شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الإِبداع ليس حرية مطلقة
تُطرح في الساحة الثقافية في الوقت الحاضر قضية هامة وهي: هل من حق المؤسسات الدينية - الأزهر مثلاً - أن تمنع طباعة أو نشر بعض الكتب التي يكون فيها مساس بالمشاعر الدينية كالانتقاص من حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو التشكيك في الوحي الإِلهي أو التعرض لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يتفق مع منزلتهم ومكانتهم التي لا تقبل الشك أو التأويل؟ فلقد تناقلت الأخبار عن صدور روايات أدبية وقصائد شعرية تتخذ من الرمز وسيلة للطعن في الإِسلام ومقدساته وشعائره. وعندما قامت المؤسسات المعنية بالعمل على منع مثل هذه الأعمال وجدنا أصواتاً كثيرة تنادي بعدم المساس بحرية الرأي وترك القاص أو الشاعر يقول ما يريد فالإِبداع شيء والدين شيء آخر بحسب تعبيرهم، لأن الإبداع يجب ألا يخضع للضوابط الدينية والأخلاقية.
وهذه مقولة فاسدة تعبر عن جهل أصحابها بمفهوم الكلمة ودورها. فالكلمة التي شرف الله الإِنسان بحمل أمانتها لا يمكن أن تسير في طريق معاكس للحق، والجمال لا يمكن بلوغه عن طريق ما يعد تحدياً للقوانين الإلهية التي أراد الله لها أن تسود هذا الكون وتعمل على نشر الفضيلة فيه والحيلولة دون تفشي الفساد والرذيلة. وإضافة إلى هذا الدور الهابط الذي يريده البعض للكلمة أن تؤديه فينزلونها من منزلتها السامقة، ويسلبونها بهاءها الحقيقي ويشوهون صورتها الأزلية بالزيف والكذب والخداع، فإنهم - أيضاً - يجهلون مفاهيم الحرية التي يريدونها بلا ضوابط ويحصرون مهمة الإِبداع في تصوير اللحظات الهابطة للنفس، ويتصورون - وهماً وخداعاً - أن الفكر الأوروبي يؤمن بمثل هذه الحرية ويدعو إليها. فما الذي يمنع من الاقتداء بالغرب والسير خلفه في هذه القضية؟، ومع أن القائلين بهذا يجهلون مسلَّمة هامة وهي أن لكل مجتمع ظروفه الحضارية والاجتماعية الخاصة به وبالتالي فلا مجال لقياس مجتمعاتنا على المجتمعات الغربية فهو شيء يرفضه المنطق ولا يقبل به العقل الواعي والمدرك للسياقات الحضارية الخاصة بكل أمة. مع هذا الذي ذكرناه فالفكر الأوروبي لا يؤمن بحرية مطلقة في الإبداع. ففي بريطانيا مثلاً يحرم التجديف ضد الديانة المسيحية، ولا يمكن لعمل كتابي أو تليفزيوني أن يتعرض لما يدخل في نطاق الإِساءة للمشاعر الدينية للمجتمع وإذا ثبت ذلك فالعمل عندئذٍ لا تتم إجازته ويتعرض صاحبه للعقوبة بل إن التعرض للشخصيات التاريخية والرموز الاجتماعية يمكن أن يؤدي لسقوط صحيفة أو مجلة أو القائمين عليها، كما حدث عندما تعرضت مجلة يصدرها التجمع الشبابي في حزب المحافظين لشخصية رئيس الوزراء السابق - هارولد مكميلان - فأسرعت سكرتيرية الحزب لإصدار أمر من المحكمة بالتخلص من أعداد المجلة التي تتضمن الإساءة لهذه الشخصية السياسية، كما أدّت هذه الحادثة إلى استقالة المشرف على تحرير المجلة.
وعلى الرغم من رفع شعار العلمانية في بعض البلدان إلا أنه يحرم التعرض لشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويؤدي هذا الفعل المشين إلى العقاب كما ينص على ذلك القانون في بلد كتركيا مثلاً، وإذا كان هذا هو الوضع في بعض البلاد الغربية أو البلاد الإسلامية التي تأخذ بالقانون الغربي في حياتها، فكيف يمكن أن نتصور أن أديباً يدفعه خياله المريض للانتقاص من شخصية الرسول الأعظم - عليه صلوات الله وسلامه - أو شاعراً يدفعه غروره للاستهزاء بآيات الله الكريم والمنزهة عن كل تحريف، ثم نجد من يدافع عن مثل هذه الأعمال الساقطة بحجة الإِبداع وتحت قناع الحرية المزيفة؟
إن الحرية لم تكن في يوم من الأيام دعوة إلى الباطل، بل كانت على العكس من ذلك المفهوم الموجود في أذهان البعض، دافعاً للكلمة الطيبة وردعاً عن الكلمة الخبيثة، فالحرية تحمي العقول والقلوب مما يفسد طبيعتها أو يخرجها عن فطرتها، كما أن الإبداع لا يمكن حصره في قضية واحدة وهو الاهتمام بلحظات الضعف عند الإنسان، وتاريخ الفكر العالمي يحمل لنا أدلة كثيرة على أن الإبداع الذي استطاع أن يثبت وجوده في كل الحقب والعصور هو ما كان هدفه الارتقاء بالروح والسمو بالمشاعر والارتفاع إلى آفاق الحق والفضيلة، وما سواه فهو إبداع لا يتجاوز دائرته الضيقة التي أبدع فيها ولا يتذوقه إلا أصحاب النفوس السقيمة والعقول المتخبطة، فاللَّهم اهدنا إلى الحق وجنبنا ما يغضبك ويسخطك.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :677  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 222 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.