أوروبا حيث ارتفع صوت المؤذن في قارات العالم الثلاث المشهورة في ذلك الوقت وهي آسيا وافريقيا وأوروبا ولم يبق إلا أستراليا التي كانت خالية إلا من المبعدين والمنفيين من إنكلترا وغيرها.
أما أمريكا فلم تكتشف إلا مؤخراً.
في أثناء تخلخل أمر الدولة العثمانية وقبل ذلك بكثير أي بعد انتهاء عهد الدولة العباسية خَفَتَ صوت الشعر العربي كثيراً حيث لم نقرأ إلا لبعض شعراء التصوف مثل ابن الفارض والبوصيري وكان شعرهما في غاية الإبداع والمقدرة بصرف النظر عن بعض التعبيرات التي وجدت في بعض أشعار التصوف التي ينكرها بعض الناس ولا يرى بعضهم صحتها وهذا شيء معروف في الشعر من قديم الزمان.
وكان محمود سامي البارودي أول من شدا بالشعر العربي الأصيل فيما قبل مائة عام وكان عظيماً فخم العبارة ضخم المعاني إلا أنه كان ينحو منحى من قبله من كبار شعراء العربية أمثال أبي فراس الحمداني والمتنبي وهذا لا ينتقص من قدره.
ثم جاء بعده شوقي وكان أبرز شعراء العصر حى الآن من حيث متانة الأسلوب وجمال التعبير وتنوع المعاني والموضوعات، فقد كان شاهداً على عصره بحق بحيث لم يترك حادثاً ذا تأثير إنساني إلا سجله سواء كان هذا الأثر حروباً داخلية أم خارجية أم زلازل أم نكبات أم أفراح أم أغاني أم مراثي.
وعاصره كل من حافظ إبراهيم وخليل مطران وحسن الغاياتي من مصر، وفؤاد الخطيب والأخطل الصغير من لبنان، وبدوي الجبل من سوريا، والرصافي والزهاوي والنجفي والجواهري من العراق، هؤلاء كانوا يمثلون طليعة الركب وإن كان قد لحق بهم غيرهم.
أما في نجد فقد نبغ الشاعر الشهير ابن عثيمين وإبراهيم العريض في البحرين وخالد الفرج في الإحساء على ما أذكر.
وفي هذا العصر ظهر في الحجاز شعراء منهم في المدينة المنورة السيد عبيد مدني وعبد القدوس الأنصاري وآخرون قد أعرفهم ولكني لا أذكر أسماءهم وظهر في مكة شاعر مكي اسمه عبد المحسن الصحاف ثم التحق بالشريف حسين الشاعر اللبناني الكبير فؤاد الخطيب الذي نال ثقة الحسين وكان شاعراً فخماً ضخماً في شعره ومعانيه ومراميه.
وفي هذا الجو نشأ بجدة شعراء كبار يتقدمهم محمد حسن عواد وأحمد قنديل وحمزة شحاته ومحمود عارف. وزاملهم في مكة أحمد إبراهيم الغزاوي، ومحمد سرور الصبان، وعبد الوهاب آشي، وعمر عرب، ومحمد سعيد العامودي وآخرون.
وكان الغزاوي معروفاً ومشهوراً قبل العهد السعودي وكان من الشعراء المعروفين ولا أقول المقدمين، ولكن الذي أستغربه أني لم أجد اسم الغزاوي في قائمة كتاب أدباء الحجاز الذي أصدره محمد سرور الصبان ربما في عام 1345 ثم كتاب المعرض الذي جمعه وأصدره كذلك الصبان بينما جمع في هذين الكتابين أدباء وشعراء من مكة وجدة لم يكن الغزاوي أقل من أحدهم مكانة أو شعراً بينما كان الغزاوي في ذلك الزمان أرجحهم أدباً وشعراً، ولم يتسن لي أن أسال الغزاوي أو محمد سرور الصبان ومحمد حسن فقي، وحسين سرحان، وحسين عبد الله سراج عن سبب ذلك على أني كنت كثير الاتصال بهم والاستماع إلى الغزاوي وقراءة شعره حيث كنت طفلاً أجري وراء باعة الجرائد، كنت أشتري جريدة أم القرى التي كانت تباع بقرش واحد وتصدر في الأسبوع مرة واحدة يوم الجمعة وكان كل همي من الجريدة أن أقرأ قصيدة شعرية للغزاوي أو لابن عثيمين أو لمحمود شوقي الأبربي أو لخالد الفرج وكلها قصائد تشيد بشخصية الملك عبد العزيز رحمه الله وانتصاراته في أقطار الجزيرة التي وحّدها بعد أن كانت مقسمة إلى أكثر من خمس أو ست حكومات من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب.
صلتي بالشاعر أحمد إبراهيم الغزاوي صلة مصاهرة وقرابة بين عائلته وبعض عائلتنا، ولكن علاقته الشخصية بأحد أعيان هذه الأسرة وهو صهره عبد الله محمد عرب كانت علاقة صداقة تربو على القرابة، حتى أنهما لا يفترقان عن بعضهما إلا في وقتي العمل والنوم سواء في مكة أو في الطائف.
ومن هذا الطريق كان الغزاوي دائم الاتصال والتواصل بين أفراد جميع الأسرة كبارها وصغارها، وقد كانت علاقتي به في صغري علاقة أحد صغار الأسرة بأحد كبار معارفها أو علاقة التلميذ الصغير الذي يتطلع إلى الشاعر الكبير والأديب الشهير للاستفادة من حديثه وشواهده ومشاهده، وقد كان رحمة الله عليه متحدثاً لبقاً متوسعاً في العلم والمعرفة يُسَرُّ السامع إلى حديثه متنقلاً بين الشعر والنثر والأنساب والتاريخ والأدب العربي، والنوادر مع الأشخاص الذين لهم شأن وعرفوه وعرفهم، فكان إذا تحدث أنصت له الجميع ولم يكن يضارعه في ذلك الوقت إلا أمثاله من الأعيان المثقفين وأعضاء مجلس الشورى وغيرهم ولم يكونوا كثيرين آنذاك.
* * *
وحين وحّد الملك عبد العزيز المملكة كان شاعره الأثير أو المقدم هو الغزاوي يستقبله بقصيدة رائعة ويودعه بقصيدة أروع منها، ولا تخلو مناسبات الأعياد والحج والوفود والحوادث والاختلافات والانتصارات وجميع الحفلات إطلاقاً من شعر الغزاوي وشعره الأثير وصوته الجهير وأدائه المتميز، الذي رآه وسمعه الناظر لا يظنه يقرأ شعراً قراءة عادية كما يقرأ الآخرون إنما يجده كأنما هو يتحدث إلى الممدوح حديثاً مجزأ مفصلاً، وكأنما يشرح موضوع الشعر وموضوع المناسبة بأسلوب واضح ناجح يستولي على الألباب ويستثير الإعجاب.
ولا أعتقد أن الغزاوي استعار هذا الأسلوب من شاعر قبله أو غيره بل إنه أسلوب خاص به يعبر عن شخصيته وعن طريقته في الحديث والإقناع، وتقدير الملك عبد العزيز وأنجاله ورجاله والجمهور المستمع بحيث يستطيع كل مستمع أن يفهم وأن يقدر ما يقال حق التقدير وأن لا يفوته معنى أو وصف ولا صفة.
لقد وهبه الله هذه الهبة وكان ذكياً فاستغلها أحسن استغلال، واستعملها أفضل استعمال من غير تصنع ولا تلكؤ يمله السامع ويضيق به غيره. استحق بهذا الأداء وهذا الأسلوب وهذه المواقف المشرفة أن يلقب بشاعر الحجاز وشاع هذا اللقب وذاع حتى أصبح محل القبول من الجميع.
