شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الأول
ـ 1 ـ
ترك يديه تسترخيان.. مع عقله.
ترك جفنيه يطبقان على عينيه: إرغاماً له، وانسياقاً منه خلف أحلامه... لتبقى تحتهما صورة للجمال الذي يغسل النفس من شوائبها.
هكذا اعترف بالخفقة الأولى لهذه الأنثى ((عالية))... منذ لفتت انتباهه بحوارها وبآرائها وبإبداعاتها... ومنذ سجنت حريةَ خفقى: ابتسامتُها الشاسعة.
رآها في إحدى صورها ترتدي اللون الأصفر الذي تناثرت نقاط سوداء من خلاله.
ـ ولماذا اللون الأصفر؟!
غيرة، أم حدّة طبع، أم حزن شديد؟!
كان يبدو ساهماً داخل مقعده في جوف الطائرة المتجهة به إلى باريس، وقد أراح رأسه على كتف المقعد، وهو يحاور نفسه دون أن يبتسم:
ـ عندما يستلقي المرء على ظهره، فإنه يعترف بأشياء كثيرة لنفسه، ويعثر على الشجاعة لإقناع هذه النفس بضرورة الالتزام بهذا الاعتراف.
فهل يعترف الآن أْنه يحب ((عالية))... حتى قَبْلَ أن يراها وجهاً لوجه، وتلتحم كفه بكفها، ويصغي إلى همستها، ويلتصق بدفئها؟!
مساحة معرفته لها، ومعرفتها له: بضْع رسائل... كانت مفتاح الإلتقاء الفكري بينهما، حتى افتتحت في كل منهما: مد شعور متبادل بينهما.
قبل ((عالية))... كان الظمأ يوغل بزمانه نحو الجفاف.
كان التلفُّت مضنياً في انتظار أن يسفر كونه عن وجهها.
كان جدار مدينته: بحراً، وعمره: صارية فوق قارب يتقاذفه موج السنين.
قبل ((عالية))... كانت عيناه مطفأتين، لأن ضوء وجهها لم يشرق بعد.
تأخُّرها عن الشروق في عمره: صادر الفرح... حينذاك كان قد أخبر النخلة عن أنثى بها، ينتظرها رفيقة، وشفيفة، وشفيقة... فلم تعرف النخلة عنوانها.
كان ظمأه يشعل هذا الانتظار لها بين ضلوعه... لتشرق على حياته من الفجاءة.
في الحلم الممنوح من تخيُّله لها الآن... زرعها فوق شفتيه، وغرسها في حنايا الضلوع.
يعلم أن المواكبة في الحياة... لها قوائم من الألم والمسرّة... من الحزن والفرح.
شيء حميمي يكون بمقدار الإحساس، وبعمق الانجذاب، وبرسوخ الصوت حينما يستطيع أن يعلو، وأن يتلاشى أيضاً.
إعترف بالتعب... والطائرة تدخل المجال الجوي لمدينة باريس... وهو تَعِبٌ: يدخل في جغرافية المعاناة، والأعصاب، والشوق الذي يختلط بضربات قلبه.
هذا المساء... سيرى ((عالية)) لأول مرة.
ها هو الآن: يتعرّف على الحب في حالة الخوف... وفي الخوف يتكثّف حبنا لكل الذين أحببناهم ولا نطيق فراقهم، ولكل الذين أحبّونا فأضاءوا حياتنا.
هكذا هو يعترف بالحياة أيضاً... كأنه بتواجد ((عالية)) في حياته لم يعد يخاف من الخوف... وإن استمر خوفه على الحب في هذا العصر!
هذا العصر: تنتعش فيه محاورات الإنسان لعوامل التبدُّل، والتعرية في النفس، عندما يواجه أمور الحياة بالسياج الشفاف.
أخبروه ذات يوم في سؤاله عن ((عالية)): أنها مهرة برية جامحة، قد تقذف بفارسها في عرض الساحات، وتتركه تحت سنابكها وفي غبارها، أو تحت نقعها!
لكنه كالذي يرتقب قدومها إلى حياته من وراء الغد: يداً تمتد إلى يد... خفقة تمتزج بخفقة قلب... نظرة تتّحد برؤيته الشاخصة نحو الأمل والفرح... فكرة عقل تتلاحق بفكرة! الطائرة تهبط على مدرج مطار (شارل ديغول).
كان يناديها في تلك اللحظات... وينتشر نداؤه من بين ضلوعه متوحِّداً بغروب شمس، وهطول مطر، وإضاءة قمر، ووصوصة نجوم... متلوناً كقوس ققزح:
ـ (عالية..... أين أنت - كلك - من عالمي هذا الذي يشهق)؟!
جزء من نداء شاعرٍ فارس أرسله إلى مهرته... فاقتبسه هو، ليهديه إلى عاليته:
ـ ((أتركيني أزهر في الخرافة.
أين يدك... لكي يدلّني دفؤها على الطريق؟!
وجهك: هو الزمن البعيد...
وأنا: عام المسافات))؟!
أين يدها الآن... وما الذي سيسري في أوصاله حين يمد يده إلى يدها فتتعانق الكفَّان؟!
* * *
حين بلغ الفندق... كان منهكاً جداً، يهده إرهاق السفر، والتفكير في ((عالية))، والانتظار للحظة الضوئية التي لا مثيل لها وهي تشرق بوجهها أمامه.
أخضع جسده لحمام دافيء... واستلقى بكل تعبه.
لا... بل كأنه أخرج مع ملابسه التي كانت في الحقيبة: ألوان تعبه، وعلقها بجانب بذلاته، وقمصانه.
ـ... تعِبَ من قشور المدنية، من ضجيج الحضارة.
تعِبَ من هذا الرأس المرفوع فوق كتفيه، وهو مشرئب دائما إلى الأعلى، بينما دموعه تنحدر من هذا العلو: حزينة، فاقدة دائماً.
تعِبَ من هذه الحقيقة التي تهز أضلعه جمرية، فلا تلبث أن تبرد وتترمد في صدمة اكتشاف محاورات الإنسان لعوامل التبدل والتعرية النفسية.
فهل تكون ((عالية)) مختلفة عن كل الاشراقات التي ومضت بين ضلوعه ثم احترقت مثل الفلاش؟!
تعبت نظرته الشاخصة، ترنو نحو بزوغ وجه ((عالية)) القادم من الحلم!
كانت ((عالية)) قد زوَّدته برقم هاتف الفندق الذي سكنته قبل حضوره هو بيومين... ولم يكن متررداً في الاتصال بها ليخبرها بوصوله، ويحددا لحظة اللقيا.
تعبت يده الممدودة إلى فراغ العواطف الهشة.
لكنَّ انتظاره للحظة اللقيا مع ((عالية)) لم يتعب.
ـ قالت له في الهاتف: متى وصلت؟!
* قال: قبل ساعة فقط... وما زال سفري واقفاً على مشارف مدتك واللحظة الأجمل معك.
ـ قالت: لعلك تريد أن ترتاح قليلاً؟!
* قال: لكني في لظى هذا التعب... يبزغ انتظاري للقائك: راحة لي.
ـ قالت: إذن... سأنتظرك في ردهة فندقي بعد ساعة... ومعي صديقتي.
* قال: وسأوافيكما في الموعد... ومعي صديقي.
* * *
كانت الساعة دهراً... وأسئلته تتلاحق، تلهث:
ـ هل وجهها مثل صورتها... وضحكتها تشيع بهذا الفرح دائماً؟!
مَنْ الذي سيبزغ بعد قليل... هي، أم الرؤية... أم أن كليهما سيتموَّجان في الرؤى؟!
هل يده التي ستمتد لتحتضن يدها في إطلالة مساء هامس بالنجوى... أم تراها: يد الفرح، العشق، الأمل؟!
كانت رحلة عمره طويلة... قبل أن تأتي ((عالية))، تناثرت خلالها فوق خارطة العمر: خطوط الزمن، وبحار التجارب، وتضاريس العقل، وأحزان القلب... وتبقّت لديه: رغبة الغوص في داخل النفس الصادقة، ونهاية الخط الزمني: تجافي الامتلاك... لكنها تحتمي بالبراءة دائماً.
قبل أن تبزغ ((عالية)) فيؤحياته... كان يرى اللحظات: بقعة حبر تمتصه، ولا يقدر أن يمتصها... حتى تحول العمر في بهائها إلى نقطة حياة، منحت قلبه قدرته على النبض من جديد بتفاؤل كبير.
هكذا أصبح دخول ((عالية)) إلى وريده... كل صباح، ومساء، بل كل لحظة.
الرسائل التي تبادلاها في البدء... حرَّضته على الاندفاع إلى الأمل.
أحب ((عالية))... وكان يقطنه: عنادها الفرحان.
صار إصراره: أن يحافظ على بقائها، فكرة نبيلة تعني له الحياة أجمل!
* * *
التقت نظرة ((عالية)) / الميلاد... بنظرة ((علاء)) التي أضنتها غربة الترحال.
توهجت اللحظة بجنونه فيها... وكانت اللحظة الفاصلة ما بين موته الذي كان، وحياته التي بدأت.
إحتضنت يده يدها... فتدفقت حضارة عشقه!
كانت يدها في تلك اللحظة: تضيء.
كانت: شموعاً في حلكة لياليه.
كانت: همسة في صمت وحدته.
كانت: رجاء في نهاية بحثه عن الرجاء!
لم يتمالك دفق مشاعره، فاندفع نحوها... إحتضنها أمام الجالسين والعابرين في ردهة الفندق.
فوجئت ((عالية)) بهذا الدفق من ((علاء))... جفلت قليلاً، ولكنه كان يصرخ: أوه... وجدتك، وجدتك... وجودك يكفي لتعمير ما تبقى من حياتي.
ها هي ((عالية)) / المهرة البرية الجامحة... تجول في ساحات ((علاء))، لتضع أوزار معركته الأخيرة مع: الحزن، والوحدة، والهشاشة.
إنها الأن: تملأه ميلاداً وريّاً... وهو أمامها يواصل نداءه المشتاق عليها... وابتسامتها النصفية. كالجيوكندا. يجنُّ بها وجهه.
ـ همس لها: خذي تعبي... إصهريه في دفء يدك.
خذي عمقي... أسكنيه ولا تبرحيه... حتى بعد موتي!
بقي يتأملها، حين كانت هي تجادل (تكتكة) الساعة حول معصمها... وكأنها لا تحب متابعة خطوات عقربها الذي يأكل الثواني، وبهجة الزمن الخاص.
إنهالا تبدو... بل تتموَّه أمامه... لا يعرف هل هي سعيدة بهذه اللحظة، أم مجرد أنثى تكتشف أعماق وأبعاد رجل يقتحمها.
في صدره هذه اللحظة: امتلأ بالحياة... لا يحب أن يقنع بالنظرة التي تأتي من الداخل إلى الداخل، و((عالية)) أمامه بكل هذا البهاء.
تذكَّر اللوحة التي رسمها صورة شعرية: الشاعر الطبيب العاشق ((إبراهيم ناجي)):
ـ (أيّ سر فيك؟!
إني لست أدري كل ما فيك من الأسرار... يغري)!
تمدَّد إصغاء ((علاء)) في لحظة اشتياقه العظيم إلى بوح ((عالية))... وما زالت تُقطِّر الكلمات من بين شفتيها كمطر شحيح.
تبوح... أو لا تبوح؟!
تُعلن عن خفقة القلب، وتصادرها في نفس اللحظة.
تفترُ شفتاها عن إبتسامة حليبية... فتقول كل شيء، ولا تقول أي شيء.
كأنها - لحظتها، تفصل المرغوب عن المتألِّق فيها بكل البوح، والنداء، و... الركض المعاكس من علقها فيما يبدو!
