شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مقدمة
الصحبة والأخوّة والصداقة عناصر أساسية في حياة المجتمع العربي، لها مقوّماتها ومسبباتها، وعلى رأسها الحاجة إلى دعم الأصدقاء ومساندتهم في درء مصاعب الحياة الشرق أوسطية ومواجهة الأعداء. ومنها أيضاً الوله في أدب اللغة وما ينطوي عليه ذلك من حلو الكلام وبليغ الحكمة ورواية الشعر والقريض وسرد الطرائف والمُلح . كيف لا ونحن نجد رجالنا يتركون بيوتهم ونساءهم وعيالهم، وحتى أعمالهم وأرزاقهم من أجل ساعات هنيّة يقضونها بين أصدقائهم لتجاذب أطراف الحديث، مما يمكن اعتباره صفة ربما تفرّد بها العرب.
نتج من هذا التأكيد على عرى الصداقة تراث غنيّ له أشعاره وحكاياته وحكمياته ووقائعه. ومما لا بدّ أن نلاحظه في هذا الصدد كيف أن القرآن الكريم ميّز بين الجنّة والنار فوصف نعيم الجنة وما أعد فيها لأوليائه من الكرامة إذ جعلهم إخواناً على سررٍ متقابلين... في حين ذكر أهل جهنم وما يلقون فيها من عذاب؛ إذ يقولون: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم.
ومن أبرز وقائع التاريخ الإسلامي ظاهرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقال مثل ذلك عن المسيح عليه السلام وحوارييه. وقد استفاض أولياء الإسلام وحكمائه في الإشادة بالصداقة وفضلها ومكارمها. ذكروا أن الخليفة المأمون تحدّث للحسن بن سهل، فقال: "نظرت في اللّذات فوجدتها كلها مملولة سوى سبعة"، قال: وما السبعة يا أمير المؤمنين؟ قال: " خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد، والثوب الناعم، والرائحة الطيّبة، والفراش الوطيء، والنظر إلى الحسن من كل شيء". قال: فأين أنت يا أمير المؤمنين من محادثة الرجال؟ قال : "صدقت، وهي أولاهنّ ".
ومن حكميّات العرب ما قاله زياد: "خير ما اكتسب المرء الإخوان، فإنهم معونة على حوادث الزمان، ونوائب الحدثان، وعون في السرّاء والضرّاء". وعلى غرار ما قاله الحكماء جرى الشعراء مجرى ذلك، فقالوا الكثير في الحثّ على الصداقة والإشادة بمناقبها، ومنهم من قال:
وكنت إذا الصديق أراد غيظي
وشرّقني على ظمأ بريقي
غفرت ذنوبه وكظمت غيظي
مخافة أن أعيش بلا صديق
وهو ما جاء على غرار البيت الشهير:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
ولما كان الشعر ديوان العرب، فقد أصبح من المتوقّع والمفروض فيه أن يكون للشعراء باع كبير في هذا الإطار من الحياة الإجتماعية، فانعقدت لهم مجالسهم في المضائف والمقاهي والنوادي والحانات والأسواق حيث راحوا يتطارحون الشعر ويتبادلون الأفكار والأقوال، يتحاببون آناً ويتخاصمون آناً آخر. أذكر من ذلك في بغداد مقهى الزهاوي (سمي كذلك تخليداً لجليسها الشهير محمد صدقي الزهاوي)، وقهوة حسن عجمي وكازينو البرازيلية. بوحي هذه اللّقاءات والصداقات، تطايرت فيما بينهم شوارد الأبيات والقصائد، قيلت ارتجالاً أو حملها البريد أو السلك أو الأثير، فذاع منها ما اشتهر وضاع منها ما اندثر، وكلّها بنات الساعة ووليدة الظروف الآنية، غلب على أكثرها ما يغلب على علاقات الصداقة من حبّ وامتنان وشكر وظرف ومداعبة ومعاتبة وملاطفة.
هذا النوع من الشعر الذي أصبح معروفاً بين الأدباء بالشعر الإخواني له مميّزاته الخاصة. قيل أكثر عفوياً وشخصياً وآنياً مما ينحو غالباً نحو المهامسة بين شخصين، لا يقصد منه النشر أو التدوين أو التخليد. وفي الإطار جاء أكثره حراً إلى درجة كبيرة جداً من قيود الشكليات والمتطلبات اللغوية والفنية والاجتماعية، اختلطت فيه العامية بالفصحى، والبذاءة بالبراءة، والركاكة بالجزالة، والمكسور بالموزون، والزاحف بالسليم.
وربما كان سبباً في ضياع الكثير من الشعر الإخواني، وتجاهل المؤرّخين والأدباء والنقّاد لمأثوراته وشوارده، علماً بأن بعضه لا يصلح للنشر كلياً بسبب إفراطه في البذاءة والسوقية وحوشية الكلام. ولهذا فلم تظهر بيننا مجموعات كثيرة للشعر الإخواني، ربما باستثناء العمل القيّم الذي أغنانا به الدكتور محمد عثمان الملاّ في كتابه "الإخوانيات في الشعر العباسي"، وهو كما يدلّ عليه الإسم مجموعة من الشعر الكلاسيكي. وأنا مدين له بالكثير في هذا الموضوع.
لقد خطر لي وأنا أكتب عمودي اليومي في جريدة "الشرق الأوسط"، بعنوان " صباح الخير"، ومن بعده بعنوان "أبيض وأسود"، أن الإخوانيات بما تمتاز به من ظرف وسخرية، أصلح ما تكون لهذين العمودين اللذين ارتبطا في ذهن القرّاء بالفكاهة والظرف والسخرية. هكذا ولدت زاوية "الشعراء في إخوانياتهم"، التي ما زلت أواصل كتابتها في الجريدة المذكورة.
نشرت مفردات عمود "الشعراء في إخوانياتهم" بصورة عفوية وغير مصنّفة أو مبوّبة، كما يحدث اعتيادياً لأي عمود صحافي يومي. كان الغرض الرئيسي منها إمتاع قرّاء الجريدة بشي من الأدب الخفيف
والظريف صباح كل يوم، لا أكثر ولا أقل. وبعد أن تفضّل عليّ وعلى القراء العرب عموماً، سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه بنشر هذه المجموعة من تلك السلسلة، فقد شعرت بأن من الأفضل المحافظة على الغرض الأصلي، وهو الإمتاع والمؤانسة، فاحتفظت بتلك العفوية، وتحاشيت التصنيف والتبويب العلمي أو النقدي وإدراج كل شي في فصليته زمنياً أو تاريخياً أو موضوعياً، مما يرتبط اعتيادياً بالمنهج العلمي الذي قد يجهض على الخفّة المطلوبة من المطالعة الاستمتاعية. أرجو ألاّ أكون قد أخطأت الرأي، وما أكثر ما نخطىء.
وأخيراً لا بدّ لي أن أعترف ثانية بالفضل الجليل الذي أسداه ويسديه سعادة الشيخ عبد المقصود خوجة، لا في نشر هذه المجموعة فقط، بل وفي مساعدة الكثيرين من الشعراء والأدباء على نشر أعمالهم التي ربما لا تجد لها منفذاً بين أسواق النشر التجاري كهذا العمل الذي أضعه بيد القارىء وكلّي أمل في أن يعطيه شيئاً من المتعة التي وجدتها في كتابته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1135  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 76
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج