شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
السيرة الذاتية
حياة الشاعر حمزة شحاتة (1) مجهولة وغامضة.. ولا نستطيع الوقوف عليها، وعلى تفاصيلها بسهولة.
إن الشاعر حمزة شحاتة لم يخلف لنا شيئاً يعدُّ بصيص نور يساعدنا على الكشف عن غموض هذه الحياة المجهولة..
كل ما نعرفه عن حياة حمزة شحاتة هو أنه وُلد بمكة المكرمة عام 1328هـ ونزح إلى جدة صغيراً، وبها نشأ وترعرع، وتلقى تعليمه بمدرسة الفلاح بجدة، وفي الفلاح تفتق ذهنه بالشعر، وأخذ ينظمه وهو في العقد الثاني من عمره.
وبعد تخرجه من الفلاح سافر إلى الهند وتوظف هناك في بيت زينل للأعمال التجارية حيث مكث 10 سنوات.. وبعد عودته من الهند عيّن سكرتيراً للمجلس التجاري بجدة، ثم مديراً لإدارة سيارات الحكومة للنقل العام، ثم ترفع إلى وظيفة مساعد رئيس ديوان المحاسبات العامة بوزارة المالية، ثم استقال وعمل في الأعمال التجارية مع شقيقه التاجر المعروف الشيخ محمد نور شحاتة، ثم نزح إلى مصر وتعين هناك محامياً لدار البعثات السعودية ثم عاد إلى المملكة وتعين رئيساً لنقابة السيارات العامة.
وفي سنة 1391هـ (2) اختطفته المنية ومات مأسوفاً عليه وعلى أدبه الرائع المنقطع النظير.. وقد كانت لوفاته رنة حزن وأسف في الأوساط الأدبية في المملكة، وقد شارك الأدباء والشعراء في رثائه والتحدث عنه.. وقد كان من بين من نوهوا به كبار الأدباء والشعراء، أمثال الأساتذة: محمد حسن عواد، حسين سرحان، أحمد قنديل، محمد حسن فقي، ضياء الدين رجب، محمود عارف، عبد العزيز الرفاعي.. وغيرهم من الأدباء الشعراء الذين عرفوا حمزة شحاتة أديباً عملاقاً، وشاعراً فذاً.
تاريخ الميلاد:
- جميع المصادر تشير إلى عام 1328هـ-1910م (3) تاريخاً لمولد الشاعر، ولكن في كتاب "إلى ابنتي شيرين" (4) -تحت صورة لحمزة شحاتة أنها له في شرخ الشباب عام 1347هـ، وأن عمره حينئذ كان خمسة وعشرين عاماً، وعلى هذا يكون مولده عام 1322هـ أي عام 1904م وأرجح ذلك الرأي -لأنه هو رأي بنته شيرين ناشرة الكتاب، وهي مصدر وثيق عن الشاعر.
وفي الصفحة الأولى من كتاب "حمار حمزة شحاتة" أن ميلاده عام 1330هـ-1910م، وأن وفاته عام 1393هـ-1973م.
وبالرجوع إلى جريدة المدينة المنورة عدد 16 من ذي الحجة 1391هـ-1971م نجدها تنعي الشاعر، وتذكر أنه توفي في القاهرة، ونقل جثمانه إلى المملكة حيث شيع إلى مثواه الأخير في مكة المكرمة يوم 15 من ذي الحجة 1391هـ. وليس بعد ذلك كلام.
حياته الزوجية:
تزوج شحاتة زوجتين، ورزق خمس بنات، منهن: سهام، ليلى، زلفى، شيرين.. التي تزوجت من غازي عبد المجيد، ولم ينجب ولداً (5) .
* * *
وقد عمل الشاعر مع أخيه محمد نور شحاتة في التجارة في جدة:
اعتقال:
وقد اعتقل الشاعر مع عدد من الشباب على إثر الفتنة -التي شغب بها "حامد بن سالم بن رفادة" وانتهت بقتله وابنيه، على مقربة من ضبا في الشمال من ساحل البحر الأحمر في عام 1351هـ، وكان من هؤلاء الشباب:
- عبد الوهاب آشي أول رئيس لتحرير جريدة "صوت الحجاز" التي صدر العدد الأول منها في يوم الاثنين 27 من ذي القعدة عام 1350هـ.
- محمد حسن عواد الشاعر المعروف، وكان مديراً لتحرير هذه الجريدة.
حمزة شحاتة الشاعر المشهور (6) .
معركة الشاعر مع العواد:
وهذه المعركة قد لفتت إليها كل الناس، وبعض فصولها نشر في صحيفة "صوت الحجاز".
وقد شارك فيها أحمد قنديل نصيراً لحمزة شحاتة، ومحمود عارف نصيراً للعواد.
وفي كتاب "الشعراء الثلاثة" للساسي ملحمة لحمزة شحاتة، وكانت واحدة مما نشر في "صوت الحجاز" وفي ختامها يقول حمزة شحاتة:
ومضى الدهر لا ينقل رجلاً
تستوي عنده صبا ودبور
هازئاً بالغرور والصحف والبا
طل والدهر بالحياة بصير
وأخذ الشاعران يهجو كل منهما الآخر بشعره، ويروي هذا الشعر، وينشره المنشدون والرواة في كل مكان.
لقد كان من أهم المعارك الأدبية في الحجاز معركة العواد مع الأستاذ حمزة شحاتة، رحمهما الله.. وقد استمرت شهوراً طويلة، وكانت معركة شعرية رمزية انتهت نهاية سيئة مؤسفة.
كان العواد محققاً بالقسم العدلي بإدارة الأمن العام في مكة المكرمة وكان المرحوم الأستاذ طلعت وفا رئيس القسم العدلي صديقاً حميماً للأستاذ حمزة شحاتة، وكان حمزة شحاتة دائم الشكوى من العواد ينتقد تصرفاته وأعماله، وأحب طلعت وفا أن يجمع بين الأديبين الكبيرين لإصلاح ذات البين وتصفية النفوس، فاجتمعا بمنزل طلعت وفا في أجياد، وطال النقاش، وكان الموجودون يودون أن ينتهي الاجتماع بالوفاق، خاصة وأن العواد وحمزة شحاتة شاعران كبيران، وهاجم حمزة شحاتة العواد مهاجمة شديدة جارحة وانتهى الاجتماع بالقطيعة، بل أسفر عن خصام شديد.. وبدأت المعركة بقصيدة أو على الأصح بقصائد شعرية ينظمها حمزة ويرد عليها العواد، وكانت قصائد طويلة تنشر جميعها في جريدة صوت الحجاز، وكان الناس يترقبونها كل أسبوع، وكانت الجريدة أسبوعية في ذلك الوقت، وكان حمزة قد اتخذ اسم الليل رمزاً له في هذه المعركة، ثم تحول فيما بعد إلى العاصفة، أما العواد فكان الساحر العظيم هو الرمز الذي اختاره لنفسه، من الناحية الفنية كانت هذه القصائد كسباً للأدب، لأنها جاءت في أسلوب فني لشاعرين من أكبر الشعراء في ذلك الزمان في البلاد، كما كانت مجالاً للنقاش المستمر بين الأدباء والقارئين، ولو أن المعركة اقتصرت على هذا الحد لكان ذلك حسناً، ولكنها تطورت للأسف الشديد إلى مهاجمة تناول فيها كل "صاحبه" تناولاً سيئاً، وكانت هذه المهاجاة لا تنشر في صوت الحجاز، لأنها لم تكن صالحة للنشر، ولكن هذه القصائد كانت تكتب باليد على نسخ متعددة، وتوزع في أماكن تجمعات الناس في مكة، وقد جرَّت المهاجاة بين حمزة والعواد إلى دخول شاعرين آخرين فيها، وهما الأستاذ الشاعر أحمد قنديل رحمه الله انتصاراً لصديقه حمزة شحاتة، ودفاعاً عنه، والأستاذ الشاعر محمود عارف مساعداً ومدافعاً عن أستاذه محمد حسن عواد، ولم يكف كلاهما عن هذه المهاجاة إلاّ بعد أن اتسع نطاق توزيع هذه القصائد الهجائية، وخشي الطرفان أن تجر عليهما الجرائر، فطويا تلك الصفحة السوداء، وحسناً فعلا.
