شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خامساًً: أمّ القُـرى
عاش الشاعر عدة مراحل من حياته في مكة.. فقد شهدت (أم القرى) مجرى طفولته وصباه وفتوته وشبابه، فكانت خير مجرى لشخصيته. حين سلم أمره ومصيره -وهو ابن العاشرة أو يزيد- لتلك البيئة الشريفة، في كتاتيبها ومدارسها.. وبرعاية رجال أفاضل، وشيوخ تقاة، فحفظ القرآن، وصلى بالناس إماماً، بالإضافة إلى جو أسرته الديني (1) فكان حي الشبيكة ومدرسة (الماحي) الابتدائية ومدرسة الفلاح، والحرم، هي عالمه الاجتماعي والعلمي والديني. ولم يغادر مكة -في بعثة دراسية إلى بيروت- إلا بعد أن أناف على العشرين، لذلك فقد كانت مكة محراباً سماوياً أنضج الشاعر، وبلور الكثير من صفاته ومواهبه الفكرية والأدبية والروحية.
فلا غرابة أن نرى الشاعر عبد الله بلخير، يصدح بشعره في مكة، ومقدساتها، من حين لآخر. فقد ظلت معالم مكة المكرمة هاجس الشاعر الذي لا يفارقه. فغناها أصدق شعره، وأرق أحاسيسه. ولكن:
كيف كان ينظر الشاعر إلى مكة (أم القرى)، مهبط الوحي؟ كيف كانت ترد ذكراها في قصائده العديدة؟ وكيف أفرد لها بعض القصائد؟ كيف عبر عن ذلك المكان الديني المقدس؟ هل وصفها وصفاً عاماً.. وعبر عن إحساسه وانطباعه كما يحس بها المسلمون، وكما تنطبع صورتها في مخيلاتهم، ويعذب وقعها في سمعهم وقلوبهم...؟! أم أنه كان ينظر إليها من خلال تجربته الخاصة، وانطباعه الذاتي كابن لها، ترعرع ونشأ في أجوائها...؟!
والحقيقة إن شاعرنا بلخير شاعر قومي، وشاعر ديني، وشاعر إنساني.. أي هو شاعر الجماعة الكبيرة.. يغني في شعره كل أحاسيس الجماهير، ورؤى الملايين. فإذا ذكر مكة في شعره، أو أفرد لها قصيدة أو ملحمة، فإنما يعبر فيها عن رؤية المسلمين لتلك الديار.. فيطلق شعره الديني أو المكي من منظور الملايين. فكأنه يترجم كل الأفكار والمعاني والعواطف والانفعالات التي تثيرها مكة في عقول المسلمين وقلوبهم. أو هو يختصر لهم التاريخ الإنساني والحضاري الذي كان نتيجة لتلك البقاع المقدسة برسولها وأحداثه النبوية السماوية. فكان شعره في مكة يدور في تلك الأجواء الدينية والقدسية. فإن أفاض في حبه ومديحه وإجلاله لأم القرى، فإنما هي المشاعر الحقه التي تختلج كل المسلمين. فاستطاع أن يحتويها، وينفخ فيها من شاعريته، يقول من ملحمته (محمد رسول الله) (2) :
لك (أم القرى) التحيات تتلى
للملبين فيك، والمحرمينا
وعليك السلام من سور القر
آن في القارئين، والكاتبينا
تتوالى القرون.. وهي على الأر
ض.. منار يهدى به المهتدونا
أين منك المدائن الغرُّ في الدنـ
يا.. وأنت أمهن دنيا ودينا
فلك المجد دونهن فلا يذ
كرون في المجد عندما تذكرينا
كل يوم وليلة.. وزوايا الأر
ض يرنو فيها لك المؤمنونا
تتلالا جباههم في المحاريـ
ـب.. صفوفا بالركع الساجدينا
وهكذا فإحساس شاعرنا بلخير هو إحساس المسلمين بمكة أينما كانوا، مشفوعاً بروحه ومنظوره وفنه. فإذا كانت كل معانيه في مكة تدور -كما قلنا- في سبحات من القداسة والصلاة، والحج والأدعية، والسعي والتكبير والخشوع والغفران.. إلا أنها تمر من خلال وجدانه وصياغته وإبداعه شعراً متألقاً. وقد تنقلت من زمامه أحياناً بعض الأبيات -بيت أو بيتين- قبل أن يضفي عليها شيئاً من انطباعه ووجدانه وخياله.. ولكنها سرعان ما تعود لتنصهر في بوتقة الفن الأصيل، فمثلاً في قصيدته [لبيك يا أم القرى]، يفِرُّ منه بيتا المطلع:
أم العواصم والمداين والقرى
لبيك، يا لبيك يا (أم القرى)
لباك من صلى، وحج، ومن دعا
وسعى، وكبر خاشعاً، واستغفرا
ولكن يعود الشعر- كما قلنا- إلى عملية الخيال المبدع، من خلال صياغة التجربة الوجدانية بصورة فنية مشخصة.. إذ يتابع قائلاً:
تتطاول القمم الشواهق في الذرى
كي ما ترى في أفق (مكتنا) (حِرا)
عال علـى القمم المنيفـة حولـه
تزهو (السراة) به، عُلاً، وتكبرا
يسمو الغمام له، يطوف بغاره
في الأفق، مستلماً ذراه، مزمجرا
فتراه في السحب التي التفت به
مزملاً، بين الذرى، مدثرا
وتكاد تسمع (سورة القلم) التي
نزلت عليه، تهز هامات الذرى
ويتناول الشاعر بلخير جانباً من مكة، جانبا من أماكنها المقدسة، هو غار حراء، الذي شهد أكبر حدث سماوي في دنيا البشرية، عليه هبط الوحي على رسولنا العظيم، ومن خلاله تغير وجه العالم.. فلا بأس من شاعرنا أن يشخص هذا الجبل متألقاً بين القمم الشواهق الأخرى التي تستمد الغمائم والسحب منه الزهو والسمو والحنو.. فيلبس الكون به هالات ربانية، فيخيل لكل المسلمين أنهم يسمعون أول سورة أنزلت على الرسول العظيم، وراحت كلمات الله الساحـرة -اقرأ باسم ربك الذي خلق- "تهز هامات الذرى".
ولذلك فمكة، بقيمها الدينية والروحية، وإشعاعها السماوي، تبعث في الشاعر والمسلمين معاني الحب والإجلال لها والتفاخر والاعتزاز بها.. كما أن مكة تصبح عظيمة في نفس الشاعر، لأن آثارها امتدت عبر البلدان الإسلامية الأخرى ومن هنا فحب الشاعر لمكة، ينبع من الحقائق السماوية والتاريخية، ومن خلال حسه القومي العربي:
شعت شموسها على آفاقها
فلكاً تلألأ بالنجوم ونوّرا
شعت بـه (الفسطـاط) واتشحت بـه
حول (المقطم)، في (الكنانة) (أزهرا)
وسمت (دمشـق) به ينوِّر أفقهـا
في (الشام) بـ (الأموي) يشق مُسفرا
وتطاولت (بغداد) تلبس تاج (ها
رون الرشيد)، على البرية مزهرا
مجد تعالى، لا يطال، تراه في الـ
أمصار، بين المسلمين، منثرا
في (فاس) أو في (القيروان) وفي ذرى
(وهران) أو في (تلمسان) مصوّرا
وعلى مطالع كل نجم زاهر
تحت السماء، مبوءاً ومصدَّرا
وكما كان شاعرنا يترجم أحاسيس ملايين الجماهير المسلمة حيال مكة وديارها ومقدساتها وأحداثها الربانية، كحقائق تتوج بها البشرية جبينها.. فكذلك كان -في الوقت نفسه- يترجم حبه وشغفه وتعلقه بمكة من خلال عالمه الصغير الخاص، وذكرياته الطفولية التي "يفوح بها أريج مكة". يوم كان ابن ثمان أو يزيد تلميذاً في مدرسة (الماحي) بحي (الشبيكة)، ويؤم المصلين، حافظاً للقرآن.. فكانت مكة تستغرقه من كل جوارحه.. فيحِنُّ إليها، وتبدو له (ذات أبعاد وأسفار)، حتى ولو كان بعاده عند (الحجون) القريب:
إذا النوى طوحت بي (للحجون) بدت
لي (مكة) ذات أبعاد وأسفار
وطالما قمت في (الماحي) مكبرة
خلفي صفوف تراويح وأذكار
يؤمها (ابن ثمان) في عمامته
إذا تلا (الجزو) كان الحافظ القاري
أو يوم كان يشهد (الركب)، وهو الموكب السنوي الذي يشد أهل مكة فيه الرحال من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، لزيارة المسجد النبوي الشريف، في جمع زاخر.. له عاداته وتقاليده وبهجته وأهازيجه، ويوم عودة الركب إلى مكة من أيام أم القرى الغراء المحجلة، تحتفي مكة كلها بالعائدين في مهرجانات صاخبة.
وما زال ذلك الموكب المهرجاني، يعيش في ذاكرة الشاعر.. ما زال فرح الطفولة يسري في روحه.. لقد عبر الشاعر بلخير عن ذلك (الكرنفال) الشعبي بكل دقة ورشاقة.. ونفذ إلى أعماق تلك (التظاهرة) الشعبية، وتقاليدها بكل أحاسيسه الوجدانية، ومشاعره الدينية، فكانت لوحة اجتماعية، نادرة بأبعادها ومدلولاتها:
ولست أنسى دخول (الركب) صاخبة
جموعه فهو في سمعي وإبصاري
إذا تعالى به صوت (الحدأة) زهت
ركائب (الركب) في زهو وإكبار
تهتز منه شعاب (أم القرى) طرباً
في أمسيات من الذكرى وأسحار
إذا سمعنا بشير الركب سال بنا
(لحارة الباب) سيل صاخب جار
يهزنا صخب (البشرى) كأن بنا
مساً من السحر من قيثار سحار
تكاد تسبقنا فيما نخب له
(أعلام جرول) من دوح وأشجار
وتنتشي كـل (حوراء مطهرة)
ملء النوافذ في آفاق أقمار
كأن في شرفات الدور لمع سنا
مجرة، من نجوم ذات أنوار
فيهن من (عبد شمس) كل فاتنة
تطل من شرفات ذات أستار
لهن في صهوات الخيل (أفئدة)
يزهو بها (الركب) من آل وأصهار
يرمينهم (بفتات المسـك) عايـدة
شفاههن بذكر الحافظ الباري
ويعبق (العود) فيها من (مباخره)
يضوع في الحي دار إلى دار
مع (الزغاريد) أجراس النجوم إذا
تماوجت فهي من أصداء أوتار
تهتز منها نياط القلب خافقة
ضلوعه كاهتزاز السلك من نار
وهكذا، فإن مكة لا تمثل للشاعر بلخير أرضاً مقدسة وطأتها قدما الرسول، أو جبلاً علاه متعبداً، أو مهبط وحي، ورسالة سماوية لم تشهدها الأديان الأخرى فحسب، وإنما مكة تمثل لشاعرنا أيضاً ذاك الكيان الديني العظيم الذي يعيش في جوارحه وروحه..
لذلك فشاعرنا بلخير يعيش مجتمعاً مصغراً عن المجتمع المكي الديني الكبير.. في كل تصرفاته، وسلوكه وتعبده. أي يعيش في النطاق الاجتماعي الصغير، الذي تزينه له مخيلته وثقافته وشخصيته المحددة.. من خلال البيئة الكونية الكبرى التي تتمتع بها مكة بين بلدان الدنيا.
وهكذا نرى الشاعر عبد الله بلخير، يعبر في شعره الديني، وإحساسه بالأماكن المقدسة، من خلال تجربته الدينية، وذكرياته القديمة مع أجواء الديار التاريخية المشرفة، التي وعاها بالفطرة والحدس، وعايشها بالتجربة والحس. لذلك فقد ظهر لنا شعره المكي أو في (أم القرى)، يتواكب في اتجاهين يبدوان للوهلة الأولى أنهما متفارقان، ولكنهما -في الحقيقة- متسقان ومتكاملان.. هما: الاتجاه الديني العام، والاتجاه الديني الخاص. لأن إحساسه بمشاعره الدينية الذاتية (الخاصة) هي وليدة لأحاسيسه ومشاعره الإسلامية العامة التي تكتنف العالم الإسلامي عبر التاريخ. فكان يعبر مرة عن حقائق إسلامية عامة سجلتها السماء تاريخاً شاخصاً للعباد.. ومرة أخرى كان يعبر في حبه لمكة عن تجاربه ومعاناته الدينية التي سلكها من خلال عالمه الديني الصغير.
وفي الحالين كان الشاعر بلخير ينزع في شعره المكي نزعة إسلامية ذاتية فنية ممزوجة بإحساسه العربي، كما ستظهر لنا في ملاحمه الإسلامية والأندلسية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1028  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.