شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
( 20 )
في القطار...
عدنا إلى القاهرة. وكلنا شوق واندفاع إليها.. وقد آثرت دون الرفاق، القطار وهو العالم المتحرك بطبقاته ودرجاته الممثلة الفوارق الاجتماعية والمادية. وقد وصلت قبل تحركه بدقائق معدودات.. والشيال ـ أو الحامل عنصر هام في المحطة، أو مملكته العالم بخفاياها. فقد تكفل بكل شيء حتى انتهى في ثوان..
وكان رفقائي خليطاً من هذا العالم المتحرك. ففيهم المصري الريفي والمدني. والأفندي، والخواجه المستوطن، والمهاجر الحديث.. والانكماش أولاً ثم المجاملات السطحية ثم تبادل المعلومات بعد التعليق على المرئيات والأماكن. والمحطات. وأسمائها.. درجات التعارف الاجتماعي على تفاوت في الاستجابة والأمزجة..
وكنت أود أن أكون بجوار النافذة لمشاهدة الطريق وما فيه.. وكان في جواري مصري من كبار أهل الأرياف فتنحّى لي عن مكانه. وأخذ يدلي بمعلوماته عن الأماكن.. وحاصلاتها. ومراكزها المادية. والاجتماعية. وسرعان ما جذب الحديث فضول أحد الخواجات الذي ظهر فيما بعد أن معلوماته عن القطارات ومواعيدها. والقرى، والبلدان المصرية. وحاصلاتها. وطرق تصريف غلاتها. أدق كثيراً. فهو وإن كان حديث العهد بالعمل في تجارة الحبوب وسمسرتها بالنسبة لصاحبنا الريفي. إلاّ أنه يسجل المعلومات بالطريقة المدرسية العلمية، في مفكرة جيب خاصة، بعكس الصاحب الذي لا يعرف إلا أنه درج ونشأ واشتغل. وقد تكون المعرفة في نظرة تافهة لا تستحق منه التسجيل والتدقيق.. ولكن من ضمن الذاكرة الخؤون؟
والريف المصري وليد هذه النعمة الكبرى "النيل" على مصر ومن فيها. فنحن لا نزال باستمرار نمر بين ذراعيه المبسوطين على جانبينا.. وبين هذه الأرض الخضراء المنبسطة. وتثور النفس حين المقارنة بين هذا الرخاء والخير، وبين حالة الفلاحين فقراً وخصاصة. ولو قدر لكل مديرية من مديريات هذا القطر أن تعيش في لا مركزية مرتبة لما انقضت سنوات دون أن يعم الرخاء والبسط في المعيشة ـ هؤلاء المحرومين ـ بدل هذا الارتباط الذي يبتدئ وينتهي. وينتهي بأسرع ما يبتدئ. في رؤوس لا تحس إلا بجوها، وما هي فيه من رفاهية، ومغريات، وتشابك حزبي أو شخصي أو اجتماعي ينسيها مهمتها الأساسية..
إن المعيشة الفطرية التي تمثلها لنا هذه المرئيات المتلاحقة، مثال نبيل للطبيعة الإنسانية لو تعهدها الصقل والمعرفة والإرشاد في حدودها اللازمة دون إغراق أو تعقيد.. إنها ببساطتها ونقائها، قوة حيوية دافعة للبقاء في سلام، عجزت هذه القوانين المتواترة عن خلقه..
والنفس تهفو لما خالف واقعها تفخيماً لأفضلية.. وإلاّ فمن أدرانا أن هذا الفلاح الفقير ـ كما نحلم بالعودة للريف وحياته ـ يفرق من واقعه الناضب ليبيت ويصبح في حلم ناعم بحياة المدن الصاخبة بأضوائها وازدحام الحركة، وتنوّع المرئيات والحوادث فيها؟. هذا إن كان قد رآها بالفعل أو السماع. وإلاّ فسيكون حلمه أمنية نحو مجهول.. مرغوب..
ولقد غرقت في الرؤية والخواطر.. ولكني فزعت فجأة على صخب نقاش حاد.. هما الخواجه. وصاحبي الريفي. فالأول يتهم المصريين في قسوة.. على إهمالهم أرضهم الطيبة نتيجة التعلّق ببهرج الحياة. والتلهيّ بالقشور أو "الهلس" كما يقول.. والثاني لا يقره على التعميم المطلق، فهو لا ينكر واقع أبناء قومه ولكن لا يلقي عليهم كلهم اللوم أو التبعة، فهم غير مسئولين عن ماض اتصل بحاضر جنت عليهم فيه السلطة وكونتهم هذا التكوين الفاسد.. فهو ينعى ذلك على المستعمرين قديماً وحديثاً..
ولا يعفي في كثير من القسوة الحكام المصريين، وزراء، ورؤساء أحزاب، خلقهم الاستعمار، وخلق لهم الحكم ينشغلون بأسمائه.. وشاركت في الحديث بأن هؤلاء الزعماء الوطنيين. قد تقمصوا الأجنبي زياً ومظهراً، وحباً للسيطرة والحكم، ولعلّ السبب الرئيسي في جمودهم عند هذا الحد، عدم شعور المجموع بحقوقه بعد. وإلاّ لدفعهم دفعاً إلى واجباتهم. أو الأخذ بأيديهم قذفاً بهم إلى ما وراء الصفوف.. ولكن أين هذا المجموع وشعوره لم يترك له الفراغ من الجهاد وراء تأمين اللقمة، والفقر والجهل كساح دائم وعمى تام..
وهكذا قطعنا الطريق بين متاع نظر، ودغدغة فكر، وثورة أمل..
وفي المحطة اشتبكنا بأول "الخوازيق" القاهرية التي يجيد تثبيتها واختيار مراكزها الشيالون والمتطوعون لإحضار التاكسي للخواجه والبيه في الأول "والايه و الأسطى" في الأخير..
وكنت وأحد الخواجات ضحية مقلب من مقالبهم الرخيصة التي لم يخلصنا من شربها حتى الثمالة إلا البوليس، وسرعة السائق.. فقد ظهر أنه توجد حتى في البوليس روح الشيال لا تسترها عن الأعين إلا البدلة الرسمية، والحياء عند الزحمة. أو في آخر لحظة منها..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :813  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الغربال، قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 1999]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج