شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بسم الله الرحمن الرحيم
مُقدّمة النَّاِشرْ
إن ميلاد ديوان كبير، أو مجموعة شعرية ضخمة، ليس بالأمر السهل الذي يُنجز في أيام أو شهور، بل قد يستغرق سنوات من الجهد والعمل الدؤوب والسهر والاجتهاد، خاصة حين تكون هذه المجوعة متناثرة بين أماكن شتى عبر مسافة زمنية كبيرة.
ورغم صعوبة مثل هذا العمل، فقد عزمت على تحقيقه، حباً مني في أن يكون احتفالي بهذا العمل، الاستمرار الحقيقي لـ "كتاب الاثنينية"، حاملاً شعاره، وشاقاً الدرب نحو نشر المزيد -بإذن الله- من هذه الإبداعات التي طالما اشتاق إليها عشاق الأدب الرفيع، على امتداد ساحة الثقافة العربية.
فبالأمس القريب أصدرنا وبثلاثة مجلدات ديوان شاعرنا الكبير معالي الأستاذ أحمد الشامي، وبهذا نعتبره الكتاب الأول من إصدارات "كتاب الاثنينية".. وها نحن اليوم نصدر الأعمال الشعرية الكاملة لشاعرنا المهجري الأستاذ زكي قنصل -والذي أحسبه آخر شعراء المهجر- ومن أقدرهم وأغزرهم نتاجاً وتنوعاً في الأغراض الشعرية، وهو الإصدار الثاني من إصدارات "كتاب الاثنينية".. وبين هذين الإصدارين تم بحمد الله نشر بعض الكتب التي أعتبرها مساندة لـ "كتاب الاثنينية" وهي بالترتيب الزماني لصدورها: "كتاب عبد الله بلخير شاعر الأصالة والملاحم العربية والإسلامية - للأستاذ محمود رداوي" و "ديوان الأربعون - للشاعر الأستاذ عبد السلام هاشم حافظ" و "ديوان عاصفة الصحراء - للأستاذ الشاعر محمود عارف" و "ديوان الأعمال الكاملة (3 أجزاء) لمعالي الأستاذ أحمد الشامي" الذي يعتبر البداية لفعلية لـ "كتاب الاثنينية" و "ديوان حصاد الغربة - للشاعر العراقي الدكتور زاهد محمد زهدي" و "ديواني قلبي على وطني وجرح باتساع الوطن - للشاعر العراقي الأستاذ يحيى السماوي"، وهناك كتاب آخر تحت الطبع بعنوان " التوازن معيار جمالي تنظير وتطبيق على الآداب الاجتماعية في البيان النبوي - للأستاذة غادة عبد العزيز الحوطي".. وبإذن الله سيكون الإصدار الثالث لـ "كتاب الاثنينية".
لقد امتاز شعر الأستاذ زكي قنصل بالجزالة والفخامة لفظاً وأسلوباً، شأنه في ذلك، شأن كبار الشعراء ممن خبروا فن الشعر وأخلصوا له.. كما امتاز بجمالية التراكيب اللغوية وعذوبة الصور الشعرية المستوحاة من الطبيعة والمعبِّرة عن همومه وأمانيه وخلجاته الإنسانية - والتي تمثل القاسم المشترك لجميع المهاجرين الذين نأت بهم المقادير والظروف عن أوطانهم - ويبدو لي أن أجسادهم هي التي هاجرت عن تلك الأوطان، بينما الروح بقيت مقيمة عليها، فإذا بهم يحدقون بالوطن الأم عبر نوافذ الحلم واليقظة.. وهذا ما عبَّر عنه شاعرنا بقوله:
أحن إليك مهما شط دربي
فكيف أحقّقُ الحلم الشريد؟
أو قوله:
حنَّ الغريب إلى ربوع الشام
أتُرى يعودُ على جناحِ منامِ؟
أبداً نعيش لها ونهتف باسمها
يسلو الحمى مَنْ عاش للأرقامِ؟.
إن من يقرأ شعر الأستاذ زكي قنصل، سيكتشف دون عناء، ذلك الحنين للوطن، والإصرار على استحضاره ليقيم معه حواراً روحياً.. حتى أن القارئ ليكاد يرحق في شعره عبير الشام ويبصر فيه وجه الأمة التي سكنت قلبه وعينيه وذاكرته على رغم إقامته بعيداً عنها بآلاف الأميال، وهذا ما يشيع الأمل في نفسه للعودة، ولو بعد حين.
يقول شاعرنا في قصيدة "أنزلتها قلبي":
أحيَتْ رجائي وردةٌ جوريّةٌ
نبتَتْ هنا وجذورها في الشامِ
أنزلتها قلبي فأبقَتْ شوكها
فيه، وولّت بعدها بسلامِ
ولأن الأمة قد سكنت قلبه، فقد شاركها وجدانه فنراه ينتشي فرحاً لأفراحها، وينزف دماً حين توخزها شوكة حزن، أو حين تذرف دمعة ألم، فيقول:
رُدِّي السلامَ على فتاكِ المغرمِ
إني حملتُك في دمي وعلى فمي.
هذا التراب مقدسٌ عندي، فإنْ.
أكفر برابطةِ القرابةِ أجِرمِ
وإذا ارتويتُ فمن غديرِكِ أستقي.
وإذا شبعتُ فإن حقلك مُطعمِي.
أو قوله:
قالوا أتنسى الشامَ؟ قلت أحبُّها.
حبّاً تملكني وخالط أعظمي
فتحت مشاعرنا خزائنَ قلبها
فجنى ووزَّع باليدين وبالفَمِ
وهو إذ يغني عن دمشق، فإنه لا ينسى التغني "بوهران" أو "القدس" و "مكة" فالأمة هي المعشوقة، وإن خاطبها بأكثر من اسم، فالأسماء كلها صفات لمعشوقة واحدة، هي الأمة ذاتها:
غنّى فأطربَ "زينباً" في مكةٍ
وتراقصت في القدسِ مهجة "مريمِ" .
أفنى على الفصحى سحابة عمره.
ما حيلتي وجذورُها امتصَّت دمي.
قلبي تقسَّم بين تلك وهذه
يا ويحَ قلبٍ في الهوى متقسِّم
والفصحى هنا، هي رمز من رموز الأمة العربية دون شك.
أو قوله:
كم زرت دجلة في المنام وزارني.
ولكم غسلت بمائه أتراحي
بردى ودجلة توأم في خاطري.
لا بل جناح قائم بجناح
إن فرقتنا النازلات فربما
طلع الضياء من الظلام الماحي.
يا أخوتي كيف السبيل إليكم
هل تشعرون بشوقيَ اللفّاح؟
تجري رياح سفينتي في غير ما
تهوى، فداووا بالرجاء جراحي.
ولأن الأمة العربية حاضرة في قلب وضمير الشاعر الأستاذ زكي قنصل، فقد شاركها الهمَّ وكفاحها العادل والمشروع ضد العدو الإسرائيلي، فإذا به يجعل من قصائده، حجارة أخرى موجهة إلى الإسرائيليين، تضامناً منه مع أطفال الحجارة، فيغضب على العدو مثلهم:
أطلقْ رصاصَكَ.. لا أخاف النارا.
إني أردّ لك الرصاص حجارا
صدري على الغضب الرهيب طويته.
وعلى الندى.. فعليك أن تختارا.
"عدنان" أنجبني فكيف أعقّهُ
أو هل أُخَيّبُ في ثراه "نزارا"؟.
بحجارتي سأَخُطُّ قصَّة مولدي
كي لا تُزَوِّرَ عنّيَ الأخبارا
وقوله أيضاً:
بحجارتي، لا بالسلاحِ القاتل
قررت أنْ ألوي يمينَ الباطلِ
حربُ الحجار طويلة.. لكنني
متشبّث فيها كيومي الأولِ
هذي بلادي لا أُبَدّلُ حفنةً
من رملها الغالي بثروة "هِرقِلِ".
لم تحْنِ إلاَّ للإِله جناحَها
تبني النسورُ وكورَها في "الكرمل"ِ.
يبقى أن نقول، إن شاعرنا - على رغم حبه العميق للأمة العربية وفخاره بالانتساب إليها، إلاَّ أنه ليس شوفينياً في ذلك الانتماء، إنما ينطلق من وعي حقيقة أن البشر أخوة في حب الله سبحانه وتعالى، وهي النظرة الإنسانية التي نظر بها الدين الإسلامي الحنيف للأسرة البشرية.. وهذا ما عبر عنه شاعرنا بقوله:
الناس عائلة، فإن ضِيمَ أمرؤٌ
في الصين ضيمت أخته في "بابل".
لم يجعل الرحمن بين عباده
من حاجز أو يصطنع من فاصل.
* * *
ومن السمات المميزة لشعر الأستاذ زكي قنصل، تلك العذوبة في اختباره الجرس الموسيقي للكلمات، حتى لكأن الكثير من شعره، يمثل امتداداً للموشحات الأندلسية من حيث المزاوجة بين الطبيعة وهواجسه الذاتية.. فالطبيعة عنده ناطقة وعاشقة.. ها هو يقول في إحدى خماسياته:
لُح في سماء العبقرية كوكباً
وامرح صباً بين الجداول والربى.
تأبى الخمائل أن تميس وتطربا
ما لم تدغدغها نسيمات الصبا
وتضم بلبلها الأرق الأعذبا
أو قوله في إحدى ثنائياته:
ضَحِكَ الربيعُ وهَلَّ في نظراتها.
راحاً وريحاناً وموجةَ نارِ
والسِّحر رَفَّ بخدِّها أُهزوجةً
حمراء من وردٍ ومن منثورِ
وامتاز شعره أيضاً بالتأمل الفلسفي المستقي من الحياة وتجاربه الذاتية فيها، ومن نماذج شعره الفلسفي، نقرأ مثلاً قوله:
ماذا يفيد المال صاحبه
إن لم تزنه فضيلة الكرمِ
أنشأت سوراً لا انتهاء له
بيني وبين الشح والنهمِ
فليضحك العقلاء من عمهي
أنا عن نصائحهم لفي صممِ
طار الدجاج فحط في قفص
وهوى العقاب فحط في القممِ.
وفي البيت الأخير تكمن المفارقة الطريفة والجميلة بين طيران الضعيف، المتخاذل، البخيل، الجبان، الذي لا يؤدي إلاَّ لقفص التقوقع في الذات، والانعزال عن المجتمع وهمومه وعن الناس وآلامهم – وبين سقوط الكبار – إن كان سقوطاً – لأنه يؤيد إلى الوقوف على القمم، وفي هذا البيت تصوير رائع لواقع حال كثير من الناس في مختلف المجتمعات.
وقوله أيضاً:
قُلْ للمُفاخر بالأموال يدخرها
فخر الرجال بمالٍ غير مذخورِ
يفنى الحُطام ويفنى ذكر صاحبهِ.
وثروة الفكر تبقى للأداهيرِ
وقوله أيضاً:
مَنْ يتّق البردَ بالثوب المعارِ فلن.
ينجو من العار إنْ يسلم من الوَصَبِ.
وما يجب قوله عن شعره، أنه لا يحتاج إلى قواميس على غرار بعض الشعراء الذين يحتاج المرء مصاحبة القواميس للوقوف على معاني الكلمات أو التراكيب اللغوية – فشعر شاعرنا الأستاذ زكي قنصل سهل ممتنع وقد اعترف الشاعر نفسه بذلك حيث يقول:
يمتاز شعري بالسلاسة فهو لا
يحتاج للتشريح والشرّاحِ
لازمت مدرسة "الأمير" فقادني.
للنور بين دياجرٍ ورياحِ
إني اختصرت الروض في قارورةٍ.
وحبست نور الشمس في مصباحِ.
ولقد صدق شاعرنا، وأجاد في استعارته الجميلة والجديدة – إني اختصرت الروض في قارورة – هذه الاستعارة الذكية، التي تنطبق تماماً على روضته المليئة بشتى الزهور المختلفة عبيراً وألواناً – لكنها تنتمي جميعها إلى روضة واحدة وتستقي من نبع واحد – هما: روضة ونبع زكي فيصل ذاته.. ففي مجموعته الشعرية الكاملة، نجد أزهار الوصف ورياحين العشق، وورود الإخوانيات والرثاء والوطنيات – وبمقدور القارئ أن يشمّ فيها عبير الشام وعرار نجد وأن يسمع غضب أطفال الحجارة مثلما يستطيع أن يسمع حفيف شجر "الكرمل" وخرير أنهار "بردى" و "دجلة" و "النيل" - ولسبب جوهري هو: أن الشاعر عميق الانتماء للأمة، متشبث بجذوره العربية – على رغم أن أغصان شجرته تفرع في فضاء المهجر – هناك في الأرجنتين!
إن شعره "مفكرة" شخصية – لكنها ليست ذاتية النزعة، لأن هواجسه وهمومه ليست ذاتية بالمعنى الأناني للذاتية – إنما: نتلمس فيها الذات الجماعية، المعبّرة عن هموم وهواجس كل المهاجرين – والذين بقيت قلوبهم تلتفت إلى الوطن الأم، وبقيت عيونهم تحدِّق فيها، مطبقةً أجفانها على أبناء الأمة العربية- حيث يقول فيهم في إحدى مقطوعاته:
أحب العرب أنهم عشيري
وأقرأ في مصيرهم مصيري
ولا أطوي على حقدٍ ضميري
ولأنه كذلك – فقد اعتبر فراق الوطن وأبناء الأمة، فاجعته المريرة – فيذوب حنيناً إليهما، ويقول في إحدى إخوانياته:
لئن عجز اللسان فإن دمعي
يسير إليكما بجزيل شكري
أرى ليلي عبوس الوجه لكن
سيطلع من ظلام الليل فجري
قضيت العمر من شرق وغرب.
فمال لا أقول أضعت عمري؟.
أغادر موطني الغالي وقلبي
يرفُّ عليه من أيك لنهرِ
أصابره على كرهٍ فيعصي
- وإن غاضَبْتُهُ – نهيي وأمري.
وها نحن نبصر عذاب الشاعر في غربته حيث نجده متمنياً الموت على تراب أمه – الأمة العربية:
لا الأهل أهلي ولا أوطانهم داري.
فإنْ ضحكتُ فتمويهاً لأكداري.
تراب "أُمي" محراب تطوف به
روحي وتجثو على جنبيه أفكاري.
رحماك يا رب فاجعل فيه آخرتي.
أنا الضعيف على أقدام جبارِ
تلك إطلالة هادئة على شعر وشاعرية الأستاذ زكي قنصل – الشاعر الإنسان، الذي حافظ على لغتنا الجميلة في بلاد المهجر – رغم ما قيل ويقال عن مستوى لغة المهجريين – ويكفيه فخاراً أنه قام مع زملائه بما يستحق الشكر والثناء لما بذلوه من جهود بغية المحافظة على لغتنا الجميلة في البلدان الأجنبية – في وقت نجد فيه بعض التحديات تواجه اللغة العربية على أرضها، وقد نأى البعض من شعرائها عن ثوابت الشعر وقوانينه.
أما شعراء المهجر، فإن لهم علينا حقاً لا في الاحتفاء بهم فحسب، وإنما بدراسة نتاجهم الإبداعي باعتباره أحد الروافد الأدبية التي أثرت ساحتنا الإبداعية، وقد آن الأوان لتقييم تلك الحقبة الأدبية التي كان آخر روادها الأستاذ زكي قنصل.. ومن المؤسف أن يرى الديوان النور بمجلداته الثلاث بعد وفاة الشاعر الأستاذ زكي قنصل، في الوقت الذي أخذ فيه الديوان وقتاً طويلاً استغرقه وصول مادته المبعثرة بين أوراق الشاعر فوصلت مسودات ودواوين احتاج بعضها إلى جهد كبير في الترتيب، وقد كان على لهفة كبيرة لكي يرى كامل أعماله وكأنه يرى المنية توأماً لذلك غير أنها كانت الأقرب وتلك إرادة الله تعالى التي لا راد لها، ومع كل الجهد الذي بذل منا جميعاً لم نتمكن من أن نضع هذا الإصدار بين يديه لينعم بحصد مجهود تجاوز نصف قرن من العطاء الإبداعي.. ولكن عزاؤنا على القليل أن هذا العمل أصبح موثقاً في مجلدات محددة بدلاً من أن يتبعثر ويفقد إلى الأبد، فيجد القراء من خلاله روائع هذا الشاعر المهجري الكبير الذي أحسبه آخر شعراء المهجر.. وقد احتوى هذا الديوان على دراسات متنوعة عن الشعر المهجري وعن شاعرنا الأستاذ زكي قنصل، وفيها ما يروي غليل الظامئين لمعرفة المزيد عن شاعرنا المهجري الكبير.. إنها حقبة مضت وكأنها حلم وردي.. أتُرى سيقدر له أن يُعاد بشكل أو بآخر؟؟
عَبد المقصُود محمّد سَعيْد خوجَه
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1389  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 665
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.