وقد نظم العواد قصيدته الكبرى "الساحر العظيم" في أكثر من خمسمائة بيت وأفرد لها جزءاً خاصاً من ديوانه، وهي تمثل الخصومة الشعرية الكبرى التي نشبت بينه وبين الأديب الراحل الأستاذ حمزة شحاتة، ولم يكتف العواد في "الساحر العظيم" بحمزة، وإنما تعرض لكل من جرت بينه وبينهم معارك أدبية، مثل المرحومين أحمد قنديل والشيخ حسين باسلامة مؤلف كتاب سيد العرب، والأستاذ عبد القدوس الأنصاري، وغيرهم، وقد رمز العواد لكل منهم رمزاً معيناً، وحسناً فعل.. مطلع هذه القصيدة أو الملحمة هو:
عشق الخلد طامحاً نزاعا
فامتطى فنه إليه طماعا
شاعر فنه يحلق بالفكـ
ـر إلى عالم أشد ارتفاعا
ويتحدث الأستاذ الأديب السعودي إبراهيم فودة عن معركة حمزة شحاتة والعواد فيقول:
"تعتبر معارك العواد مع أقرانه وزملائه الأدباء والشعراء في وقت مبكر من ظهور بوادر النهضة الأدبية في الجزيرة من أشد المعارك الأدبية التي شهدتها بلادنا.. وللعواد معارك أدبية كبرى وصغرى. أما الكبرى فهي تلك التي نشبت بينه وبين الأدباء العمالقة أمثاله. وأشهر تلك المعارك المعركة الأولى التي نشبت بينه وبين الأديب حمزة شحاتة. كان العواد وشحاتة يدرسان في مدرسة الفلاح بجدة، وكان حمزة شحاتة يعتد بنفسه كشاعر موهوب، والعواد يكره ذلك، فتولدت بين الأديبين اللامعين غيرة شديدة، ووجدت إدارة المدرسة في خلاف الأديبين النابغين فرصة للتنافس الأدبي الشريف الذي يستفيد منه الطلبة. وكان العواد ينتقد بشعره، بين الحين والآخر، إدارة المدرسة، وكان المدافع عنها حمزة شحاتة.
وبالرغم من الخصومة الأدبية التي كانت تسود جو الأديبين العملاقين "العواد وشحاتة"، فإن الصلة بينهما كانت قوية متشابكة، لأنهما تعلما في مدرسة واحدة، وارتبطت صداقة كل منهما بالآخر كشاعر حديث السن.. وكان الشعور بالود يسود جوهما، والحب والوفاق يضفيان عليها ألقاً من شعاع الأدب ووهج الفكر. كانت بداية المعركة بينهما في سنة 1355هـ على صفحات جريدة (صوت الحجاز)، التي نشرت قصيدة بتوقيع "الشاعر العجوز" دون أن يذكر عليها اسم الشاعر، وقد تأكد لدى العواد أن صاحب القصيدة هو حمزة شحاتة، ذلك لأن هذا اللقب سبق أن أطلقه العواد على شحاتة، وهما صبيان في المدرسة. ويبدو أن حمزة شحاتة كان يريد أن ينتقم من العواد بصورة معاكسة ظنًّا منه أن اللقب قد نسي. فانبرى العواد للهجوم عليه بقصيدته المعروفة بعنوان "هجو الليل" وبتوقيع "أبولون" والعواد عندما عنون قصيدته بهذا العنوان يعني به حمزة شحاتة الذي كان ينشر قصائده ومقالاته بتوقيع "هول الليل".
احتدم النقاش والصراع بين الأديبين وحمي وطيس العراك بينهما، وحمل كل منهما على الآخر حملة كان لها أعمق الأثر في الأوساط الأدبية.. وكانت الصحف تشهد المعركة حيث تنشر القصائد في صفحاتها.. وكان العواد يرسل ملاحمه إلى الجريدة فتنشر أولاً بأول. ويرد شحاتة عليه بالمثل.. وهكذا... حتى أسفر الصراع عن خروج رائعة العواد "الساحر العظيم".. وقد كانت من أهم نتائج هذا العراك.. وكان من أبرز ما تأثر به الأدب من هذه المعارك أن شهد دبيباً وطحناً لم يشهده الوسط الأدبي من قبل. ومن أبرز النتائج كما ذكر الأستاذ الساسي: أن تلك المعارك بعثت في نفس الشباب روح الأدب والتعلق به ومتابعته. وكانت "صوت الحجاز" مسرحاً للأدب والشعر، يتلقفها الناس، ويتهافتون عليها، بشعور الإيمان بفكرة الأدب والثورة الأدبية التي تفتقت عنها الأذهان. ولقحت الأفكار والآراء.. أما العواد فقد قال عن قصائد عراكه: "ما كنت أرغب في نشر هذه القصائد على الناس بل كنت أفضل أن تدفن إلى الأبد وأن تمزق، أو تلتهمها النار، لا بسبب فني، ولا بسبب أدبي، ولا للدعوى أو التواضع، ولكن لشيء إنساني ثمين، وهو مراعاة الود بيني وبين الإخوان والأدباء الذين وجهت إليهم هذه القصائد نقداً أو تقريعاً، بعد أن ساد بيننا الود وذهبت أسباب الجفاء، واستقرت الضمائر على المحبة، ووطنت النفوس على الإخاء والتعاون.
وقد اعتذر العواد فيما بعد لحمزة شحاتة بقصيدة عنوانها "عتاب" نشرها في ديوانه "نحو كيان جديد" صفحة 175.
ويقول الأديب السعودي محمد حسين زيدان:
"محمد حسن عواد أنكر على حمزة شحاتة أن يبرز في جدة هذا البروز، وأن يكون كأحد شبابها البارزين، لأن كثيراً من الناس لا يعرفون أن حمزة مكي المولد والمنشأ، وما جاء جدة إلاّ مؤخراً ولكن كبر في (جدة) وعظم، فاستحوذ على الشباب، وهذا من الحوافز التي جعلت العواد ينكر على "حمزة" ذلك.
وحمزة صريح التحدي.. مصارع.. لأن حمزة ذو فكر كبير جداً، ولهذا كان الصراع شخصياً وليس فكرياً. على أي فكر اختلفا.. على أي مبدأ اختلفا، لا أريد أن أرتفع بهما إلى القول بأن ما كان بينهما كان صراعاً فكرياً (7) .
ويقول عزيز ضياء (8) :
الحياة الفكرية في مصر كانت تختلف كلياً عن الحياة الفكرية في المملكة العربية السعودية، فحياتنا الفكرية في جدة أو مكة كانت عبارة عن اجتماعاتنا وقراءاتنا الكتب الحديثة و "صوت الحجاز" التي كانت تصدر أسبوعياً وبها بعض المقالات -كنا نباهي بها خطأ أو صواباً. والأهاجي بين حمزة وبين عواد أو بين فريق حمزة وفريق عواد، كانت تحدث كثيراً جداً من الضجة والضجيج. وأذكر بهذه المناسبة عبد السلام الساسي، الذي كتب موسوعات عن الأدب في المملكة العربية السعودية.. هذا الرجل عجيب جداً في قدرته على الحفظ. كان إذا كتب حمزة شحاتة قصيدة شعر يهجو بها عواداً تجد الأستاذ الساسي قد حفظها، فإذا كتب العواد قصيدة يهجو بها حمزة شحاتة يكون عبد السلام قد حفظها أيضاً، وكنا نجتمع في (المسفلة) في حفل كانت به بعض مزارع البرسيم وكنا نطلق عليها (الأولمب) وكان "عبد السلام الساسي" يأتي إلى تلك الاجتماعات ويلقي علينا ما حفظ من شعر حمزة أو ما حفظه من شعر العواد فتبدأ المناقشة أن هذا البيت أجمل وأن هذا البيت ألطف، أو هذا البيت أوقع.
وأعجب شيء في حمزة شحاتة أنك لا تدري كيف استطاع في سنه، ويومها أنا كنت في الثانية والعشرين وكان هو في الخامسة والعشرين فكيف في الخامسة والعشرين سنة من عمره قد استطاع أن يستوعب كل ما أستوعبه وكل ما تلمسه في ثقافته من آراء وأفكار، يكاد يكون هذا شيئاً نادراً وغريباً.. تشعر أن النبض الفكري عنده يختلف كلية عن النبض الفكري الذي كان في الساحة في ذلك الوقت، سواء في المملكة أو حتى في مصر أو في سوريا وفي لبنان. ولا يتهم حمزة بأنه كان يقلد الرافعي أو طه حسين، أنا اتهمت بتقليد طه، ولا أنكر في بداية نشأتي كان لا بد أن أقلد.
ويقول العواد نفسه (9) :
إن أدباء الحجاز أخذوا يتراشقون السهام مع بعضهم فأخذوا ينقدون كتابات بعضهم، ويحتدم النقاش وأحياناً يكون مفتعلاً، أو فيه شيء من الهجاء، أو شيء من الدعاية، مثل ما كان يدور شعرياً بين محمد حسن عواد وحمزة شحاتة، رحمهما الله. وأحياناً يكون فيه شيء من الحدة والنقد الشخصي مثل ذلك النقد الذي دار بين العواد وعبد القدوس الأنصاري. ولا أسميها معارك، ولكنها كانت عبارة عن مناوشات، أو عبارة عن نقاش أدبي.
وقد نقد حمزة شحاتة كتاب العواد "خواطر مصرحة" نقداً فنياً وكان يضرب المثل بشوقي على اعتبار أن شوقي هو المثل الأعلى. وخلاصة القول إن مقصده، كان أن ينال الكتاب فنياً وليس فكرياً على ما أعتقد. وقد أستشهد في نقده بقصيدة شوقي في "أنس الوجود" وقال: إنها قصيدة عظيمة، وكتب هذا النقد في أوراق، وصار ينشرها، ومن هنا صارت حركة أشبه بالعدائية، وكنا أطفالاً أو شباناً أصحاب دماء حارة ويؤثر عليهم النقد. ولم يألفوا أن يهاجمهم أحد أو ينقدهم أحد، فلم نتمالك أنفسنا من الغضب فثارت بعض مواقف الاحتكاك. كنت في مكة فكتبت قصيدة في "هجو الليل" وكنت أقصد الليل الحقيقي بدليل أنني أتيت بصفات الليل. وهذه القصيدة منشورة على ما أذكر في "صوت الحجاز" (10) فدخل بعض الواشين بيني وبين حمزة فقالوا له إنه يقصدك أنت لأنك أنت الذي كتبت مقالات بتوقيع "هول الليل" (11) وأنا كتبت قصيدة بعنوان "هجو لليل" فمن هنا دخلوا فقالوا له إنني أقصده هو، فتأثر وكتب قصيدة يهجوني بها بعنوان: "إلى أبولون" وأنا كنت أوقع باسم (أبولون) رددت عليها بمثلها، وتوالت الردود بيني وبينه.. قصائد شعرية.
ويقول عزيز ضياء في ذلك:
جاء حمزة شحاتة بصحبة أخويه إلى جدة، وانضم إلى مدرسة الفلاح، وكان العواد تلميذاً فيها، وصارا أصدقاء، فضلاً عن كونهما زملاء..
ولما أخرج العواد كتابه "خواطر مصرحة" عام 1345هـ.. نقد حمزة شحاتة الكتاب، فكان ذلك مما أثار الشر بين الشاعرين (12) .
وقد اعتذر العواد للشاعر حمزة شحاتة أخيراً عن هذه الخصومة، وذلك بقصيدة من شعره.
ففي قصيدة العواد "عتاب" (ص175 -من الجزء الأول من ديوان العواد "نحو كيان جديد" -الطبعة الأولى 1978م بمطبعة نهضة مصر بالفجالة بالقاهرة)، ويقول العواد منها:
أخي حمزة كيف الوشاة تغلبوا
وكيف تحرانا السخيف المذبذب
أما منك إن زادت عليك حماقة
تحمل من أن شاء يرضى ويغضب
لك الحب موفوراً بنفسي، كامناً
تباعده أسبابه وتقرب
فلا تشدد الحبل الذي مد بيننا
ولا تعتبرني في الصداقة أكذب
وسامح، وأنت المرتجى من تواصلت
أوامره، واصفح فإني مذنب
في القاهرة:
وفي القاهرة قرب ميدان الجيزة، عاش حمزة شحاتة، طويلاً، يذهب إلى المكتب التعليمي السعودي، ويلتقي بأصدقائه السعوديين في القاهرة: عبد الله عبد الجبار -إبراهيم هاشم الفلالي -محمد خليل عناني -محمد سعيد بابصيل -وسواهم.
ويذهب إلى "ندوة رابطة الأدب الحديث" في دارها في ندوتها الأسبوعية مساء يوم الثلاثاء فيلتقي بالعديد من الأدباء والشعراء، ويجلس في (كازينو) في الصباح مع أصدقائه من السعوديين، وفي المنزل يجلس مع الكتاب، يقرأ وينظم الشعر.
ويقول الأستاذ عبد الله عبد الجبار في مقدمة كتاب "حمار حمزة شحاتة " (13) .
"حينما كان -حمزة شحاتة- محاسباً للبعثات السعودية بمصر كان يقضي وقته على الدوام وهو يناقش طلاب الجامعة في شؤون الحياة والفكر والأدب فيستهويهم حديثه، ويشعرون أنهم إزاء مفكر غير عادي، ويظل معهم على هذا النحو إلى أن يحين وقت انصراف الموظفين إلى دورهم فيبدأ في عمله الرسمي، ويحبس نفسه وموظفيه المساكين إلى الليل".
وفاة الشاعر:
وفي 12/12/1391هـ -أكتوبر 1971م- وافى الشاعر الأجل في القاهرة، ونقل جثمانه إلى المملكة العربية السعودية ليشيع إلى مثواه الأخير في مكة المكرمة حيث دفن في 15/12/1391هـ، وأقيمت مراسم العزاء في اليوم التالي بدار السيد غازي عبد المجيد زوج ابنته شيرين (14) وقالت الجريدة عنه: كان شاعراً من الرعيل الأول، ورائداً من روّاد الأدب القلائل ومن طلائع الأدباء والشعراء، وقد نشر من إنتاجه الممتاز الكثير في الصحف والمجلات، وما بقي حبيس مكتبته الخاصة أكثر مما نشر.
وكتبت جريدة عكاظ في عددها الصادر في 22/12/1391هـ تنعاه هو والشيخ محمد سرور الصبان، الذي توفي قبل الشاعر بنحو عشرة أيام، وذلك في 3/12/1391هـ، من كلمة بقلم عبد السلام الساسي بعنوان: "فقيدان عظيمان" محمد سرور الصبان وحمزة شحاتة.. يقول فيها:
"ليس غريباً الحديث عن علمين من أعلام الفكر والأدب، والفضل والنبل والشهامة.. بل وليس غريباً الإشادة بالسمات والسجايا التي يمتاز بها كل من هذين القطبين اللذين اهتزت بفقدهما جوانب البلاد شعوراً وإحساساً بكيانهما ومواهبهما العالية في ميزان القيم الفكرية والاجتماعية.
محمد سرور الصبان.. فقيد عظيم لأنه كان -يرحمه الله- علماً من أعلام الفكر والأدب، والشعور والإحساس بموحيات الحياة على النحو الذي تتطلبه الحياة.
حمزة شحاتة.. فقيد عظيم لأنه كان -يرحمه الله- ركناً من أركان الأدب وخاصة الشعر الذي جرى فيه إلى أشواط شاسعة أسفرت عن ملاحم في دنيا الشعر العربي الأصيل.. وكان عملاقاً في الأدب، وقطباً في الشعر في شتى المجالات الفكرية والاجتماعية. وخطيباً مفوهاً إذا قال بذَّ القائلين وحلق، وإذا حدث استفز العواطف وأيقظ الأحاسيس.
محمد سرور الصبان.. بكت عليه أسر كان يغدق عليها من فيض إحسانه..
وقد قال عنه صديقه الراحل حمزة شحاتة:
روينا به يا ليل والدهر غافل
كريم دواعي النفس أعطى فأغدقا
يعز ولا يضنيه بعد إرادة
فإن كان قد أظمأ فيا طالما سقى
حمزة شحاتة نجم لامع في سماء الأدب، وشاعر فحل من فحول شعراء العرب، شاعر لا يجاريه إلاّ النزر من أدباء العصر وشعرائه الذين يعدونه من الشعراء القلائل.. وعلى سبيل الاستئناس نذكر هنا بعض الأبيات الشعرية التي تشير إلى اعتداد الشاعر الفقيد بنفسه في مجال الكرامة والفضيلة.
قال يرحمه الله:
حاضري، حاضري، وماضي، ماضي سمواً وعفة وضياء
وصلتني قربى الفضائل بالغر، فسل عن مودتي الشرفاء
أنا والليل مذ كنت شبيهان جلالاً وقوة، وحياء
محمد سرور الصبان.. فقيد عظيم، كان من أبرز رجالات البلاد صدقاً ووفاء، وكان من أقوم الشيوخ أمانة وإخلاصاً.
