شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المقَالة الثَالثَة
إذا عرضنا لشعر البهاء زهير، وبدأنا بغرض من أغراضه المعروفة وهو المديح، ألفيناه لا يعرب فيه إلا عن حاجته، وقد قدم له مقدمة بمدح ممدوحه وتعظيم خصاله، ليخرج بهذا إلى ما قصده بالإِعراب عن حاجته والتعبير عن احتياجه فهو يقول في مدح الأمير مجد الدين إسماعيل ابن اللمطي الذي هنأه شاعرنا سنة 607 لتوليه أعمال القوصية بقصيدة هي أول مديحه مطلعها:
تمليته يا لابس العز ملبسا
وَهُنّئْتَهُ يـا غارس الجود مغرسا
ومنها:
به أصبحت قوص إذا هي فاخرت
أعز قبيل في الأنام وأنفسا
إلى أن قال:
لقد شرفت منه الصعيد ولاية
وأصبح واديه به قد تقدسا
وفي القصيدة التالية إفصاح عن قصده والتماس العطاء منه في قوله:
عسى نظرة من حسن رأيك صدفة
تسوق إلى جدبي بها الماء والكلا
والاستعارة في هذه الكلمات: الجدب والماء والكلأ للتعبير عن ضيـق حاله، وهذا لا يكون عادة لساكني مصر والنيل يجـري بينهـم، ولكنـه يجري فيه على مجرى الطبيعة الحجازية التي كانت تعيش على الأمطار ولا تزال في أكثر أوديتها وسهولها وعلى منابت الكلأ ومياه الأمطار إلى أن قال:
فها أنا ذا أشكو الزمان وصرفه
وتأنف لي علياك أن أتبذلا
مقيم بأرض لا مقام بمثلها
ولولاك ما أخرت أن أتحولا
فجد لي بحسن الرأي منك لعلني
أرى الدهر مما قد جرى متنصلا
وهل كنت إلا السيف خالطه الصدى
فكنت له يا ذا المواهب صيقلا
نعم إنه شعر قوي تبرز معانيه وحسن ألفاظه في جـودة التعبير وقـوة الأداء، وقد يكون تطلب الجاه لدى الأمير هو حاجة شاعرنا ولا يعني به غـير ذلك، لأنه كان في خدمة ذلك الأمير ومن رجاله، وحتى مثـل هـذا لا يستساغ في مجال المديح فإنما هو تبذل بحق الشاعر لكي يعرض عن قصده في موقف المديح فيعتبر بذلك مديحه تقرباً لنيل ما يرجوه وطلب ما يحتاجه من أمر، وقد يكون هذا سائغاً وجائزاً في مقام الأمراء والعلماء لما اصطلح عليه أهل زمانه ولكنه لا يسوغ لشاعر اليوم لأن الناس لا يرضون هذا لمن يقف موقف التجلة والاحترام في مخاطبة الملوك والأمراء فإذا هو أتى بهذا بينهم فقد خرج به على ما اعتاده الناس واصطلحوا عليه ونزل بقيمته واعتباره بينهم، ولأن المديح يجب أن يعبر عن محامد ومفاخر الممدوحين والمزايا التي يتحلون بها ويتصفون بها، وما أقاموا من أعمال وما شيدوا من فخار، وإذا كان المادحون جنحوا قديماً في إلباس ممدوحيهم لباس الجمال وشبهوه بالشمس والبدر فإن هذا قد لا يصادف محل القبول في عصرنا اليوم، ويحسب في حساب المبالغات الثقيلة والتعبيرات المستثقلة، لذلك كان البهاء زهير يعبر بما اصطلح عليه أهل عصره وألفه أهل زمانه، وقد سبقه في هذا المتنبي حين قال لسيف الدولة:
أحبك يا شمس الزمان وبدره
وإن لامني فيك السهى والفراقد
تلك مشيئة قوم شاءت طبيعتهم أن يجدوا في ممدوحهم شبيهاً للشمس والبدر وجديراً بأن تلوم في محاسنه السهى والفراقد، ومن سار في مديحه اليوم على هذا التشبيه فقد أغرق في المبالغة وخرج عن المألوف لمقاييس الناس ومألوفهم.
وإذا ما نظرنا بإمعان إلى قصيدة شاعرنا البهاء زهير الثانية نجد أنه لم يختر لها المعاني السامية، وقد عني فيها بمحسنات الألفاظ، ولابدّ وأن الشاعر كان يعاني ضائقة مالية شديدة فهو يبدأ قصيدته بقوله: (عسى نظرة) وهذا يدل على مدى احتياجه، فالاستهلال في الشعر وفي أي غرض منه يجب أن يكون رائعاً يرفع قدر الممدوح ويشيد بمكارمه فهو ترك هذا جانباً واشتغل بحاجة نفسه وشرح أحواله، أما عبارة (عسى نظرة) في حد ذاتها فهو تعبير حجازي وعبارة (بحسن رأيك) هذه الطريقة في التعبير تجدها شائعة في أقوالنا حتى اليوم وهذا مما يؤكد حجازية شاعرنا الخفيف الروح (البهاء زهير) وله قصيدة أخرى يستحث فيها الأمير على الإِنعام فيقول:
وما نالني من أنعم الله نعمة
وإن عظمت إلا وأنت سفيرها
ومن بدأ النعمى وجاد تكرماً
بأولها يرجى لديه أخيرها
ثم يشكو ويعتب على الأمير لانصرافه عنه وانفصاله عن خدمته، وفيها من الإِفصاح عن ألمه المرير وحزنه العميق لانتهاء خدمته ما تبرز في أقواله من معانٍ متألقة وألفاظ حسنة وحسن أداء، وهو حين يستعطف ويستدر عطف أميره يمهد لهذا تمهيداً فيه من الصراحة والاحتجاج وفيه من التلطف والاسترحام، تبدو في هذا براعته في شعره وحسن تصويره فقد قال:
لنا منكم وعد فهلا وفيتم
وقلتم لنا قولاً فهلا فعلتم
حفظنا لكم وداً أضعتم عهوده
فشتان في الحالين نحن وأنتم
وهذا هو التقريع واللوم في صورة عتاب وفيه من المصارحة، وهذا ينم عن طبع تغلب عليه حياة البادية، فالمتحضر لا يجازف في معاتبته باللوم والتقريع، سيما إذا كان المخاطب أميراً ومنها:
فيا تاركي أنوي البعيد من النوى
إلى أي قوم بعدكم أتيمم
وهنا يبدو متلطفاً في عتابه للأمير ملتمساً الشفقة بحاله، ويزيد هذا وضوحاً حين قال:
ألا إن إقليماً نبت بي دياره
وإن كثر الإِثراء فيه لمعدم
وإن زماناً ألجأتني صروفه
فحاولت بعدي عنكم لمذمم
وأعلم أني غالط في فراقكم
وأنكم في ذاك مثلي وأعظم
حتى تبلغ به المغالاة في التعبير عن حرمانه وإقصائه عن خدمة الأمير التي هي أطيب من مقامه في موطنه (الحجاز) فقد قال:
فـلا طـاب لي عنكم مقام وموطن
ولو ضمني فيه المقام وزمزم
وترتفع به حرارة الإحساس بالألم فيمضي في عتبه في مجال المديح متسائلاً في لوعة وأسى قائلاً:
ومثلك لا يأسى علـى فقد كاتب
ولكنه يأسى عليك ويندم
فمن ذا الذي تدنيه منك وتصطفي
فيكتب ما توحي إليه ويكتم
ومن ذا الذي ترضيك منه فطانة
تقول فيدري أو تشير فيفهم
وما كل أزهار الرياض أريجة
وما كل أطيار الفلا تترنم
وإنه اختتام موفق بالبيت الأخير تكتمل به وحدة القصيدة وجمال التعبير، فهـو يدلل بهذا على أن الناس لا تتساوى ولا الموظفين يتماثلون فإن أزهار الريـاض ليست كلها أريجة وإن كانت تتماثل في الشكـل وتتشابـه في الصور، كما أن الطيـور لا تترنـم جميعـاً، وهـذا تعريض موفـق للمزاحمين له في الوظيفة والمنافسين له في الخدمة، يدل كل هذا على قدرة الشاعر في استخدام المعاني وإبراز حسنها في غرض من أغراضه في مجال المديح، وقد ضمنه عتابه واختياره للألفاظ الملائمة في حسن تعبير وجميل أداء، وأما تضمينه العتاب في المديح فقد سبقه في هذا كعب ابن زهير حين مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب العفو بقصيدته المأثورة التي مطلعها:
(بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)
ونال بها رضاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كساه البردة، ويذكرني البهاء زهير في تعريضه بالمنافسين له والمزاحمين بقول المتنبي:
مـا كل من طلب المعالي نافذاً
فيها وما كل الرجال فحولا
وقد شابه هذا المعنى أو قاربه في تعبيره، وسنمضي مع البهاء زهير في رياض شعره، لنكمل بذلك حق دراسته ونلمس مدى اكتماله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1439  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 4 من 21
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.