هذه الكلمة: (توقّفي أيتها اللحظة... فكم أنت جميلة)... إحتضنها بأضلعه في أعماق صدره، والتفت إلى من سكنت نفسه ((عالية)) يسألها:
ـ ترى... كيف سنتذكر هذه اللحظة الجميلة التي جمعتنا معاً... بعد تعاقب السنين، وبعد برودة الأضلع إثر هذا الحريق، ثم اشتعال حتى الدفء؟!
* قالت: لحظة كهذه يصعب أن ننساها.
ـ قال: معك أتعرّف على مقدار المسافة، وأركض إليها بك مندفعاً، وأتوهج وأفيض... لكني أخاف أن لا تكون هذه اللحظة قادرة على البقاء طويلاً؟
* قالت: لا تخف... أنا وأنت لم نكن إثنين... نحن معاً طويلاً.
ـ قال منسكباً في الشجن: تستطعين رؤية مشاعري الآن محتشدة على حفافي عينيّ... يجمعها عند الحدقة وجهك الرغد... المهم أن لا ننسى!
* قالت: الأهم يا صديقي أن لا تفهمني خطأ في لحظة يجنُّ فيها عشقك... فأنا أحمل لك أصدق ما يمكن أن تمنحه امرأة لرجل يشاركها لحظة خروج الليل ودخول الفجر!
ـ قال: أتمنى أن نبقى معاً في دائرة التذكر لهذه العبارة: (توقفي أيتها اللحظة... فكم أنت جميلة)... لأنها: وحدة مشاعرنا، وبها نكتشف دائماً مصدر السعادة وفلسفتها، واللحظات الحميمة لا تتوقف، إنها تتواصل، ولكن... نحن نفني هذه اللحظة الأعمق في تعاقب الأيام دون أن نمتلكها، بل هي التي تمتلكنا.
* * *
ضحك ((علاء)) وهو يبلور أسئلة غريبة، تمنى لو ((أطلقها)) على حبيبة قلبه ((عالية))، ومن هذه الأسئلة يدخل إلى أبعاد فكرتها عن دور المرأة في مجتمعها وقدراتها:
ـ مَنْ أحرق ((جان دارك)) عندما كانت شابة وناضجة: ترفض وتؤكد؟!
مَنْ أغرق (ماجدولين) بالماء أو بالدمع الذي روَّى شجرة الزيزفون؟!
مَنْ أفنى بهجة ((غادة الكاميليا)) في عنفوان الامتلاك للحياة؟!
لكنه وهو يبادلها بالسؤال... شعر أنها تبادئه بالإجابة قبل طرح السؤال!
ميلاد حنينه لـ ((عالية)) حتى وهي أمامه الآن... وقد استيقظت في نفسه أبعاد المسافات، والزمن، والرؤية.
ذاب الوجع الذي عاناه قبل أن تبدأ دخولها بين أضلعه: تراجع الآن وذاب في هذا الإبحار الذي منحته له لحظة اكتشافها.
تُذكِّره لحظة التأمل لوجهها الآن، كلما اقترب من عينيها العميقتين كبحر ليلي، بتلك الصورة التي رسمها ((كامل الشناوي)) كأنه يرسم لوحة بالشعر تتحرك أمامه، وهو حبيس التردد أمام وجهها:
ـ (تباعدت وتدانت كإصبعين بكفي)!
فجأة ضحكت ((عالية)) حين لاحظت أنه كان يتطلع إلى كفها ووجهها، وإلى إصبعين بكفها: يتباعدان ويدنوان وحين اكتشفت أنها هي الأخرى كانت تتطلع إلى وجهه وكفه!
ـ سألها أمام وجهها الذي أضاء ليله: لماذا كنت أرصد حركة كفك ووجهك كأنني كنت أترصّدهما وهما يتباعدان ويدنوان من وجهي ويدي!
لم يكونا وحدهما على المائدة في المطعم الذي اقترحته ((عالية)) لعشاء الليلة الأولى في باريس بل شاركهما متعة جمالها الذي يذوب: صديقتها التي ترافقها في السفر، وصديقه الذي كان وحده الرفيق الأمين في كل أسفاره ورحلته، وكأنه الوصي على سكناته ولفتاته ينبهه إذا تمادى، ويشاركه الفرح أو المعاناة.
كان ((علاء)) خلف إيماءة حبيبة قلبه ((عالية)) يَُفهم شجنه، ويثقّف عواطفه بنضج بوحها وكأنه يخاطب كل رفض للكلام وهو: ينتشي بهذه الحبيبة المميزة عن كل النساء اللواتي عبرن أو عمّرنها زمناً ويتعمق، يتعمق في أعماق عينيها، وفي اكتحال شعرها بسواد الليل، وفي قدرتها على الهمس الذي يناجيه والصدّ الذي يوقفه عند حد معين كأنها كانت تدفعه إلى مقدرة الصبر على المشي فوق طريق طويل، يحلم أن يجد اللحن في نهايته: مكتملاً!
هنا - وهو أمامها - دعوة للحياة في صدره.
وهي - في استشفافه لمشاعرها - يخيل إلينا أنها: ما زالت تبحث عن إجابة على سؤال تأتي على شكل سؤال آخر!!
أمضوا أكثر من ساعتين على مائدة العشاء في المطعم وحين أشرعوا باب الخروج من المطعم: كان صخب السهارى يشيع في حواري وأزقة (الحي اللاتيني) الذي اختاروا زيارته في الليلة الأولى ومع خطواتهم الأولى: بدأ المطر ينسكب رذاذاً، حتى أخذ ينهمر، واحتميا - عالية وعلاء - أمام بوابة درأت عنهما المطر قبل أن ينتصف الليل وصديقها أمام بوابة أخرى، والنساء والرجال يركضون تحت المطر قبل أن ينتصف الليل بساعة، ورجل بأسمال بالية يعزف على جيتارة، وامرأة في الأربعين تمد يدها بأوراق اليانصيب لمن يريد أن يجرب بخته ويشتري، وشباب من فتيات وفتيان يتراكضون إثر بعضهم في بهجة ضحكاتهم التي تعلو وتتناثر.
وجد ((علاء)) نفسه وجهاً لوجه أمام حبيبة قلبه ((عالية)) لا، بل كان يلتصق بها في زاوية البوابة الضخمة، لعله يمنع عنها المطر والتقت نظراتهما في ما يشبه التوحُّد المفاجئ، قربّها إليه أكثر، ضمّها كأنه يهصرها في جنون الناس، واندلاع الليل وغابا معاً في قبلة، كانت.. القبلة الأولى: خاطفة، ممطرة، توحدية، بكل جنون العشق، والتحليق فوق الواقع وبعيداً عنه!
توقف المطر بعد دقائق إلاّ رذاذه، وجدّد المحتمون من بلل المطر ركضهم وجنونهم، وقد انغمس علاء وعالية وصديقتها وصديقه في هذا الجنون المزدحم، أو الزحام المجنون لا تستقر عيونهم على مشهد، بل تتجول النظرات كألوان قوس قزح في أرجاء ذلك الليل المضيء بفرح الناس أكثر من إضاءات الكهرباء.
قفزوا إلى عربة مقطورة، تطوف بتلك المنطقة ذهاباً وإياباً لمن تعب من المشي، ولمن أراد أن يلمّ بكل هذه الأرجاء.
كان ((علاء)) يتطلع إلى عينيّ ((عالية)) تارة، ويخبئ أصابع يده في شعرها الأسود تارة أخرى وقد شهد لها قلبه أنها: القرار، وأن أمان الروح في فيئها.
في هذه اللحظات كأنَّ ((علاء)) يجمع كل الماضي ويغرقه في بحار ((عالية))، ويبيعه للحظة من هذا الليل الحميمي.
كلما أصغى إلى همستها إكتشف: أن لغتها هي رجاؤه الدائم لها.
كلما تأمل وجهها تجمعت خفقاته بين شفتيه لتحضنها وتُقبلّها.
لحظة نقاء تْخرجه من كل ظلال عمره التي اكتنفته زمناً طويلاً.
وشارف الليل على الانتهاء، وهذه الصحبة في طريقها إلى الفندق.
وأمام مدخل الفندق الذي تقيم فيه ((عالية)) وصديقتها وقف ((علاء)) وصديقه يودعانهما إلى ما بعد ظهر هذا اليوم الذي أخذ فجره يبزغ كأنّ النهار يسفر عن ابتسامة ((عالية))، لتملأ هذه الابتسامة أضلعه: فرحاً، وحلماً، وهناء!
* * *
ـ 2 ـ
* في انتظار أن تمطر ابتسامتها بعد ظهر هذا اليوم.
وفي انتظار أن تنهل ((عالية)) من فرحه بها.
بقي ((علاء)) فوق سريره شاخصاً ببصره في السقف هو هذا الظامئ إليها كلما سقت ابتسامتها عطش روحه.
ـ قال له صديقه حامد: ((أهجد وخلينا ننام يا أخي لم أتعوّد على السهر إلى الصباح الله يكافيك بعدين أنا أكبر منك سناً ولا أحتمل كل هذا السهر))!
* ضحك ((علاء)) وقال لصديقه: ((إهيه والحبحبوه طول الليل مع صديقتها / فاتن وقد رأيتك تركض مثل حصان جامح))؟!
ـ قال حامد: ((أسكت إنت بلْوَى، أنا كان مالي ومالك، تصبح على خير أنا رايح غرفتي أنام، ومن فضلك لا توقظني وأريد أن أنام إلى الليل))!
* قال علاء: سمعاً وطاعة يا أبيه لكن لو صحيت قبلي، من فضلك، قعَّدني حتى لا أخسر المزيد من الوقت الذي لا أرى فيه عالية))!
لكنَّ النوم يفرّ من عينيَّ ((علاء)) وهو يواصل حملقته في سقف الغرفة تارة، وفي ستارة النافذة تارة أخرى، والوقت بليد بطيء في الحركة.
إذن النوم يصلح للآخرين من المتعبين، والقادرين على نفض المعاناة عنهم ولا يصلح له وأمثاله من المتَّقدين بالشوق، والمتوهَّجين بالحلم.
قفز من فوق سريره، وفتح حقيبته التي أودع فيها: بداية عشقه لـ ((عالية)).
كانت البداية: رسالة منه أراد أن يقتحمها بها، أو يلفت انتباهها إلى متابعته لابداعاتها التي تكتب عنها الصحف والمجلات، وتتوج الكتابة دائماً بصورة لا تتغير: ابتسامتها فيها تفلسف ((اللذة في الألم))، وفستانها الأصفر بنقاط سوداء!
أخرج رسالته الأولى إليها وقرأ:
* عالية:
أعذري تطفّلي، لكني - كما أعتقد - قد بادأتك مستأذناً من إبداعك إلى الإنسان فيك من الإنسان في داخلي.
يسرني في البدء أن أقدّم لك: ((ناري وشفرة روحي)) تسافر بالكلمات إليك في مسافات هذا الزمن المقتول بالشوق، وإلى مساحاتك المصقولة بالجمال والرؤى، وبالحزن المتسع رؤية ووصالاً مع التجربة والشعور.
بعض كلماتي، وبعض الكتب أقدمها إليك: تعارف كلمة بكلمة في انتظار أن تشرعي بوابتك لكلماتي إليك من خلال كلماتك إليّ!
إنه يتذكر تلك اللحظات التي كان يكتب فيها لأول رسالة منه إليها وبقي تمضُّه الساعات والأيام في هواجسه على شكل أسئلة: هل ترد عليه وماذا ستقول، وبأي أسلوب تكتب له؟!
لكنَّ انتظاره لم يدم طويلاً كانت أصابعه ترقص الفالس وهي تفضّ أول رسالة منها إليه وأنفاسه تعلو، ووجيب قلبه يزداد، كأنه مراهق عاد إلى أول مراحل الشباب وأخذ يلتهم سطور الرسالة القصيرة، ويعيد قراءتها مراراً:
* الصديق العزيز / علاء:
أكتب لك هذه الكلمات بعد ساعات من تسلمي لخطابك الذي حمل معاني أسعدتني عن الأخوة والصداقة الفكرية التي أرجو لها أن تترعرع في درب الإبداع والكلمة الصادقة، البعيدة عن المشاعر المغشوشة، والفكر المستهلك التقليدي ومع ذلك لم أستطع أن أجمع لهفتي بقراءة رسالتك بين إشارة مرور وأخرى، وأنا أقود سيارتي في الشوارع المزدحمة.
وهل هناك صداقة أعمق وأبقى من صداقة الفكر؟!
لقد أتاحت لي المدة الماضية فرصة متابعة قراءتي لبعض الكتب التي أهديتها لي، وسرني أن تتفضل بإرسالها طالما نحن نعيش في عالم عربي، الكتاب محروم فيه من التجوال عبر الحدود، فليس أمامنا غير أن يمدّ بعضنا بعضاً بهذه الإبداعات، حتى لو تم ذلك عن طريق المصادقة!
قرأتك نعم، وأصارحك بحقيقة: أني استمتعت كثيراَ بالصور التي ترسمها بكلماتك، وكأنني . وأنا أقرأك . أتجول في معرض للفن التشكيلي أتأمل الألوان والتشكيل، وأسرح في المعنى والأفق المفتوح وراء اللوحة وفي صفحات أخرى أشعر أني في دار للعرض السينمائي، حيث يعيدني الظلام والمقعد الدافئ الحنون إلى لحظات الأمان التي عشتها يوماً في رحم أمي فأرى لقطات من صور تتحرك أمامي، أحياناً تفاجئني الصورة فأتوقف أمامها وأعيد قراءة الشريط.
و.... إلى أن تقرأني فتراني، لنتحاور ونتجادل... وأتمنى أن لا تبرحك الأفكار المحيَّرة، وأن تسكنك دوماً: الأسئلة!!
ـ ياه... كم سقَيْتِ تربة نفسي العطشى... يا ((عالية))!
همس ((علاء)) وهو يعيد رسالتها الأولى، ويفرد رسالته االثانية / رده عليها... ويقرأ:
* الصديقة الأعز... البدعة التي تشحذ البوح / عالية:
في رسالتيّ المتآخيتين في مظروف واحد، وبقناعة الرؤية الأقرب لـ (الإنسان)... فيهما - يا صديقتي - وجدت: كيف تترعرع (التلباثية) بين مبدعة يرويها النهر الخالد / النيل بالمزيد من تفجُّر عطاء الإنسان، وبين كاتب تحفّه روح (الحجاز) بكل ما فيه من قدسية أنبل، ومن (غزلية) أنقى... لأن الحجاز هو التربة الغزلية للعرب، كما قال عمر بت أبي ربيعة، وكما وصف الشريف الرضي.
في رسالتيك صدقٌ فَرحتُ به، يجعلني أتشبث بصداقتك التي تأخّر ميلادها - كما أحسب - وقتاً طويلاً... وقد وجدت في كلماتك: تلك اللحظة الغالية... حين تتفتح زهرة عن أكمامها في الفجر، لتنشر عبقها... ووجدت ذلك الغضب المبرور!!
الآن... تنشرين أشرعتك / الكلمة... تُبحرين، ما بين مديِّ، وأمواجك... تأخذين في كلماتك / صاريتك: قلوب الذين في الموج، وهم يلوّحون للصارية... تكتبين (مشاوير) شوق، وأحزان حلم... وتُشكّلك الكتابة: لظى، وجمرة، وهوى.
في كل نداء لك، والتفاتة مني إلى بوحك، ووحيك، وعطاء كلمتك... صرت أبحث معك عن أشياء تتغير ضدك / ضدي... ضد الإنسان... ضد الوعي، والحلم، والمعرفة.
منذ متى وأنت غاضبة بهذا النبل الرائع!!
منذ متى وأنت تصرخين؟!
أشتاق - معك - أن نبكي بصمت، بعد أن أتعبنا الصراخ، حتى تدقّ دموعنا جبين الأرض.
لتلد التربة - بكلمتك القادمة - زهرة، لا تخضع لتوقيت الفصول... ولتطلع الزهرة:
غداً جديداً للأرض والزيتون.
ها أنذا أمامك، ومعك... أرى: كل الفصول أتَّحدت، واجتازت بنا غربة الجراح.
كل الزوابع لا بد أن تنهزم... لتبدأ رحلة جديدة إلى الميلاد.
المكان - يا سيدتي - مساحة مؤقتة ونحن: طعمة ضد هذا الفراغ!
لا بد أن تغنّي للشواطيء التي تحتضن ثورة الموج.
فهل تأذنين أن أغني لك أنت / الكلمة، والطلوع... في بدايات السِّحر: حنيناً، وشهقة لفرح مرتقب؟!
* هذا الصباح الذي قرأتك فيه... كان بوابتي إلى لحظتك الخاصة.
لقد أتيتك من عشق البحر للسر... من مدارات شموس الصحراء القادمة بأمنياني، وحلمي المكسور!
لا أرغب أن أشقّ صدرك من شجري / كلماتي... وأنت قد زرعت صدري ببذرة من ورقك!
غالباً... نحن يسوّرنا الخوف، كلما أردنا بدء النقاش... كلما هممنا أن (نقصّ شريط الكلام)... لتكون هناك الزوبعة.
عفوك... لو أبحْتُ لنفسي أن أستحوذ على إصغائك هذه الثواني، لأبوح!
لقد مضى وقت طويل على تلك اللحظة التي فَتَحْتُ فيها على الأمسيات المملّة جراحي وأفرغت تيبُّسي في حُفَر النهارات الصمغية، وشربت أنفاس الناس، لأبقى حيّاً في العراك.
ويبقى السؤال دائماً: ماذا نريد؟!
والإجابة وحدها... تُلغي بطاقة السفر، أو تمنحها رحلة إلى الفضاء وسطح القمر!
أعتز - يا عالية - بصداقتك، وبتواصلك ووصالك... فالصدق هنا: أثمن كنوزنا الإنسانية.
* * *
وفي أثر صورة رسالته هذه ربط بها إجابة ((عالية)) عليها، وهو يذوب في لحظاته هذه مع أصدق الكلمات التي كتبتها له ((عالية)) في ذلك الزمن قبل أن يلتقيا وجهاً لوجه، وقبل أن تحتضن كفه كفها بكل الدفء، و.... قبل ليلة المطر / البارحة، بكل ما كان في غيثها من توحُّد مزجه حتى العظم!
في إجابتها على رسالته الثانية إليه... كتبت له:
(* صديق النبض / الفكر... والرعد / الإحساس... والوهج / الكلمة: علاء.
خطر ببالي وأنا أقرأ رسالتك ذات الأشجار الإستوائية على شواطئ جزر القمر... أن ((القدر)) وقد إرتدى - الآن - ثوب الفرح والنشوة، يقوم بمحاولة للتطهر من خطاياه وجرائمه - عبر التاريخ - بأن يهدينا ونحن الحرف، الكلمة - جواز مرور لطريق مفتوح، نصله بإبداعاتنا على شاطىء البحر الأحمر!
هل ستكون رسائلنا - المبدعة - حمامة سلام تطير كالشهب لتنشر أغصان الزيتون فوق المدن المعذبة؟!
هل...؟!
وهل...؟!
هل...!!
ما زلت رغم رومانسيتي - المطعونة - أقود شراع مركبتي تجاه الحلم المفروش بالعشب الأخضر... أبحر صوب الفعل الإيجابي (حتى لو كان عليّ معاندة الريح)... أجنح تلقائياً صوب الجزيرة ذات الأرض الطيبة، التي تحتضن البذور بحب، تشرب الماء بعمق، تختزنه في رحمها الخصب إلى اللحظة التي تعطي فيها ثمارها الناضجة، هناك، فوق قمم حقول النخل!
الأراضي التي تسرب الملح لباطنها، وشقَّق الجفاف سطحها، أهرب منها، ألقي بنفسي، في عمق البحر، أضرب بذراعيَّ سطح الماء إلى اللحظة التي يتأكد لي فيها أن المسافة التي تفصلني عنها، تؤمِّن عدم رجوعي إليها.
هل تتفق معي، في أننا جئنا الحياة كي تخصبنا ونخصبها؟! الأرض - كما أرادها الله لنا - مرتعاً للبناء، والبناء عطاء، والعطاء حب، والحب صداقة: ثمرتها فكر، وحوار، وتبادل آراء ورؤى.
وصداقتنا الوليدة - كما أراها - هي بذرة صدق أودعها القدر (الذي ارتدى الآن ثوب الفرح) في أرض طيَّبة ولاَّدة، لتنجب - كما أتمنى لها - ثمارها الناضجة فوق قمم النخل!!
أيها الصديق الفنان: أنا هنا - في هذا الموضع تحديداً - أدين لك بشعور إمتتان خاص، لأنك الطرف الذي أخذ مبادرة تحويل اتجاه الريح صوب رؤوس الجبال الشاهقة، ليهطل المطر غزيراً، وتلون أذرع الشمس حقول القمح بسنابل فضية وذهبية.
* ها أنذا أنتزع بعيداً عن صدر صفحاتي إليك: ستة أيام كاملة!!
غاضبة أنا...
في حالات الغضب، أخاصم كلماتي و... أخاصم نفسي... أتحول إلى جهاز كمبيوتر يستقبل سطح الأشياء، ويرسل قشورها.
يضايقني أن تستأثر تفاهات الحياة اليومية مساحات من أرض أيامي - عمري - اللحظات التي أصرفها بعيداً عن مدخرات إبداعي، هي تبديد لكنز لا يعوّض.
لن أبكي!
قلتها بتصميم وعناد، وأنا أصارع أذرع أخطبوط التفاهات اليومية.
آخر مرة بكيت فيها، كنت جالسة في حضن مقعد دافئ، وإلى جواري تجلس صديقة من جنوب أفريقيا، وكانت ((نيويورك)) كلها تحمل تناقضاتها الصارخة، وتبكي أطفال - المجازر - في مسرحية ((سيرافينا)).
كان ذلك في الصيف الفائت.
البكاء الصامت لم يعد يرهقني، أبرمنا معاً معاهدة تعايش سلمي، أشتاق - معك ومثلك - للحظة بكاء صامت، نغسل فيها الحزن عن وجه العالم، نقوم بعدها لنسير في إتجاه طريق إنقاذ الحلم، وفي داخلنا إحساس عميق بأننا تخففنا من - كثير - من أحزان العمر!!
* * *
* نظر ((علاء)) إلى ساعته التي شارفت على العاشرة صباحاً، وقد آلمته عيناه...
وراودته سِنَة من النوم، لكنَّ قراءته لهذه الرسائل المتبادلة بينه وبين ((عالية)) قبل لقائهما هنا في باريس... كأنه يعيد من خلالها شريط معاناة أشواقه لها، ومحاولاتها لسبر أغواره هو... ولكنه أيضاً يسترجع بقراءة هذه الرسائل: أحلى لحظات الانتظار، والجنون.
أخرج رسالته الجوابية الثالثة إليها... وقرأ:
(الغالية / عالية:
ها أنذا أتسلّق وعورة حزني، فأطمئن إليك... وأكتب لك.
أنتِ أذنت لي بأن أدع أشواق (الإنسان) في داخلي تبرق وترعد، وتنسكب غيثاً في ليلك... ليكون طلوعك عليّ - بعد الفهم، وسريرة الصداقة، والأشواق - قوس قزح.
أشواقنا - يا سيدتي - حنونة، رغيدة بالتوحُّد... رغم شراسة آلامنا، وقسوة جفوتنا وأغراضنا.
ولكننا - بهذا التفوُّق - نحن نتخطى عبثية المتعة المؤقتة، ونتجاوز ذلك السقوط السمج في السأم، والتعوّد.
إن أشواقنا... هي هموم قدَرية.
فهل أقول لك صادقاً: إنني فرحت بهذا الوصال والتواصل بيننا؟!
هل أعترف - بعيداً عن الرجال الخائفين!! - فأقول لك: إن عَمَار كلماتك لفهمي، ولوجداني، ولفكرتي... يمثل زماناً يقفز بنا معاً فوق الهموم والتجنّي؟!
لا أريد أن أدخل بك في زمن الشوق الماكر... فنحن نحتاج إلى النقاء والصفاء.
إن هذا العالم كله... هو: رأسك، ورأسي، بعمق ما أشعر وأفكر.
إن هذا القلب الذي يخفق بين جوانحنا... كله لا يكون إلاّ إنساناً واحداً... إلاّ قناعة أكيدة... إلاّ قيماً عظيمة، تبدأ بتوأم الروح، وبفلذة الكبد، وبالوطن، و... بالمبدأ الذي مات الكثيرون من أجله!
كنت أنتفض، كطير مذبوح، حين تلوب الفكرة في رأسي عن هذا (الفقد) الذي صار هو سلوكيات عصر، وله عشرات الأسماء والتعاريف!
لماذا يفقد الناس بعضهم؟!
يرعبني هذا السؤال الفولاذي... ونحن نتحول - أحياناً - إلى توابيت تمشي بحزنها!
أو... هؤلاء الذين أطلق عليهم ((سارتر)) صفة: موتى بلا قبور!
صارت الأصداء: صدري... ومِنْ رَجْعها اتخذتْ إصغائي، ومراضاة نفسي.
أنا هذا الفارس الذي طارد أنفاس ((مهرة)) ذات ليلة... ذات عمر... ذات عصر، فاتَّسعت الصحراء... إتّسعت... إتْسعت... إتّسـ...
ها أنذا - بعد إرم ذات العماد - أجدك، أيتها الصديقة الأصدق والأعز، أجدك في مواجهتي!
لماذا... وكيف؟!
رأيتُكِ هذا الزمان الخاص الذي يشرق فجراً، و((إنساناً)).
صامتاً... حدّقت في المساء، والقمر يطلّ - فكأنّه يمشي (ثملاً)!
فهل رأيتِ قمراً... خدّرته أنفاس زمن خاص؟!
صدقيني... لا بد أن ينبثق شروق الشمس من حكايات الإنسان الأجمل... وبين الليل والنهار، في الطلوع والغياب، أمزّق سحبي، وأعلن الحرب على الانتظار!
صرتُ الآن أهمس في أذن الكلام..... مشتاقاً!
هل تأذنين لي أن أسألك، بعد هذا الشوق:
إذن... مَنْ أنت؟!!
عفواً... لا أشكِّك في وضوحك، بل أستزيد من التعرّف عليك أكثر وأعمق، إذا رأيتِ أن هذا الحق المكتسب من (((الصداقة)) ممكنا.
قرأتك بخاصية... حدّست أنني عرفتك، فإذا ما قرأتك سقَطْتُ في الأسئلة والحيرة... مثلك!!
تُرى... هل أنت قارة ((البهاء)) التي يصعب اكتشافها؟!
هل أنت مليئة بوعورة الحزن... مثلي؟!
هل أنت فيّاضة بأنهار الفرح... مثل عاشقين يلتقيان بأشواقهما؟!
في نظراتك - من صورتك - أجد تلك النظرة الواحدة: الكاسرة، المنكسرة.
في نظراتك... أجد تلك النظرة المتحدة مع ((السؤال)) الذي لا يتعب!
كأنَّ وجهك - يا سيدتي - يبدأ من أشجاني (كإنسان): أمطاراً وبروقاً.
يدخل وجهك في وجهي: إغداقاً من صدق القلب، ونقاء الروح.
يتمازج وجهانا (الإنسانيّان) بصفاء الحلم.
فهل أنا واهم... أم صرتُ راهباً؟!
أتحوّل طائر نورس... يرحل نحو ذلك الإغضاء من العيون الأجمل... تلك التي تُحدِّق، ولا تبوح.
إن قراءاتي لكلماتك، تجعلني أكاد أتلمّس: أن أوجاعك ذهاب ومجيء.
قبل ليلة... كنتُ - كما قال الشاعر - (أرسمْ عِرْيي على جسد الريح)... وأصل إلى مسافاتك بتلك الأشواق المقطرة، أو التي تقطّرها صداقة العقل، والنفس الغنية بالود.
ولكن... ها هو الوقت يسرق منّا الأمل... ونحن نموت في المسافة ما بين الرؤية، والرؤى!
ها أنذا أدعوك: أن نركض خلف الأشواق... لتمتزج بها آفاقنا، ولهبنا، ومسالكنا... ولتمتزج بها الابتكارات في تأملاتنا داخل عصر ((السندويتش))، والمتعة، والمحطات... وليمتزج بها هذا الحنين في شرودنا.
ها أنذا، وقد أطَلّت عليك كثيراً كثيراً، أعدوا إليك بقلب مفتوح، صادق،... أضناه طول النزف.
ها أنذا... أحمل إليك دفء روحي، في صقيع الزيف المتراكم في العالم).
* * *
ـ 3 ـ
* كأنَّ ((عالية)) ركضت إلى صدره أكثر، وهي تسرع بكتابة ردها على رسالته الثالثة:
* (صديق النبض والفكر / علاء:
ها قد طرق ساعي البريد بابي.
تسلمت ((الطرد)) المرسل بإسمك إلى عنواني.
وكانت المفاجأة!
انطلقت صواريخك الملونة لترسم صوراً مبهجة في سماء شقتي.
مَنْ قال لك عن فرحي الطفولي بالمفاجآت؟!
مَنْ أخبرك عن ارتياحي للون الأخضر المناسب في عروق أحرف الخطابات؟!
مَنْ أفشى إليك بسر ((عطري)) المفضل؟!
مَنْ وشى أنك تثرثر طويلاً في الرسائل... لا تصدقهم!!
أكتب لي ما تشاء، وقت ما تشاء، فلا رقيب عندي إلا الصدق.
كيف استخلصت من قاموس اللغة معانيّ المفضلة: الإنسان، الشوق، الحزن، الصمت، الصدق، الفروسية؟!
مَنْ أخبرك، وكيف عرفت؟!! ترفع راية علامة إستفهامك فوق سطح بحري الصاخب التموجات، وتسألني بعقل وروح الفنان والصديق: من أنت ؟!
ها أنا أفصح لك وقد تعاهدنا على الصدق:
ـ أنا الإجابات التي تلد دوائر الأسئلة!!
عفوك أيها الصديق العزيز، ليس في نيتي زرع الألغاز في طريق العشب الأخضر الواصل بين قارتينا، فقط أحاول أن أتحسس الدقة عند الرد على أسئلتك التي أفرح بها.
إخترتك - صديقاً - من بين فرسان العالم لترسمني كما أنا.
وأرسم تضاريس روحك كما هي.
دعني بدوري أطرح عليك سؤالي (الذي ربما كنت أعرف إجابته) ولكني - مع ذلك - أحب أن أسمع رده منك:
ـ هل تحب الحب للحب، أم لشخص المحبوب؟!
فضول زرعته في عقلي من خلال برقك لهذا الجنون، ومن سباحتي في بحر حلمك، ومن تتبعي لبصمات كلمتك الواحدة!
وإلى أن نعاود اللقاء على أرض الإفصاح والأسئلة، لك مني أيها الصديق الأثير، كل الود والتحية).
* * *
* صارت الرسائل بينهما متلاحقة... تكتب له فيبادر في نفس يوم وصول رسالتها بالرد عليها... يكتب لها، فتقيم حفلة في غرفتها مع رسالته، وترد عليها.
صار يشعر أن بوحه إليها: حديثه إلى النفس، وسطوع الروح فيه يشرق من كل كلمة تكتبها له، ويكتبها لها.
صار يخاف عليها بين صدره، وفي عقله، ويركض معها في وريده مع دمائه.
كم أسعدته هذه الرسائل... حتى أنه كان يشعر: أن لا فرح يفوق وصول رسالة منها إليه.
وردَّ على رسالتها الجديدة... فكتب لها:
*أنظري... المشهد مريح، وجذل، ورائع.
إنه لم يعد يتكرر كثيراً الآن في زماننا هذا!
إنني أكتب إليك الرسالة الرابعة، قبل أن تصلني رسالتك الخامسة!!
بخ... بخ!!
أنا فَرِح بهذا (الارتواء) الذي يحضُّنا أن نتسامق، وأن ننبت من جديد: شجرة تشابكت أوراقها وأغصانها.
أشعر أنني (أقتحمك) عُنوة... ولدينا مثل شعبي بدوي يقول:
ـ (لا تدلّ البدوي على بابك... يا عذابك)!
يا عذابِك... الذي آمل أن يكون: (ليس له بَرَد)!
وهناك بيت شعر تأتي في نهايته الجملة السابقة التي بين قوسين:
هل الحب إلا زفرة بعد زفرة؟
وحرّ على الأحشاء ليس له بَرَد؟!
أنا لا أريد هذا التواجد بطريقة (الاقتحام) في حياة الناس، ولكني تمنيت - حقاً - أن يفرضني تقبُّلك لما أكتب، ولما أبوح... على وقتك، وعلى التفاتتك.
أصْدِقك... أنني أريد أن (أسرق) اهتمامك، وجزءاً من تذكّرك... لكي أكسب وعيك، وفهمك، ورأيك الناضج، ونقاء مشاعرك.
آه... المشاعر!!
هل قلت شيئاً إذاً؟!
يبخل الناس بمشاعرهم... لأنهم صاروا يخافون عليها، ومنها!
يخافون عليها... من التجنّي، والظلم، والاضطهاد لها.
ويخافون منها... أن لا تُحسن الاختيار، وترتطم مهشمة.
أنا معك... هناك عدة (كيّات) في بعض الضلوع، وحتى في أجزاء من العقل... ممكن أن ينكوي القلب بفجيعة في حب: هذا مؤثر، ورهيب... وقاتل: أن ينكوي (العقل) بخديعة من رأي، أو سلوك، أو ثقة!
أرجوك... لا تدعي أي واحد منّا يفقد الآخر، فقد وجدتك أخيراً.
أرجوك... لا تدعي هذا الواحد، المتوحّد في داخلك، وقد زرع في كل منّا الثقة... أن يضطر إلى هدم الوحدة، لئلا نخسر التوحُّد.
لماذا أفتح لك دماغي، وقلبي... في آنٍ واحد؟!
هل سألتِ نفسك؟!
هل ترغبين أن تطرحي هذا السؤال عليّ؟!
لم يخطر السؤال على بالي... إلاّ في هذه (الثانية)، وأنا أكتب لك.
ربما... لو تمخّض هذا السؤال من قبل... لأعاقني عن الركض إليك.
ملعونة تلك الأسئلة التي تقفل أبواب الفرح.
ملعون ((أبوه))... كل سؤال يبعدنا عن الذين تنضج بذرة (خصوصيتهم) في أعماقنا.
عفواً... لست شتَّاماً، ولا أقدر على ذلك.
فقط... متوتر أنا... صقيل أنا، مثل واجهة ((الأمبايرستيت))!
ولكن... لماذا ((الأمبايرستيت) اللعينة؟!!
لأقُلْ: صقيل جداً... مثل بناء (تاج محل) الشهير في الهند بقصة حب آخر المجانين في الشوق!
فهل كان آخرهم؟!!
خرجنا عن الموضوع... أو لعلني شعّبته، وهذه سِمَة الثرثارين!
ألم أقل لك: أنني متوتر، و... (منفلش) - حلوه منفلش؟!!
ها أنذا أفتح دماغك بثرثرتي... ولكني - أيضاً، أفتح لك دماغي، وقلبي... وأخاف عليك، ولا أخاف منك!!
كلماتك (مريحة) جداً... تزرع الاطمئنان في نفس من يقرأها، ثم مَنْ ينشدُها حين تروق له كنغم... ثم من (يتلوها) حين يؤمن بها.
قد يكون هناك قارىء يلعنك... ممكن، ولا بأس.
اللاعنون في زماننا: ضعف عدد خفقات القلب!
والملعونون: هم (أوديسِّة) الحياة!
أي عصر هذا؟!!
تذكّرت عبارتك في الهاتف، وأنت تقولين:
ـ المسافة بين القاهرة وجدة: ساعة ونصف، الناس ((بييجوا ويك إند))!
طبعاً... أستطيع!
وطبعاً... لا أستطيع!!
و((طبعاً)) هذه مرسّمة بأسباب... هل تريدين معرفتها؟!
اريد أن آتي... لأراك، لأصغي إليك، لأثرثر في سمعك، وأرتاح كثيراً عندما أتأكد أنني لم أكن أضايقك.
وأرتاح (أكثر)... عندما تثرثرين أيضاً، وعندما تخاطبين (الإنسان) في داخلي، القادم إليك، المنفتح نحوك. ونشرد بتحديقنا بعيداً، على امتداد النظر إلى النيل، ووراء ((أبو الهول))..... وقد صرنا: الصوت والضوء!!
صورة... تفوق أن نَصِفها بالشاعرية.
إنها (دخول) إلى حميمية النفس، وتوحّد المشاعر.
ولا بد أن تعرفي: أنني لا أفعل هذه ((الخصوصية)) مع الناس... وأحياناًُ... ولا حتى مع نفسي!
حقاً... (لماذا أنت مريحة)؟!
* * *
* آلمته عيناه، والنوم ينهمر فيهما كطوفان... لكنَّ رسائلها إليه، ورسائله إليها: تعيده دائماً إلى صدق النفس، ونقاء الوجدان، وشفافية الروح.
لا يستطيع الآن أن يكمل قراءة بقية الرسائل... لا بد أن ينام ليستعد للسهرة.
أقفل حقيبته، وأطفأ ضوء الغرفة، وأسدل الستائر... وأغمض عينيه، وقد تخيّل أن ((عالية)) تهدهده كطفل شقيّ يرفض النوم!!
* * *
* سمع قرعاً على الباب، تململ في فراشه... واستمرت تلك اليد تخبط على الباب.
تطلّع إلى ساعة يده... وهبَّ جالساً فوق سريره، يقول:
ـ ولْ... الساعة الرابعة عصراً؟!
وجد صديقه ((حامد)) خلف الباب... يحضُّه على الاستعداد للخروج:
* خروج إيه.... تعرف نمت الساعة كم؟!
ـ إن شاء الله نمت قبل ساعة... عالية وفادية في طريقهما إلى هنا، حضرتك رافع سماعة التليفون لئلا يزعجك أحد!
* حالاً، حالاً... واحد ((بِشْبش)) / استحمام، وأحلق الذقن... وتجدني ((على سُنْجة عشرة))!
ـ يا أخي إنت إنسان مُتْعِب... فوضوي، ((لا تتشيَّك)) كثيراً، لو عندك شورت أحسن.
* شورت في الشانزليزيه... يا فضيحتاه؟!
ـ سأهبط لشراء الصحف... شرط أن أعود فأجدك جاهزاً.
* متى وعدْتك فاتنتك بالحضور؟!
ـ بعد نصف ساعة.
* أوهوووه... أعطيهما ساعة، هذه مواعيد الجنس اللطيف يا عبد اللطيف.
ـ يا أخي إنت غلباوي... تسمح تخرج من الحمام ؟!
ها هي الأرض تمشي به إلى السفر... وها هو السفر - هذه المرة فقط - يقدم له أجمل وأزكى باقة زهر لم تُضمَّخ عمره مثلها من قبل هذا الأريج الفوّاح.
كان ((علاء)) يتقافز في غرفته كطفل سعيد، وهو يرتدي ملابسه يغني أغنيته المفضّلة من عبد الحليم ((أهواك)) وهو يؤديها جزلاً: ((أهْـ... واك))
ترى... هل يهوى ((عالية)) حقاً... وإلى أي مدى؟!
عاد ((حامد)) بالصحف و((علاء)) يسأله مع فَتْح الباب له، هل أهواها... وا أي مدى؟!
ـ قال له حامد: إسأل قلبك أسأل روحك، يا ولدي إتْقل، والله خايف عليك من رومانسيتك المتهورة!!
قال علاء: إسمع يا آبيه الحياة مَرَّة واحدة، وأنا حساس إني راح أموت بدري يا عمي: ((فاغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان)) كما قال عمَّك الخيام!
ـ الباب الباب، مَنْ الهاتف الداعي؟!
* أنا ليلى، وهذه عفراء!
ـ قال لهما علاء: صباح الليل في العصر ما هذا النوم؟!
* قالت عالية: جئنا لثلاث: النوم، والإجازة في السياحة، ونسيان الساعة؟!
ـ قال علاء: بخ بخ، إذن بعد النوم الصعلكة، فإلى أين؟!
* قال حامد: ماذا تقول أميرتي الصامتة، الهيفاء، اليعبسة، فاتن؟!
ـ صعد صوت فاتن أخيراً، وقالت كأنها تهمس: أي مكان يجمعنا معاً يصبح جميلاً.
* صرخ علاء: الله بيننا شاعرة رومانسية.
ـ قالت عالية: طبعاً أليست صديقتي، برغم أنها مشغولة بعملها ولا تجد الوقت حتى للقراءة؟
* قال علاء: ما رأيكن في صياعة عبر الشانزليزيه / مروراً بالمقهى الشهير، ((الفوكت))؟!
ـ قال حامد: إنت أخرج من الغرفة أولاً، وتأكد أن أقدامنا ستأخذنا حسب ما تديرها عقولنا ورغباتنا المهم تخرج يا غلباوي.
* * *
* في باريس فاجأهم الطقس الحار، كان الحر - فيما يلوح - موجة تلطم وجه باريس، في ذلك الصيف سكان المدينة فرحون بسطوع الشمس، بعكس القادمين إليهم الذين يتشوقون لقطرات المطر، وللسعة البرد التي تجعلهم يفلسفون معنى الدفء بعد ذلك.
ـ باريس - أيضاً - لا تختلف، سواء في الصيف أو في الشتاء... في الحر أو البرد فهي مدينة الصدور المفتوحة، والعقول المفتوحة، والثقافة، والدراسة، وصراع المثقفين ومنفاهم، وتعبهم وراحتهم.
وفي باريس: عشرات الوجوه من مثقفي وفناني العالم العربي، وصحافييه، مقيمين وعابرين... يحدثونك عن الحرية، والديمقراطية، وفلسطين وأيام الحجارة، والوحدة العربية يرحمها الله، والحداثة والغلاسة، ولا يشعرون المستمع لهم بالتناقض فيما يقولونه!
وانطلق الصحب إلى ((الشانزليزيه))، هابطين من ذلك الشارع المتفرع منه: شارع بلزاك، حيث يقيم علاء وحامد دائماً كلما قدما إلى باريس في فندق ((بلزاك)).
* قالت فاتن: صحيح لماذا اختياركما لفندق بلزاك دائماً؟!
ـ ضحك حامد وأجابها: حتى لا ينسى صديقي علاء ((الأدب))!
* قال علاء: أحياناً قلة الأدب تأتي إضطراراً، وليتني أستطيع أن أكتب مثل تلك الرسائل التي كتبها بلزاك عام 1624، وأثَّرت في تهذيب النثر الفرنسي.
ـ قالت عالية: لا أحب ((الفوكيت))، ولكن تعالوا ((نُشيِّك)) عليه.
* قالت فاتن: بلاش سيكون مزدحماً بالعرب!
إتخذوا طريقهم إلى عمق ((الشانزليزيه)) مروراً بالمقاهي، والمطاعم، والفنادق، والمعارض الجذابة، والوجوه من كل السحنات، والسيقان التي تمشي، وتركض، وتتسع: عارية، وشبه مدثَّرة والزحام في هذا الشارع لا يكف عن الحضور وكأنّ جادة ((الشانزليزيه))، ومعارضه، والمعروضات فيه من كل صنف ولون بشري: كلها ترتقب الهجمة السياحية الصيفية العربية.
لم تكن تلك الجولة للشراء، خاصة لهاتين السيدتين المليحتين، بل فضلوا جميعهم في هذه الجولة الأولى: الاستعراض، والإلمام، والاكتشاف، ودائماً العرب يتبضّعون قبل سفرهم بيوم.
ـ قال حامد: تعبنا تعالوا إلى ((الفوكيت))، وأبشركم: عدد العرب قليل برغم أن كراسي هذا المقهى العتيق - كما قالوا - من التراث العشريني.. العربي!!
* قلت فاتن: إذن لا مندوحة من الفوكيت، كما تقولون في خطابكم الأدبي؟!
واختلطوا بجُلاّس ((الفوكيت)) في تلك ((العصرية)) الباريسية الكل يتفرج على الكل وهذه ((الفرجة)) صاحبها موجوداً بمزاجه وليس غائباً كصاحب المولد.
ـ قال علاء: هل قرأتم الخبر الذي نُشر قبل يومين مزاجه ينعي ((الفوكيت)) مقدماً؟!
* قالت عالية: أدباء وفنانون وحتى صعاليك فرنسا، ورواد الشانزليزيه: غاضبون جداً من احتمال إقفال هذا المقهى الذي شهد حقباً تاريخية، وألواناً من البشر.
* قال حامد: ما أسباب هذا القرار؟!
ـ قال علاء: أصحاب المِلْك / شركة عالمية تملك المصالح الكويتية حصة كبرى فيها فكّروا في استملاك المبنى، وربما هدمه، وإنشاء مبنى حديث.
* قالت عالية: المقاهي القديمة في العواصم الكبرى تحفل بالذكريات وبالتاريخ، ولدينا في مصر - كما تعرفون - بعض المقاهي الشهيرة التي ارتبطت بالتاريخ، وأسماء كبيرة من الكتّاب، والفنانين، والسياسيين، وغيرهم.
ـ قال حامد: أنتَ يا مثقف ألم تقرأ عن لجنة الإنقاذ التي شكلت، ومن أعضائها مِيشال فيلون الذي وصف الفوكيت بأنه: روح باريس؟!
* قال علاء: لازم تلبَّخ نعم قرأت، ولا بد لأن المطاعم الأميركية السريعة: سعيدة بتقويض مقهى تاريخي شهير لتتسع في ترويج الهامبورغر، أو لأمركة المطاعم.
كذا تبلورت جلستهم في مقهى ((الفوكيت)) بشيء من التحسُّر على محاولة هدم هذه الذكريات التي تجمع الفرنسيين وكل السوّاح من كافة جنسيات العالم.
فجأة قال حامد: أنتم مدعوون الليلة للعشاء في مطعم ياباني فخيم!
ـ قال علاء: لكن لا تنس أن أسعار المطاعم اليابانية في باريس: نار.
* قال حامد ساخراً من صديقه: ((قدّها وقدود يا ولد))!
ـ قالت عالية: لا تتخانقا المهم أن نتعشّى!
واتجهوا شطر مطعم ياباني شهير وقد تركوا وراؤهم أصداء أصوات كثيرة، من أحلاها: صوت ((ميراي ماثيو)) الحزين، أو الباكي كما يصفونه!
ـ 4 ـ
* أجْمعت هذه الصحبة في ((قفلة)) سهرة البارحة، بعد خروجهم من المطعم الياباني على تنفيذ اقتراح ((عالية)) وهي تقول لهم:
ـ ما رأيكم في الغد نركب القطار، ونخرج بعيداً عن باريس إلى مدينة أخرى - إلى ((دوفيل)) مثلاً؟!
* قال علاء: أنا موافق طالما أننا سنكون معاً.
ـ قال حامد بخبثه المعهود: طبعاً لازم توافق، فمن الذي اقترح؟! ومن أجل أن تكون مع عالية ما أنت سائل فينا يا أخ؟!
* قالت فاتن: لماذا تهاجمه دائماً والله راجل لطيف، ومؤدب!
تعالت قهقهاتهم حتى بلغوا فندق السيدتين ودّعاهما إلى الصباح.
في الطريق إلى فندقهما وجه ((علاء)) سؤالاً بعفويته التي قد تبلغ حد السذاجة النابعة من طفولة المشاعر، إلى صديقه حامد:
ـ ما رأيك في ((عالية))؟!
* أجابه: أنت لن تقدر على المحافظة عليها؟!
ـ ولماذا يا آبيه الأستاذ؟!
* أنت ضعيف أمامها بحبك أنت يا صاحبي ((اندلقت)) عليها، واللي كان كان!
ـ أنا أسألك عن شخصيتها ورأيك بها، وليس عن ضعفي و((دلقتي))!
* أنا أجبتك هي من النساء الفاحصات للرجل، تحتاج إلى رجل مثلي وليس إلى رجل مثلك: رومانسي، حالم، واقعي، منطقي، رومانسي ضعيف امام إمرأة!
بلغا فندقهما... وكل واحد منهما ذهب إلى غرفته صامتاً بعد تأكيد على موعد الصباح.
كان مساء ((علاء)) مرهقاً بانتظار الصباح القادم ليرى ((عالية))..
كانت عيناه هما: المرفأ والشراع وخفقه هو الملاّح التائه..
وأبحر بنفسه هذه في رحلة ثمالة المساء صوب الفجر، استقبالاً لشروق عالية.
وقف خلف نافذة غرفته تتشرد نظراته بعيداً، وربما ركضت إلى حيث تقيم ((عالية)).
نظراته: غرقى، غرقى... شرفة تطل على كون صامت بعد أن انسحب وجه ((عالية)) خلف نافذة غرفته وصوتها.
صوت من داخله يهمس لنفسه:
ـ هل تعرفين؟! لقد حلّقت وًشردت ليالٍ طويلة قبل لقائها، مستغرقاً في النداء عليها، متأملاً قدومها إلى واقعي!
وكأنه يخاطب ((عالية))، وقد تخيل بإحساسه أنها تجلس بجانبه، ويمسك بيديها فهمس لها:
- خيّل إليّ أننا بأعمارنا نشارف على الليلة الواحدة بعد الألف فأصغى معي لغناء ((ثومه)):
((يا حبيبي إيه أجمل من الليل
واتنين... زيّنا عاشقين... تايهين ما احناش حاسِّين
العمر: ثواني، والاّ سنين
حاسِّين إننا بنحب وبس))!!
ياه ((عالية)) الأعمق من الألف ليلة بكل ما فيها هي: ((هذه ليلتي)) فالإنسان يحيا الليلة الواحدة طوال الألف ليلة التي يعيشها بعد ذلك ولو عاش!!
وضع يده على الهاتف متردداً: هل يطلبها، أم لاّ؟! ولماذا هي امتنعت عن الاتصال به؟!
عاد يدندن بأغنية ((ثومة)):
((كم أذلّ الفراق منا: لقاء
كل ليل إذا التقينا: صباح
لن يرى الحب بعدنا مَن حَدَاه
نحن ليل الهوى، ونحن ضحاه))!!
تناول الهاتف... تشجع وطلبها، جاءه صوتها ناعساً، كأنها تقول من خلاله: دعني أنام.
إعتذر لها، ومع قفلة سماعة هاتفها كان يحاور في داخله: الجدال في معنى البوح هل هو مجرد سفسطة وهل ما يُميّز أعماق الإنسان ويحتفظ ببصمات وبوشم الأجمل: هو الأكثر التصاقاً، وهو الذي يشعل الجمر الكامن تحت رماد السنين فيما بعد؟!
النبض لا يُختتم وكان نبضه يجنُّ باسمها، ينادي البحار، والكواكب، والمدائن لتردد إسمها معه.
يرتقب وجهها يطل من لحظة الصباح القادم من دروب الغد، ليقول للناس: هذا وجه حبيبتي!
كان يحاول مع النوم لتمضي الساعات المتبقية من الليل فيشرق الصباح بوجهها.
وكان يرغب في الاستمرار مع طيفها، والحديث معها حتى الصباح.
حتى غلبه النوم.
* * *
* وقف أمام وجهها، واستقبل طلوعه في صباحهما الجديد.
أمام وجهها الذي كان متلفِّتاً نحو صديقه ((حامد)) يتحاوران كان ينفي الكذب عن سريرته، دون أن تلتفت نحوه.
إغترف جراحه القديمة، وباعها للنسيان كأنها في عمره الآن: اسطورة يعبق بخورها في كل العصور.
ها هو يعجز عن حماية تسلُّطها على خفقته، وفكرته، وذاكرته وعشقه لها يزهر كلما أغمض عينيه ليراها أكثر.
كان يصغي إلى حديثها مع صديقه وصديقتهما، وكأنه يحلق بعيداً بعد أن اختطفت روحه منه وكان يمتح من ضلوعه: متعة هذا اللقاء الأول، كأن الأشياء تؤوب من غيبتها وغربتها في صدره.
وصحا على هزة من يد صديقه فوق كتفه وصوته بكلماته التي يُقرّعه دائماً:
ـ ((يا أخ اللي آخد بالك، بدَّك تمشي معانا الرحلة، وإلاّ أحسن تجلس ونعود إليك في الغد))؟!
مشى خلفهم دون أن ينبس بكلمة حتى وصلوا إلى محطة القطار.
ـ سألته عالية: ماذا بك أنت لست معنا؟!
* أجابها: صحيح أنا معك أنت وحدك!!
ابتسمت، ولم تجبه تذكَّر الأقوال (الحكيمة!) التي صارحه بها صديقه ((حامد)) يوم أمس، عندما وصفه بأنه: ضعيف أمامها بحبه، وأنه ((اندلق)) عليها بينما ما زالت هي تتفحصُّه، وتسبر أغواره.
ـ ترى هل يفشل في المحافظة عليها كما تحداه صاحبه؟!
سرى الدفء في كفه عندما احتوته بكفها، وهي تقول له:
ـ إلى القطار أيها الشاعر.
وقبل أن يختاروا مقاعدهم بادر صاحبه ((حامد)) يقول لهم:
ـ أنا وفاتن سنجلس في هذين المقعدين أنتِ وعلاء ستجلسان في المقعدين أمامنا بالضبط.
* قالت: ولماذا لا نجلس في مقعدين آخرين؟!
ـ قال ضاحكاً: الأمر لك لكنَّ القطار ملآن، فحاذري!
رمته بابتسامة، وجلست بجانب علاء في المقعدين الأماميِّيْن.
* قالت لعلاء وهي تلصق كتفها بكتفه: ألاحظ أنك دائم الشرود.
ـ قال: فيك ولا أدري كيف انتزعت هذه الخصوصية لك وحدك مني؟!
* قالت: نحن نمتاز بوجدان نقي تنتابنا حالات تمرٌّد حتى على أنفسنا، وكأنك الآن في هذه الحالة!
ـ قال ضاحكاً: نعم... أتمرد بك عليك، أو أتمرد عليك من خلالك ولكنْ، دعيني أسألك: لماذا أنتِ مريحة؟!
لا تجيبي من فضلك إنه سؤال أدخل به إليك بعد أن مزجتني بالشعور الأصدق الذي منحته لي وحدي من خلال رسائلك!
* قالت: وهل وجدتني غير رسائلي مختلفة عن ما رسمته لك فيها عن شخصيتي وطباعي؟!
ـ قال: لا بما كتبت حروفاً ذهبية، وإنما بكل هذه المعاني التي تبلورت: أنت المعاني، والمعاني أنت فالإنسان إذا اختلف مع معانيه، فما أشد ما يعانيه!
* قالت: أنت إنسان حساس جداً ربما أكثر من اللازم، أو من المعقول!
ـ قال: جلست أتأمل صورتك يوماً كأنني ذلك الطفل الشقي / العفريت، نعم صورتك فلا تستغرقك الدهشة في لحظة شجاعتي الجميلة، وتحادثت معك من خلالها في محاولة مني لاختصار بحثي الطويل فيك عن توأم الروح والنفس والفكر.
قالت: وماذا قلت لصورتي يومها؟!
ـ قال: حينما أكون أنا / أنت، فلا أسأل: لماذا أكون غيري؟! لأنك حينما تكونين أنا، لن تكوني غيري ولأني حينما أكون أنت، لن أكون غيري أيضاً!!
كنت أحتاج إلى هذه القيمة الرائعة من صداقتنا التي وثّقتها معانٍ كثيرة رغم نهدتها، وأحتاج أن أحاور هذه القيمة أمامك، وأن أشكو لها، وأفضفض، وأصغي إلى شجونها وعمقها.
* قالت: مفتاح قيمة الإنسان يتركز في هذه الثوابت: الحرية، والعدل، والحق، والحب، والاستقلال، والمغامرة.
ـ قال: تفاهات الحياة اليومية تستأثر بمساحات من أرض عمرنا، لكننا - يا صديقتي - في عصر يعتسف أحياناً معرفتنا، ويحتل مساحات بما يفرضه لا بما نريده، ويشنق مسافاتنا بعراقيله.
نقاوم؟ نعم، نرفض؟ لا بد، نغضب؟ رائع، نخاصم كلماتنا وأنفسنا؟ لا!
* قالت: لعلنا نتشابه في أشياء كثيرة / أنت وأنا وجميل أن يمتلك الإنسان حلماً، وأن يكون الحلم له شفتان تبتسمان، وذراعان مفتوحتان للاحتواء بحنان، والفهم بعمق وأحلم بأرض: طينها خصب، وهواؤها لم تلوثه ذرات القنابل وأشعة الكيماويات، لأغرس في باطنها بذرة صدق ساعتها سوف تنبت البذرة ألف ثمرة عشق وإبداع وفرح وساعتها سوف أكون - أنا - قد بلغت ما أبتغيه من إشباع وفرح.
ـ قال: تعرفي يا عالية بدونك أو من بعد لقائنا هذا: سأبقى بتلك الألفة الجائعة، وهذه هي اللوعة والله فهل رأيت عشباً على شكل إنسان؟! أنا المشاكس الجامح الذي يعلن عليك إنسانيته، وفهمه، وميميته، وأشواقه لتمنحيني قدرة أخرى معك.
* * *
* سحبت ((عالية)) كفها من أسرْ كفه طوال رحلة القطار، وهي تقول:
ـ ها قد وصلنا، حمد الله على السلامة.
جاء صوت ((حامد)) من الخلف: حمد الله على السلامة ما شاء الله، هذا كله كلام، أم همس خاص؟!
ـ قالت له عالية: بل هذا عطاء!
وانطلقوا يركضون في مدينة ((دوفيل)) إلى شاطئ ازدحم فيه الناس، والمطاعم، والشماسي، والمايوهات.
* قال ((حامد)): مَنْ يُرِد شراء مايوه يتبعني.
ـ قال علاء: أنا أريد شراء مايوه لكني لن أتبعك.
كانت الشمس مشرقة، والحبور يفيض من وجوه هذه الصحبة.
وتنقلوا من مكان إلى آخر، ومن مطعم إلى مقهى والحوار يشتعل بينهم ويخبو، وقال ((علاء)) لرفاقه:
ـ يقولون في أوروبا: إن باريس هي نصف حقيقة العالم، باعتبار أنه ليس في الحياة حقيقة كاملة، وباعتبار أن باريس هي عاصمة العالم في الثقافة والفنون.
* سأل حامد صديقه ساخراً منه كعادته: وأين الحقيقة الكاملة يا فصيح، أو ما هي الحقيقة الكاملة للعالم؟!
* أجاب علاء متلائماً: هناك مَنْ يصرُّ على أن أميركا هي الحقيقة الكاملة للعالم.
* قالت فاتن على مسمع من عالية التي تتابع الحوار صامتة أو شاردة: وما هو رأيك أنت؟!
ـ قال علاء: في رأيي.. أن الأسكيمو هي الحقيقة الكاملة، باعتبار طقسها الثلجي.
أخذ النهار يميل إلى الغروب إيذاناً برحيله وكأن هذا الوقت الجميل - المستقطع من وقتهم الأصلي - قد بلغ الثمالة، ولا بد من عودتهم إلى باريس.
ولكنهم في محطة القطار فوجئوا: أن الرحلات إلى باريس تتوقف مع الغروب أو دخول المساء، ولا تستأنف إلاّ في بكور الصباح التالي.
إذن لا بد لهم من البقاء هذه الليلة في ((دوفيل))، والبحث عن فندق.
وفي الفندق أعجبوا بموقعه الذي يشرف على البحر، وبقاعته الجميلة واتفقوا أن يلتقوا بعد ساعتين في القاعة الرئيسية لتناول العشاء والسمر، بعد أن يكون كل واحد قد أخذ قسطاً من الراحة، وخضع لحمام منعش، واسترخى قليلاً لتجديد نشاطه.
وسحب ((حامد)) صديقه من يده، وهو يقول:
ـ تعال أيها الشيخ نذهب إلى غرفتنا، ودع المليحتين تذهبان إلى غرفتهما.
واسترخى ((علاء)) على السرير العريض، محدقاً في سقف الغرفة، وصوت صديقه يثرثر:
ـ ((سرحان في إيه ما شاء الله، طول الطريق من باريس إلى هنا، ما خلِّيت كلمة على قلبك إلاّ وقلتها لها))؟!
لم يرد على صديقه كأنه كان يحدق في عينيّ ((عالية)) فما أبعدها في هذه اللحظة، وما أقربها؟
عطاؤها له: أخرجه من زمن رديء تعطَّلت حواسه، وأدخله زمناً يتَّصف بالرؤى القوس قزحية بالحلم الجميل.
ولا بد أن الساعتين - في انتظار علاء لانقضائهما - تُشكِّل وقتاً مملاً.
* * *
ـ 5 ـ
* ضمَّهم مطعم الفندق الهادىء على ضوء الشموع... وقد تركوا لصديقهم ((حامد)) مهمة اختيار أنواع المأكولات لهم، باعبتباره ((ذويّقاً)) يُعزُّ الأكل كثيراً، ويحتفي بالاختيار للأطعمة... فهو يقول:
ـ متعة السفر: رفيقة مليحة، ومطعم فخم يقدم طعاماً فاخراً ولذيذاً، وحرية شخصية تعلمك الالتزام وتطرد عنك الفوضى!
وتعالت ضحكاتهم في مساء دافئ، تصبغه روح العِشْرة والألفة.
بعد العشاء... انتقلوا إلى صالة للشاي تطل على البحر... و((علاء)) يتطلع إلى عينيّ صديقه وقد كانتا تومضان!!
ـ قال حامد: أستأذنكم بعض الوقت، وسيكون قصيراً... أريد أن أتحدث مع ((فاتن)) وحدنا... ((انتوا مالكم))؟!
قالت عالية: ما رأيك - علاء - أن نقطع هذا الشارع الذي يفصل الفندق عن البحر، ونتمشى فوق الرمال... نوشوش البحر، ونتلحف الليل، ونومض في ظلاله؟!
لم يكن استفتاءً بل قرارا نفَّذاه فوراً، وغادرا بوابة الفندق الخلفية في اتجاه البحر، قطعا الشارع، وأخذت خطواتهما تغوص في الرمال... وقد تشابك كفّاهما في وحدة المشاعر.
ـ قال علاء: ما رأيك لو خلعنا الأحذية، وانطلقنا حفاة فوق هذا الرمل النقي الغزير؟!
نفَّذت ((عالية)) فوراً، وصار كل واحد منهم يحمل في يده حذاءه، هما يغيبان صوب البحر، في حلكة الليل، ووميض أضواء بعيدة، وبياض الثلوج الذي يعلو ثم يتكسر عند قدم الشاطيء.
أمام البحر... تجمَّع جسدا عالية وعلاء فوق الرمال... إحتضن يدها بكفِّيه الجمرتين من توقّد بين أضلعه... وأخذ يحدق في عينيها بعمق سواد الليل واتساعه، ولم يستأذنها.
رأى في عينيها: تحولات البحر، ولحظة عمر ضوئية.
ـ همس في أذنها: صرتِ وطناً لخفقتي، وكلمتي، وصدقي، وفرحتي.
قالت: ألا تخون هذا الوطن يوماً؟!
ـ قال: كيف أخونك أنت حلمي الذي أنقذني من مؤامرة العمى والصم التي ينفِّذها عصرنا المادي ضد أرواحنا، وأحلامنا؟!
قالت: دعني أسألك... هل تحب للحب، أم لشخص المحبوب؟!
ـ قال وهو يضمها إلى صدره: أتمازج مع فضولك الذي أرتقب مثله في كل وقت... وحتى لا يصاب سؤالك بالملل، ولا تصاب إجابتي بالصدأ، أقول لك: إن حب الحب... موهبة، وطبيعة أعيشهما وقد فُطرت عليهما... وحتى يكون الحب جميلاً في وحداني فإني أكسو به الحبيبة، لأني أريد الحب الذي أحبه أن يكون: مثالاً... يتشكّل رمواً يتعمّق في وجداني ولا يصنعه غير حبي!
إستلقت ((عالية)) على الرمل بعد أن أن وسَّدت رأسها حِجْر علاء، وضمته بيديها وهي تقول: أكمل... أريد أن أسمعك.
ـ قال: إن الحبيبة هي التي تفسِّر لي حبي للحب... ولو لم أحب الحب، ما كنت أحببت الحبيبة... الغربيون / الأوروبيون: جعلوا الحب العذري ((إنعاظاً)) فكرياً، ولكن... لدينا حب الحب أيضاً: التضحية، والإيثار، والتفاني، والوفاء... كما يبدو حب المحبوب عكس ذلك، خاصة في المجتمع الشرقي الساخن، مثل: الغيرة، والخصام، والانفعال، والكراهية أيضاً كعاطفة مضادة!
إن حب الحب هو الذي يوسِّع الأماكن... لأن القلوب تتَّسع بالحب، وأنا كإنسان أحاول الإعلان عن الحب المطلق، لكنَّ الأشياء الجميلة في عصرنا اليوم صارت وحدها هي: التضجية، والألم، والحزن، والحب... بعد الموت!
* همست على صدره: المهم... الحرية تبقى هي قضيتي التي لن أتنازل عنها؟
ـ قال: كيف تُعرِّفين لي الحرية الشخصية؟!
* قالت: ((ببساطة... هي تحقيق الذات))!
إرتفعت موجة بيضاء إلى الأعلى... حتى كادت تلمس قدميهما.
إستلقى ((علاء)) بجانب حُبِّه... واحتضن صدره رأسها، وغطى شعرها الحالك كل وجهه... وعزف لها كلماته قائلاً:
ـ قال تربادور مجنون رائع: من أعلى رأسي يهطل المطر المزمن.
وأنا أقول لك يا آخر النساء وكلهن في عمري: من أعلى الزمن... ها أنذا أستقبل هطول مطرك، فأنت الأعلى قيمة، والأغلى شعوراً... شوقي إليك يتزايد حتى وأنت الآن في عمق حضني... أفتح لك وبك دفاتر عمري على صفحات النطق والبصيرة والخفقة.
إسمعي إحدى ترانيم ((السيَّاب)) حينما صوَّر الشوق الذي يحضُّ دمه إليه، فقال:
*((شوق الجنين إذا اشرأبَّ
من الظلام... إلى الولادة
إني لأعجب...
كيف يمكن أن يخون الخائنون))؟!
* قالت: الشوق يا حبيبي... الشوق صار جنوني بك!
إمتزجا بحبات الرمل، وسُمْرة الليل، وبياض الموجة، وضحكة القلب.... صارا إنساناً واجداً بجسدين مذابين في لحظة العمر الضوئية لن تكرر بهذا العمق فيها، وبهذه الروعة في عطائها، وبهذا الصدق في توحُّدهما!
* * *
* أنها ((النساء)) في امرأة واحدة: غجرية في أنوثتها، مغامرة بعقلها، وصفت نفسها لصديقها ((علاء)) في طريق عودتهم بالقطار إلى باريس، فقالت:
ـ ((أنا أنثى مركَّبة... وعندما ينتابني الإنهاك في فكري، أو في عاطفتي، أو حتى في مزاجي... فلا بد أن ألوّن نوعيّتي... وربما هربت إلى بيئة بدائية))!
* قال لها علاء: هل تذكرين ألغاز ((هل)) الثلاث التي كتبتها لي في رسالتك الثانية؟!
ـ قالت: نعم... ولم تفسِّرها لي.
* قال: الأولى التي جاءت في هذا السؤال: هل سيخوض إثنان متمازجان / التجربة معاً والمعاناة؟!
وإجابتي: أنا لا أراك ((تجربة))، بل أنت ((قيمة)) تهبْتُ حتى احتضنتها واحتصنتني.
والثانية هي: هل سنلتقي لنواصل البكاء الصامت بعد ذلك؟!
وإجابتي: إذا كنت أشعر بك فرحاً... فهناك بكاء واجد لا بديل له هو: بكاء الفرح... نحن أطلنا كثيراً في البكاء الصامت من أجل إنقاذ الحلم.
والثالثة هي: هل سنصل إلى تحقيق الحب... إمتزاجاً بحب الحب!
وإجابتي: أُلح، وأُصرُّ على ذلك... مهما حدث، ها... مهما حدث!
ـ قالت: لا تلُمني على صمتي أحياناً، فليس فيه إهمال لأسئلتك، لكني أدخل في التأمل بسبب ما مضى من حياتي منذ كنت أجلس وحيدة بين جدران غرفتي، مما منحني فرصة الانفراد بنفسي... واتساع مساحة التخيُّل عندي.
* قال: هل تمنحيني الآن خصوصية الانفراد بنفسك كأنك تحاورينها من خلالي؟!
ـ قالت: أنت تعرف قيمتك عندي.
* قال: إذن... هل أتجرّأ و..... أبوح بما في سيريرتي؟!
ـ قالت: لا تخف... فلن أظلمك لأنني قضيت حياتي في البحث عن العدل.
* قال: وأنا قضيت حياتي في البحث عن الاثنين: العدل والحب... فهل أطرح عليك صميم ما أحرص على الاطمئنان عليه عندك؟!
ـ قالت: شوّقتني وأثرتني... إني أسمعك.
* قال: حسنا... بعد تجربتك الحزينة، ولا أقول القاسية، بعد أن خُضْت بحر الزواج، وعدت من أوله دون أن تتعمقي فيه... ما رأيك في الدخول فيه الآن؟!
ـ قالت: ماذا تقصد... أن أتزوج من جديد؟!
* قال: وما الذي يمنع... أنت أنثى مميّزة، وجميلة، ومثقّفة، وناضجة.
ـ قالت: الزواج لم يعد غاية عندي... ربما كان اضطراراً!
* قال: حتى ولو كان إطاراً لحب متبادل؟!
ـ قالت: المرأة لن تكون دمية للرجل بواسطة هذا الزواج، والرجل لا يريدها سوى دمية، حتى تتحول بعد الأولاد إلى تحفة من بين تحف البيت وبراويزه.
* قال: أنت دائمة الهجوم على الرجل بأسلوب ينال من كل الرجال!
ـ قالت: لأن الرجل ما زال يعاني من الانقسام في داخل نفسه إلى درجة الهلع، ويبدو لامرأة مثلي أيضاً: أنه مموّه الرؤية حين يتعامل مع المرأة... بمعنى: أنه أنانيّ جداً.
* قال: عندما تهاجم امرأة رجل في شخصيته وتعامله معها... ألآ يعني ذلك: أنها تريده وتُحبه؟!
ـ قالت بحدة: ومن قال أنني شاذة؟!... أنا لا أرفض الرجل كرجل، لأنه نصفي الآخر... لكني أرفض أنانية الرجل، وعدم وضوحه، وانقسامه في نفسه.
* قال: تعني أنك وحدانية نفس... تتحول إلى بحيرة نيرجس؟!
ـ قالت: لا بد أن تكون لدى الرجل قدرة على التنازل قليلاً لشريكته في تجربة الزواج الإنسانية... أيضاً لا أعتقد أن الرجل يعي ذلك الاختلاف في الفسيولوجية إلاّ أنه اختلاف في قيمة المرأة ودورها.
* قال: خرجنا من الحوار عن الزواج، وحصرنا القضية في مهاجمة الرجل؟!
ـ قالت: صدقني ليس هجوماً على الرجل، بقدر ما هو دفاع عن المرأة... والزواج بعد تلك التجربة التي خابت فيها كل ظنوني، وأفسدت أحلامي.
* قال وهو يشد ذراعها إلى صدره: إنني أبحث لديك وفيك عن العدل والحب... فهل أستحقهما منك؟!
ـ قالت: لست مظلوماً مني لتطلب عدلي......
أخلدت للصمت، وهو ينتظرها أن تكمل عبارتها.
* قال: والحب؟!
ـ قالت كأنها تتبلور في الدهاء: الحب جميل.
* قال: أريد أن أضع النقاط على الحروف... فأعرض عليك الآن أن نرتبط، نتزوج!
إلتفتت إليه كأنها أصيبت بحالة ذعر، حتى جمًّعت نفسها قليلا، فقالت له:
ـ نتزوج... كيف؟!
* قال: مثل كل الناس... مثل أي رجل وامرأة!
ـ قالت: صعب... ظروفنا صعبة، أنت في مكان وأنا في مكان آخر... فأين هي نقطة الالتقاء هنا؟!
* قال ضاحكاً: يا ليتنا نقدر أن ((نحيا)) ما تبقَّى من العمر الذي كنا في أغلبه: نعيشه ولا نحياه.
ـ قالت: مستحيل... هناك انفصام بين قاعدة الزواج وقاعدة الحب... ولا بد أنك بعد الزواج ستتحول إلى مجرد رجل كهؤلاء الرجال!
* قال: كأنك لا تثقين في نضجي، ورؤيتي العادلة لقيمة المرأة... وقبل ذلك وبعده: في حبي لك؟!
ـ قالت: أعرف أنك لست كبقية الرجال / تريد زوجة: تكنس وتطبخ وتصبح وعاء لتزريب الأطفال... لك عنعنات الرجل، ولي ذاتية المرأة ولا أقول أنويِّتها.؟
* قال: ألآ تحبين أن نكون معاً إلى الأبد؟!
ـ قالت: لا تفكر في ذلك أبداً... حتى لو أنا حاورت عرضك الرائع هذا في عقلي، وحتى لو وافقتك... فكيف سنطبِّقه على الواقع، ونجعله ينسجم مع ظروفك وظروفي؟!
* قال: إذن... أنت ترفضين؟!
ـ قالت: إرحمني أرجوك.
* * *
* زفر ((علاء)) من صدره آهة... وهمس: يا خسارة!!
ـ قالت له: لا تهزّني بكلمتك هذه... لا تبعثرني، فأنا أحرص على صداقتك وبقائك في حياتي.
أدار وجهه إلى زجاج نافذة القطار، والحقول تعبر مسرعة، والخضرة تغطي الأرض، وهو يتساءل في داخله: كيف تتحول مكاسب حبنا فجأة إلى خسارة؟!
لقد دخلت ((عالية)) إلى عمره: مكسباً... لكنها أصرَّت هي أن تبعده عن الربح والخسارة معاً.
في رفضها منطق، وفي عرضه: حلم... أن يجمعهما عش جميل أبد الحياة.
هي لن تكون في حياته حسبة مادية... بل تبقى: الاشتياق الدائم إلى العطاء غير المرهون؟
فجأة... تحوّلت الحقول أمامه، والزرع، والحياة إلى غابة موحشة... وقد تحاشى أن يعيد التفاتة وجهه إلى وجهها حتى لا ترى تلك الدمعة الثمينة تنزلق على وجنتيه!
صار دماً في كل المسافة التي يركضها إلى ((عالية)).
كان نبضاً في كل الزمن الذي أحياه في بهاء عينيها.
يبقى حزناً ونداءً في كل الخارج من الزمن بعد الآن... ذلك الذي سيبعدها عنه.
كان هو الصهيل الدائم في الجنون بها... في الجنون بها.
شعر بها تهزّه في يده، بعد أن ألقى برأسه على كتف المقعد وأغمض عينيه.
ـ قالت له: ألآ تريد صحبتي؟!
* قال دون أن يشرع عينيه: تعرفين أنك ((آخر ما يبقى عصياً)) كما قال شاعر!
ـ قالت: ((خلاص بقى... بلاش غلاسه)).
لم يجبها... بل أبقى رأسه ملقى على كتف المقعد، لم يلتفت إليها.
إنتابته حالة من الوحدة الموحشة، وهو يتصور أن ((عالية)) تريد رجلاً آخر غيره!
عبرت بخاطره أصداء من سؤال طرحه عليها فوق الرمال أمام البحر في الليلة الأروع / البارحة، ومن جوابها:
ـ سألها: هناك قول مشهور تظرُّفاً، أو تحذيراً، أو تقريعاً هو: ((سماعك بالمعيدي خير من أن تراه))... فهل وجدْتِني بعد أن رأيتني ذلك المعيدي؟!... أقصد: هل اكتشفتِ مَنْ كتب لك تلك الرسائل من دمه، وخفقه، ونبضه... كان رجلاً آخر لا ينتمي إلى هذا الذي رأيته في هذه الرحلة؟!
* أجابته البارحة: لا تتحدث عن التحوّلات... فمتى وُجِدت التحوّلات: ضاع الحب!
ها هو الآن... ها هي الآن: يحاول كل منهما أن يؤكد إصراره على أن يكون مضاداً لتلك التحوّلات التي تُبدِّل قدرة النبض على الحياة.
لكنَّ ((علاء)) الآن... يشعر بجنون خفقه في غيمة بلا غبار، يتفاعل الخفق مع أمواج البحر، وتنشق سماؤه عن رعوده وبروق من ((عالية))!
كان يريد أن يتوحّد مع نفسه لفترة... وحين التفت إلى جانبه لم يجد ((عالية)).
ـ ماذا حدث... يسأل صديقه ((حامد)) بنظرته... فإذا بصديقه يقول له:
ـ ماذا حدث... ماذا فعلت لها يا مجنون؟!
أرخى عنقه، وعاد إلى جلسته يحدق في الحقول والزرع الممتد مسرعاً بانطلاقة القطار.
إنه يرى ((عالية)) الآن من خلال دمعته، وأصداء رسائلهما قبل اللقاء، وحواراتهما في اللقاء... فكأنهما باللوعة تنافح وتحاور، وتطرح قضيتها الإنسانية... وكأنها ترتاح إلى هذه اللوعة / الوَلوعة، بأن تكون الجميلة كاملة... لأن هذا الانبهار يلوّعه أيضاً.
كان من الخطأ أن يسألها في أوائل رسائله إليها: مَنْ أنت؟!
عرف الآن خطأه... وهو يسترجع أصداءً من حواراتها، وإجابتها التي ضمنّتها إحدى رسائلها، فقالت له: - أنا الإجابات التي تلد دوائر الأسئلة!!
بينما السؤال الذي كان ينبغي أن يطرحه عليها يومها... يتبلور كهذا:
ـ ما أنت؟!
كان يريد منها ومنه: أن يقف كل واحد أمام الآخر فيرى نفسه في الآخر... هو الذي افتقد وجهه زمناً، حتى وجد ((عالية)) مرآته وملامح وجهه... بل وملامح نفسه وروحه وعقله!!
ترك مقعده في القطار في طريقه إلى الحمام كسبب، ولكنَّ دافعه البحث عن ((عالية)) ومعرفة مقعدها، ولكنه لم يرها لأنها اختارت مفعداً في مقصورة أخرى من القطار!
وبعودته إلى مقعده ثانية، تحفُّه نظرات صديقه ((حامد))، وصديقتهما ((فاتن))... كان يتذكّر قاموس كلماتها التي كانا قد تبادلا كتابتها في رسائلهما... وهي كلمات: الإنسان، الشوق، العدل، الصدق - الصمت، الاستقلال - الفروسية، و... المغامرة!!
أخبرته عينا ((عالية)) عن كل ذلك، وعرفه من نبرة صوتها... كأن تلك الحاسة السادسة / التلباثية... كانت مؤصَّلة، وموثّقة بزمان موحّد، وبخفقة قلب متّحدة، وبشجون على وعد مع توأمها!!
* * *
* توقف القطار في باريس من جديد... حمل كل منهم حقيبته.
ركضت ((فاتن)) إلى المقصورة الأخرى، وانضمت إلى صديقتها... وهرولتا من باب القطار إلى جوف المحطة، إلى بوابة الخروج، إلى داخل سيارة أجرة انطلقت بهما... كل ذلك في لحظات سريعة كلمح البصر!
وسار ((علاء)) بجانب صديقه ((حامد)): صامتَيْن إلى خارج المحطة، واستقلاّ بدورهما سيارة أجرة إلى فندقهما.
في أذن ((علاء)) ما زالت أصداء من حوارهما فوق الرمال أمام البجر، وهو يذكّرها بإحدى أسئلتها الثلاثة له، التي كانت قد بدأتها بكلمة ((هل)):
ـ هل سنلتقي لنواصل البكاء الصامت بعد ذلك؟!
وأجابها: هناك بكاء واحد لا بديل له بيننا، هو: بكاء الفرح!!
الآن......... تركت له ((عالية)) خلفها: زكائب البكاء الصامت الذي حسب أنه سيعاشره بقية حياته كلها!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1955  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 165 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.