حمزة شحاتة.. فقيد عظيم كان من أبرز شعراء العصر وأرقهم شعوراً وإحساساً، وأشدهم حباً واستئناساً بالأدباء والشعراء، وهو في الواقع فقيد الحرف والكلمة، وفقيد الشعور والإحساس والعواطف، وكل موحيات الحياة الفنية الزاخرة بالمعرفة والإدراك.. ويؤكد لنا هذا ما نظمه قبل سنوات مضت، والذي يقول فيه -يرحمه الله:
يا أنت، يا نبع أحلامي، وملهمتي
سر الجمال تجلى في مزاياك
يا هاتفاً من ضمير الغيب أشرق في
قلبي بدعوته شمساً، فلباك
ما النهر؟ ما عبده؟ ما الشط مزدهياً
بهن إلاّ إطار حول مغناك
لو يسأل الدهر عن فنانة بلغت
حد الكمال لما أستئنى وسماك
يا فجر يا بدر يا زهر المنى ابتسمت
يا جمر في إحساسي الذاكي
ما كنت قبلك إلاّ صادحاً صمتت
به الهموم فلما لحت غناك
أريته الشعر لحظاً رائعاً وفماً
سقاهما من معين السحر خداك
ففاض بالشعر أن يبدع به صوراً
فإنما هو بالتعبير حاكاك
ثم يختتم هذه القصيدة الفنية بقوله:
يا شمس دنياي ما أضناك مطفئة
غليل عاطفتي الحرى وأنداك
أنرت ليل حياتي واطلعت على
قلب تفجر نوراً مذ تلقاك
فإن وهبتك روحي كنت واهبتي
سعادتي فهما من فيض جدواك
وحسب صنعك إجلالاً لروعته
أن لا يثيبك من بالروح عداك
هذه قطرات من بعض أغاريد حمزة شحاتة الذي ندر أن يسمح الزمن بمثله شاعراً فناناً مبدعاً يستثير هوى النفوس، ويستفز عواطف الناس، بكثير من الأفكار والسوانح التي كان يطفي بها على الوجود جمالاً وحلالاً.. وهكذا شاء الله أن تختفي تلك العبقرية، ويذوي زهر الشباب الذي كان يرحمه الله يتغنى به ويشيد بمعالمه، كما في قوله الذي مضى عليه أكثر من أربعين عاماً.
يا ليل حلت، وغاص بشـ
ـرك واستحال إلى قطوب
هيهات لست كما عرفـ
ـتك تستنير هوى القلوب
برواء بدرك، أو نسيـ
ـم عليلك المترقق
وجمال نورك أو رسيـ
ـل خيالك المتدفق
يروي به زهر الشباب
فلقد ذوى زهر الشباب
وكتب الشاعر السعودي محمد حسن فقي في جريدة "المدينة المنورة" عدد 15/12/1391هـ كلمة بعنوان "وغربت الشمس" يقول فيها:
فوجئت بنبأ وفاة الصديق الكبير الأستاذ حمزة شحاتة منشوراً بجريدة البلاد الغراء.. وأذهلني النبأ الفاجع. فلقد كان الفقيد -يرحمه الله- فلتة من فلتات الطبيعة بحق.
وكان مفخرة أدبية من مفاخر هذا البلد الثاكل بفقده.. كان إذا تحدث.. أو نظم أو نثر.. نسيج وحده.. وأكاد أقول إنني لم أستمع ولم أقرأ كمثله إلاّ في القليل النادر.
وما غبطت أحداً قط على ما أوتي من بديهة حاضرة، وأدب معجز، وطلاقة مذهلة.. وتفكير عميق.. ومنطق خلاب.. كغبطتي إياه.. كان عزوفاً عن الشهرة، لأنه كان أكبر من الشهرة.. وما كان ليحفل بها، بل كان بها وبمعظم أصحابها من الساخرين..
لقد آتاه الله من فضله الكثير الطيب.. وما زال به حتى أقعده على مقام المجد الأول.. وعلى قمة الفخر اللباب.
وبرغم اعتزاله في أخريات أيامه الناس، وإيثاره الغربة على بلده الذي كان يحبه كما لم يحبه إلاّ القليل القليل.
وبرغم هذا الاعتزال الذي اصطلحت عوامل شتى على فرضه عليه وتمكينه من نفسه حتى أصبح كجزء منها لا يكاد معه يظهر بين الناس إلاّ الغرض من أغراض الحياة تقهره به على الظهور. فإنه كان لا يكاد يظهر حتى يختفي ويدع محبيه في شوق لاهف إلى لقائه.
وما كان -يرحمه الله- ليفعل هذا عن جفوة في الطبع وغلاظة في الكبد.. ولكنه كان قد أصبح لا يطيق الاختلاط إلاّ قليلاً.. وإلاّ ما اضطر إليه فاستجاب له كارهاً.
واشهد أنني كنت أحس منه في لقاءاتي القليلة به.. شوقاً إلى مثل هذه اللقاءات من إخوانه الذين صرم معهم رونق شيبته.. لولا أن طبعه كان ينزع به إلى مغالبة هذا الشوق بحكم طول الاعتزال الذي فرضه على نفسه ثم أطمأن إليه.
وما عرف عن حمزة رغم صلاته الأدبية المكينة، وقوته الفكرية الخارقة وشعوره المرهف المتحفز.. ما أعرف عنه إلاّ إيثار الصدق والصراحة وإنصاف الناس أدباء وغير أدباء.. فلقد كان يقدم على نفسه الكثير من إخوانه البارزين، وإن كان هو أحق وأولى بهذا التقديم.. وكان أولئك يعرفون هذا عنه وعن أنفسهم.
وما أعرف عنه إلاّ أدباً رفيعاً وخلقاً عظيماً لا يتبدل.. ولا يترخص ولا يتدنى.. ولا يتملق وإنما يحرص الحرص كله على الكرامة والسمو والترفع والإعتداد.
يرحم الله حمزة، فلقد كان علماً بارزاً من أعلام الفكر والأدب.. وكان ذخراً من الذخائر النفيسة.. وركيزة عتيدة من أمتن الركائز وأقواها.. ولو أتيح له، أو بكلمة أدق وأصدق، لو أنه مكّن أصدقاءه ومريديه من نشر آثاره وتداولها.. ليعرفها ويتذوقها الناس في العالم العربي كله.. لكان له -لا جرم- من بعد الصيت وذيوع الذكر ما لم يكن إلاّ لقلة قليلة من الأعلام.. وما أقل الأعلام اليوم في أدبنا بشطريه.
وبعد.. فإن للفقيد الغالي آثاراً أدبية هي من أروع ما تمخض عنه فكر وجادت به قريحة.. وهي بحق مفخرة من مفاخرنا التي نباهي بها ونعتز ونطاول، وله -إلى جانب هذه الآثار الخالدة- رسائل هي من أمتع ما خطه قلم وجاد به ذهن، وتنفست به مشاعر وأحاسيس.. وكثير منها ما يزال محفوظاً لدى أصدقائه الذين كانوا يراسلونه ويراسلهم.. كتراث من أغلى وأنفس التراثات المذخورة.
كل هذه الكنوز الأدبية يجب أن يحرص على جمعها ثم طبعها ونشرها الناس هنا وفي الخارج لنؤدي له ما يستحقه من تقدير.. ولنرد له بعض أياديه البيض علينا وعلى أدبنا.. وهيهات.
لقد فرض حمزة نفسه على الأدب.. وفرضها على الفكر.. وفرضها على المنطق والفلسفة.. وفرضها على الرجولة والكرامة.. بعض هذا مما يخلد به الرجال.
ولقد أصبح حمزة -بعد أن غدا في رحمة الله وفي ذمة التاريخ- من الخالدين ولا ريب بكل هذا الذي تتطاول إليه الهمم.. وتتقاصر دونه الأعماق، ثم لا يظفر به إلاّ الأفذاذ المعدودون.
يرحم الله حمزة -ذلك الطود الهاوي- وفاء ما أسدى إلى الفكر العربي.. وإلى الأدب العربي كله من إياد غر ومنن جسام.. وألهم ذويه وأحبابه ومريديه.. وما أكثرهم.. ألهمهم الصبر، وجاد عليهم بحسن العزاء.. إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة: 156).
وفي جريدة "المدينة المنورة" عدد الثلاثاء 16 من ذي الحجة 1391هـ نشرت قصيدة بعنوان "وغربت الشمس" أيضاً في رثاء حمزة شحاتة، وهي من نظم الشاعر السعودي محمد حسن فقي.. وهذه القصيدة هي:
ماذا لقيت هناك بعد تأمل
جمّ هنا.. في الكون.. في أسراره!
قد كنت موفور النشاط كسابح
يجري، ويجري الناس خلف غباره!
ما يلحقون.. ولا يكف ضجيجهم
حتى بروا حتفاً كلال الفاره!
واللَّه جنبك العثار، فواقف
نصباً.. ومرتج الخطا بعثاره!
قسم، فهذا يرتوي بنسيمه
أبداً وهذا يكتوي بأواره!
* * *
يا من تأمل في الوجود فراعه
هذا الوجود بنفعه وضراره!
جزت الوجود إلى سواه فقل لنا
ماذا رأت عيناك خلف ستاره!
ماذا رأت من بؤسه ونعيمه؟
ماذا رأت من ربحه وخساره؟!
فلأنت ألمع من عرفت بصيرة
تطوي الزمان بليله ونهاره!
نفذت وما أسطعنا النفاذ كمثلها
عجزاً إلى المكنون خلف جداره!
وتغلغلت، فتطلعت أبصارنا
عجباً إلى الموهوب من أقداره!
فإذا به.. سخرية وترفعاً
يعلو بكل جلاله وفخاره!
ويروح مغتبطاً بليل شجونه
يطويه.. ملتفاً بحبل إساره!
يا للنقائض في الدنى فمرزؤ
بغلوه.. ومنعم بصغاره!
ما حط من أوزاره إلاّ الذي
يسمو بشقوته على أوزاره!
* * *
يا صاحب الفكر الحصيف تجسدت
فيه الرؤى.. ونعمن في أغواره!
ألقى إليك الروض كل زهوره
رغباً، وألقى الحقل كل ثماره!
ورنا الغني إليك في أطلاسه
ورنا الفقير إليك في أطماره!
يجدون فيك الألمعي مناضلاً
دنياه.. منطوياً على أوتاره!
قد لازم الدار العتيقة.. واجتوى
من كان.. أو ما كان.. خارج داره!
فإذا بها، والكون في جنباتها
بسعوده، ونحوسه، ومداره!
وإذا به يجلو الدجى بيمينه
فنرى الحقيقة جهرة.. بيساره!
بعض الفرار من الثبات، وربما
نال المجاهد أجره بفراره!
إن الذي خلق الحياة حفيلة
بالشر أنقذنا ببعض خياره!
* * *
قد كنت بالأمس القريب أجله
لنبوغه.. وألومه لحذاره!
واليوم أحمده على علاته
وأرى زكانته.. وبعد قراره!
إن شذ في أطواره فلأنه
عرف الأنام فشذ في أطواره!
لم يحمدوه على المقام.. ولا السرى
فلوى العنان، ولج في إصراره!
ما شام عارفه على إقراره
أو شام عارفه على إنكاره!
شقي النبوغ.. فليس في إيراده
ما يشتهيه. وليس في إصداره!
* * *
يا من ترحل هيكلاً متحللاً
عنا. وأبقى الخلد في آثاره!
إني لألمح بالخيال جواره
فأروح مغتبطاً بحسن جواره!
وكتب الأستاذ أحمد قنديل أروع ما توهجت به مشاعره أو مشاعر الراثين من الشعراء في القصيدة التي رثى بها حمزة، وكتب الشاعر الأستاذ السيد محمد حسن فقي، ولا نتردد في التقدير والإعجاب بما كتبه الأستاذ محمد عمر توفيق، أو الأستاذ حسين بن سرحان، أو الأستاذ ضياء الدين رجب.. ولا وجه للدهشة والاستغراب، لأن هؤلاء مع غيرهم من زملائه، هم الذين عايشوا الشاعر الفقيد، وعاشوا تفتح عبقريته وازدهار عطائه، وامتلأت نفوسهم انفعالاً وتأثراً بإشعاع تلك العبقرية ونفحات ذلك العطاء.. بل هم الذين عايشوا مرحه وروحه الآسر، وصراعه الفكري، وغوصه على الحقائق، أو ما يريد هو أن يجعله حقائق بمنطقه القوي المكتسح، وبنياته التي يعجزون عن تفسيرها وله فيها ألف تفسير وتفسير.
ثم كان هذا الفيض الذي ظل يتدفق من أقلام الشداة الشبان الذين لا أشك في أن بينهم من لم ير الشاعر إلاّ في الصور التي نشرت له، ولم يقرأ له إلاّ ما نشر في: (الشعراء الثلاثة) وفي: (شعراء الحجاز في العصر الحديث) وهما المؤلفان المعروفان للأستاذ عبد السلام الساسي (15) .
مؤلفاته:
1- حمار حمزة شحاتة:
طبع دار المريخ بالسعودية -الطبعة الأولى عام 1397هـ/1977م وقد قدم مادته للنشر الأستاذ عبد الحميد مشخص، ويقع في أكثر من 90 صفحة وهو بتقديم الأستاذ عبد الله عبد الجبار، ويحتوي على قسمين أو جزءين.
الأول: حنفشعيات، وهذه الكلمة منحوتة من كلمتي حنفي، وشافعي، وتقال لمن يخلط بين المتناقضات، وفيها يتحدث عن فلسفة حماره، كما تحدث توفيق الحكيم عن فلسفة حماره في كتابه "حمار الحكيم".
والثاني: بين النقد والجمال، وفيه ألوان من الأدب والنقد والحياة.
وحمزة شحاتة حين كتبها قبل أكثر من ثلاثين عاماً لم يكن الأديب الكبير توفيق الحكيم قد أصدر كتابيه "حمار الحكيم" و "حماري قال لي" ولم يترجم كذلك رائعة خيمئيز "أنا وحماري"، وإذا رجحنا أنه قرأ كتاب "خواطر حمار" للكونتيس دوسيجور، فإننا نلاحظ أنه لم يأخذ من ذلك الكتاب، ولم يتأثر بتلك الخواطر أو المذكرات التي قد يكون توفيق الحكيم قد تأثر بها واقتبس منها.. ولما شرع حمزة شحاتة في كتابة سلسلة مقالاته الأدبية تحت عنوان "حنفشعيات" بجريدة "صوت الحجاز" حرص على أن ينوّه في تمهيده لها بما يتوخاه من الجدة والابتكار (16) .
ويقول عبد الله عبد الجبار عن الجزء الأول من الكتاب، كما جاء في مقدمته للكتاب:
هذه المقالة يتبين فيها شيئان:
الأول: مرافعة عامة من الحمير ضد بني آدم المستبدين المعتدين.
والثاني: وصف الكتاب لحماره الصغير ورحلته عليه مع صحبه في نزهة قصيرة (17) .
2- إلى ابنتي شيرين:
وهو نشر دار تهامة بجدة عام 1400هـ/1980م في نحو 220 صفحة، ويحتوي على رسائل حمزة شحاتة إلى ابنته شيرين، وهي ستون رسالة، وفي آخرها نموذج من رسائل ابنته شيرين إلى والدها الشاعر، وهذه الرسائل توضح لنا أفكار الشاعر وثقافته وشخصيته، وأسلوبها مزيج من العربية الفصحى، وبعض الأساليب العامية أو الشعبية الطريفة. وقد كتب الشاعر عزيز ضياء مقدمة للكتاب، كما كتبت أيضاً ابنة الشاعر شيرين مقدمة ثانية للكتاب.
ويقول عزيز ضياء في مقدمته:
ليس جديداً أن نقول إن حمزة كان فناناً أصيلاً، ومتنوع المواهب والقدرات، وعلى الأخص كشاعر وكاتب وموسيقار.
3- ديوان حمزة شحاتة:
يحتوي على عدد من القصائد لحمزة شحاتة، وهذه القصائد هي أغلب ما احتوت عليه المجموعة الشعرية "شجون لا تنتهي" لحمزة شحاتة، التي نشرها الأديب السعودي عبد الحميد مشخص، والتي تقع في نحو التسعين صفحة، وهي بتقديم الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، ونشر بعد المقدمة جزءاً من محاضرته "الخلق الفاضل عماد الرجولة" وهي المحاضرة التي ألقاها في مقر "جمعية الإسعاف الخيري" المحاذي لباب الوداع من المسجد الحرام بمكة المكرمة في يوم الخميس من ذي الحجة عام 1358هـ/1939م بعد صلاة العشاء مباشرة، والتي استغرقت أكثر من خمس ساعات، وأحدثت بما تضمنته ضجة كبيرة، وكانت "جمعية الإسعاف الخيرية" قد دعت لفيفاً من الأدباء ورجال الفكر لإلقاء سلسلة من المحاضرات، ومن أبرز المحاضرين حمزة شحاتة، وكان العنوان الذي أقترحته عليه "جمعية الإسعاف" هو "الخلق الفاضل عماد الرجولة"، إلاّ أن المحاضر لم يكتب عليها عنوانها المقترح بل عكسه، وهو "الرجولة عماد الخلق الفاضل" ولم تُلق بعدها إلاّ محاضرة واحدة، ألقاها الشاعر إبراهيم هاشم فلالي، وعنوانها "كيف نحتفظ بعروبتنا؟".
ثم يلي المقتطفات التي وردت من هذه المحاضرة رسالة للشاعر حمزة شحاتة بعث بها إلى صديقه محمد عمر توفيق وزير المواصلات السعودية وهي إحدى رسائل الشاعر الفلسفية، وعنوانها "در بالدولاب يدر بك" وتحتوي مجموعة "شجون لا تنتهي" على خمس عشرة قصيدة.
4- غادة بولاق:
وقد طبع هذا الديوان في القاهرة في اثنتين وثلاثين صفحة:
وقد كتب الشاعر هذه الملحمة الشعرية، كما كتب الشاعر صالح جودت قصيدة تغزل فيها بفتاة من سكان حي الزمالك.
ومن قبيل الشواهد الدالة على ثقافة الشاعر الواسعة، ما ذكره الشاعر من أن غادة بولاق هي نفسها بنت آمون إله الفراعنة الأقدمين، ثم لا يلبث أن يخلع على "غادة بولاق" صفة "شمس بولاق" وفي هذا جمع رومانسي بين الحب والطبيعة المحيطة بالحسناء، من نهر وشمس وقمر ونسيم عليل.
والمقدمة التي صدرت بها هذه الملحمة لم يذكر كاتبها، وقافية الملحمة الكاف، ووزنها بحر البسيط.
وفي مطلع الملحمة يقول الشاعر:
ألهمت والحب وحي يوم لقياك
رسالة الحسن فاضت من محياك
ويختمها ببيته:
ما كنت يا قدري العاتي سوى امرأة
ممن مررن بقلبي، لو توقاك
وهي مطبوعة عام 1982.
5- الرجولة عماد الخلق الفاضل:
وهي محاضرته الشهيرة التي ألقاها في جمعية الإسعاف الخيرية في مكة المكرمة عام 1939م/1359هـ (ذي الحجة 1359هـ)..
وقد صدرت عن دار تهامة بجدة في طبعتها الأولى عام 1401هـ/1981م في 121 صفحة.
وهي مصدرة بمقدمة للأستاذ عزيز ضياء مأخوذة من كتابه "حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف" الصادر في سلسلة المكتبة الصغيرة الرقم 21 عام 1397هـ، وهذه السلسلة يصدرها الأستاذ عبد العزيز الرفاعي.
يذكر محمد حسين زيدان أن حمزة شحاتة قد أسند عناصر محاضرته من كتاب "علم الاجتماع" لنقولا حداد. ويذكر عزيز ضياء أن عمل حمزة شحاتة ليس تأثراً واقتباساً ولا أخذاً واحتذاء، إنما هو تمثيل وهضم لثقافات كثيرة (18) .
6- رفات عقل:
صدر هذا الكتاب في سلسلة الكتاب العربي السعودي التي تصدرها دار تهامة بجدة وذلك في عام 1400هـ/1980 -وقد قام بجمعه الأديب السعودي عبد الحميد مشخص، وصدر في 104 صفحات، وكتب مقدمته الأستاذ عبد الحميد مشخص، وهو يجمع آراء مختلفة للشاعر حمزة شحاتة، وهذه الآراء مهمة جداً في دراسة الشاعر.
وحمزة شحاتة يصدر في كل رأي له عن عقل نافذ، وفكر عميق.
دراسات وكتب صدرت عن الشاعر:
1- في مقدمات الكتب التي نشرت للشاعر، عرض أصحاب هذه المقدمات لجوانب متعددة من حياة الشاعر وشخصيته وثقافته.
2- وفي كتاب "الشعر والتجديد" دراسة عن الشاعر (19) وقصائد عديدة من شعره وهو من مطبوعات القاهرة عام 1958.
3- "حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف" للأستاذ عزيز ضياء، وهو من سلسلة المكتبة الصغيرة التي يصدرها الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في الرياض وقد صدر عام 1397هـ/1977م في نحو مائة صفحة من القطع الصغير.
وفي هذا الكتاب يذكر عزيز ضياء كيف عرف الشاعر، ومعركة الشاعر مع العواد، ومسيرته الثقافية، ومولده وتعليمه، ومحاضرته الشهيرة، ويتحدث عن شعره في ثلاث صفحات من القطع الصغير، وشوارد من حكمه، وعن حمزة شحاتة الكاتب والخطيب والفنان في نحو ثمان صفحات.. وعنه فارس الحوار والرسائل في نحو خمس صفحات.
4- كتاب "شعراء العصر الحديث" -تأليف عبد الكريم الحفيل -الجزء الأول 140 صفحة -الطبعة الأولى 1399-1979، حيث ذكر عنه أربعة سطور، واختار ستة أبيات من قصيدته في (جدة).
5- "المرصاد" -3 أجزاء -للشاعر الناقد إبراهيم هاشم فلالي طبعة القاهرة -المطبعة المنيرية -1956.
6- وفي كتاب "الشعراء الثلاثة" وكتاب "شعراء الحجاز في العصر الحديث"، وهما للأستاذ عبد السلام الساسي، والجزء الثاني من كتاب "الموسوعة الأدبية" للساسي أيضاً، بعض المختارات والإشارات عن الشاعر. والأول طبع في القاهرة عام 1368هـ، والثاني طبع فيها عام 1370هـ، والاثنان مطبوعان بدار الكتاب العربي في القاهرة والكتاب الثالث طبع في مكة عام 1388هـ، وفيه ترجمة للشاعر موجزة جداً في صفحة 134.
7- وفي كتاب "أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة" الصادر عن دار تهامة للأستاذ محمد علي مغربي، في الطبعة الأولى منه 1401هـ/1981م، ذكر لحمزة شحاتة في مواضع عديدة:
(أ) ذكره في الكلام عن أحمد قنديل وأنه عمل رئيساً لتحرير "صوت الحجاز" عام 1355هـ بترشيح من صديقه حمزة شحاتة لدى المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان رئيس الشركة العربية للطبع والنشر (20) وكان حمزة شحاتة قد استرعى نظره شعر قنديل الذي ينشر له في "صوت الحجاز"، ويقول المؤلف: إن صلة القنديل بحمزة شحاتة قد استمرت منذ ذلك الحين حتى توفي حمزة شحاتة باستثناء فترة حدثت بينهما من الجفوة ما أوقف هذه الصلة، ثم عادت صلتهما إلى ما كانت عليه من قبل (21) .
(ب) ويذكر المؤلف لقاءاته مع قنديل وحمزة شحاتة في مكة المكرمة، وبدء نظم قنديل للشعر العامي تقليداً لحسين شفيق المصري ونظم حمزة شحاتة من هذا الشعر ثم انصرافه عنه (22) .
(جـ) ويذكر معركة حمزة مع العواد (23) ، وملحمة العواد "الساحر العظيم" في خصوماته مع حمزة وغيره (24) .
ثقافة الشاعر:
ويقص علينا عزيز ضياء في كتابه عن حمزة شحاتة قراءات الشباب الحجازي آنذاك، التي كان منها:
- جمهورية أفلاطون -ترجمة حنا خباز.
- أصل الأنواع لداروين -ترجمة إسماعيل مظهر.
- السياسة الأسبوعية -التي كان يصدرها د. هيكل.
- كتاب الأغاني للأصفهاني.
- الشعر الجاهلي لطه حسين.
- حديث الأربعاء لطه حسين، وكذلك "الأيام".
- فقه السياسة لأحمد وفيق.
- يتيمة الدهر، وفقه اللغة للثعالبي.
- العمدة لابن رشيق (25) .
- كتاب السياسة لأرسطو ترجمة أحمد لطفي السيد.
- قصص المازني.
- أناتول فرانس في مباذله لشكيب أرسلان.
- الحرب والسلام لتولستوي.
- كتب المنفلوطي.
- كتب ودواوين شعراء وأدباء المهجر.
وسواها، وحول هذه الكتب وغيرها كانت قراءات الشاعر.
وكان حمزة شحاتة يقرأ لبرنار شو وتولستوي، وغيرهما من الترجمات إلى العربية.
وحول تلك الآفاق الثقافية كان يحلق حمزة شحاتة في شعره وفي نثره على السواء، ولم يكن يرجع إلاّ إلى المراجع والكتب العربية، فلم يكن يعرف غير اللغة العربية، ولم يكن يجيد الإنجليزية أو سواها.. وإقامته في الهند لم تتح له أن يتعلم الأوردية، فضلاً عن السنسكريتية.