ثم بلغ من تقدير جلالة الملك عبد العزيز له أن رفعه إلى وظيفة عضو مجلس الشورى الذي كان يجمع الأعيان من العلماء والفقهاء وأصحاب الشأن وكان الغزاوي أهلاً لذلك.
ثم ألقى عليه الملك عبد العزيز لقب "حسان صاحب الجلالة" وهي صفة استحقها بجدارة وظل مخلصاً وشاعراً وناطقاً بإنجازات الملك عبد العزيز إلى أن توفاه الله جزاه الله بالرحمة والرضوان، وواصل الغزاوي واجبه الوطني بعد الملك عبد العزيز مع أنجاله من بعده سعود وفيصل وخالد إلى أن أدركته المنية وكان محمود السيرة نقي السريرة تغمده الله برحمته.
لقد تحدثنا عن الشاعر ولم نتحدث عن الشعر ولا بد من ذلك بقدر الإمكان.
لقد كان شعره عاماً عن الملك وأنجاله ومنجزاته التي لا ينكرها أحد وقد أوفى في ذلك على الغاية، وهذا شعر مشهور منشور لكنه لم يُطبع ولم يُجمع، وله شعر ذاتي خاص مثل أي شاعر متعلق بالجماليات والإخوانيات والمعارضات والمناسبات الخاصة، وهذا شعر جميل معروف بعض منه عند الخاصة، لا يخلو منه هذا الديوان، وإن كان ليس كثيراً وذلك فهو ليس كل شعره لأنه كان من عادته أن لا يحتفظ بمسودات هذا الشعر وقد ظلم نفسه ولظلمنا بإهمال هذا الجانب المشوِّق من شعره على ما فيه من وصف وجمال وعاطفة وخيال ومعانٍ رائعة فائقة ليس فيها ما يعيبه أو يؤذيه أو يُعتذر منه.
فهو كما عرفناه شاعراً أو متحدثاً لا يعيب ولا يعاب، ولا ينم ولا يغتاب، إنما كان في الأدب والكمال في حديثه ومزاحه وأوصافه الجمالية في الحب والغرام والصداقة والأخوانيات والمفاكهات، وقد أذكر من ذلك مقطوعة جمالية حيث كنا في وادي ليه بالطائف في الصيف، وكان يجلس في النافذة مع أصدقائه، ولفتت نظره فتاة قروية جميلة فأخذ الورقة والقلم وكتب على الفور (بعض هذه الأبيات تم نشرها في صوت الحجاز) ومنها:
بأبي من رأيتها فاسترابت
نظرتي نحوها فقالت علامك؟
قلت صب أصيب بالعين قالت
روَّع الله من على الحب لامك
أنتَ من لية بدارةِ عوفٍ
حيث فرط العفاف يذكي غرامك
فتجنب مزالق القول واحذر
فتنة النفس واستذم آثامك
هذا شعر عجيب حبيب فيه شوق وعفة وإعجاب ووصف وبراءة وكل شعره الخاص والغزلي والأخواني ومساجلاته التي لعلَّني لم أجد شيئاً من ذلك في هذا الديوان أو فات علي أن أجده أقول كل شعره ينطبق عليه هذا الوصف ولا أدري لماذا تحرج في جمع هذا الشعر مع أنه يشكل ثروة جميلة تضاف إلى مجموعاته فتزيدها ألقاً وتميزاً.
وقد قسم الشاعر أو الناشر على الأرجح هذه المجموعة على أربعة أبواب هي الإسلاميات، والمدائح، والمناسبات، والوطنيات والقارئ لهذا التقسيم الاتفاقي يجد القصيدة حاوية لكل ذلك بحيث يصعب تخصيصها في باب واحد.
ولكنه لا ينفرد بهذا التقسيم والتداخل فجميع أو أكثر الشعر العربي لا تخلو قصائده من التداخل فعنترة العبسي يقول في معلقته المشهورة الذي يعتز فيها بقبيلته وشجاعته وما صنعه بالأعداء، يذكر في هذا الظرف العصيب محبوبته وابنة عمه عبلة فيقول:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
وغيره من قال ذلك أو أكثر من ذلك فالترابط اللغوي والمعنوي في الشعر لا يتعارض مع مثل هذه المداخلات وإن كان لها مغزى خاصاً فهو الخروج بالسامع من المعاني السردية في موضوع واحد لئلا يمل ثم الرجوع إلى الموضوع.
ولقد كان الغزاوي شديد الالتصاق ببيئته والتحدث عنها وعن تاريخها ورواية طرائفها في كل أحاديثه، ويظهر ذلك جلياً في كتاباته النثرية التي كان ينشرها الأستاذ العلامة الأديب والشاعر والمؤرخ مؤسس مجلة المنهل الشيخ عبد القدوس الأنصاري رحمة الله عليه، وكان ينشرها تباعاً، وتجمع ما لذ وطاب وما يحلو للأسماع ويخلب الألباب من العادات والتقاليد والمسميات ومعانيها ومناسباتها، وما لا يمكن حصره وكانت تنشر تحت عنوان (شذرات الذهب) وظلت على ذلك عدة سنوات إلى أنْ توفي صاحب المنهل وصاحب الشذرات، وقد أحسن الأستاذ نبيه عبد القدوس الأنصاري الذي ورث إصدار المجلة بعد والده حينما جمعها في مجلد فخيم ضخم وفيها من المتعة والإيناس واللذة والغرابة ما لا يستغنى عنه أديب أو شاعر أو طالب علم ولاقت هذه الشذرات القبول والاستحسان بين مختلف فئات المجتمع ابتداء من عامة الناس ثم متعلميهم ومثقفيهم ثم علمائهم وفقهائهم ومؤرخيهم ثم ملوكهم وأمرائهم فجزاه الله عنها أفضل الجزاء.
أما الشعراء الأدباء والمؤرخون فالغزاوي منهم في القمة التي لا يختص بها وحده بل يشاركه عدد معروف من معاصريه قد يطول ذكرهم.
ولكن الموضوع الذي نبحثه هو خاص بالغزاوي الشاعر الذي إذا قرأت ديوانه عجبت من جزالة أسلوبه ووضوح معانية تلك الجزالة وذلك الوضوح الذي لا تختلف فيه قصيدة عن أخرى إلا في الموضوع فقط.
فليس في شعره تعمية ولا تعقيد ولا محسنات بديعة مصطنعة إلا ما يحتاجه المقام من تجميل العبارة وسكبها فقط.
ثم هو بين الشعراء والقرّاء لا يجاري ولا يماري ولا يجادل لكنه يعبر عن رأيه بوضوح ويترك الاختلاف والجدل لغيره ولا يستكبر ولا يدعي الكمال، حتى أن بعض من يلمزونه أو يغمزونه من النقاد لا يجيبهم ولا يلتفت إليهم، وإن كان يساجل بعض الشعراء في الداخل والخارج ويحتفي بهم ويعترف بمقدرتهم وامتيازهم ويقارن بين بعضهم وغيرهم.
ولكنه يكتفي في هذه الحال بالحديث وإبداء الرأي ويترك لغيره حق النقد والجدل والمراء الذي يصل ببعضهم إلى مستوى غير لائق من تبادل التهم والتعريض الواضح الذي يؤدي إلى الخصومة مما يخرج عن دائرة الجدل والنقد والأمانة.
أما ثقافته فقد كان من كبار المثقفين المحيطين بجلائل العلوم والأدب ووقائعها والدليل على ذلك أنه يملك مكتبة كبيرة تجمع أمهات الكتب في علوم القرآن والعربية والشعر والأدب والتاريخ القديم منها والحديث وكان دائم المطالعة والمراجعة والترجيح حتى أنك لو سألت عن أي كتاب صدر حديثاً ونشر عنه في الصحف ولم يصل إلى متناول الأيدي، تجد الغزاوي يملك منه نسخة حديثة ربما انتهى من قراءاتها قبل أن يحصل عليها غيره ويقرؤها.
وظل منذ قبل العشرات الأخيرة في حياته نائباً لرئيس مجلس الشورى الذي كان رئيسه صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز (جلالة الملك فيما بعد).
وظل الغزاوي يواصل عمله الرسمي حتى لبى نداء ربه وكان لا يؤخره شيء عن العمل والمطالعة والمشاركات الشعرية والأدبية، كل ذلك بنشاط وهمة لا تعرف الكلل رغم تقدمه في السن وتعدد مسؤولياته.
وإذا كان بعض النقاد قسموا الشعراء إلى نوعين فسمى بعضهم شعراء النبوغ وبعضهم شعراء العبقرية وجعلوا الفرق بين النوعين أن النابغين يرتقون إلى مستوى لا يصل إليه أحد في بعض الحالات وينحدرون إلى حيث لا يستحسن شعرهم في حالات أخرى.
وجعلوا من هذا النوع المتنبي وأبا تمام وشوقي وبشار مثلاً، وجعلوا العباقرة، الذين يجري شعرهم على مستوى واحد من الجودة والقوة بحيث يرتفع إلى مرتبة الاستحسان ولا ينخفض إلى غيرها.
وجعلوا من الفريق الآخر أمثال الشريف الرضي والبحتري والمعري وحافظ إبراهيم ومطران والجواهري وبدوي الجبل وأمثالهم.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه يمكننا أن ندرج اسم الغزاوي في درجة العباقرة فإنك لو قرأت شعره سوف تجد أنه لا يختلف عن أحد من الفريق الأخير وإن كنت لا أرى هذا التقسيم صحيحاً فالله الذي أعطى الناس مواهبهم الشعرية ومقاديرهم في الرزق والحياة ولم يجعلهم متساوين في شيء من هذه المواهب وهذه المقادير، ولكن جعلهم يترددون بين مختلف حالات الحياة.
فكل شخص قد يرتفع إلى المستوى وقد يكون في المستوى الأوسط وقد يهبط إلى المستوى الأدنى في كل شيء، ككل مخلوق قابل للارتفاع والهبوط أو ما بينهما في حدود ما قدر الله لكل واحد من خلقه منذ بدء حياته إلى حين انتهاء أجله من غير تفريق بين المثقفين والتجار وخاصة الناس وعامتهم ولا عصمة لأحد من خلق الله إلا الأنبياء الذين اختصهم الله برسالته لهداية الناس وإرشادهم عليهم الصلاة والسلام.
وبعد فقد لا أدري هل أطلت في هذه المقدمة أم قصرت وهل وفقت أم لم أوفق ولكن عذري أنني بذلت جهدي واستطاعتي.
وبرغم أن المديح لدى الشعراء ينحصر في حب الممدوح بصفات الجمال والكمال والشجاعة والكرم فإن البعض يستطيع توليد المعاني التي تعبر عن المدح ويلبسها معنى آخر من أبكار المعاني فإذا كان المتنبي يعبر عن شجاعة سيف الدولة بقوله:
وقفتَ وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ
كأنكَ في جَفْنِ الردى وهو نائمُ
تمرُّ بك الأبطالُ كَلْمَى هزيـ
ـمةً ووجهُك وضَّاحٌ وثغرُكَ باسمُ
فهذه من المعاني البكر التي يتنافس الشعر في مولدها.
وكذلك قول الشريف الرضي مخاطباً محبوبته:
يا ظبيةَ البانِ ترعى في خمائلِه
ليهنكَ اليوم إن القلبَ مرعاك
الماءُ عندك مبذولٌ لشاربهِ
وليس يروِكَ إلا مدمعي الباكي
ألم تر هذا المعنى كيف تصرف الشاعر فيه ليعبر عن حبه وغرامه؟
وفي مثل هذا يقول الغزاوي في قصيدة طويلة استقبل بها الملك عبد العزيز إثر عودته من مصر في زيارة قام بها إجابة لدعوة تلقاها من الملك فاروق ملك مصر رحم الله الجميع.
فقد ألقى القصيدة في حفل الاستقبال الذي أقيم في جدة وكان الحفل يضم رجال البعثة المصرية المرافقة للملك عبد العزيز وفيهم من أدباء مصر والعرب وعظمائهم من هم في مكان التقدير من الجميع إلى جانب السفراء العرب والأجانب وعلية القوم من الوزراء والأمراء والكبار قدراً وعلماً ومعرفة.
ألقى الغزاوي قصيدة عينية في الاستقبال ضمنها هذا البيت الذي نكتفي بذكره من كامل القصيدة، وهذا البيت يقول الشاعر في صدره هذا الشطر:
وأخشى الذي نخشاه من مصر أنها
ثم كرر هذا الشطر مرتين أو أكثر حيث استرعى انتباه الجميع لما يتضمنه الشطر الآخر من البيت خشية أن يكون معناه مما يجب أن لا يقال في مثل هذا المقام فإذا به يعيد البيت كاملاً:
وأخشى الذي نخشاه من مصر
أنها تشاركنا فيك الهوى فنضيع
كان هذا من أبكار المعاني الذي قوبل من الجميع بالتصفيق وطلب الإعادة.
وكذلك شعره يفيض من جمال المطالع والمقاطع فحينما ذهب في وفد من علية القوم إلى الرياض لمبايعة الأمير سعود بن عبد العزيز بولاية العهد.
ألقى قصيدة رائعة قال فيها:
أجل هذه نجد فهل شاقك الرند
وهبَّت صباها فاستبد بك الوجد
بلاد أباة الضيم هذي رياضها
وهذا ولي العهد يسمو له الوفد
فقد جمع في هذين البيتين نجد والرياض وسمو ولي العهد ووفد المبايعة، والقصيدة طويلة ولو أردنا تعقب شعر الغزاوي لطال بنا المقال.
ولكن من أدب التقديم وواجباته أن نترك للقارئ الكريم مجالاً لقراءة الديوان وأبوابه وقصائده ومعانيه قراءة فاحصة متأنية لإعطائه حرية القراءة والإعجاب ثم التفكير والنقد أيضاً إذا وجد ما يستدعي ذلك ولأن هذه مقدمة وليست دراسة فلا ينبغي أن تُتبع كل صغيرة وكبيرة في العمل المقدم لأن هذا شأن الدارسين.
وقد سبق أن علمت أن الدكتور مسعد عيد العطوي قد حصل على شهادة الدكتوراه في شعر الغزاوي، ولم أطلع على رسالته، وإن كنت متأكداً أنه استحق التقدير على عمله الجليل فله مني التحية على هذا العمل الجليل.
أما أنا فأعتذر عن جهدي المتواضع الذي لا أستطيع الإدعاء أني بلغت فيه مبلغ الرضى لبعض القارئين والناقدين.
وقد طالت المقدمة بعض الشيء لأنها مقدمة لشعر شاعر أثير والحديث عن الشاعر تفصح عن الشعر وأصوله والظروف القبلية والسياسية المختلفة التي مر بها، وما لحق بهذا الشعر من قوة في بعضها وضعف في بعضها الآخر، مما تقتضيه المقدمات المؤدية إلى رؤية الشاعر ومدى تأثيره وإطلاعه على هذه الظروف التي يتعلق بها تاريخه الشعري والأدبي وحسبي أنه (فوق كل ذي علم عليم).
حسين علي عرب
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2460  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 1070
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج