شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نحو نقد إسلامي وفكر أصيل
ـ يظن البعض ممن لا يملكون الوسائل العلمية الضرورية لمعرفة حضارة الغرب، وفكره، وأدبه، أن الغرب قد انفصل - بدعوى العلمانية - عن دينه، وتراثه، ومنطلقاته وبالتالي فلا حجر - هناك - على فكر يهاجم الدين، ولا ثوابت ينطلق منها الشاعر في عملية إبداعه، أو الروائي في أحداث روايته، أو الناقد في تحليله وتقويمه.
بينما يقول الواقع الحقيقي لهذه المجتمعات شيئاً آخر، وليت البعض من أدعياء المعرفة، في عالمنا الإِسلامي والعربي، كلّف نفسه جهداً لمعرفة هذه الحقيقة، والتثبت منها. وعندها يستطيع أن يوجه أدواته المعرفية الوجهة الإيجابية التي تنأى عن الاحتمالية، وتبتعد عن الشطط، وتكون وسيلة فعَّالة لخدمة تراثه وفكره، بدلاً من أن تكون النقيض لذلك كله.
ـ ففي بريطانيا - مثلاً - البلد الذي يعده الكثير من أنصار التغريب مثالاً لحرية الكلمة، وديمقراطية الفكر: يحرِّم القانون الإِنجليزي أي انتهاك لتعاليم الكنيسة الإِنجليزية، ولهذا فأنت لا تقرأ في صحيفة معتبرة، ولا تسمع في قناة تليفزيونية - حكومية كانت أو تجارية - خروجاً على مضمون هذه التعاليم.
بل إنك لتجد صاحب الاتجاه اليساري أكثر التزاماً بهذه الأطر الدينية من نظيره المحافظ الذي يُضرب به المثل في احترام الفكر المسيحي، والتقاليد الاجتماعية، ومع هذا فلا يعتبر ذلك كله من كلا الجانبين تحجراً في الرؤية، أو تعصباً في الفكر، أو تزمتاً في الدين.
وهل نجد مثالاً نورده - هنا - على التزام المؤسسات غير المُحَافِظة بالتعاليم الدينية المسيحية خيراً من قيام حزب العمال البريطاني بافتتاح مؤتمره السنوي بالصلوات المسيحية، وافتخاره بدخول أعضائه للكنيسة كافة، كدليل على ولاء هذه المؤسسة لدينها وتراثها، وهو ما يجعلها - في الوقت نفسه - في موضع الثقة والائتمان على حياة الأمة وشؤونها.
وفي الوقت الذي تمثل فيه هذه المؤسسة ما يسمى بالاتجاه التقدمي فإنها ترفض أن ينتمي إليها أي عضو يؤيد الاتجاه الماركسي أو الشيوعي، ولهذا كان رفضها واضحاً وقوياً لرغبة الكاتب ((طارق علي)) الهندي الجنسية في الانتماء إليها، وهذا الكاتب هو أحد أصدقاء ((سلمان رشدي)) الذي أثار كتابه ((آيات شيطانية)) موجة من السخط والغضب في الأوساط الإِسلامية، لما يتضمنه من هجوم على الأنبياء تحت ستار ما يسمى بمذهب الفن والخيال.
ـ أمّا في ميدان الأدب والثقافة - فإن من يظنه نقاد العالم العربي مجدِّداً في أفكاره وتقاليده الأدبية، وهو الشاعر الأمريكي الأصل، البريطاني الثقافة ((توماس ستيرنز إليوت)) T.S. Eliot 1888 - 1965م فإن شعره يتبلور حول الفرد المنقذ، والدولة المثالية لديه دولة كنيسة تشرف على التعليم فيها منظمات رهبانية، وطابعها إقطاعي، إنه يصرح قائلاً كما يشير المرحوم الدكتور عمر فروخ: ((إنه كلاسيكي الأدب، كاثوليكي أنكليكاني المذهب)) (1) .
وتظهر كلاسيكية ((إليوت)) واحترامه للتراث الإِنجليزي القديم عند دراسته للشعر الإِنجليزي ((بن جونسون)) Ben Jonson، وتبرز صورة هذا الاحترام في قوله: ((عليّ أن ألوم نفسي إذا لم أتقيد بمبدأ الاحترام عند دراستي لهذا الشاعر (2) ، وهو الأسلوب نفسه الذي اتبعه في دراسة عدد من الشعراء الإِنجليز، مثل ((وردز ورث)) Words Worth و ((كوليردج)) Coleridge، و ((شيللي)) Shelley، و ((كيتس)) Keats (3) ، ويبين الأسباب التي دعته لتأليف قصيدته المعروفة ((الأرض اليباب)) The Waste Land وهو إعادة بناء إيمان الفرد الأوروبي الذي احتواه الفراغ الروحي بعد أحداث الحرب العالمية الأولى، وانتشار بعض الأفكار المناقضة لمفهوم الإِيمان.
إنه أراد بقصيدته - بحسب تعبيره - أن يغسل أدران الحياة عن نفسيّة الفرد الذي ينتمي إلى مجتمعه - في عصر الشاعر - وذلك لا يكون إلا من خلال الشعائر الدينية التي عندما يتفيأ ظلالها الناس فإنهم سوف يشعرون بالطمأنينة والسكون (4) .
ومعلوم بالضرورة أن الدين الذي يراه ((إليوت)) منقذاً للبشرية من أزمتها الحضارية، هو الدين الكاثوليكي المسيحي.
وإذا كان هذا الشاعر قد بلغ هذا المستوى الكبير من الإِيمان بدينه والإِخلاص لتراثه اللاتيني (5) ، فهل وعى أنصار التجديد الهدف من وراء دراسة تراث الأمم الأخرى؟ أم أنهم يرددون الأسماء، ويهتفون بمقاطع القصائد، بكل سذاجة واستلاب فكري، لا يخدم أهداف الأمة، ولا ينهض بفكرها، ولا يرتقي بمفهوم العلم والثقافة لديها؟
ـ إن الذي قادني إلى هذه المقدمة هو كتاب الأستاذ الفاضل ((جمعان عائض الزهراني)) الذي صدر في سلسلة ((دعوة الحق)) عن ((رابطة العالم الإِسلامي)) تحت عنوان ((أسلوب جديد في حرب الإِسلام)) وقدم له فضيلة الشيخ ((صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ)).
ففي هذا الكتاب تتضح معالم الصورة بين ثقافتين: إحداهما يسعى مفكروها وأدباؤها وشعراؤها - ما وسعهم الجهد - لتأصيلها بالعقيدة - رغم ما طرأ عليها من تغيير وتحريف - وإغنائها بمعالم التراث اللاتيني القديم، واستيحاء رموزه ودلالته، إنها الثقافة الأوروبية، والأخرى الثقافة الإِسلامية والعربية التي تواجه حرباً شرسة من بعض العناصر الهدّامة.
وقد لا نعدو الحقيقة إذا ما ذكرنا ((أدونيس)) كمثال لهذه النوعية من الكتّاب الذين يحاولون هدم الكلمة واللغة والدين والفكر الإِسلامي الحق، من خلال توجيههم لمسيرة الأدب وجهة معيّنة، تخدم شعوبيتهم، وتؤكد على مدى الفساد الذي تنطوي عليه أفكارهم، فهو - في محاولته لتثبيت مذهب فصل الشعر عن الأخلاق والدِّين - الذي كثر للأسف المنادون به في عالمنا العربي - لم يجد شاعراً يستشهد به سوى أبي نواس، فنجده يقول: ((هكذا يؤكد أبو نواس فصل الشعر عن الأخلاق والدين رافضاً حلول عصره، معلناً أخلاقاً جديدة، هي أخلاق الفعل الحر والنظر الحر، أخلاق الخطيئة، فالنواسية استقلال يثير ويحرك؛ وقوف على حدة، يغري ويشجع، مقابل المجتمع وأخلاقه، ضمن المجتمع وخارجه في آن، والإِنسان النواسي هو الإِنسان العائش مع ذاته، المتّخذ من العالم كله مجالاً لتوكيد ذاته الساخر من القيم العامة النهائية، ومن القائلين بها والمقيمين عليها)) (6) .
هل هذا هو الأدب الذي تحتاجه الأمة؟ وهل أبو نواس يمثل الحركة الشعرية الناتجة من وعي صحيح بالمسار الفكري للأمة، والمنهج الحق الذي اتسم به الإِبداع العربي الذي يستلهم عقيدة الأمة، وتراثها، ومرتكزاتها؟
وهل الوقوف في وجه الأخلاق يفسح المجال أمام إبداع أكثر إشراقاً، وفكر أرفع مستوى؟!
وهل السخرية من القيم والفضائل مجال للتنافس بين الأمم والشعوب؟
لا غرابة - بعد ذلك - أن نجد من يتسلل بين صفوف الأمة، من أنصار ((أدونيس)) فيعلن أن النقص فضيلة، والهدم إبداع، وتكسير الحواجز هدف سام، تسعى إلى تثبيته وتأصيله وسائل الشعر والفن، على حد سواء.
إن ((أدونيس)) يعلن من منبر إحدى العواصم العربية، كما يذكر الأستاذ الزهراني عن توجهه الفكري قائلاً: ((أنا شعوبي وشاعر)) . ((أعترف بأنني مخرب عظيم)) .
ولا أجد تعليقاً مناسباً على هذا التحدي السافر لمشاعر الأمة، والهذيان المحموم الذي ليس له من هدف سوى عزل الأمة عن دينها وتراثها، وبث الروح السلبية بين أبنائها، إن التعليق المناسب هو ما ذكرته ((المجلة العربية)) والذي استشهد به الكاتب، حيث قالت في عددها الصادر بتاريخ 12 ربيع الأول 1409هـ: ((لا تعليق، ليس بعد الكفر ذنب، وليس بعد الفخر بالتخريب صلاح))!.
وفي آخر زيارة له لإحدى الدول العربية تحدث ((أدونيس)) عن مسألة الاستقطاب و الانفصام في المجتمع العربي، مؤكداً أن الدين مسألة شخصية، فلا يجوز أن نجعله مهيمناً على الحياة، يعني: يريد أن يقبع الإِسلام في المساجد، ويعود أدراجه، ليترك الساحة خالية لأضاليله وهذيان أمثاله (7) .
إن ((أدونيس)) ينطلق - في تصوراته، سواء كانت التي ضمنها كتابه ((الثابت والمتحول)) أو الأخرى التي يهذي بها بين وقت وآخر - من فكرة واحدة، مؤداها أن أهل السنة والجماعة - بتمسكهم بالقرآن والسنة - كانوا سبب تأخر الحضارة الإِسلامية، وأن من خرجوا على القرآن والسنة، كانوا وحدهم من النقاط المضيئة في هذا التاريخ، وهذه الفكرة نفسها سبق ((أدونيس)) إليها المستشرق م.س. ديماند، الأمين السابق لقسم فن الشرق الأدنى بمتحف (متروبوليتان) بنيويورك وذلك في كتابه ((مذكرة الفنون الزخرفية الإِسلامية)) (8) .
وقد لا أستطيع أن آتي على كل الأدلة والشواهد العلمية الموثَّقة التي تضمنها كتاب الأستاذ الزهراني، والتي تشير إلى ارتباط التيار الأدونيسي بالمذاهب الفكرية العالمية الهدّامة، مما يجب معه التنبيه والحذر من مغبة تغلغل الدراسات التي تتزيا برداء العلمية والمنهجية، مع أنها - في حقيقة الأمر - تهدف إلى استلاب الهوية العربية، وهدم أطر الفكر الإِسلامي المعرفي الصحيح الذي استطاعت أمتنا - من خلاله - فرض وجودها بين الأمم الأخرى، وليس من خلال رفض الأخلاق، وانتهاك المحرم، والتحرر من رقابة المنطق والتقاليد (9) ، كما يدَّعي بعض الدارسين وفي مقدمتهم ((أدونيس)) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :844  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 218 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج