شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حلب تسلم
ويدخل جيش ((الشريف)) السرايا
مع أن زوج شفيقة، قد رقص فرحا بأنتهاء الحرب التي لا أدري لماذا سموها (سفر بَرْلِك) وقال، أن الأسواق طافحة بالحنطه واللحم وكل شيء، فأنه قبل أن يغادرنا حرص على أن يحذر أم شفيقة، وابنتها الصبية (لطفية)، ومعهما أمي، أن (الدنيا ليست آمنة) فلا بد من التأكد من اغلاق الباب بالمزلاج الكبير... والأفضل عدم الخروج إلى الشوارع والسبب، هو كما قال، ((لا أحد يدري، ما الذي سوف يحدث، وكيف سوف يكون تصرف الانجليز والعرب، الذين بدأوا يدخلون حلب، والكبار منهم، قد دخلوا (السرايا) فعلا... وهنا تطوعت أم شفيقة بسؤال قالت أمي أنه أضحكها وهو: هل الانجليز يتكلمون اللغة العربية؟؟ وضحك زوج شفيقة (موفق) وهو يقول: اسمهم انجليز.. يعني ايشلون يمكن يتكلموا عربي؟؟؟ فاذا بأم شفيقة تضيف سؤالا هو: إذا كانوا ما بيتكلموا عربي... ايشلون بيتفاهموا مع الناس ومع العسكر العرب اللي بيدخلوا حلب معهم؟؟ وقاطعها زوج شفيقة، قائلا:
:ـ. قبل ما أمشي... ما بدكم اشتريلكم شي؟؟؟
واسرعت أمي، تخرج من الكيس الصغير الذي أصبحت تخبئه في صدرها، نقودا، قدمتها له دون عد راجية أن يشتري لها لحما، وكوسة، وبرغل، وسمناً، وخبزاً.
كما نهضت أم شفيقة إلى رف في الجدار، وجاءته هي أيضا بكمية من النقود، راجية أن يشتري لها الخبز، واللحم، وقرنبيط الخ..
ومرة أخرى... قبل أن يخرج، حذر من ترك الباب مفتوحا، وقال انه سيعود باسرع ما يمكن.
كان يوما تتحدث عنه أمي بكثير من الحسرة، لأن الأطباق التي جهزتها وجلسنا نتناول ما امتلأت به من اللحم، والبرغل، ومحشو الكوسة، مع ذلك الخبز النظيف الشهي، لأول مرة بعد ذلك الحرمان الطويل، لم يتناولها معنا جدّي وخالتي... لقد ماتا، ولا أكل إلا خبز الشعير الأسود والخيار، أو الخس، والجبن، والكرنب..
ومع أن أصوات الانفجارات، قد انقطعت، و (السفر بَرْلِك) قد انتهى كما قال زوج شفيقة فقد ظللنا نسمع ((زخاتٍ من طلقات رصاص، وعلى الأخص بعد الظهر من ذلك اليوم... كما ترامت إلى أسماعنا اصوات رجال يهزجون معا... قالت أم شفيقة أنهم الأهالي يرقصون (الدبكة) ويطلقون الرصاص (فرحانين) بانتهاء الحرب، ويبدو أن هذه الفرحة، أو الأفراح، تواصلت إلى الساعة التي استسلمت فيها للنوم، في حضن أمي، كما أصبحت عادتنا، منذ ارتفقنا تلك الغرفة في السطح من بيت (أبو داود).
انقضت بضعة أيام، ونحن نحُكمُ رتاج باب الزقاق، بالمزلاج الكبير ولا يُفتح إلا لـ (موفق) الذي أخذ يتردد ليضي حوائج حماته، وحوائجنا... ولكنّه، في صباح أحد الأيام، جاء ومعه زوجته، وقد حمل سلة كبيرة، شحنها بالكثير من الأغذية، وعلى الأخص أنواعا من الخبز، منها ذلك الذي يسمّونه (تَنُّوري) ثم اللحم، والبُرغُل، والجبن، وأنواعا من الخضار... وقد رفض أن يتقاضى من حماته أو من أمي أي مبلغ... لأنه كما قال، قد وجد عملا عند معلمه القديم الذي فتح ورشته لصناعةِ لُجُم وحوافر الخيل والبغال والحمير... واستلم أجرته اليومية (مجيديين)...
وكان أهم ما جاءنا به من الأخبار... أن (الدنيا أمان)... يمكن أن نخرج إلى الشوارع والأسواق عندما نشاء. ربما كنا ـ لطفية وأنا ـ ننتظر هذا الخبر بلهفة أكثر من أمها وأمي... فرحنا به، وابرقت عيون لطفية، وهي تنظر إليّ، وإلى أمها، كأنها تتوخى أن يأذنوا لنا بالخروج... ولكن لا... إذ كان من رأى أم شفيقة أن نخرج كلنا معا بعد صلاة العصر... والأصح، بعد وجبة الغذاء، التي نهضت أمي، وأم شفيقة، ومعهما لطفية لتجهيزها في المطبخ.. وبقيت في ركن من الغرفة وحدي، لأسمع أصوات الأطفال في الشارع يتنادون، ويصخبون... لم أستطع أن أظل هكذا في تلك الغرفة، أو في ذلك الفناء الصغير... ترددت في الموافقة هي أيضا... ولكن أم شفيقة اسعفتني بقولها:
:ـ. شو عليه؟؟؟ ما دام الدنيا أمان... اتركيه يلعب... الصبي راح يطق في ها البيت. وما كادت أمي تأذن، بكلمة (طيب)... حتى انطلقت اجرى نحو الباب.. ولكنها صرخت تناديني... ونهضت من جلستها في المطبخ... وسحبتني من يدي، بشدة، وهي تقول:
:ـ. رايح تجري حفيان؟؟؟
:ـ. لكن يا ففَّم.. البزورة كلهم حفيانين.
:ـ. وكمان طِلعْ لك لسان؟؟؟ اقعد انطَقْ.
وانطقيت... وأخذت تلبسني (الكندرة) الجديدة... وقد كانت العقدة فيها كسابقاتها هي الأربطة التي تحزم فوهتها على قمة القدم، لا أعرف كيف اعالجها... وأعترف اليوم ـ بعد السبعين من العمر ـ أني لا أكره حذاء، كما أكره حذاء من هذا النوع.
وخرجت إلى الشارع، وإلى الأطفال، وكانوا هناك متجمعين في دائرة تحيط بأحدهم في الوسط.. كانوا يعابثونه، متضاحكين، وكلما حاول الافلات من الطوق، يدفعونه، بعنف ليستقر في الوسط. التفت، إلى الجانب الاخر... حيث المخرج إلى الشارع الرئيسي الكبير... مشيت في هذا الاتجاه، وفي نفسي أن أرى هذا الشارع الذي لم أمش فيه، منذ زمن طويل... وحين بلغت آخر الزقاق، وكان الشارع أمامي، على امتداده الموازي للقلعة العتيدة، توقفت لحظات ولا أدري كيف شد انتباهي شيء شديد اللمعان هناك في الجانب المقابل... وعلى التحديد على حافة الأخدود الكبير الواسع الذي يفصل بين القلعة والشارع... كنت قد رأيت هذا الأخدود يوم قمنا بالرحلة التي عدت منها بالخبيزة... توقفت فترة... أحاول أن أتبين ذلك الشيء... وسرعان ما انفعلت، وشعرت كأن الدم يغلي في عروقي... إذ لم يكن ذلك البريق إلا للذَّهب... أجل بريق الذهب، كما عرفته في الحلية (الأسوارة) التي خلعتها أمي من يدها، واعطتها جدي في حماه، بعد حادث اللصوص... ووجدت نفسي، أقطع الشارع بين الرصيفين راكضا اتلفت يمنة ويسرة، ليس تحاشيا، أو خوفا من العربات التي تراها في العادة تمر في الشارع، وأنما تخوفا من أن يسبقني أحد إلى هذا الذهب، الذي أخذت أتبينه وازداد يقيناً أنه هو، كلما اقتربت منه... قطعتان لا واحدة... كل منها تلاصق الأخرى وتشبه الكوز النحاس عندنا، ولكن حين يكون مقلوبا وينتهي برأس كالقبة. وحين وقفت عند القطعتين لاهثا رأيت أن في نهاية القبة حلقة تساعد على حملها... لم أتردد، ولم أطل الوقوف أو التفكير، ادخلت أصبع السبابة من كل يد في الحلقة ورفعت القطعتين.. كانتا ثقيلتين جدا... ولكنهما الذهب الذي أذهب به إلى أمي وأم شفيقه... ستغطرف كل منهما... وكما باع جدي الاسورة، بكثير من النقود، فإن أمي ستبيع. الذهب!!! وأخذت أمشي، وفي يدي القطعتان، أكاد أسقط منكبا على وجهي معهما... ولكن لا..... يجب أن لا أسقط.. يجب أن أصل بهما إلى البيت... لم أعد أرى شيئا سوى خطواتي المتعثرة على الأرض... لا أدري كم خطوة مشيت، ولكني اقتربت من الرصيف المقابل الذي أدخل منه إلى الزقاق... ولكن... صيحات، بل صرخات، ورجال يقفون أمامي وحولي... أحدهم يصيح بهم، ان:ـ. (لا تخوفوه... لا يرميها... ابتعدوا...) وآخر، يقول له: (ولكنه تعبان... يمكن بيرميها..) وآخر من بعيد يقول بتحسر: (يا حرام... يا حرام...) وأخيرا صرخ أحدهم (ابتعدوا... ابتعدوا عنو...) ثم اقترب مني وهو يقول: (حبوب... لوين بدك تروح؟؟؟ أنا بدي أساعدك...).
ادركت من تفجعهم، ومن (كلمة يا حرام... يا حرام...) ومن ابتعادهم عني وخوفهم من أن أرمي القطعتين على الأرض، أني أحمل شيئاً خطيرا... وحين مدَّ الرجل الذي جلس القرفصاء أمامي، يده، استسلمت له. أدخل اصبعه في حلقة احدى القطعتين واخرجت أنا اصبعي... ثم مد يده الثانية، وهو يحذرني أن أرمي الأخرى على الأرض، وادخل اصبعه في حلقة القطعة الأخرى... ووقف والقطعتان من الذهب، في يديه... وما كاد، حتى تنفس بما يشبه الشهيق الطويل، وهو يقول: (الحمد لله...) والتفتُ حولي لأرى عددا كبيرا من الرجال، بينهم أولئك الذين يشبهون الهياكل العظمية من الجياع... أحدهم كان يردد: (يخربْ بيته... ايشلون ما بيخاف؟؟) ويجيبه آخر) (ايِه ما بيْعرِف شو هِنّي...)... ويقول آخر: (لَكْ، احمد ربك أنو ما وقعوا منو عالاْرض...)... أما الرجل الذي حملهما، فقد كان يسرع بهما إلى حافة الأخدود وهو يقول: (لك بدنا جندرما يحرس هالمصيبة، لا يوقع فيها واحد غشيم)... وكان مع الذين تجمعوا حولي بعض الصبية من سكان الزقاق... تقدم مني أحدهم، وهو يقول: (لَكْ. انكتب لك عمر جديد..) وأجابه آخر: (هادا ساكن مع إمو في بيت أبو داود...) ثم يلتفت إليّ وهو يقول: (بتعرف تروح لبيتكم؟؟؟)... ظللت واقفا ذاهلا شارد اللبَ لا أجيب بشيء، ولا أتحرك في أي اتجاه... ولا أدري كم طال وقوفي، إذ لم انتبه إلا وأنا أرى الناس، يتفرقون، ومنهم من يمشي وراء الذي حمل القطعتين... فجأة رأيت أمي في ملاءتها قادمة، مسرعة، وكأنها تركض، ومعها (لطفية)... جمد الدم في عروقي... ها هي تضبطني، في الشارع، بعيدا عن (باب الزقاق)، كما اعتادت أن تحذرني من الابتعاد عنه... لابد في هذه المرة من (علقة) بالخيزرانة التي لا أدري أين وجدتها وأصبحت تهددني بها كلما ارتكبت مخالفة... لم تجرب تنفيذ وعيدها حتى تلك اللحظة... ولكن الآن...؟؟؟
وكانت المفاجأة، أنها انحنت عليّ، واحتضنتني بين ذراعيها، ورأيت وجهها خلف (البيشة) تغمره الدموع... وأخذت تقول (الحمد لله... الحمد لله)... وبعد أن دخلنا المنزل، فهمت منها أنهم أخبروها بكل ما وقع... حتى أم شفيقة، ما كادت تراني، حتى رفعت يديها إلى السماء وهي تردد (الحمد لله الحمد لله..)... وبعد أن هدأ الموقف، سألتني أمي
:ـ. ليه يا عزيز، رحت شِلْت هادي المصيبة؟؟؟
:ـ. يعني ايه ففَّم؟؟؟ يعني إيه المصيبة؟؟؟
:ـ. البمبة... البمبتين
:ـ. يعني ايه بُمْبَة..
:ـ. يوه... لا تجنني!!! اللي شلتهم في يدينك... ومشيت بهم... دول لو طاحوا على الأرض، كنت تتفرتك انت واللي يكونوا ماشيين في الشارع... كنت تموت ويموتوا.
:ـ. لكن يا ففَّم.. دول كانوا دهب... دهب... دهب زي اللي أعطيتيه لسيدي.. شلتهم أبغا أجيبهم هنا... لكي إنتي، ولخالتي أم شفيقة.. دول كانوا يجيبوا فلوس كتير.. كثير..
ولم تقل شيئا، وهي تسمعني اردد: (ذهب... ذهب..) ورأيت في عينيها نظرة سارحة لم يكن في وسعي في تلك السن، أن أفهم لها معنى، ولكن، ما أكثر ما كانت تذكر هذا الحادث بعد ذلك، وما أكثر ما تروى تفاصيله لصديقاتها في المدينة، وتنهى الرواية قائلة:
:ـ. يعني لو انفجرت ((الدانة)) ـ وهي القنبلة كما قيل ـ كان اتْفَرتَكْ ألف وصلة... وكله عشان يجيب لي الدهب اللي ابيعه بفلوس كثير... من يومه كان حريص أنو يرضي، ويخدم. وتناولنا في ذلك اليوم، وجبة غذاء دسمة، تعاونت أمي وأم شفيقة على اعدادها، وأذكر أن (موفق) وزوجته عادا الينا بعد تناول الغذاء، وما كادا يرياني إلى جانب أمي، حتى دار بينهما حوار هامس، عن (الأعجوبة) أو المعجزة التي أرادها الله، فلم أذهب ضحية لنقل القنبلتين، التي قال موفق، أنهما من قذائف المدافع... وضعها (الألمان)، في كثير من المواقع.. حتى في الشوارع، لتفتك وتنسف وتدمر حين يرفعها أي انسان يجهل أنها قذيفة... وقال: انه سمع بالحادث) (هالصبي اللي ساكن مع أمو في بيت أبو داود...) كثيرون تسامعوا به ولذلك، جاء يتأكد اني بخير...
وبعد صلاة العصر، خرجنا جميعا، بقيادة موفق، نرى البلد، بعد خروج الجيش التركي ودخول جيش شريف مكة، والقوات البريطانية... والواقع أن الشوارع كانت شبه مقفرة... ربما لأن الناس ما زالوا لا يشعرون بالأمان... كنت أعرف أكثر الشوارع التي مشينا فيها، إذ سبق لي أن مشيت فيها مع جدي رحمه الله، حين شارفنا موقع السرايا، رأينا جمهورا كبيرا من الناس، يقفون وهم يرفعون رؤوسهم مشرئبين بأعناقهم إلى أعلى... إلى الدور العلوي من السرايا... أوقفنا موفق بعيدا أو جانبا، وذهب وحده، ووقف هناك مع الجمهور... وحين عاد إلينا كان منفعلا وربما مرتعبا إذ قالوا له: أن ثلاثة جنود من الجيش التركي، كانوا مختبئين في السطح ـ كل واحد منهم لف نفسه، ومعه سلاحه في حصيرة ملقاة على الأرض... وقد حدث، ان ثلاثة أو أكثر من أمراء الجيش العربي، صعدوا إلى السطح، ووقفوا يتفرجون على الشارع... فإذا بطلقات الرصاص تنطلق من لفَّات الحصير الثلاث... وتقتل أكثر من ثلاثة من هؤلاء الأمراء... والآن.. تدور المعركة في مبنى السرايا، بينهم وبين الحرس من الانجليز، والعرب... ظللنا نسمع تبادل اطلاق النار من داخل المبنى... وقبيل الغروب... تباعد الناس عن بوابة السرايا، وقال موفق أنهم يخرجون جثث القتلى من الفريقين. وترامت إلى أسماعنا صيحات الجمهور، وكلمات وشتائم بعضهم، وكلمات (لا حول ولا قوة إلا بالله) بتحسر واشفاق يرددها آخرون... ظل الطريق شبه مغلق بالجمهور الذي تكاثر وتزاحم، وكانت يدي، في يد أمي، حين اقترح موفق أن نعود إلى البيت بسرعة لأنه: (ما حدا بيعرف شورح يصير...) وسرعان ما أخذنا طريق العودة إلى البيت.
لا أذكر اليوم مدى الفترة التي ظللنا مقيمين في حلب خلالها، بعد انسحاب الجيش التركي وسقوط حلب، أو استسلامها لقوات الجيش البريطاني، وقوات شريف مكة، الذي اصطلحوا على تسميته الجيش العربي... كانت طويلة دون شك... وإذا كانت الأسواق قد امتلأت فعلا بالمواد الغذائية فإن المشكلة بالنسبة لأمي بالذات، كانت تدبير الكفاية من المال لتأمين لقمة العيش... ولم يكن أمامها سوى ذلك (المنسج) تعكف عليه أكثر ساعات النهار والليل على ضوء خافت لمصباح أو (لمبة) تضعها على صندوق خشبي مهترىء... ولكن بعد تواجد الكثير من السلع في الأسواق، ومنها (المطرزات والمخرمات)، لم يعد ما تنجزه أمي من مطرزاتها على المنسج، يجد السوق التي كان يجدها من قبل.. وأم شفيقة التي كانت تقوم بعملية التوزيع والبيع، على (الذوات) كما تسميهم، تراخى اهتمامها، لأن شفيقة وزوجها، استكثروا أن تقوم الأم بعمل (دلالة)، وهي زوجة (أبو داود).... ولأن قطعة أرض تملكها خارج المدينة، قد وجدت من استأجرها بمبلغ خفف من حاجتها إلى المال. ولذلك فإن واقع الجوع، أو الفاقة بالنسبة لنا ـ هي وأنا ـ لم يتغير كثيرا.. فما أكثر ما وجدنا أنفسنا نكتفي بوجبة واحدة، عمادها الجبن، والخيار والخبر ((النظيف))، والزعتر (بالزيت)... ولعل الجديد الذي تيسر وجوده هو الشاي، والسكر... فكان براد الشاي، ورغيف الخبز، و (الدُّقُة) التي تجيد تجهيزها أمي هو وجبة الصباح، ووجبة الليل..
وأذكر يوما، خرجنا فيه في الصباح الباكر ـ هي وأنا ـ ومشينا في الشوارع التي كانت الآن عامرة بالناس، والدكاكين، والمعارض، والسعل على اختلافها... لم تقل لي شيئا ونحن ننتقل من شارع إلى آخر... ولكن لاحظت أنها كانت تسأل عن موقع مسجد معين... والذي تسأله يقول لها أن تتجه، إلى شارع آخر... وهكذا حتى وصلنا المسجد الذي تسأل عنه... وقفت عند بوابته الكبيرة، وأخذت تسأل البواب عن (المهاجرين).. من أهل المدينة... وفيما هي تسمع منه خرج من المسجد، رجل عجوز، في أسمال بالية، أدركت هي أنه من أهل المدينة... وكان من أخباره أن (الحكومة) بدأت ترحّل المهاجرين بالبابور إلى الشام... وأن عليها أن تذهب إلى موظف يقيد أسماء الذين يرحَّلون أو يريدون الرحيل، وهو موجود في (السرايا).. ثم فهمت منه، أنه فقد في الشام وفي حلب زوجته وبناته الثلاث، ولم يبق من أسرته سواه... ويريد أن يرحل إلى المدينة هو أيضا ولكنه لا يستطيع المشي إلى السرايا، وقد أعطى أوراقه لصديق يتولى عمليه قيده في السرايا.
كان المشوار إلى ذلك المسجد طويلا، أحسسنا بالتعب الشديد، ونحن نأخذ طريقنا بعد ذلك إلى السرايا... ما كدنا نبلغ مدخل المبنى، ونرى أمامنا شجرة يجلس تحت ظلالها مجموعة من رجال ونساء وأطفال.. حتى أسرعنا وتهاوينا معا حيثما اتفق... كان بعضهم يتحدث باللغة التركية مما شجع أمي على الاستعانة بهم، في معرفة المكتب الذي ينبغي أن تراجعه، لإجراءات القيد والترحيل.
* * *
عدنا إلى المنزل في ذلك اليوم، ونحن نجر أقدامنا جرا لكثرة ما عانيناه من المتاعب في التنقل بين المكاتب لانجاز حكاية القيد، ثم في المشوار من السرايا إلى البيت... ما كادت ترانا أم شفيقة ندخل، حتى خفقت صدرها بيدها، وهي تقول:
:ـ. يا حرام... انتي يا بنتي تعبانة كتير... تعالي استريحي عندنا...
وبالفعل لم تكن أمي قادرة على الحركة... استلقت على مرتبة هناك، وأخذت تطلب غطاءً ثقيلا... بل عددا من الأغطية، جاءتها بها أم شفيقة وأمي ترتعد... كل جسمها يرتعد وأسنانها تصطك... مع أننا كلنا لم نكن نشعر بالبرد الشديد، الذي كانت تشعر به... كانت أم شفيقة سيدة كريمة، إذ جلست إلى جانب أمي ترعاها بكثير من الحنو والاشفاق... وكانت تلك هي حمّى المالاريا كما قالت أم شفيقة، وعلاجها مطبوخ (خشب الكينا) تتجرعه أمي ثلاث مرات في اليوم... والعجيب في هذه الحمى أنها تجيء في موعد معين كل يوم... وهو نفس الموعد الذي ظهرت فيه أعراضها وهي الأحساس بالبرد الشديد، فترة طويلة قاسية، ثم ارتفاع درجة الحرارة... يليها افراز العرق، الذي يأذن بانتهاء الحالة إلى موعدها في اليوم التالي.
طويلة جدا، تفاصيل الأحداث، في الأيام التالية... إعياؤها الشديد، واضطرارها مع ذلك، لمراجعة اجراءات الترحيل في (السرايا)، والعكوف على المنسج، تطرز عليه قطعا من القماش، تتكرم أم شفيقة بتوزيعه لقاء مبالغ تافهة، ولكنها تكفي لسد الرمق... بل اصبحت هذه السيدة الطيبة، تدفع، من جيبها، قيمة أي قطعة، وتقول انها ستبيعها على مهل.
وأخيرا... حان يوم الرحيل بالقطار إلى الشام... لم يبق لدينا، إلا مرتبة خفيفة ولحاف مهترىء، ووسادتين، لفت أمي في المرتبة مع ما بقى لها من الملابس البالية، وحزمتها بحبل... وكان (موفق) زوج شفيقة كريما، إذْ حمل هذه المرتبة، ورافقنا إلى المحطة...
ولا أستطيع أن استعيد اليوم تفاصيل الرحلة إلى دمشق، ومنها لا ادري كيف انتهينا إلى خيمة في مخيم على الرمال... مخيم، تذكرته بعد سنين يوم رأيت خيام الحجاج لاول مرة في عرفات. ولم يكن في الخيمة، أحد سوانا ـ أمي وأنا ـ ولكن هناك صف طويل من الخيام يمتد على الجانبين عن خيمتنا في كل منها عائلة من أهل المدينة... وأشد الذكريات ايلاما في هذه الخيمة أو المخيم كله، هو معاناة أمي من حمى الملاريا... اذكر أن هذه الحمى اللعينة كانت لا تخلف موعدها بعد العصر... تبدأ زحفها بما يسمى (النفاضة) وهي موجة البرد الشديد الذي لا يشعر به سواها... ترتعد وتصطك اسنانها وتطلب أغطية ثقيلة... لم يبخل بتزويدنا بها (خواجة) ـ أو هذا ما وصفته به أمي، لأنه يرتفق قبعة وهو أحمر اللون والشعر ـ كان فيما يبدو مفتشا أو شيئاً من هذا القبيل، يقوم بجولتين في اليوم.. احداهما في الصباح بعد توزيع جراية من حساء (العدس) ـ لا أدري كيف يقدمونه ساخنا ـ ومعه رغيفان من الخبز... والأخرى في المساء وقبيل الغروب، بعد أو أثناء توزيع وجبة العشاء، مكونة من (الفول)... والخبز وللأطفال ـ وأنا منهم بالطبع ـ كوز من الحليب. وتتغير وجبة العشاء أحيانا، إذْ تكون، طبقا من الارز مع قطعةٍ كبيرة من اللحم وكان لابد مع وجبة العدس، ووجبة الفول، حزمة من الفجل والبصل الأخضر.
كان هذا المخيم، في (القنطرة) وقد نقلنا إليها بالقطار، الذي كنا نسمع صفيره عن بعد... ولا ادري كيف ومن أين جاء بنا القطار إلى هذا المخيم... كما كانت أمي لا تدري هي أيضا كيف، وبأي واسطة غير القطار، سيرحلوننا إلى المدينة... إذ كانت سيدة عجوز قد قالت لها أنها سمعت أنه لا يوجد قطار بين (القنطرة) والمدينة، وكانت المشكلة بالنسبة لي شخصيا هي البقاء إلى جانب أمي في هذه الخيمة ومنعي من الخروج منها إلا معها حين نخرج معا لقضاء الحاجة في ساعة الغسق بعد الغروب، وتكون هي في أشد حالات الأعياء، بعد انتهاء نوبة الحمى بذلك العرق الذي يفرزه الجسم، بحيث يضطر إلى تغيير ملابسها. كان الحد الأقصى الذي يسمح لي بأن لا أتجاوزه هو بضعة امتار امام الخيمة أو على امتدادها. بحيث أسمع صوتها تناديني، كلما عنّ لها أن تتأكد من أنى لم أبتعد.
ومن الذكريات الطريفة التي تترافق عندي مع فاكهة التين الشوكي، والتي نسميها في الحجاز (برشومي)، ذكرى رؤيتي لهذا التين في القنطرة، يحمله في سلة من الخوص كبيرة بائع يتجول وينادي على سلعته بين الخيام... لم أكن أعرف عن هذه الفاكهة أي شيء.. وقد شد انتباهي لونها المحمر وحجمها... كانت أمي تحت الأغطية الثقيلة مع نوبة (النفاضة) التي تجي في موعدها بعد العصر... استوقفت البائع، ودخلت إليها... اطلب نقودا اشترى هذا (الشيء)... فأخرجت رأسها، وأخذت تنظر إلى الرجل والسلة وقد وضعها وجلس خلفها... لم تنبس بكلمة... وانما مدت يدها إلى اليشمك ـ نسميه الآن طرحه ـ وفتحت صُرةً في طرفه، أخرجت منها (مجيدي)... قالت فيما بعد، أنه كل ما كانت تملكه من المال... وأنه آخر مجيدي من العشرين التي تركها ووجدتها في محفظة جدي بعد وفاته... كان تنوى أن تحتفظ به كذكرى، ولكن عز عليها أن لا تشتري لي (الشيء) الذي اشتهيته.. ومن مكانها على المرتبه وتحت تلك الأغطية الثقيلة، قالت للبائع أن (يقشر لي) عشر حبات.. وأعطتني طبق (العدس)، ومعه ذلك المجيدي... ويظهر أنه كان مبلغا كبيرا جدا... إذ أخذ الرجل يعد كثيرا من قطع لنقد، وبعد أن ملأ الطبق بالفاكهة، المقشرة حمله، ومعه النقود، وتقدم به إلى أمي، وهو يدعو لها بالشفا.
وبتلك القطع من النقود (بقية المجيدي) ولا تملك سواها، وجدنا أنفسنا في باخرة نقلتنا إلى ينبع... أذكر إلى اليوم، لحظات تزاحُمِ ركابِها من أهل المدينة، على سلم هذه الباخرة في نزولنا إلى الرصيف... وسقطت أمرأة اسمها (ميمونة)... من فتحة في عتبة السلم.. ولم يُعْن أحد بانقاذها... غرقت وماتت... وظلت أمي تبكي عليها، كلما ذكرتها لأنها من معارفها وصديقة أمها... ولم ندخل في ينبع بيتاً، ولم نجد خيمة، وانما ظل الجميع على الرصيف فترة لا أذكر كم طالت... لنجد أنفسنا بعد ذلك على الجمال... في قافلة قالت أمي أنها تنقلنا إلى المدينة.
مشت بنا القافلة من ينبع قبيل الغروب... كان الجميع قد ارتفقوا الجمال بدون (شقادف) وانما بالطريقة التي يسمونها (نطاطي).. فكل اثنين من الرجال على جمل، وكل اثنتين من النساء على جمل... وكان نصيبي ـ أمي وأنا ـ جمل أيضا... واستغرقت الرحلة أياما، وكان من المحطات في الطريق بين ينبع والمدينة، محطات الصفرا.. والحمرا، والواسطة والفريش.
* * *
والآن، واصابعي على مفاتيح حروف الآلة الكاتبة، لأكتب المشهد الأخير، من الترحال والتشرد، مع الجوع، والموت.. والضياع، منذ ذلك الفجر الذي ركبنا فيه (البابور) من المدينة إلى دمشق... الآن تسطع وتتوهج في ذهني، وفي كل قطرة من دمي حقيقةٌ أدركتُ المدى السحيق من الأعماق التي تتجذر فيها من اغوار النفس، وآفاق الضمير، ومكامن من الوجدان... حقيقة معنى الانتماء، وهو الكلمة التي قد نرددها كثيرا، ولكن ربما في اطار من الهلامية التي تعجز عن استيعاب حجمها الضخم العظيم.
تسطع هذه الحقيقة، حين أذكر اللحظات من ذلك الفجر الآخر الذي شهدناه ـ أمي وأنا ـ وقد بلغت بنا القافلة، ما كان يسمى (الأستاسيون) في أعلى العنبرية من المدينة المنورة... كنت أسمع وأشعر بصوت أمي وهي تجهش بالبكاء، ثم ترجو الجمال أن يقف، وأن ينيخ الجمل، وأن يملأ لها الابريق الصغير من القربة ماء... لأنها تريد أن تصلي الفجر... وكان الجَّمال كريما... استجاب لطلبها فاخرج الجمل الذي نركبه عن مكانه من القافلة، وتنحني به جانبا قريبا من جدار المسجد ـ وهو نفس المسجد القائم في الموقع حتى اليوم ـ ثم أناخه، وأعانها، بأن حملني، وأوقفني على الأرض.
توضأتْ. ثم غسلت لي وجهي... كان الماء باردا جدا... وقالت لي..:ـ.
:ـ. هيا سوي... زي ما تشوفني أسوي... فاهم؟؟؟
ثم اتجهت إلى القبلة... وقبل أن تدخل في الصلاة.. سجدت وقد رفعت (البيشة). عن وجهها... ورأيتها تلعق التراب مرة.. ثم ترفع رأسها... ثم تعود، وتلعق التراب مرة أخرى... ثم... للمرة الثالثة... وتابعتها وفعلت كما رأيتها تفعل.
وعاودتها نوبةُ البكاء بعد الصلاة... وركبنا الجمل... ولحقنا بالقافلة، والجمَّال يسألها، أين تريد أن يذهب بها..
قالت وصوتها يختنق بالبكاء:
:ـ. الساحة يا عم... عند زقاق القفل.
* * *
كانت الشمس قد ارتفعت، عندما اناخ الجمل بنا في الساحة، وامام مدخل زقاق القفل، وضعت يدّها في صدرها، وفكت الصرة، عن الحفنة المتبقية من (المجيدى) التي بقيت لها بعد شراء (البرشومي)... وقدمتها للجمّال، وهي تقول:
:ـ والله يا عمّي... ما عندي غيرها.
وكان شهما كريما... رفض ان يتناولها.. وزاد على ذلك بأن حمل لها لفة المرتبة واللحاف... إلى ذلك البيت الذي خرجنا منه ذات صباح، منذ سنين... وترك ما يحمل ومشى... بينما وقفنا معا... امام الباب المغلق... وقد عصفت بها نوبة البكاء لحظات طويلة... ثم مدّت يدها وطرقت الباب وهي تقول:
:ـ يمكن أمي؛ مَنَكْشة) فيه... يمكن موجودة
وفعلا... كانت المفاجأة اننا سمعنا خطوات متئدة (بالقبقاب)... اقتربت.. وفتحت الباب... وكانت هي (أمي)، أو كما يسمونها (دادة منكشة)...
والحديث أو الكلام يطول، عن الواقع الذي واجهناه، ونحن ندخل البيت وراء (مَنَكْشة) هذه... وباختصار شديد جدا... لم تجد أمي في البيت، من الأثاث أو غيره، إلا (مسنداً) واحدا هو الذي بقي من جهاز عرسها... مسندا ماازال اذكر انه من قماش يسمى (الدومسك) الحريري... ومعه، (تلبيسة) مطرزة بالقصب... كانت (مَنَكْشة) تبكي هي ايضا وتشهق. سمعت اخبار الذين ماتوا.. ولم يعودوا... ومن حكاياتها هي، عن موجودات البيت التي لم يبق منها شئ، (انهم) ـ ولا اردي من هم؟ ـ بعد خروج فخري باشا ـ دخلوا جميع البيوت، ونهبوا كل ما فيها... وكانت صادقة في كل ما ظلت تحكيه عن هذا النهب.. ثم عن الجوع... الذي اضطر الناس معه في المدينة ان يأكلوا حتى الكلاب والقطط... والجِيفَ من الخيل والحمير... أما كيف لم تمت هي بالجوع كما مات المئات والألوف، فلأنها عملت في خدمة ضابط... غادر المدينة مع فخري باشا بعد التسليم...
* * *
وبعد،
فها انذا، بعد ان فرغت من كتابة القسم الأول من قصة (حياتي... مع الجوع... والحب والحرب.) اتساءل ربما للمرة الألف، ماذا في هذه الحياة، مما يستحق ان يكتب؟؟؟ وأجد نفسي اميل إلى الاعتذار، عن كتابة القسم الثاني فضلا عن الثالث... ليس لاني تعبت، أو سئمت، وانما لاني اشفق على وقت القراء ان يضيع ويتبدد فيما لا حاجة لهم ولا فائدة، ولا حتى متعة في متابعته. ولأني، ايضا، ارى كيف اصبحت ساحة الفكر عندنا، تزدحم بالعطاء يملأ هذا العدد الكبير من الصحف والمجلات، وكيف اصبح الكثير من هذا العطاء يغني المثقفين من القراء، عن متابعة قصص، ينقصها وهج الجدة، وتفتقد دفق التطور ونبض الانعتاق من اسر الرسوب أو الغرق، في ركام المندثر من تراث وحكايا الاجيال...
على أية حال... لابد ان اطيل التفكير، والموازنة والتقدير، قبل ان اقدم على كتابة الأقسام أو الفصول الباقية، لتنطوى عليها صفحات كتاب... أو ـ وهو الأرجح. لتظل حيث هي من قحف هذه الجمجمة، كما ظلت طوال سنين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1107  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 21 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج