شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تصدير (1)
مشوار في شعر زكي قنصل
بقلم: نهاد شبوع
شعر زكي أعمق انهماكاته المهجرية، لأنه اكثرها فطرية وقرباً من الطفولة والوطن.. فهو ليس ظاهرة ثقافية فيه، بل أصالة وقدر.. حب وعودة..! تهاويم أجنحته طليقة الأشواط والمحطات كالحرية والهواء.. حُمَيّا تنغرس في أعماق القارئ وتسري مع دماء حياته تطهرها.. تشعلها ترطبها بلا كلفة وبالمجان.!
من كل مواقف الحياة ترضع ريشته فلا تغص.. ومما ترضع وعبوراً من مساكب قلبه تسقي بدورها غير ناسية حتى الشقوق الصغيرة في صخورها..
* * *
من الغربة عن الدار يتهادى حنينه في مسرة شوق تقطع دروب الزمن يختلج لها كل بعيدي الدار اختلاجة واحدة.. تغيب فيها وحدة زكي في لقاء مع الإنسانية المشتاقة كلها.. وتغور في حرارتها كل المناسبات التي يعدها النقاد المشرفون على المهجر من سطوحهم النائية صغيرة تافهة.. وما علموا كيف تتحول أي مناسبة في جعبة الشاعر المشتاق إلى وقفة خالدة تفلت من حدودنا إلى ما وراء حدودنا:
أثرت في القلب شجواً كان يخفيه.
فلا تلمه إذا فاضت مآقيه
ويح الغريب.. أما تكفيه غربته.
حتى تجرّحه الذكرى وتكويه
أكلما شام من واديه بارقة
هفا وصفق تحنانا لواديه
يا شاعر الزهر لا ذقت النوى فلقد.
هاضت جناحي واجْتَثَّتْ خوافيه.
يهنيك عودك محسوداً إلى وطن.
مقاصر المجد ظل من روابيه
واهاً على غفوة في ظل سروته.
تعيد لي صور الماضي وتحييه
في القلب جرح وقاك الله لفحته.
حار الطبيب وحار المبتلى فيه
* * *
إن يطوني البعد فالأشواق تنشرني.
اللهَ في نازح لا بعد يطويه
غلواء شرّدنا عن أيكنا قدر
لا يستطيع قوي أن يقاويه
لولا عيونك غام الأفق في نظري.
وانسد كل طريق في حواشيه
هل يعلم الأهل يا غلواء لهفتنا.
ويذكر العهد يا غلواء ناسيه
ما زالت الشام في وجداننا حلماً.
ويح الغريب متى تقضى أمانيه.
إن لم يتح لي قصر في ربا وطني.
رضيت عنه بقبر في براريه
* * *
ومن ساحات حنين زكي العريضة يعبر كل شيء: هموم الوطن المتروك.. ولا انفصام الشاعر عن أرض الهم.. ومن هذا وذاك حقيقة الشاعر الذي يهجره الوطن من غير أن يهجر الوطن.. حقيقة ريشته المتوترة توتر قلبه المترع بالعاصفة والغضب الطاهر.. الغاسل بوابله المشع بالولادة طحالب الدرب أمام إنسان الأرض والدار الذي إليه ينشد زكي ويتوق...:
هل أرق الشام همٌ لم أحسَّ له.
في مهجتي مثل حز الصارم الذَّرِب.
وهل تلألأ في آفاقها أمل
إلاَّ تثنيت من زهو ومن طرب.
حملتها نغمة في القلب راقصة
ورحت أزرعها في مسبح الشهب.
* * *
لم تحملوا عبء القضية وحدكم.
في كل مغترب دم وأضاحي
سيان من مهر القضية قلبه
بين الطروس ومن مشى للساح.
أقْسَمْتُ ما وخزتْ بلادي شوكة.
إلاَّ ابتدرت شباتها بجراحي
* * *
حان أن تستثمروا أفكاركم
تعقم الأفكار إن لم تستغل
حان أن تستجمعوا أهدافكم
آفة القربى اختصام وجدل
الأنانيات هدّت صفكم
والزعامات رمتكم بالشلل
* * *
ويتصاعد الحب من شعره مضمخاً بعبق الأرض المفارقة.. فأنثاه أرض.. وأرضه أنثى.. لا تعشق أرض ما لم تكن حبيبة.. ولا تُعَزُّ حبيبة ما لم تكن أرضاً..:
عيناكِ عيناكِ في حلي ومرتحلي.
دار وأهل ومرساة وميناء
* * *
أحب بلادي مهما أساءت
وأهفوا إلى تربها الأطهر
حبيب لقلبي دلال الحبيب
ومهما يَسُمْني الأسى أغفر
* * *
وإذا فاتنا هذا التلاحم بين الأرض والحبيبة في شعره، يظل الحب فيه حرماً شرقياً مقدساً يبخر له زكي بورع كل شرقيته القديمة الشهمة.. بكل إخلاصه لمفاهيمها الموروثة.. بكل الحرمان المعلق على القيم بغبطة كل المؤمنين بهذه القيم.. ومن هذه العبادة الضارعة هيام الإنسان الدائب أبداً بأحد شطريه إلى الاكتمال بشطره الآخر:
طهرت قلبي من رجس ومن دنس.
فمهجتي عن نداء اللحم صماء.
نجواي في الحب كالتسبيح طاهرة.
ونظرتي كشعاع الشمس عذراء.
* * *
روحي فدى ثغرك المعسول ما رقصت.
إلاَّ عليه أهازيجي وأحلامي
الله يشهد ما وشَّيت قافية
إلاَّ رأيتك تختالين قدامي
جنحت باسمك أنغامي وقلت لها:.
طيري، فصفقت الدنيا لأنغامي
* * *
بيني وبينك فجوة لا تنتهي
"زرقاء" في بيدائها عشواء
سمرت أقدامي على أبوابها
بل سمرتني عفة وحياء
عاش الحزن وبكى.. وحزنا وبكينا معه.. ماتت (سعاده) فنقلها إلى كل بيوتنا، وانتزعها من كل أكبادنا، ودفنها في كل قلوبنا.. وتجسمت أمامنا مفارقة الوجود وأوهام السعادة التي راودتنا عن جوهر نسيجها المحبوك بخيوط الموت.. وملأت علينا البرهة لتتلاشى في أبد الرماد والأحزان.. في أبد الحياة المتعاملة مع الموت..:
نامي على أهداب عيني إن نَبا بِكِ مرقدُ
أفديك من نوب الزمان بكل ما ملكت يدُ
لولاك لم تحلُ الحياة ولم يطب لي مورد
نضرت آمالي فبش على طريقي الفدفد
* * *
ما من يرد إلى شفاهي بسمة الأمل الندي
ويعيد لي ما أفنت الآلام في قلبي الصدي
أنا من أساي ومن جراحي في ظلام سرمد
قد كان يضحك لي غدي
واليوم أهرب من غدي
ماتت أناشيدي الحسان
وبح صوت المنشد
* * *
هذا هو مركب الأبعاد والانفعالات والأشواق التي تملأ نتاجه.. ومن هذا المركب شكل النبتة الشعرية التي بإمكانه أن يكونها.. والتي ليس بمقدورنا فرض أخرى ليكونها.. أقول هذا في معرض حرص الشاعر على عدم تحركه في اتجاه التمايز أو الاختلاف عن دائرة التراث أداء ونظراً.
ولست هنا في صدد مطالبة هذا النهر المتكون بتغيير شخصية مجراه، ليخرق العادة ويبهر المألوف.. أو بتبديل لون مياهه ومذاقها.. بل لست في صدد تقويم نتاجه بوضعه في غير خانة نوعه. ففي معتقدي أن ينظر إلى الأثر ضمن إطار مدرسته.. وألا يقوم بيت عريق البناء في دمشق بميزان نظرتنا إلى طابق عصري في ناطحة سحاب.
ولكنني في صدد تبرير تشبث بقايا فرسان المهجر بروح التراث الذي يسرق منهم كل جديد فتحو لنا وخضوا به أغصان أدبنا المهترئة أول عهدهم بالتجربة المدهشة.. عندما كانوا يهزون الحياة ويفتحونها ويغتصبونها باحثين عن ذواتهم الضائعة في واقع كان كشحوب الجوع وعري الحجر.. أي قبل أن تحط بهم المغامرة في محطتها المترنحة فوق الأعاصير.. وقبل أن يكتشفوا المخدر للتعايش مع هذه المحطة الأبدية...
شاخت المغامرة... وعزت سفن الرجوع المظفر إلى نقطة البدء.. فليس أمام بعيد الدار إلاَّ التراث يربط به خيوطه المقطوعة... به يثبت شخصيته ويؤكد تحققه... به يصنع لنفسه حضوراً لائقاً غنياً في الغربة..! في هياكله يعانق كل فرسان التاريخ بدءاً من امرئ القيس والمتنبي.. وانتهاء بحافظ وشوقي.. يتدفأ بوهج مدارسهم ويشعل نورهم ونارهم... فيمتلك الحضور أيضاً في أرض الوطن ولا يضيع في العاصفة والريح..؟
الطفل الذي خاف الضياع أكثر من يتشبث بثوب أمه!! والشعر النائي الذي يخاف على نبعه المنعزل الاختناق بتربة النسيان وصدأ الإهمال.. أكثر ما يتصل بجوهر ماضيه ليحيا بقوة الدفع في تراثه..
وهكذا يبتعد الشاعر -حقباً- ولا يبتعد..! .. يسافر ويظل بيننا مقيماً..! فهو إن ابتعد عن الحلبة التي فيها صراع المعاصر المقيم وتيارات حياته الاجتماعية المستجدة وزخم إيديولوجياته المستحدثة.. متعامل مع حلبة إنسانية أثبت وأشمل.. مع قمر دهري يظلُّ ينيرنا ولو من كتف سماء بعيدة..! مع نبع عتيق يعطي الماء العادي الضروري العذب.. إن عز عليه تقديم المرطب العصري!! مع "نسيمات الصبا" المخزونة في بساتين اللوز والآس.. يزرعها في غرفنا الخانقة، إن فوت عليه البعاد أن يعلم كيف استبدلنا بنسيمات الصبا مراوح الكهرباء..! مع غصن زيتون في منقار نسر أو حمامة.. إن عزت عليه نظريات السلام الحديثة يحملها جوف طائرة نفاثة!!
والشعر شعر أولاً قبل أن يحمل الزي القديم أو الزي الحديث.. والأساسي أن يكون للشعر حضوره قبل أن تستقي من روح التراث أو روح المعاصرة طرائقه.
ولشعر زكي حضوره في همومنا وأفراحنا.. ولوعنا ودموعنا.. بطولاتنا ومعاركنا.. في قهرنا ونصرنا، بصدقه الحاد جداً.. وإخلاصه الحميم جداً.. وعواطفه البيضاء جداً.. وبنداوة كلمته الشفافة جداً..
حمص 1972
 
طباعة

تعليق

 القراءات :5094  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 665
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج