شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مقدمة (1)
بقلم الأستاذ عزيز ضياء
إخواني من الشيوخ يذكرون المحاضرة التي ألقاها حمزة في جمعية الإسعاف في شهر ذي الحجة عام ألف وثلاثمائة وتسعة وخمسين.. ولا شك أني سعيد الحظ حين تلقيت هدية الدكتور منصور إبراهيم الحازمي وهي الجزء الأول من كتابه: (معجم المصادر الصحفية) عما نشر من المقالات والقصائد والبحوث في جريدة أم القرى في الفترة من سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة وأربعين إلى سنة ألف وثلاثمائة وخمسة وستين. وأجده يمدني بما لم يكن في الوسع أن أذكره إذ يقول في الصفحة الثانية والخمسين: (أما قلة المحاضرات قبل عام 1936م فيرجع في ما يبدو إلى عدم وجود رابطة تجمع بين الناشئة من الأدباء المثقفين) ثم يقول: (ولعل هذه الرابطة قد بدأت تبرز إلى الوجود عندما تأسست جمعية الإسعاف الخيري بمكة المكرمة عام ألف وثلاثمائة وخمسة وخمسين، وهي السنة التي شهدت بدء النشاط الثقافي في إلقاء المحاضرات العامة. وقد رأينا جمعية الإسعاف تجتذب الكثير من الأدباء والمفكرين والأطباء والعلماء.. ولا شك أن من يؤرخ للحركة الثقافية في البلاد السعودية، لا يستطيع أن ينسى الدور المهم الذي لعبته هذه الجمعية الطبية الخيرية، والتي تأسست بعد سنوات قليلة من تأسيس الحكم السعودي في الحجاز).. وينهي الدكتور منصور إبراهيم الحازمي هذه الملاحظة بقوله: (الطب، والدين، والقضايا الإسلامية، والتاريخ، والتراجم..). ثم يضيف: (وهناك بعض المحاضرات التي تناولت موضوعات أخرى كالأدب والصحافة والاجتماع والاقتصاد والتعليم ولكنها قليلة إذا ما قيست بعدد المحاضرات التي تناولت الموضوعات الرئيسية الثلاثة التي ذكرناها) وفي الصفحة التاسعة والعشرين بعد المائتين، ضمن قائمة (المحاضرات) يذكر الدكتور منصور ما يشير إلى أن جريدة أم القرى قد نشرت (خبراً) عن محاضرة ألقاها (حمزة شحاتة) بعنوان (الخلق الكامل عنوان الرجولة).
ولم تنشر هذه المحاضرة كما سبق أن أشرت ورفض حمزة يرحمه الله أن يصدرها في كتاب -مستقلة أو مع مجموعة من شعره أو نثر- ولكنها ظلت المحاضرة التي لم ينسها أحد سواء ممن سمعوها منه أو سمعوا عنها ولعلهم ما يزالون يسمعون عنها حتى اليوم.
وهنا لا بد من وقفة قصيرة، نلتمس بها نوعاً من وزن الأسلوب الذي كتب به حمزة هذه المحاضرة وتمعن مستوى الأستاذية في اللغة، نحواً وصرفاً، ومفردات، وقدرة على أداء المعنى، وانتقاء الألفاظ التي يراعى فيها دقة الجرس الموسيقي في اللفظ بالنسبة للجملة، ثم منهج التحليل للموضوع الذي عالجه وهو كما أراده لا كما اقترح عليه، وكما نشرت عنه جريدة أم القرى... فقد عدل عن (الخلق الكامل عنوان الرجولة) واختار (الرجولة عماد الخلق الفاضل).
والتماس الوزن هنا يعود بنا إلى ما قلته من أن حمزة يبدو وكأنه قد ولد ودرج على تراب هذه الأرض قمة شامخة.. ولا أقول ولد عبقرياً، إذ خصيصة العبقري، أن يولد بطاقة قد تبكر في الظهور وقد تتأخر إلى أن يتاح لها التفجر والاندفاع بينما حمزة، قد بدأ منذ عرفه عشاق الحرف والكلمة قمة لا تدري كيف تكونت...؟
ولد حمزة، في عام ألف وثلاثمائة وثمانية وعشرين وألقى هذه المحاضرة، في عام ألف وثلاثمائة وتسعة وخمسين فهو يومها قد أتم الثلاثين من عمره... ونحن نعلم أن هذه المحاضرة ليست أول أعماله، فقد سبق أن ذكرت أنني عرفته في عام ألف وثلاثمائة وواحد وخمسين -أي يوم كان لا يزال في الثالثة والعشرين- ويعرفه قبلي الأستاذ (عبد الوهاب آشي) والأستاذ (محمد سعيد عامودي) والأستاذ (محمد حسن عواد)... وكلهم عرفوه شاعراً في الذروة وناثراً يمتلك ناصية اللغة والأسلوب امتلاك أستاذية تعمّق فنها وعلمها في الأمهات من المصادر.
ومرة أخرى، أجد نفسي مضطراً أن أتساءل متى؟ وكيف؟ أتيح له أن يبلغ هذه المرتبة التي تفترض أنه بلغها في العشرين.. ومن المفروض أنه لم يكن الوحيد الذي تخرج في مدرسة الفلاح ولم يكن أيضاً الوحيد الذي ابتعث إلى الهند. لم يكن الوحيد الذي قرأ ما قرأناه وظللنا نقرأه من مصادر الثقافة وينابيع الفكر.
يستطيع من يتفرغ لبحث أدب حمزة، في ما نرجو، أن يجمع من شعره، ونثره، وعلى الأخص رسائله، أن يجيب بما أسميه اكتشافاً للقصة، التي أقدِّم اللمحة عنها في هذا الحديث، واللمحة، لا أكثر ولا أقل.
بلغ عدد صفحات هذه المحاضرة مائة وإحدى وعشرين صفحة، بخط يده على ورق مقاسه (متوسط) واستغرق إلقاؤها أكثر من أربع ساعات وقوطعت بالتصفيق أكثر من ثلاثين مرة واجتمع لسماعها عدد من الناس قل أن اجتمع لسماع أي محاضرة سبقتها في جمعية الإسعاف.. فماذا في هذه المحاضرة؟؟
لا يتسع الوقت لعرض الكثير.. ولكني أستطيع أن أقدم النتف، والقطوف التي تلمح، أو تلقي بعض الضوء على الكثير مما فيها مما لا أجد له اسماً أكثر أو أقل من أنه فكر، وأدب، وفلسفة، وفن.
ويبدأ المحاضرة بقوله: (عندما يكون الإقدام على المخاطرة ضرورة، لا يعد شجاعة).
ويعلق على هذه الضرورة، فيقول: (للضرورة في حساب الحياة أبعد الأثر. والتطور ما لعب دوره الخطير في تكميل أسباب الحياة الاجتماعية إلا على أساس الضرورة الحافزة).
(إن حديثي في الواقع، ولا أسميه محاضرة، عن الخلق الكامل كعماد للرجولة، لا عن الضرورة كأساس للخلق الفاضل، أو كعماد للرجولة، لكني اخترت أن أمهد لهذا الحديث هذا التمهيد، وأن أزحزح العنوان المقترح عن وضعه قليلاً فيكون (الرجولة عماد الخلق الفاضل) لا الكامل، فما يزال الكمال نشدة الحياة المطولة ووهمها الذي ينساق أبداً في طلابه، وما دامت مراحل الحياة تمتد ولا تنتهي، وقوافل الأحياء تسير ما يثقل خطاها الزمن الجاهد، وما دام التغير الدائم، دأب الحياة وسبيل ما فيها، فهل نقول إن شيئاً كمل، قبل أن يوفى على غايته ويبلغ تمامه؟).
ويضيف، وكأنه يعتذر عن (زحزحة العنوان) فيقول:
(وأنا لست أعرف معنى لهذه الحرية، بيد أني ألفت أن أطلق لفكري عنانه.. فهذا عندي أخلق، بأن يجعلني أكثر شعوراً بحياتي، وفهماً لها، وأنا طامع بعد، في أن تحمدوا لي نتائج هذه الحرية إن شاء الله).
ثم يفلسف ألفته في إطلاق العنان لفكره فيقول:
(لا تكون النظرة إلى حقائق الحياة والفكر خالصة إلا من أناس يرون أنفسهم فوق قيودها وقوالبها، وهؤلاء يدعون بالمجانين تارة، وبالفلاسفة وقادة الفكر تارة، لأن حظ الصفات والمبادئ والنزعات يرتبط دائماً بحظ الداعين إليها والمتصفين بها من النجاح. هذه حقيقة فطن لها الناس من القدم فقالوا كثيراً ما معناه:
الناس من يلق خيراً قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
ليس هذا حظ الأحياء فحسب، بل حظ المبادئ والأغاني والنظريات، والفضائل وحظ موقفي بينكم الليلة...).
ويمضي فيقول:
(وأنا أريد التجريد، والتعرية كباحث، لا كمحاضر، فإني لو قصرت كلامي على الرجولة أو على الخلق الفاضل، خشيت أن يتحول حديثي إلى موعظة، لا تعدو أن تكون تمدحاً حماسياً بالفضائل دون تحليلها وردها إلى مصادرها، وتحديد قيمها ومعاييرها، وأثرها في صميم الحياة، وعلاقتها بالنفوس).
والتجريد مبدأ قديم لي، وهو مرضي الذي لا أشفى منه، عرفني به من عرفوا طريقتي في الحياة ومن قرأوا نظراتي القديمة في الخير والشر، وفي الفضائل والرذائل، وفي الحب... وفي الشعر).
(فإذا ظن ظان أن في ما أقوله الليلة خلطاً أو إطلاقاً أو شذوذاً، فإنما يكون هذا الظن معقولاً لا أضيق به، فهو عندي شبيه بالنظرة إلى مجهول لم يتكشف، لا إلى مجهول أخذ سبيله في التكشف والوضوح).
ويمضي بعد هذه المقدمة القصيرة، في ما يشبه التحليق تارة، والغوص تارة، وراء موضوعه، بحيث يرينا دنيا مترامية الأطراف، تلتف فيها خمائل الفكر، وتتفتح في ساحاتها مساتير الحقائق وتتلألأ في سمائها وأفلاكها أنهار من الضوء تمعن في أبعاد سحيقة، قد تحتاج لاستيعابها إلى منظار مقرب يسعفك بالتفاصيل ومقومات البناء والتكوين وتسرف في الاقتراب والإشعاع، حتى تبهر البصر، وترهق أو تزلزل ما استقر في الذهن من القواعد والأسس للكثير من المسلمات والبديهيات.
وقد رأينا في هذه المقدمة على قصرها، مستوى الأسلوب، الذي سبق أن تحدثت عنه. وما أظن أن أحداً من الكتاب في المملكة، وفي غيرها، تلك الأيام قد بلغ هذا الأوج من الجمال والترابط وتوخي جرس اللفظ في اتساقه مع الجملة، وهذا يعود إلى الأستاذية، التي لا تقف عند حد المعرفة من اللغة ودقائقها ومن نحوها وصرفها ومناهل البلاغة ومآتيها، وإنما تتخطى كل ذلك إلى فنية الأستذة إذا جاز التعبير.
مسيرته الثقافية
ونعود إلى الخلفيات الثقافية في حياة الشاعر، وفي حياة رصفائه في تلك الأيام.. ولا أجد بداً من وقفة قصيرة عند لطفي السيد باشا، فقد كنا نتسامع بعبقريته وعلمه وفضله على العلم والعلماء والأدب والأدباء، والفكر والمفكرين.. كما كنا نتسامع عن ترجمته لكتاب (السياسة) لأرسطو طاليس... عن الترجمة الفرنسية لبارتي سانتيهيلير... فنتمنى أن نرى هذه الترجمة مطبوعة.. ولم تطبع إلا في عام 1947م وأذكر أني كنت في القاهرة وكان حمزة رحمه الله قد استقر فيها. فما أسرع ما أخذنا نتدارسه معاً.. فينقضي الليل، وينام من في البيت من الأهل والأطفال... ويستيقظون في الصباح ليجدونا ما نزال كما تركونا في الساعات الأولى من الليل.. وأطباق الرماد طافحة بأعقاب السجاير. وأكواب الشاي تتثاءب فراغاً وحلق كل منا يتقصف جفافاً، فلا نكاد نلمح من استيقظ، حتى نستنجده بطلب شاي جديد، لنبدأ أو لنواصل الحديث عن أرسطو، وعن ذلك الغرض البعيد، الذي استهدفه (لطفي السيد) من ترجمة هذا الكتاب بالذات ومقدمة سانتيهلير فيه على الأخص.. بل ذهبنا إلى أن لطفي السيد لم ينقل الكتاب إلى العربية، إلا لينقل إليها هذه المقدمة.
وأدع جانباً تلك الدفقة الكبيرة من القصص التي نشط لنقلها إلى اللغة العربية أساطين فن الترجمة في مصر، من أمثال المرحوم الأستاذ (إبراهيم عبد القادر المازني) في قصة (ابن الطبيعة) للكاتب الروسي المغمور (هاتزبياتشيف)، وقد نقلها المازني عن الانجليزية. ولهذه القصة في حياتنا، تلك الأيام أثر لا ينسى، فقد كان يطيب لحمزة شحاتة رحمه الله، أن يسمي كلاً منا بأسماء أبطال القصة، ويختار لنفسه بطلها الأول أو الأظهر الذي تدور حول حياته القصة كلها، وهو "سانين"، واختار لي اسم "يوري" ولست أذكر بماذا سمى بقية المجموعة من الأصدقاء. وقد نشر المازني -بعد أكثر من عشر سنوات- قصة بعنوان إبراهيم الكاتب اتهمه بعض النقاد بأنه قد سرقها من (ابن الطبيعة). وقد قرأنا القصة، واستسخفت أنا رأي هؤلاء النقاد إذ لم يكن في وسع المازني أن يستغني أو أن يتخلى عن أسلوبه في ما يكتب، من أدبه أو من الآداب التي ينقلها إلى العربية. وكانت وجوه الشبه بين القصتين، تنحصر في هذا الأسلوب الرفيع الذي عرف به المازني رحمه الله.
ومن القصص التي لا بد أن تذكر، وتعتبر من الأسس في خلفياتها الثقافية، قصة (تاييس) و (الزنبقة الحمراء) لأناتول فرانس. وكان مما دار بيني وبين (حمزة) عن أناتول فرانس في هاتين القصتين، أن إنسانية فرانس، ومعالجته لموضوع الفحش والطهر، بالنسبة لتاييس، والراهب يافنوس، قد انطوت والتفّت أو هي اندثرت في الجو الخاص الذي تدور فيه أحداث الزنبقة الحمراء، وأن حريته المطلقة التي مارسها في تصوير (تاييس) الغانية. ثم (تاييس) القديسة قد جمدت جمود الكريستال على الموائد المترفة، وجمود الماس واللؤلؤ على صدور النساء في حفلات العشاء التي يدور حولها الأبطال في (الزنبقة الحمراء) ومع ذلك، فلم نكن نملك إعجابنا بأسلوب فرانس وتصويره الرائع للصراع الرهيب الذي ظل يعانيه الراهب (بافنوس) مع أفاعي الجنس التي تنهش صدره. والذئاب الجائعة في أعماق نفسه المحرومة من مطلبها الغريزي.. كان صورة أخاذة، عبقرية الملامح والألوان والسمات، لقدرة فرانس كفنان منطلق لا سبيل إلى أن تقف أمام ريشته وأفكاره أية سدود أو قيود. وأذكر كيف كنا نعض أصابعنا أسفاً على جهلنا باللغة الفرنسية. لنقرأ المزيد مما كتبه (أناتول فرانس) ولم يطل بنا الانتظار، فقد ترجم له من لا أذكر اسمه الآن -وليس من أعلام الترجمة- كتاباً باسم (حديقة أو مائدة أبيقور) فيلسوف اللذة المعروف ثم وقع في أيدينا كتاب آخر للأمير (شكيب أرسلان) عن (أناتول فرانس في مباذله) وبذل توهمنا أننا قد استكملنا بعض ما كان ينقصنا عن الإلمام المعقول بأدب (أناتول فرانس). ومن المؤسف أننا لا نجد من يهتم بإعادة طبع هذه الكتب اليوم، لنعود إلى شرائها، بعد أن بعتها في مزاد.
وإذ أذكر هذه القصص، لا أنسى، ولا ينسى رصفاؤنا الشيوخ، رواية نقلها إلى العربية (طانيوس عبده) تحت عنوان (أهوال الاستبداد) لكاتب روسي نسيت اسمه الآن. ثم (آنّا كارنينا) لتولستوي ولم تكن قصة (الحرب والسلام)، وهي من أشهر أعمال تولستوي، قد نقلت إلى العربية بعد. ولكن لم نفتأ أن نقرأ ما يكتب عنها في المجلات والصحف وعن تولستوي نفسه. وما زلت أذكر كيف كان تطلعنا إلى إنتاجه يزداد ويحتدم وبالأخص يوم قرأنا كلمة نسبت إلى (بيرنارد شو) يقول فيها عن كتاب لم ينقل إلى العربية باسم (ما هو الفن؟) لتولستوي: (ها نحن نسمع صوت أستاذ بحق)... وبالتتبع ربما كانت تحفل به مجلات تلك الأيام. عن أعاظم كتاب الأدب العالمي. استطعنا أن نكوّن حصيلة لا بأس بها من المعلومات والأفكار كثيرين ممن ذكرت وممن لا يتسع الوقت لذكرهم في هذا الحديث.
أما أدب المهجر، وعلى الأخص من أدبائه (جبران خليل جبران) و (إيليا أبو ماضي) و (ميخائيل نعيمة) فليس بيننا من ينكر أثرهم في بداية مراحل هذه الثقافة الذاتية. ومثل هذا الأدب وفي بداية تلك المرحلة أيضاً، يمكن أن نذكر كتب (مصطفى لطفي المنفلوطي)... ولكن ما كدنا نوغل في الأمهات من كتب الأدب العربي. وفي الواقع من المنقول إلى العربية من الأدب العالمي، ولجنة التأليف والترجمة والنشر في مصر صاحبة الفضل الكبير، في هذا النقل، حتى أخذنا نشعر بأن أدب المهجر يمكن أن يوقف المشاعر ويوجهها نحو أجواء الفن، ولكنه لا ينميها، ولا يبني العضلات الفكرية القوية، وأن أدب المنفلوطي يمكن أن يصلح للشداة والناشئين إذ يغري بالقراءة، ويعين على تكوين محصول قوي أحسن المنفلوطي اختياره من مفردات اللغة العربية، التي يسهل تناولها وربما هضمها في قصة كماجدولين أو سيرانودي برجراك. بينما يتعذر هذا الهضم على الشادي والناشئ، إذا ما قرأ "البيان والتبيين" للجاحظ، أو "مقدمة ابن خلدون" أو أي كتاب لأبي حيان التوحيدي.
أطلت دون شك، في ما يبدو استطراداً، وجنوحاً عن الحديث عن القمة التي لم تكتشف، ولكني أتحدث عن مسيرة ثقافية عشناها مع الفقيد في ظروف، كانت فورة الشباب، ونوازع الطموح ومشاعر الإيمان بحق الوطن علينا، تخفف من عسرها ووعثاء الرحلة ووعورة مسالكها، مع ضعف الموارد وانعدام أسباب الدعة والرخاء... بل وانعدام الضوء الذي نسهر به عاكفين على القراءة والبحث والمتابعة باستثناء (الفانوس الهندي) الذي نفضِّل الحجم الصغير منه، لندخله معنا في "الناموسية"، رغم شدة الحر، واحتباس النسمة، هرباً من البعوض، وإصراراً على القراءة والدرس مع عدم التخلف عن العمل في الوظائف التي نشغلها في أوقات الدوام المقررة. وقد كانت تعرف البداية في الصباح، ولا تعترف بالنهاية، ما دام هناك عمل يجب أن يؤدى، ولو استغرق ساعات طويلة من الليل. ولا أستطيع أن أؤرخ لدخول ما يسمى (الأتريك) في حياتنا ولكني أذكر فرحتنا به حين أصبح من الميسور شراؤه، بفتيلته وغازه، وعملية نفخه وشحنه بالهواء. ولا أخفي أننا كنا نشعر بالزهو، حين نستعد به لاستقبال الزائرين والضيوف، ولعل انتفاخة الزهو ونحن نراه يضيء (المجلس) كانت لا تقل عن انتفاخ الأتريك نفسه، مع إحساس بأننا -والحمد لله- قد أخذنا طريقنا إلى ما كنا نسمع عنه، ولا نرى له أثراً من حضارة القرن العشرين.
وبعد.. فقد قلت إن حمزة شحاتة يبدو وكأنه قد ولد قمة منذ درجت قدماه على تراب هذه الأرض. وللقارئ أن يسمي هذا مبالغة وإسرافاً في التقدير، ولا أنكر أن التعبير ينبض بهذا المعنى ولكن عندنا من الشواهد، ما يجعلنا نتساءل ونحن نستعرضها: متى؟؟؟ وكيف؟ استطاع حمزة أن يهضم كل الذي هضمه وتمثله من ثقافات، مصادرها التراث العربي القديم من جهة، ثم ما شهده الأدب العربي من تطور خلال فترة يمكن أن تحدد بما لا يقل عن قرن من الزمان من جهة أخرى.
صحيح أنه كان يقرأ ما نقرأ.. وصحيح أن ما كان يصل إلى أيدينا من الكتب، كان يصل إليه أيضاً. ولكن، كيف تأتى له ذلك النضج العقلي والفني وهو بين مرحلة الصبا الغض والشباب في فجره دون ضحاه؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1364  التعليقات :0
 

صفحة 1 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.