لقد كان حمزة شحاتة (26) مشهوراً بشاعريته الأصيلة، كما اشتهر برسائله التي كان يرسلها إلى أصدقائه، وهي رسائل جديرة بأن تعد نموذجاً للنشر الرفيع في الأدب العربي الحديث. كذلك اشتهر بمحاضراته العامة، ولا سيما محاضرته التي ألقاها في "جمعية الإسعاف الخيري" بمكة المكرمة. فقد كان حظها من الشهرة والذيوع عظيماً. وقد استمع إليها جمع غفير من محبيه ومن روّاد الأدب وشداته وكان انتشارها وذيوعها أن الإذاعة لم تكن قد انتشرت بعد في ربوع المملكة السعودية، وأن فن الإلقاء الإذاعي الحديث لم يكن معروفاً.
ويبدو أن حمزة شحاتة العبقري المبدع كان رجلاً متعدد الجوانب، إذ لم يقف عند الشعر والنثر والفلسفة وعلوم اللغة العربية وتاريخها القديم والحديث، بل تعدى ذلك كله إلى عشق الموسيقى والشغف بالعزف على العود، ولم يكتف بأن يكون أحد العازفين المعدودين في الحجاز، كما قال صديقه الأستاذ عزيز ضياء في دراسته الممتعة (حمزة شحاتة -قمة عرفت ولم تكتشف) (27) (وإنما عكف على دراسة الموسيقى العربية، مقامات وأنغاماً ومصادر لهذه المقامات والأنغام وتاريخها عند الفرس وفي الأندلس، وعند الأتراك وفي حلب، وما تولد من هذه المقامات وكيف تتعاشق وأين تتنافر.
وكان حمزة شحاتة جديراً بأن يسلك في عداد كبار الملحنين في مصر لو رغب في ذلك، ولكنه كان ينشد الكمال، ولذلك كان أميل إلى النقد في الموسيقى منه إلى الإبداع). رحمه الله.
* * *
وكان من المثقفين الموسوعيين الذين قرأوا التراث العربي قراءة استيعاب ونقد ودراسة عميقة، كما طالعوا كتب الأدب والفلسفة واللغة العربية، واستوعبوا الدراسات الأدبية العميقة التي ظهرت في مختلف ربوع العالم العربي، ولا سيما في مصر.
وهو وإن فاته الاطلاع على الآداب والعلوم الأجنبية في مظانها ولغاتها الأصلية، فقد طالع في نباهة ونهم أهم تلك المؤلفات منقولة إلى لغتنا العربية بأقلام أعلام الفكر والفلسفة والترجمة في مصر والعالم العربي.
شخصيته:
كان حمزة شحاتة فارع الطول ممتلئ الجسم أسمر اللون فاحم الشعر، مع ظهور الشعر الأبيض في شعره قليلاً وكان نافذ البصر، حاد الذهن قوي الجدل، شديد الحجاج، حاضر البديهة، لاذع اللدد والخصومة وكان يحب العزلة، وينفر من الاختلاط، يكره الشهرة، ويبتعد عن الأضواء، حتى شعره نظمه لنفسه، ولم ينشر منه إلاّ القليل.
يصفه في شبابه صديقه عزيز ضياء كما في كتابه "حمزة شحاتة " فيقول:
"فارع القامة وثيق البيان، عالي الجبهة، أسمر اللون، وعلى رأسه تلك الكوفية، التي كان شبان جدة يتأنقون، ليس فقط في طريقة وضعها مائلة أو مستقيمة ومنحدرة إلى الوراء، أو متوثبة إلى الأمام، وإنما في معالجتها بالنشا والكي والتكوين الخاص.. وعلى العنق، قطعة من القماش (شال).. وقد تختلف هذه القطعة أو هذا الشال مادة ونسيجاً كما تختلف ألواناً وأثماناً.. ولكنها دائماً حول العنق، يتدلى طرفاها على الصدر، يحيط به المعطف -وكانوا يسمونه كوتا -الذي يغلب أن يكون من لون الثوب- وهذا لا بد أن يكون ناصع البياض -كما هو الحال الآن- ولكن لا بد بالنسبة للمتأنقين المترفين من شباب جدة، أن يكون أقصر، أو قصيراً، يسمح بظهور السروال (الذي لا يختلف عن البنطلون في شيء).
يقول عنه عزيز ضياء في تقديمه لكتاب "إلى ابنتي شيرين" (28) : كان فناناً أصيلاً، متنوع المواهب، والقدرات، وعلى الأخص كشاعر وكاتب وموسيقار.
وتقول ابنته شيرين في مقدمتها لهذا الكتاب (29) :
كان يحب البعد كل البعد عن الشهرة (30) : وتسليط الأضواء على أي عمل يقوم به، وأبسط ذلك أن صحيفة قاهرية نشرت عنه (ريبورتاجاً) مصوراً، عن شخصيته، وأدبه وشعره، وأذكر يومها، وكنت في حوالي الثانية عشرة من عمري، أن صعد أحد الجيران في العمارة التي كنا نسكنها، وجاء بكل شغف وإعجاب ليقول لأبي وهو ممسك بالجريدة: أنت هذا الأديب العظيم، والشاعر العملاق، تسكن بيننا كل هذه الأعوام ولا نعلم عنك أي شيء من هذا؟.. فرد عليه أبي بمنتهى الأدب والتواضع: لست أنا يا سيدي المقصود بهذا الكلام المذكور في هذه الجريدة، لشد ما كان يسعدني ذلك، ولكنه مجرد تشابه في الأسماء، فهناك أديب مشهور حقاً في المملكة العربية السعودية اسمه حمزة شحاتة، أما حمزة شحاتة الذي أمامك فهو إنسان عادي يعمل مربية لخمس بنات، وانصرف الجار بعد أن تأسف لوالدي عن اللبس الذي حدث.
ويقول حمزة شحاتة في رسالة إلى ابنته (31) بعث بها من القاهرة: تسألين عن أخبارنا، ليست لنا خادمة منذ شهور، ونحن لا نحصل على مطالب المعيشة اليومية من السوق المجاور إلاّ بشق الأنفس، وصار من النادر أن يمشي يوم في الأسبوع أرتاح فيه من عمل الشيال أكثر من مرة أو مرتين وأحياناً ثلاثة.
ويقول في رسالة أخرى (32) معبراً عن خطته في الحياة المخالفة لخطط حياة الناس: إنها النهاية الطبيعية لإنسان لم يسر على الطريقة التي يسير عليها الآخرون، بل ظل يحلم بأن يعلو عن مستوى الطين، والتراب، ويخالف معرفته للحقيقة التي فهمها الجهلاء والأغبياء، على الوجه السليم.
ويقول في رسالة أخرى (33) : أنا الأب الذي لم يحقق ذاته في كل مجال طرقه في طريق حياته، قد رأيتني أرفض كل ثناء علي، لأني أعرف الناس بتجرد، من مصوغات استحقاقه.
وفي رسالة أخرى يقول (34) إني أصارع الذين ينشرون لي أو عني أي شيء.
وفي كتابه "حمار حمزة شحاتة" (35) يقول:
ومن يظن أن المتشائمين ثائرون على الحياة ومسراتها، أو كارهون لمباهجها؟ إنما هي ثورة الراغب المستزيد، لا ثورة الكاره المحتوى.
ويقول الناقد السعودي عبد الله عبد الجبار (36) في تقديمه لكتاب "حمار حمزة شحاتة": حمزة شحاتة ساخر مغرم بجمال الطبيعة ومرائيها الجميلة، وكم تمنى لو قضى حياة في كوخ صغير على شاطئ نهر يستمتع بالماء والهواء والشمس والقمر والنجوم والازدهار والأشجار وموسيقى البلابل ونوح الحمائم. ولوحات الطبيعة البارعة التي رسمتها يد الله.
لقد كان حمزة شحاتة شخصية فريدة بين أقرانه.. هو إنسان عميق الفكر، كثير التأمل، لا يجد الصديق الذي يتحدث إليه إلاّ في القليل عاش بعيداً عن وطنه منذ عام 1946 حتى نهاية حياته، أي نحو ربع قرن، آثر العزلة، وزهد في الشهرة، وعكف على نفسه، وجعل الكتاب صديقه، قرأ الكثير من آثار الأدباء المعاصرين، والقدماء أيضاً كما قرأ الكثير مما ترجم من الآداب العالمية.. وعاش لنفسه وبناته ولصديقه الكتاب.
* * *
كيف "ولماذا.. أحب الشاعر الأدب"؟ (37)
أحب حمزة شحاتة منذ حياته طالباً في مدرسة الفلاح بجدة الأدب، يتذوقه، ويقرأ مصادره القديمة، ويبحث عن الصحف والمجلات يطالعها، وعن آثار الأدباء المعاصرين، يقرأ لهم، ويتثقف بروائع فكرهم.
قرأ لابن المقفع والجاحظ، كما قرأ للمنفلوطي، وجبران، والرافعي والزيات، وطه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وقرأ لمحمد حسين هيكل وسواه من الأدباء المعاصرين.
والأدب فطرة في نفسه، وموهبة كامنة في أعماق مشاعره، ولم تلبث قراءاته الأدبية أن نمت في نفس هذه الموهبة..
وكان الشباب الحجازي يتهافت على مجلة السياسة الأسبوعية التي يصدرها ويرأس تحريرها د. محمد حسين هيكل، ومن محرريها: المازني وطه حسين، وعبد العزيز البشري، وعباس حافظ (38) .. ثم أقبل على قراءة مجلة أبولو ومجلة الرسالة.. وعلى ما كان يظهر في القاهرة من كتب التراث العربي، ومن كتب الأدباء والشعراء المعاصرين.
وكان حمزة شحاتة لا يفتأ يبحث عن كل كتاب يمكن أن يقرأه ويفيد منه..
ثم عاش في القاهرة نحو ربع قرن من حياته كانت هي خاتمة عمره، وفي القاهرة شاهد مختلف التيارات الدينية والسياسية والفكرية والأدبية والشعرية التي ظهرت في هذه الحقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى آخر يوم في حياته، وأفاد من كل ذلك ثراء في الفكر، وسعة في الخيال، ونمواً في الموهبة الأدبية، وبلاغة في الأسلوب.. ومن كتب التراث التي قرأها الشاعر: كتب الجاحظ والتوحيدي، ومقدمة ابن خلدون (39) .
ويذكر عزيز ضياء في كتابه (40) . حمزة شحاتة "قراءات الأدباء الحجازيين لمترجمات أحمد لطفي السيد عن أرسطو، وإعجابهم بقصص إبراهيم عبد القادر المازني، ومما ترجم من أدب أناتول فرانس، على جهلهم باللغة الفرنسية، ومن قصص تولستوي، ومن أدب المهجر، ومن أدب المنفلوطي..
ويقول عزيز ضياء (41) : كان -حمزة شحاتة- يقرأ ما نقرأ، وصحيح أن ما كان يصل إلى أيدينا من الكتب، كان يصل إليه أيضاً، ولكن كيف تأتى ذلك النضج العقلي والفني وهو بين مرحلة الصبا الغض والشباب في فجره دون ضحاه.!..
وكانت مواهب حمزة شحاتة الأدبية في بدء شبابه قد بلغت نضجها واكتمالها، فأخذ يكتب ويحاضر ويتحدث ويحاور، واستوت لغته الأدبية استواء كاملاً، ظهرت ملامحه في محاضرته "الرجولة عماد الخلق الفاضل".
وكان حمزة شحاتة أديباً بارزاً من أدباء المملكة العربية السعودية.. وشاعراً مجدداً من فحول الشعراء المبرزين الذين عرفوا قدر الحياة فنظروا إليها نظرة فنية تتسم بطابع الفكر والشعور والخيال.. وهو أحد زعماء المدرسة الابتداعية التي تعنى بالجوهر، وتأتي بكل جديد مبتكر.
والمعروف عن حمزة شحاتة أنه أديب عزوف يحفل بنشر إنتاجه شعراً كان أم نثراً.. ولا يرغب المشاركة في أي مجال من مجالات النشر، ولهذا فهو يغضب ويتأثر كثيراً بما ينشر عنه خصوصاً المديح والثناء.. وكثيراً ما تصدى للمادحين بالعتاب واللوم والنقد في كثير من الحالات.
وإن من أبرز صفات حمزة شحاتة أنه يدعو دائماً إلى الفضيلة والإصلاح الاجتماعي، كما يدعو إلى التجديد والابتكار في الأدب، والصراحة في القول، والرجولة، واقتفاء الآثار الحيوية المنتجة.. ويمتاز كذلك بحضور البديهة وسرعة الخاطر، والتحدث عن شتى الفنون، ومناقشة من يريد المناقشة حتى أنه يستطيع أن يبحث ويناقش أكثر من عشر ساعات إلى أن يتبع جو النقاش بحثاً وتعليقاً واستنتاجاً.. وإذا حدث استفز العواطف، وأيقظ المشاعر وملأ جو الحياة شعوراً وأملاً جديداً.
وإلى جانب ذلك كان ناقداً جبار الحجاج، قوي الحجة غزير المادة لا يغير من أمر التفكير شيء يثني من عزمه كأدب عملاق.
ولم يكتف الشاعر بأن يكون واحداً من المعدودين في الحجاز بالبراعة النادرة في العزف على العود، وإنما عكف على دراسة الموسيقى العربية، مقامات وأنغاماً ومصادر هذه المقامات والأنغام وتاريخها عند الفرس، وفي الأندلس، وعند الأتراك، وفي حلب، وما يتولد من هذه المقامات، وكيف تتعانق وأين تتنافر، وما يقال عن علاقة بعضها بالساعة من الليل أو النهار.. ثم... الموسيقى: (صوت)، فلا بد من دراسة علم الصوت في مصادره من كتب الطبيعة في مستوى المراجع، وليس في مستوى الكتب المدرسية، كيف يحدث.. وكيف يتردد، وهل يفنى أم لا يفنى ولماذا يفنى، والدليل أو الأدلة على كل ذلك.
ولو أراد حمزة أن يكون في عداد كبار الملحنين في مصر، لما أعجزه ذلك وقد بلغ في الموسيقى مستوى العلماء، وما زلت أذكر كيف كان يقع على الأخطاء في تلحين كبار الموسيقيين في مصر، ويذهب في نقدها وتسقط التوائها، أو في اكتشاف السرقة أو التأثر بالشيخ سيد درويش أو بمن يعرفهم من أئمة الموسيقى التركية القديمة إلى حد التصحيح بعزف اللحن كما ينبغي أن يكون، وتشعر أن اللحن قد استقام فعلاً بما يبعثه من الارتياح والانسجام، ثم يقول بعد ذلك: (ما أشد ما يخسر الصوت القوي من أصالته وقدرته على الأداء بما يجنيه الملحنون على المطربات والمطربين).
وكان حمزة شحاتة أستاذاً في الحوار وفي الحديث فليس من يمكن أن يكون شبيهاً له، ولا يعرف له نظير في ذلك.
كان يدير الحديث عن موضوع فكري بحت، يمكن أن يفهمه المثقفون من أصدقاء حمزة شحاتة، يشد الأسماع، حتى ولو كان بين جلسائه أشخاص من عوام الناس، ممن لا يمكن أن تكون لهم أدنى صلة أو علاقة بالموضوع.. وكان يملأ جو الجلسة حركة وحيوية ومرحاً بما يتتابع في حديثه من نوادر وطرائف ونكسات وتعليقات، ولا يعفي نفسه من التمثيل أحياناً بحركة في العينين أو الأنف، حين لا يجد بداً من تجسيد الصورة الساخرة للفكرة أو للرجل الذي يتحدث عنه.. وهذا فيما يشبه تدفق مياه السدود قوة وانطلاقاً وحفولاً بما يشبه الموسوعة من أخبار القدماء والمحدثين، وليس في الأدب والفلسفة أو الشعر فحسب، وإنما في التاريخ والسياسة والمبادئ وأنظمة الحكم، في التاريخ العربي أو الإسلامي بل والتاريخ القديم والحديث.
ويتساءل عزيز ضياء في كتابه عن حمزة شحاتة عن هذه الموهبة فيقول:
"وإني لأتساءل متى؟؟ وكيف أتيح له أن يبلغ هذه المرتبة التي نفترض أنه بلغها في العشرين.. ومن المفروغ منه أنه لم يكن الوحيد الذي تخرج من مدرسة الفلاح، ولم يكن أيضاً الوحيد الذي ابتعث إلى الهند، كما لم يكن الوحيد الذي قرأ ما قرأناه وظللنا نقرؤه من مصادر الثقافة وينابيع الفكر.
على أن حمزة شحاتة -رحمه الله- لم يمارس كتابة القصة أو الرواية أو المسرحية، وهذا هو الأرجح بعد أن أُتيح لي استعراض تراثه.
والذي نشر من شعر حمزة شحاتة، ليس أقل القليل فحسب، وإنما هو قطرة من بحر، والذي لم ينشر وتفرق لدى بعض أصدقائه، لا سبيل للوصول ليه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :3327  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 169
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.