شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تاريخ مشرق وحياة مباركة 1328 - 1415هـ (1)
لا يمكن أن يكتب تاريخ البلدة الطيبة المدينة المنورة في العصر الحديث إلا ويكون فيه لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح - يرحمه الله - ذلك الموقع الهام والمستمد من شخصيته الهامة والتي اجتمعت لها مقوّمات عدة فهي وإن كانت شخصية مهيبة إلا أنها ذات جوانب إنسانية تتبدى وتظهر في المواقف الصعبة، وهي المواقف التي تكشف حقيقة ما تنطوي عليه شخصيات العلماء الربانيين من رحمة وسماحة ورفق ولين، فلقد كان - رحمه الله - إذا ما خَرَجَ من داره والتي كانت تقوم في الجهة الجنوبية من المسجد النبوي الشريف وَوَجَدَ أبناء الحي يلعبون أمام داره ابتسمَ في وجوههم وداعبهم وسألهم عن أهليهم وذويهم.
مجلس علم
لم نكن نشعر ونحن في زمن الطَّلعة والشباب بأي حرج مِنْ دخول الدَّار والصعود إلى المجلس الذي يقوم في الدَّوْر العلويِّ حيث كان زميل الدِّراسة الدكتور محمد بن صالح وأخوته يستقبلون أصْدقَاءِهم، وكان مما يلفت الانتباه في الدَّار العامرة تلك اللَّوحات التي تحضُّ داخل الدَّار عَلَى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكُنَّا نتحدَّث في شؤون فكرية وأدبية وأتذكر أنَّ أخي محمد أهْداني مجموعة للكاتب والأديب مصطفى صادق الرَّافعي وخصوصاً كتابه المعروف ((وحْي القَلَم)) فكانت جلساتنا في أعْلى الدَّار تتناول جميع ما يتصل بشؤون الفكر والأدب بينما يكون مجلسه رحمه الله مُنْعقداً في أسفل الدَّار مع جملة من العلماء ويأتي في مقدمتهم والدنا فضيلة الشيخ عبد الله بن عثمان الصالح والد معالي الدكتور ناصر الصَّالح مدير جامعة أُمِّ القُرى، والمشائخ، عطية سالم، محمد الحافظ، عبد الله بن زاحم، محمد حُميدة، محمد الثَّاني وغيرهم، وكان مجلسه في رمضان يزدان أيضاً برجال الفكر والأدب والذين يقدمون لزيارة البلدة الطَّاهرة فلقد كان الأساتذة علي وعثمان حافظ، وعبد القدوس الأَنْصاري وأحمد عبد الغفور عَطَّار يَحْرصون عَلَى زيارته والجلوس إليه وكان الشيخ - رحمه الله - يهتمُّ بما يطرح في السَّاحة مِنْ أفْكار، فلقد طُرِح في التّسعينيات الهجرية وعَلَى صفحات مُلْحق التراث والذي كان يشرف عليه زميلنا الدكتور محمد يعقوب تركستاني - طُرِحَ آنذاك موضوع الرَّسم العثماني للمصحف الشريف وكان مِمَّن شارَك في هذه القضيَّة المشايخ عبد الله خياط، وأحمد جمال، وعبد الفتاح شلبي، والسيد المنتصر الكتَّاني وغيرهم وكانت البداية مقالة للأستاذ عثمان حافظ يدعو فيه لاحتذاء الرَّسْم الإملائي الحديث في كتابة المصحف الشريف، فرددت عليه ورأيت أنَّ القواعد المتصلة بالكتابة الإملائية يمكن أنْ تتبدل ويدخلها التغيّير فلا نضطَّرُ في كل حقبة إلى تغيير الرَّسْم الإملائي ليتناسب مع ما يطرأ على لغة الكتابة مِنْ تغيير وتبديل إضافة إلى الصِّلة القائمة بين هذا الرَّسم وقواعد القراءات القرآنية المَشْهورة، وكُنْتُ أُريد معرفة رأيه - رحمه الله - في هذه القضية العلمية فأخذته حِدَّة وظنَّ أنني أميلُ إلى تغيير الرَّسْم، وكان أخي الدكتور عبد الرحمن الصالح يقف بجانبي على مدخل الدّار فُلُذْتُ بالصَّمت وذهبتُ إلى المسجد الشريف، أبلغتُ أستاذنا محمد حميدة - بما حدَّث - وكان - أمدَّ الله في عُمره - مِِِِنْ أقرب الناس إليه، فذهَبَ إليه وأخبره بموقفي من القضية وأنه لا يخرج عَن الإجماع بَلْ يؤيده.
فطلب - رحمه الله - مِنْ الأستاذ حُميدة بأنْ أزوره في مَجْلسه فدخلتُ بعد صلاة العَصْر - مباشرة - وكان مجلسه مُكْتظًّا بأهْل العِلْم والفضل، وعندما دخلتُ قَامَ رحمه الله مِنْ مَجْلسِه وسلَّم عليَّ بحرارة وحياني بكلمات ما زلت أجد صَدَاها في نَفْسي كانت مِنْ الكلمات التي دفعتني لطلب المزيد مِن العلْم وكشفتْ لي في الوقت نفسه عَنْ عظمة هذه الشخصية، ولقد سمعته - يومها - يتحدَّث عن خطوط الطُّول والعرض وقضايا علمية أخرى تدخُلُ في عِلْمي الجغرافيا والفلك، وهو ما يؤكد على السِّمةِ الموسوعيَّة التي كانت تطبع جوانب هذه الشخصية التي اجتمع على حبَّها أهْل الجوار الطَّاهر وغيرهم في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي، ولقد ذهب - رحمه الله - في التِّسعينات الهجرية إلى خارج المملكة لزيارة بعض الدول الإفريقية فكانت الجموع تَخْرُج في الشوارع لرؤية هذا الرّجل الذي يؤم الناس في أطهر البقاع وأحبِّها إلى الله، وكان الشيخ - رحمه الله - يأخذ الناس بالرِّفق إذا ما رأى منهم خطأً وأزعم أنني صلّيتُ وراءه لأكثر مِنْ ثلاثين عاماً فلم أسمع منه ما يتعرَّض للناس، وفي ذلك دَرْس لصغار طلاب العِلْم، حيث حثت مقاصد الشريعة الإسلامية على حُسن الظّن بعقائد المسلمين وعدم التسرع في إطلاق الأحكام، ولقد استشرف - رحمه الله - الأحداث التي نتجت عَنْ التشدّد - أخيراً - وعرّضَتْ أَمْنَ البلاد للخطر واستباحَتْ دماء الشيوخ والأطفال والنساء، فلقد خطب - رحمه الله - قبل أقل مِنْ عقدين من الزَّمن خُطبةً قويَّة ومؤثرة تحدَّث فيها عَنْ تنطع بعض الشباب واهتمامهم فقط ببعض المسائل الظاهرية تَاركين ما هو أهم وأجْدَى وأنفع للأمة والمجتمع.
يحتفي بحفظة القرآن
كان الشيخ ابن صالح - رحمه الله - يحتفي بحفظة كتاب الله وفي مقدمتهم شيخه المرحوم حسن الشاعر ويزوره في دارِهِ، كما كان عطوفاً على الشيخ الشريف العلمي الذي كان الوحيد مِنْ بين الحفظة مِمَّن يعرف كيفية تَنْبيه الشيخ وهو يصلّي بالناس في المحراب إذا ما حَدَث منه سَهْوٌ، وكان يقدِّمُه لأداء صلاة الوتر في شهر رمضان ثم أسند الأمر - بعد تقدم الشيخ العلمي في السِّن - إلى الشيخ محمد الثاني - أمدَّ الله في عمره - وحدث ذات مرَّة أنْ سها في صلاة الصُّبْح وكان المؤذن والحافظ لكتاب الله الشيخ عبد الستَّار بخاري هو مَِنْ يقوم بالتكبير خَلْفه، عند أداء تلك الفريضة - فردَّ عليه مِنْ خلال مكبِّر الصَّوْت، وبعد الصَّلاة استدعاه الشيخ ابن صالح ولم يُعنِّفه أوْ يَقْسُ عليه مُطلقاً - ولكن ذكَّرهُ بأن التنبيه مِنْ خلال مُكبِّر الصَّوْت يحدث تشويشاً وقد حدَّثني بهذا الأمر المؤذّن والحافظة عبد الستار بخاري - نفسه - وكان هو ورفيقه حسين بخاري مِنْ أشهر مؤذني الحرم النبوي الشريف، واستمر في أداء الأذان مِنْ حقبة الإشراف إلى وقت متأخر مِنْ العهد السعودي الزَّاهر، فلقد اعتزل حسين بخاري الحياة بعد منتصف الثمانينيات الهجرية بينما استمر الأستاذ عبد الستار في أداء الأذان إلى ما بعد منتصف التسعينات الهجرية، وكان الشيخ ابن صالح عطوفاً على مؤذَّني المسجد ومشجِّعاً لأبنائهم على الاستمْرار في أداء هذه المهنة الشَّريفة، فلقد أخبرني طلعت ديولي بأنه ذهب مرَّة إلى المحكمة في شهادة يُدْلي بها، فلما رأى اسمه سأل هل هو ابْن المُؤذِّن المعروف - أبو السُّعود ديولي - فلما تأكد مِنْ ذلك قال لابنه لماذا لا تتقدَّم للأذان في المسجد النبوي الشريف.
ولقد كان يخْتار للإمامة في المسجد النبوي الشريف مِمَّن تتوافر فيهم الكفاءة، وأتذكر أنه في مطلع التسعينيات الهجرية وعندما غادر فضيلة الشيخ عبد المجيد حسين إلى الرِّياض، وكان الشيخ عبد الله زاحم - رحمه الله - في بداية عهده بالإمامة في المسجد، أنه كان - رحمه الله - أي الشيخ ابن صالح يقوم بإمامة الناس في معظم الأوقات إضافة إلى أداء صلاتي التراويح والتهجّد، وهو أمر لا يقوى عليه إلاَّ أصحاب الهمم العالية وكان الشيخ ابن صالح صاحب همَّة عالية وجَلَد كبير.
وكان - رحمه الله - يتثبَّتُ في الأحكام الشَّرعية ولا يتعجَّل في إصْدارها، ولئن كانت الناس تهابَهُ إلاّ أنها في الوقت نفسه كانت تجلّه وتحبّه فلقد كان الناس لا يخشون حَيفاً، ولا يتوقَّعون ظُلْماً إذا ما كان الشيخ ابن صالح هو القاضي أو المُصْلِح ولقد كان - رحمه الله - يميل إلى إصلاح ذات البَيْن في كثيرٍ مِنْ الأمُور، كما كان - رحمه الله - يَسْتُرُ القبيحَ مِنْ أفعال الناس ولا يبرزه لأحد، ولقد كان حُبُّ المدينة آخذاً بمجامع قَلْبه وقد أخبرني ابنه الزميل - محمد - بأنّه كان إذا ذهب لقضاء الإجازة في أشهر الصيف في أبْها أخذه الحنين إلى طيبة وساكنها عليه صلاة الله وسلامه فيعود سريعاً، ولقد ودعته المدينة بأكملها عندما انتقل إلى رحمة الله، وبكته النِّساء في خدورهن وترحَّم عليه مَنْ كانوا أطفالاً بالأمْس مِنْ أهْل الجوار الكريم فأصبحُوا رِجَالاً، فلقد ظلَّ لمدة تزيد على أربعين عاماً يصلِّي بالناس ويؤمهم وينصحهم ويعظهم دُونَ أنْ يَجْرح نفْساً أو يؤذِي مَشاعِر، أوْ يَقْسُو ويَجْفُو، فلقد كان مِنْ القلَّة التي تجمع بين تطْبيق أحكام شرْع الله وإنزالها في مواقعها وبحسب ما تقتضيه الواقعة أو الحادثة، ولقد كان رحيماً بأهل بَيته وصُولاً لِرحمِهِ مُحباً لأهْل الجوار ومقدِّراً لأهل العِلْم والفضل منهم، رحمك الله يا أبا محمد وأسكنك فسيح جَنَّاته وجَعَل الخير والبركة في أُسرتك الطيبة في البلدة الطّيبة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1217  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 327 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.