شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سفَــــانة والرّيــــــح
سفّانة طفلة، وهي حفيدة الشاعر. كانت ترتعش خوفاً من منظر الثلج وصوت الريح في صباح من صباحات يبرود الشتائية الباردة. وهي على ذارعيَّ – 1995.
منْ أَيْقظَ الريحَ قبلَ الصُّبحِ فانتفضَتْ
تَدُقُّ بابـي؟ كأني إِلْفُ مَسْراهـا
وبَكَّرَتْ تَلطُمُ الشُّبّاكَ في نَزَقٍ
فهل مُدانٌ أنا؟
والدَّيْنُ أَغْراها؟
أم تعرفُ الريحُ أني حاضِنٌ حُلمـاً
وفجْرُ طَلَّتـهِ النَّدْيـانُ آذاهـا؟
فَشرَّدتْهُ
ولم أَمْلُكْ سوى حُلُمٍ
منَ الْحياةِ، وقد كُلِّفْتُ لُقْياها
وباغَتَتْني بمَجـروحِ الْعَويـلِ، ولي
مـع العويل حَكايـا لستُ أَنْساها
أَهكذا؟ وأنا الْمَزْروعُ في لُغَتي
أَنْفاسَ نارٍ
تُؤاخيني حُمَيَّاها
أَتَيْتِ صَوْبَ سَجـينٍ في رَهافَتـهِ
مُكَبَّلٍ بِرُؤىً
والصَّحْوُ رَوّاها
تُحَرِّكينَ ذُهـولَ الصَّمتِ خالِعَـةً
مَوْجاتِهِ بغتَةً مـن دِفْءِ مَجْراهـا
جرَّحْتِ صَمْتي، وقد خَبَّأْتُ أَسئِلَتي
مِنْ بعدِ ما خابَ رُغْمَ الشَّيْبِ مَسْعاها
وفـاضَ عَنِّي لساني فاختبأْتُ بِـهِ
كي لا تَراني حُروفٌ كنتُ إِيّاهـا
أقلقْتِ سَفَّانَةً يا ريحُ فانْفَلتَتْ
مِنْ وافدِ الرُّعْبِ عَنْ خَدَّيَّ كَفّاها
وأَنْشبَتْ ظُفْرَها في لَحْمِ حَنْجَرَتي
وحَمْلَقَتْ في ارْتعاشِ الْبابِ عَيْناها
وطَوَّقتْني
ولم تنطُقْ، بلِ انْكَمشَتْ
كالْمُسْتَغيثِ وصَمْتي كانَ يَرْعاها
وخَبَّأَتْ جسْمَها الْمَقْرورَ في نَفَسي
وأودعَتْ في وَجيبِ الْقَلْبِ نَجْواها
أَنْسَيْتِ سَفَّانَةً
كيفَ الْقَصيدُ انْحَنَى
يَصوغُ تأتأةً سالَتْ فَغَنّاها
بِحِبْرِ دمْعَتِها
تَجْلو ابتسامَتُها
مِنَ الْقصائدِ رُغْمَ الصَّمْتِ فُصْحاها.
يا ريحُ كيفَ تُخيفينَ الصِّغارَ،
وفي لَثْغاتِهم
من جِنانِ الطُّهْرِ أَزْكاها
كُفِّي إذَنْ مِنْ وِفاداتِ الأَذى وَدَعي
سَفَّانَةً في حُروفِ الشِّعْـرِ أَنْداهـا
لِتُتْقِنَ الشَّدْوَ في أَغْدائِهـا فَرَحـاً
وفي الدَّفاتـرِ تَتْلو اِسْـمَ مَوْلاهـا
مَهْلاً على سَمْعِها الْمَنْسوجِ مِن وَهَنٍ
ولُطْفِ مَلْمَسِ يُسْراهـا ويُمْناهـا
* * *
والثَّلْجُ ينقُرُ شُبّاكي مُعابِثَةً
أَظْفارُهُ البيضُ
ذِكْرى خَبَّأَتْ فاها
وهادَنَتْني زَماناً لا تُحَدِّثُني
إلاَّ لِماماً
إذا غادَرْتُ مَثْواها
فأَيْقَظَتْها بَنـانُ الثَّلْـجِ مِنْ فَـزَعٍ
لتَنْثُرَ الْحُزْنَ في حضْـنٍ تَحَاشاهـا
حتى الْكَنارانِ
دارا حَوْلَ فَرْخِهِما
اَلأُمُّ مَذْعورَةٌ
والزَّوْجُ واساها
كأَنَّهُ نَسِيَ التَّغْريـدَ مِـن هَلَـعٍ
فبادَلَتْهُ ظُنوناً، ما تَمَنّاها
والْفَرْخُ يَرْجفُ كَالْمَبْهوتِ بَيْنَهُما
كَمِثْلِ سَفَّانَةٍ مِمَّا تَوَلاّها
تَغَيَّرَتْ في مُقامي كُلُّ آلِفَةٍ
وازَّعْزَعَ الصَّمْتُ
هل في الصَّمْتِ مَرْعاها؟
فَوَرْدَةُ الـدارِ خافَتْ مِنْ زِيارَتهـا
فَخَبَّأَ الثلجُ طيباً في ثَناياها
والْياسَمينَةُ تَعْـوي دونَمـا عَبَـقٍ
مِنْ لَسْعَةِ الْبَرْدِ، والتَّجريحُ غَطّاها
حَرَّكْتِ كُلَّ طُيورِ الثَّلـجِ فانْتَثَرَتْ
تَـرُشُّ حَوْلِـيَ أَنَّـاتٍ وَتَنْساهـا
* * *
هل تَحْسِبُ الريحُ أني نائِمٌ رَغَـداً
ومَضْجَعي هانِـئٌ حتى تَصَبَّاهـا؟
فأرعَبَتْ حُلْوَتـي سَفَّانَـةً لتـرى
في أَوَّلِ العُمْرِ مـا تُهْديهِ دُنْياهـا
فَلَيْتَها الرِّيحُ تَدْري مـا أُكابِـدُهُ
لِيَتَّقي مَضْجَعـي الْجافي جَناحاهـا
يا ريحُ كُفِّي
فإني مُتْخَمٌ شَجَناً
وجَذْوَةُ الصَّحْـوِ في رُؤْيايَ مَرْقاها
تَهْمي فأَنظمُ أَوْجاعـي وأَبْلَعُهـا
وما تَراءى فَفَيْضٌ مِـنْ حَكاياهـا
وكُلَّما زارَني طَيْفٌ لِقافِيَةٍ
آنَسْتُ ناراً
وفي جَنْبَيَّ أَصْلاها
وصِرْتُ في ضَوْئِها كالصُّبْحِ مُنْبَلَجاً
أَعْلو وأَهْبـطُ في مُهْتَزِّ مَرْساهـا
وَالْعُمْرُ طَوَّقَـهُ حَـرْفٌ بِدائِـرَةِ
ما زِلْتُ أَجْهَلُ أَدْناهـا وأَقْصاهـا
خَمْسينَ عاماً ولم تَسْمَحْ لِسانِحَةٍ
مِنَ الْكَرى
أَنْ يرى غَمْضي مُحَيّاها
وفي تَجاعيدِ وَجْهـي أَلْفُ أُمْنِيَـةٍ
أَحالَهـا الدهـرُ أَطْلالاً وعَفّاهـا
وفَتَّقَ الشَّيْبُ في رَأْسـي سَحائِبَـهُ
وسـالَ حتى على الأَهدابِ تَيّاها
تَجاوزي مَوْقِعي يا ريحُ وانْطَلِقي
فليس في حَوْزَتي
إلاّ صَدىً تاها
مُشَتَّتٌ عَنْ أُصولِ الصَّوْتِ مُغْتَرِبٌ
وَلِلأُصولِ جُذىً حَرَّى تَلَظَّاها
* * *
لِمَنْ أُحاوِرُ؟
هل للِريحِ ذاكِرَةٌ؟
تَسْتَحْضِرُ الْمُتَخَفِّي في خَفاياها
فأَقْبَلَتْ تَتَقَصَّى ما أَنوءُ بهِ
منَ الضَّنى
أَمْ لِتُخْفي ما تَغَشّاها؟
أَمْ أَنَّ زائِرَتي
عَمْياءُ لم تَرَني
وزَحْفُها خاطِئٌ
واللَّيْلُ أَدْناها؟
يا ريـحُ لا تَفْرُدي مَطْوِيَّ ذاكِرَتي
ولا تُزيحي سِتـاراً عَـن مَراياهـا
فلن تَرَيْ غَيرَ أَوْزارِ السِّنينَ لُقـىً
تَزاحَمَتْ واحْتَوَتْـني في مَطاياهـا
إنْ تَهْدَ ئي
أَفْتَتحِ الْبابَ الَّذي اخْتَلَجَتْ
أَوْصالُهُ رَهَقاً
والْخَوْفُ أَوْهاها
فقد أُحاوِرُ مِلْءَ الصَّحْـوِ زائِـرَةً
وقد تَكونُ شُجوني مِـنْ هَداياهـا
مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ عَجْلى
تَزْحفينَ على سُجّادَةِ الثَّلْجِ
فاغْبَرَّتْ زَواياها
واسَّاقَطَتْ نَمْنَماتٌ عَن جَوانِبها
مِثْلَ الدُّموعِ
وذابَتْ تَحْتَ حُمّاها
هل كُنْتِ في فُسْحَةِ الصَّحْراءِ هاجِعَةً
وأَيْقظَتْكِ الضَّواري غِبَّ مَمْساها؟
وهل لَمَسْتِ رَهافاتِ الْعَرارِ ضُحىً
وما تُرَتِّـلُ موسيقـى خُزاماهـا؟
وهل رأيتِ نُجومـاً في مَسايِلِهـا
يَحْتالُ بينَ جِيـاد الْفَتْحِ أَعْلاهـا؟
فخَفِّفي الْوَقْعَ وارْوي ما رأَيْتِ إذَنْ
طَيَّ الأُصولِ
فإنّي مِنْ بَقاياها
يَشُدُّني الزَّمَنْ الْمَهْزومُ عَنْ غَـدِهِ
لأَرْتَدي مِنْ بُرودِ الأمْسِ أَزْهاهـا
وأُبْصِرَ النَّاشِرينَ الضَّـوْءَ مُنْتَجَعـاً .
والْمُسْكِرينَ مِنَ الأحْلامِ ظَمْآهـا.
والْواهبينَ وما ضَنّـوا بمـا وَهَبـوا
إذْ عَمَّروا مِنْ صُروحِ الْحُبُّ أَسْماها.
وحَمَّلوا الْحَرْفَ في أُولى سَفائِنهِمْ .
وبَسْمَلوا
بين مَجْراها ومَرْساها
ورَصَّعوا الْكَوْنَ بالْقُـرْآنِ فاحْتَرَقَتْ .
منَ الْعُروشِ ببـدْءِ الزَّحْفِ أَعْتاها .
ورَتَّلوا مِنْ سَمَرْقَنْدٍ لِقُرْطُبَةٍ
أُنْشودَةً
لم تَزَلْ في الْكَوْنِ أَصْداها
يا ريحُ كَمْ ساهِراً في الْكَوْنِ تقْلِقُهُ
مِنَ الطَّواغيتِ
حتى ذابَ جَرّاها
* * *
يا ريحُ كيفَ اسْتَدارَ الضَّوْءُ
واحْتُبِسَتْ أَصْباحُهُ
في ليالٍ قد تَخَطّاها؟
والزَّارِعونَ صحارى الأَرْضِ خُضْرَتَهُمْ.
تَكَوَّموا في يَباسٍ مِنْ صَحاراهـا؟
وحَمْلَقـوا في سَماءٍ لا نُجومَ بهـا .
ولا سَحائِبَ تُنْدي مَـنْ تَشَكّاهـا
يَبْكونَ أَطْلالَهُمْ ظَمْآى
وتَنْدبهُمْ رَبيبَةٌ لِلْخَنى
ضَلَّتْ رَعاياها
سِتُّ الْجِهاتِ بَراءٌ مِنْ تَوَجُّههـمْ
والْحادِياتُ اخْتَفَتْ في لَيْلِ مَنْفاها .
والْبَوْصِلاتُ ضَبـابٌ دونَ رُؤْيَتِهِمْ.
وحالِكُ اللَّيْلِ أَعْطاهُـمْ وأَعْطاهـا .
خَفَّتْ مَوازينُهم في كُـلِّ حادِثَـةٍ
وشَرَّدوا مِنْ جيـادِ السَّبْقِ أَغْلاها .
وشَفَّعوا الْقُدْسَ في سَفَاحِها فَجَثَتْ .
تَدْعو لِقاتِلِها
مِنْ جورِ قَتْلاها
فَمَنْ رآى كَقَتيلِ الْقُدْسِ ذا مِنَنٍ.
أَعْطى لقاتِلِهِ
نُعْمى تَشَهّاها
بَراءَةً مِـنْ دَمِ مـا زالَ ساخِنُـهُ
مـا بَيْنَ صَخْرَتِها الْعُظْمى وأَقْصاها.
فهل عَرَفْتِ لِمَ الأَحْزانُ تلبسُـني
عَباءَةً، هَـرَّأَ التَّقْـليبُ مَرْآهـا؟
* * *
يا ريحُ، دونَكِ داري
فادْخُلي خَبَباً
وأَيْقِظي مِنْ جِراحِ الْقَلبِ أَحْلاها
فالْحُزْنُ يَغْسلُ مَجْنونَ الْقَريضِ
وَما يَزُفُّ فَيْضُ الْقَوافي
حينَ يَلْقاها
سَفَّانةٌ هدأَتْ. كـوني صَديقَتَهـا
فالْعُنْفُ قاصِمَةٌ. تُرْدى بِصَرْعاهـا .
كانون الأول 1995
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :668  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 4 من 61
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.