شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الميراث (1)
بلغ (قاسم أفندي) ما يطلقون (عليه السن القانونية) في عالم التوظيف والموظفين. و (قاسم أفندي) هذا هو أحد كبار مستخدمي الحكومة في الحجاز في أواخر العهد التركي، وقد أُحيل هذا الموظف الكبير القديم إلى التقاعد ليحل محله في خدمة الدولة من يكون أقوى منه على القيام بأعباء هذه الخدمة، وأقدر على تحمل مسؤولياتها ممن لم يبلغوا تلك السن ولما يزالوا في دور الكهولة أو في دور الشباب.
وفي الحقيقة، لقد جنى القانون أيما جناية على هذا الموظف الكفء النشيط، وما أكثر جنايات القانون؛ ولو أنها في الغالب؛ ليست عمداً وليست بسبق إصرار.. فعلى الرغم من بلوغ (قاسم أفندي)، حقيقةً، سن الستين؛ وهي سن الإحالة على المعاش، فإنه لم يزل إلى ذلك التاريخ شاباً بكل معنى الشباب؛ مِلءُ نفسه الفتوة والقوة، وملءُ جسمه الحيوية والنشاط. لقد كان أقوى على القيام بأعباء عمله الحكومي، وأقدر على تحمل مسؤولياته الجسام من كثيرين من الشباب؛ دعْ عنك ما أفادته إياه تجارب السنين من خبرة ونضوج وما أكسبه مرانه الطويل في شتى الأعمال من حنكة قلَّما تُتاح لمن هم دونه في السن من الشبان الأقوياء.
ومن حسن الحظ، استطاع (قاسم أفندي) أن يجمع خلال خدمته الطويلة للحكومة، (قليلاً من المال)، ولم يكن هذا القليل إلاّ من متوفر راتبه ليس إلاّ؛ لقد كان (قاسم أفندي) حقاً إنساناً (على الفطرة) إن صح هذا الوصف في مثل هذا المقام؛ لم يكن يعرف هذا الموظف النزيه، أو بعبارة أخرى، لم يكن يستبيح لنفسه مورداً -كموظف- سوى راتبه الذي يتقاضاه في نهاية الشهر، أمَّا ما عدا ذلك مما قد يُتاح أحياناً لأمثاله، فقد كان (شذوذ) قاسم أفندي في إبائه تناول أي شيء من هذا القبيل، مِمَّا يدهش -إلى حد بعيد- كثيراً من معاشريه.
وفي المعاش الذي أصبح يتقاضاه، بعد أن أُحيل إلى التقاعد ما يكفيه لتأمين احتياجاته كلها، وإذن فما أخَلقه بعد أن أدَّى واجبه العملي في الحياة، وبعد أن منحه (قانون الدولة) حق الاستراحة والعيش في ظلال السكينة والهدوء، وبعد أن أصبح لديه من المال المتوفر ومن معاش تقاعده ما يكفيه لتأمين تلك الاحتياجات، ما أخلقه بعد كل هذا أن يستجيب لكل هذه الدواعي.. وأن يظل في البقية الباقية له من العمر مرتاحاً هادئاً، بعيداً كل البعد عن هذا العناء الذي لا مخلص من أن يتكبده العاملون جميعاً وعن هذه الضجة التي لا مفر لهم من أن يخالطوها ولو كانوا لها كارهين.
وصاحبنا إذ يفعل ذلك لا يأتي أمراً بدعاً، بل هو يحذو فيه حذو جميع إخوانه المتقاعدين. لكن قاسم أفندي الشاب؛ الذي جنى عليه القانون بإحالته على المعاش قبل الأوان. قاسم أفندي هذا يأبى إلاّ أن يواصل جهوده العملية على الرغم من إباحة القانون له أن يستريح ولمَ لا يعمل؟ ولمَ لا يستمر في عمله إلى ما شاء الله وقد منحه الله القدرة على ذلك؟
ويُظهر هذا الموظف القديم العهد بالرسميات، أروع الأمثلة على أنه في الميدان التجاري: ميدان (عمله الجديد)، لا يقل عن أمهر رجاله مرونة وكفاءة ونشاطاً. لم يكن رأسماله فحسب ذلك (القليل من المال) الذي انتهى إليه بعد أن انتهى من تأدية رسالته الأولى.. بل كان (رأس ماله الآخر) طموحه وإرادته ومرونته ونشاطه ثم أولاً وأخيراً استقامته التي كانت لدى جميع عارفيه مضرب الأمثال.
هذا النجاح المرموق، هذا النجاح الذي ما فتئ يرافق على الدوام هذا الموظف القديم والتاجر الكبير منذ أن خاض معمعة الحياة شاباً وكهلاً وشيخاً هذا النجاح السعيد ما كان أجدره حقاً أن يجعل من حياة هذا الرجل واحة خضراء مملوءة بأفانين السعادة والهناء ولا يكدرها أي ألم أو شقاء.
لكن الحياة.. الحياة لا مناص فيها من الألم، ولا محيص فيها من الهم، ولا مندوحة فيها من الشقاء، وقاسم أفندي الرجل الناجح الموفق السعيد، لا بد أن يتألم، ولا بد أن يبتلى بشيء من الفشل والإخفاق، ولا بد أن يشقى، وهو إذ يشقى إنما يشقى بأقرب الناس إليه، بابنه (سليم) الذي لم يشأ القدر أن يكون شبلاً من ذلك الأسد.. وأن يرث أي خصلة من خصال أبيه، وأن تُجدي نفعاً معه شتى المحاولات في سبيل إصلاحه، ثم في سبيل تعليمه، وأخيراً في سبيل تدريبه وإعداده لأن يكون رجلاً.. ومن ثَمَّ ليحل محل أبيه يوماً ما في إدارة أعماله الواسعة التي لم تكن لولا عصامية هذا الأب شيئاً مذكوراً.
كان سليم هذا ذكياً ولكنه نشأ في أحضان الدلال، وترعرع في ظل الرخاء وشَبَّ على عقيدة أنه من أبناء الأثرياء الذين لهم من ثراء أهليهم، وما سيصل إليهم من ميراثهم، إن عاجلاً أو آجلاً، مندوحة عن هذا الهم الذي يفرضه عليهم التعليم؛ فما أكثر ما حاول له أبوه أن يستمر في المدرسة الرشدية، وهي المدرسة الحكومية الوحيدة في مكة في عهد الأتراك، ولكنها محاولات كانت كلها عقيمة، وأبى سليم إلاّ أن يثور على العلم، على أبيه، ومن ثم على محاولة من محاولات إصلاحه وتقويم إعوجاجه، فما هو إلاّ وقد أخذت أحواله تسوء وتسوء، كنتيجة محتومة لهذه الثورة الرعناء، وما هو إلاّ أن أضاف إلى (الجهل) (سوء الأخلاق).
كانت البيئة في ذلك الوقت، هي العامل الأول في هذه النهاية التي انتهى إليها سليم، فقد كانت روح التعليم أقرب إلى الموت منها إلى الحياة، كان الأكثرون من الناس -إلاّ من شذَّ- ينظرون إلى أي تعليم بنفور واشمئزاز، ويكاد يكون من العيوب الفاضحة في محيط المتمولين أن يبعثوا بأبنائهم وفلذات أكبادهم إلى دُور العلم، لأن معنى ذلك الاحتياج إلى توظيف هؤلاء الأبناء، وهم أنأى الناس عن هذا الاحتياج..
لم يكن قاسم أفندي طبعاً من هذا الطراز، ولم يكن ممن يحملون هذه الفكرة الخاطئة عن التعليم وعن العلم، ولذا كان تفكيره مختلفاً، وحاول أن يفعل غير ما كانوا يفعلون غير أنه أخفق في ذلك، واندفع ابنه مع تيار البيئة الجارف، لأن تأثير هذه البيئة كان أفعل في نفسه من تأثير أبيه..
* * *
وحُم القضاء وجاء اليوم الموعود، وانتقل (قاسم أفندي) إلى رحمة مولاه، وتحقق ما كان ينتظره سليم، إذ آل إليه ذلك (الميراث العظيم) الذي طالما كان به من الحالمين.
ولو أن الجهل وحده كان الداء الذي مُني به سليم وكفى، إذن لكان ميسوراً له أن يهيمن على هذا الميراث هيمنة من يستطيع المحافظة عليه، وأن يدير أعمال أبيه بمنتهى السهولة التي يديرها في مختلف الأعمال التجارية كثيرون من أمثاله ممن حرموا العلم وعاشوا في عداد الجاهلين، لكنه الجهل مضافاً إليه (أخلاق الضعفاء) من جبن وخور وتردد، ومن صغار في النفس، وسقوط في الهمة، وركود في الضمير، ومن ضعف في العزيمة وفقدان للإرادة، وعدم القدرة على مواجهة أي صعوبة من الصعوبات، أو تحمل أي مسؤولية من المسؤوليات، ولا تنْسَ ما ساقه إليه ميراثه وما ساقه إليه فراغه، وما ساقته إليه أخلاقه من انغماس في حمأة اللذة، وتورط ما بعده تورط في أخلاق السوء والفساد.
كل هذه الأدواء التي أُصيب بها سليم، كانت كفيلة بأن تهلك الحرث والنسل وأن تقضي على ذلك الميراث خلال سنوات معدودات.
لم يستطع سليم بعد أن أضاع ما وصل إليه من مال غير قليل، أن يعيش في عهده الأخير موظفاً على الأقل، كما كان أبوه يعيش في عهده الأول، لأن ما تتطلبه الوظيفة من مؤهلات لم يكن متوفراً لديه.
قال محدثي:
وكان الزائرون لمنزل (..........) أحد الوجهاء المعروفين منذ نصف قرن يرون على الدوام في إحدى الغرف المجاورة لمدخل ذلك المنزل (إنساناً متهدماً) يحمل من مظاهر الشيخوخة الفانية ما يبعد به كل البعد عن سن الشباب الذي لم يجاوزه بعد، ذلك هو (سليم قاسم) طاهي المنزل... بل ذلك هو ربيب النعمة والثراء الذي كان في عهد من عهوده التي توالت مع الماضي القريب، من كبار الوراث المعدودين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :935  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج