شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خالتي كدرجان
أردتها أقاصيص من صميم الحياة..
أردتها لتكون مرآة يصافحنا فيها واقعنا من غير رتوش!!
وأنا أؤمل أن تعالج بأمثالها بداواتنا الخاطئة!!
سباعي

* * *

لم يكن اسمها "كدرجان"، ولكنه لقب سترثي لها إذا عرفت كيف غلب عليها وأصبحت لا تُنادى إلاَّ به.
وإذا كان سنها قد زاد على الخمسين في نظر بعض جاراتها فإن بعضهن يؤكدن أنها أكبر سناً من عم عيدروس بائع الزرنباك المتجول، ويؤكد هذا عيدروس نفسه فيقول: "إنها كانت تلبس "الغتفة" (1) !! يوم كنت طفلاً اقرأ في كتاب المغربي بجوار بيت أمها". فهي في نظره لا تقل عن سن الستين إلاَّ بعامين أو ثلاثة.
أما خالتي كدرجان فلا تُعنى بكل هذا.. إن حساب السنوات في نظرها دوشة.. إنها تذكر أنها تعرف سنة السيل الكبير وهي صغيرة، وأنها شافت الفيل في مكة وهي صغيرة، وأنها حضرت زينة الشريف وهي صغيرة، فإذا قيل لها إن بين هذه الحوادث سنوات طويلة صكَّت وجهها وهي تقول: "وصامني.. أنا هادي الدوشة تفلق رأسا"، إنها في نظر نفسها لم تتجاوز الثلاثين إلاَّ من سنوات نسيت عددها.. تقول هذا في تصميم قاطع وتزيد فتؤكِّده لك بهندامها وهي تخطر بين فسحة الديوان الذي تسكنه وباب الحنية الصغيرة التي جعلت منها مطبخاً يطرقع القبقاب في رجليها، وهي تتهادى في دلال الفتاة ذات العشرين.
كنا يومذاك صِبية نلعب الغميمة بين ملاوي زقاقنا، وكنت شخصياً صاحب دل عليها فلا يحلو لي أن أختبىء -إذا احتدم اللعب- إلاَّ في بيتها، وكانت لفرط حنوها إذا رأتني هارعاً إليها وأنا ألهث ظنتني خائفاً ممن يطاردني ليضربني، فتشير لي بيدها إلى الكنبة التي تتصدر الديوان لأختبىء تحتها خلف السجاف، فإذا فرغ روعي تسللت على أطراف أصابعي، فكانت إذا رأتني تقف دوني لتمنعني من الخروج: "كم مرة يا واد.. قلت لك لا تخلي البزورة يتلمّوا عليك.. هادول أشقياء وأنت صغير"، وهي لسذاجتها لا تدري أنها طبيعة اللعبة وأن المغموم يجب أن يهتدي إلى مخابىء المُنْدَسّين أو أحدهم ليصبح فيه "الدست".
كنت ألاحظ أن خالتي كدرجان تُعنى كثيراً بمكحلتها، وهي تحتفظ بجانب المكحلة بعلبة صغيرة أراها كثيراً ما تمد يدها إليها، لتتناول منها بأصبعها شيئاً تدعكه بين يديها، ثم تغشى به وجهها، فكنت لا أعلق شيئاً على ما تفعل.
وكنت كثيراً ما أراها تجلس إلى "نصبة" الشاهي وقد فرغت منه، فتزيح التبسي والفناجيل وتركز في مكانهم فوق كرسي النصبة مرآة، ثم تأخذ بيدها مقصاً تمر به على شعر رأسها فتلتقط به شعرة من هنا وأخرى من هناك بيضاء ناصعة، وكانت لفرط استخفافها بي كطفل ترجوني أن أساعدها بالنظر في شعرها؛ فإذا لمحت شعرة بيضاء دفعتُ المقص لالتقاطها، فكنت أتحدث إلى أمي في بعض الأمسيات التي تجتمع فيها مع الجارات، فكن يتضاحكن ويتغامزن، وربما تأوَّهت إحداهن في مرارة وقالت إنها مسكينة؛ فيمصمصن شفاههن ويبادلنها القول إنها مسكينة.
كنت لا أفهم وجهاً لهذه المسكنة وهذا التوجُّع الذي يُبدينه تعليقاً على خالتي كدرجان، وكان يُخيَّل إليَّ أنها أكثر رقة وأحلى معاملة من كل جاراتنا بما فيهن أمي، وكنت ألاحظ من عنايتها بنفسها وبالناس ما لا أجد له مثيلاً بين كل الجارات اللاتي أغشى منازلهن.. كان مسكنها على صغره نظيفاً بشكل يسترعي الانتباه، وكانت مساند الكنبة التي تستقبل عليها ضيوفها محلاة بالترتر البراق، ومخداتها في وسط الكنبة مطرزة بأشجار يلمع فيها اللازوردي والأصفر، وفي حواشيها سطور كان يروقني شكلها؛ وإن كنت لا أحسن إلاَّ قراءة كلمة "آه" بين مقاطعها.
كانت تخدم بيتها وهي في أحلى زينتها تلبس الكرتة من قماش رقيق شفاف، وتعقد شعرها بمشط تلمع فيه الفصوص، أما الشبشب الذي تتهادى به في خيلاء؛ فكأنه لم يلبس في رجلها إلاَّ من يومه.
وكنت ألاحظها وهي مغمورة في خدمتها رشيقة أكثر مما تعودت في بيتنا وفي جميع بيوت الجيران حولنا، فهي لا تتناول الأشياء إلاَّ بأطراف أصابعها، فكنت كلما نقلت هذا إلى أمي وهي في مجمع من جاراتها لا يروعني إلاَّ توجعهن لخالتي كدرجان ومصمصة شفاههن وهن يردِّدن: "مسكينة يا ولدي.. قول يا لطيف". ولا أذكر في ذلك السن -الغرير- أنه كان يعنيني من أمر خالتي كدرجان شيء كما يعنيني أن أوفّق بين هذه الحياة الناعمة الرشيقة التي كانت تحياها خالتي كدرجان وتتألق في عيني كطفل، وبين هذا التوجع الذي ألاحظه على أمي وجاراتها كلما مرَّ بينهن ذكراها.
ومرَّت السنون طويلة مملة تُوفيت أثناءها أمي ولحقت بها أكثر جاراتها، ووجدتني أشب عن الطوق فأمنع نفسي عن ديوان خالتي كدرجان مسرح لعبي أيام الطفولة فلم أعد أسمع عنها شيئاً، ثم بلغني أنها أُصيبت في بعض أيامها بلوثة في عقلها فانتقلت إلى بيت بعض قريباتها؛ وأنها ما لبثت أن تُوفيت بمرضها. انتهى خبرها إليَّ من عجوز كانت البقية الباقية من جارات أمي امتد بها العمر إلى عهد متأخر، فاستحلفتها لتخبرني قصة "خالتي كدرجان" التي كانوا يأسون لها ويتوجعون لحالها رغم الحياة الناعمة التي كانت تحياها، ففهمت الكثير الذي كنت أعجز عن تعليله.
شبَّت خالتي "كدرجان" في كنف والدها هيفاء في جمال مفرط، وكانت تعيش وإيَّاه في هذا البيت الكبير وحدهما، لأنها فقدت والدتها وهي في سن الرضاعة، ثم فقدت أختها وهي يافع ولم يبقَ من عائلتها غير أبيها الذي كانت تشرف على سائر خدماته؛ وكان بدوره يُدلِّلها ويؤمِّن لها جميع رغباتها.
كان الوالد شيخاً تقدمت به السن، وكان ثرياً من ذوي الأملاك، وكان يسكن وإياها في هذا القصر، وهو من بعض أملاكه عندما كانت يافعاً يتألق ماء الشباب في محياها الفاتن.
واشتد الطلب على يدها فلم يوافق الوالد على زواجها بدعوى أنها (وحدة وحيلة)، وأنها (تشيل كبرته)، ولكنَّ العالمين ببواطن الأمور كانوا يعرفون أنه يخشى أن تنتقل أمواله إلى يد أجنبية.
عاشت الفتاة في بيت أبيها منطوية على خدمته، ولم يطل ذلك كثيراً فقد وافاه الأجل وهي لمَّا تزل في ميعة صباها، فما كادت تنتهي أيام المأتم حتى تقدم ليدها ابن عمها وكان يحتل بعد أبيها مقام الوصي عليها، ولكنها أبت قبول يده فهو والد لأتراب في مثل سنها؛ ولما أصرَّ ثبتت عند رفضها في عناد.
وجازاها بعناد مثله إذ رفض باعتباره وصياً عليها كل يد تتقدم لخطبتها.. كان يخترع لكل خطيب عيباً يستند عليه في الرفض حتى استطاع أن يحكم عليها لتعيش عانساً في بيتها.
لقد كان رزقها مكفولاً من حصتها في أملاك أبيها، ولكنها مع هذا عاشت فارغة تتطلع ككل فتاة إلى من يملأ فؤادها وتحلم بالفارس الجميل حتى في أوقات يقظتها.
ولما طال انتظارها عبثاً اتسع القصر الذي تسكنه على وحدتها القاسية فانتقلت ببعض أثاثها إلى الديوان في أسفل طبقة منه وعرضت الباقي للإيجار وعاشت تتجرَّع غصَّة وحدتها.
ومضت بها الأيام قبل أن تستيقظ ذات صباح على من يطرق الباب.. كانوا ضيوفاً من إندونيسيا قدموا إلى الحج من عامهم ذلك.. رجلاً وامرأتين يحملون إليها رسالة من بعض أقرباء أبيها فاستقبلتهم في لثام رقيق على عادة نساء مكة في استقبال الحجاج اعتماداً على الثقة فيهم كحجاج، وبعد أن تناولوا تحيتهم قهوة أو شاياً، شعرت أن عين الشاب تسارقها النظر في لهفة فلم تُعلِّق كثيراً على هذا؛ رغم أنها أنست ارتياحاً واستطاعت أن تغافله لتنام عدة ثوانٍ بين أهدابه.
ولم تمض إلاَّ ساعات بعد وداع الضيوف حتى طرق الباب لتستقبل في هذه المرة شيخة الحجاج جاءت لتنقل إليها رغبة ضيوفها في طلب يدها لابنهم الشاب الذي كان يصحبهم في زيارتها قبل ساعات.
وصادف الحديث هوى في نفس فتاتنا فاتسع وتشعبت وجوهه وكان لا بد أن يتداعى إلى قصة ابن العم الذي يمثِّل الوصاية عليها ويحاول بشتى الوسائل ألاَّ يتم لها قِران.
ولكن الشيخة كانت شيخة في صرامتها فقد أهابت بها وهي تودعها "شوفي يا بنتي الولد بعد الحج يسافر بلده مع أمه وأخته اللي شفتيهم يأخذ رضا أبوه ويأخذ اللي فيه النصيب علشان المهر واللي منه ويجيكي راجع.. أبوه يبغاه يدرس هنا ويبغاه يكمل دينه ويربط رجله. لا تقولي ولد عمك يرضى ما يرضى.. أنت مو صغيرة.. أخطفي رجلك إنتي وهو بعدين وعلى بيت القاضي يعقد لكم ما دام إنتي راضية ومنت قاصرة ها..؟ اتفقنا.
- اللي تشوفيه.
- يعني خلاص؟؟..
- زي ما تقولي!! أصله انتي زي أمي!"
ومضى موسم الحج وأقلعت آخر باخرة للإندونيسيين عائدة بهم إلى بلادهم فعاشت تحصي شهور العام الجديد في أعصاب متوترة لا تعرف القرار.. إنها فرصة العمر.. سوف لا أتركها تضيع من يدي.. لا قيمة للصداق عندي قلَّ أو كَثُر.. ما أعظم "ستي الشيخة وما أعظم أفكارها.. سوف أصحبه إلى بيت القاضي وأقرر موافقتي في أول يوم يطرق فيه بابي.. ما أحلى أن أجد إنساناً يملأ فراغ بيتي بعد طول هذه السنين.. لك الرحمة يا أبي فقد قيدتني في حياتك لأفكارك الخاصة، وأسلمتني بعدك لهذه الوحدة المريرة، وأبحت للندل ابن أخيك أن يقيدني لمنفعته الشخصية، ويضيف إلى السلسلة أقفالاً جديدة.. سأحطم هذه السلسلة مهما كانت متانتها.. فتعال.. تعال يا رفيق روحي.. ليتك تسمعني".
ولكنه لم يسمعها فيما يبدو وقد أهلت أول باخرة تقل الإندونيسيين إلى جدة في العام الجديد ثم تقاطرت بعدها البواخر دون أن تسمع عنه خبراً وانتهى الموسم وتلاه آخر وآخر وفتاتنا تنتظر دون أن تفقد الأمل.
وحاولت أن تعرف رأي "الشيخة" فيما سبب هذا الغياب ولكن أين هي "الشيخة"؟. لقد كانت زيارتها بيضة الديك لم تتكرر بعدها، وقد فاتها لفرط دهشتها يوم أن زارتها أن تعرف اسمها وعنوان سكناها؛ ومع هذا فهي لم تفقد الأمل!!
وظلت فتاتنا تعيش على هذا الأمل سنوات وسنوات تسلَّلت الكهولة أثناءها إلى محيّاها الوسيم، وظهرت آثارها فيما تغضَّن من وجنتيها، ولكنها تأبى رغم ذلك أن تعترف بما تقدَّم من سنها. ظلت تعيش في أحلام اليقظة تترقبه في كل حركة يخفق بها الزقاق الطويل، وتصيخ بسمعها لكل طارق ولو على أبواب جيرانها خشية أن يكون قد ضل سبيله إلى بابها؛ وهي لهذا دائمة الزينة تتناول أعمالها في خدمة البيت بأطراف أصابعها في رشاقة العروس المجلوة من ليلتها.
وتضحك جاراتها لما تتكلَّف من الأناقة في غير مناسبتها، وبما لا يليق من تقدم سنها.. فأما العارفات منهن بدقائق النفس كنتيجة للتجارب، فيرثين لها ويُوقعن باللوم على أبيها الذي هيَّأها لمثل هذا الهوس؛ وأما البدائيات فحسبهن ما يجدن في سيرتها من مفارقات تغري بالسخرية منها.. وهن لهذا يطلقن عليها "خالتي كدرجان".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :4326  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 156
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء السابع - الكشاف الصحفي لحفلات التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج