شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خلال الدقائق القليلة
وقد كان هذا واقعي في اللحظات التي كانت طائرة الخطوط النمساوية تهبط بي ـ ومعي معظم أفراد أسرتي ـ في مطار فيينا ـ عاصمة النمسا، التي نصحنى الأصدقاء أن أستشفى أو أستجم فيها بعد عملية القلب التي منّ الله علي بالنجاح في إجرائها والشفاء منها، وفي جدة عام 1405هـ، 1985م.
والصورة التي كانت قائمة أو مستقرة في الذهن عن فيينا، كونتها في الواقع لمسات متعددة ومتنوعة، بأكثر من ريشة وأكثر من ألوان وظلال، ربما في مقدمتها تلك الاغنية التي صدحت بها أسمهان في أوائل أفلام محمد عبد الوهاب (اذا لم تخنّي الذاكرة).. ولعل الكثيرين من أبناء جيلى ـ ومنهم أخي وصديقي الأستاذ محمد حسين زيدان ـ لا ينسون صوت تلك الفنانة التي أشرقت في ساحة الفن، ليس فقط بصوتها الذي تعشقته الاسماع بل والقلوب، وإنما أيضا بصباها وجمالها، وهالة الرفعة والسمو، التي أحاطها بها مركز الأسرة التي تنتمي اليها من جهة، وزوجها (الباشا) الذي انفصلت عنه لتلحق بأخيها فريد وقد سبقها بالهجرة إلى القاهرة، ليدخل تاريخ الفن فيها من أوسع الأبواب من جهة أخرى.
من كلمات تلك الأغنية التي صدحت بها حنجرة أسمهان الذهبية: (ليلي الانس في فيينا.. دي فيينا روضة من الجنة).. ومن أجمل ما في الاغنية، إلى جانب الكلمات، لحنها (وهو لحن رقصة الفالس).. وقد كانت هذه الرقصة بالذات إحدى سمات وملامح الحياة الأرستقراطية الأوروبية في أرفع مستوياتها، إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى.. إنها الرقصة التي طوّر ألحانها ـ فيما يقال ـ الموسيقار النمساوى (شتراوس ـ الابن).. الذي طوّرها وأضفى عليها بالتوزيع الأوركسترالي الرائع، مما جعلها تعد من أعظم أعماله حتى اليوم، ومن أشهرها رقصة (فالس) اختار لها عنوان (الدانوب الأزرق).. ونهر الدانوب هو من معالم فيينا، التي تحرص دوائر السياحة وشركاتها على لفت نظر السائح اليه، وإن كان النهر ليس أكبر أنهار أوروبا في الواقع؛ وتكاد لا تتميز به فيينا عن غيرها من البلدان التي يمر بها، ولكن لحن شتراوس والاسم الذي أطلقه على هذا اللحن من ألحان رقصة (الفالس)، يجعل فيينا تتميز به عن غيرها.
ولكن الصورة التي كانت تتلامح في الذهن عن فيينا، في هذه اللحظات، إلى جانب (ليالي الانس) التي صدحت بها لهاة أسمهان، صورة دهشت في الواقع، حين رأيتها ـ أو خيّل اليّ انى أراها ـ تزاحم ليالي الانس، والدانوب الأزرق، ومجموعة رقصات الفالس لشتراوس الابن والاب، التي كانت ترقصها الأرستقراطية الأوروبية، في قصور الأباطرة والقياصرة والملوك على امتداد القرن التاسع عشر، بل والى ما قبل الحرب العالمية الاولى، وهي كما ينبغي أن يتذكّر قراء قصة حياتي (مع الجوع والحب والحرب).. هي التي قدمت في الجزء الاول من هذه القصة تفاصيل المعاناة والشقاء والآلام التي عشتها طفلا، وعاشها أهل المدينة المنورة ـ عوائل بكامل أفرادها رجالا ونساء وأطفالا ـ نتيجة لتلك الحرب.
وأرى الآن، ان القاريء يبذل بعض الجهد، في محاولة اكتشاف العلاقة بين فيينا التي أهبط في مطارها طلبا للاستشفاء أو الاستجمام فيها، وبين الحرب العالمية الاولى، أو بينها وبين ذكريات تلك المعاناة والآلام التي عايشتها طفلا في أيام تلك الحرب.
وما أكثر ما عاشه العالم من الاحداث بعد هذه الحرب... بل ما أكثر ما يتزاحم من الاحداث، في كل لحظة من ليل أو نهار في أيامنا هذه، بحيث يصبح من منطق الاشياء وطبيعتها أن ينسى الناس ـ وحتى الكهول منهم ـ علاقة فيينا بالحرب العالمية الاولى.. فالناس اليوم، يكفيهم تماما أن يعيشوا فجائع وكوارث ومصائب تمخّضت عنها ـ وماتزال تتمخّض ـ الحرب العالمية الثانية، ومنها ـ وأعنى الكوارث والمصائب ـ ظهور أخطر عملاقين من عمالقة القوة والقهر والجبروت في تاريخ الارض، يعبثان بمقدرات البشر ومصائر الامم والشعوب ومسير الحضارات، بكل ما حققه الانسان لها من التقدم والازدهار، عبثا يقترب بالانسانية كلّها من حافّة الهاوية، التي لا يدرى أحد إن كان ـ أو سوف يكون ـ لها قاع أو قرار.
أرجّح أن الصديق الأستاذ محمد حسين زيدان، وربما معه فريق الاكاديميين الشيوخ من أساتذة التاريخ يرون الآن، كما رأيت أنا في الطائرة، العلاقة بين (فيينا) وبين أحداث الحرب العالمية الاولى.
والعلاقة باختصار شديد ـ وضروري في نفس الوقت ـ هي (الأرشيدوق فرانيس فرديناند) ولي عهد امبراطورية النمسا والمجر وزوجته (الكونتيسة صوفي)، اللذين تم اغتيالهما معا في مدينة (ساراجيفو) وهي مدينة صغيرة على ضفة نهر ملياشكا، وهو نهر صغير يتكون من روافد تصب فيه من الجبال الشاهقة حول المنطقة، وقد اعتبرها الحكم العثماني طوال أربعة قرون العاصمة الادارية لولاية (البوسنة).. ولكن حين سافر اليها الأرشيدوق وزوجته واغتيلا فيها بيد (جافر يلوبرنسيب) وهو طالب صربي، كانت مدينة (ساراجيفو) هذه حاضرة من كبرى حواضر مملكة الصرب، التي كانت قد تخلصت من الحكم التركي العثماني، وأصبح لها كيانها الدولي الذي تتطلع امبراطورية النمسا والمجر إلي القفز عليها وضمّها إلى التاج الامبراطوري، تعويضا عن خسائره في مناطق أخرى.
ويطول الحديث، عن أسباب اغتيال الأرشيدوق وزوجته في مدينة (ساراجيفو)، ولكن يمكن القول باختصار، ان الحادث كان الشرارة التي فجرت، ليس برميل بارود فقط، وانما ملايين الملايين من براميل البارود والدمار والفناء في العالم من أقصاه إلى اقصاه ومنه، تركيا العثمانية، ومعها العالم العربي على امتداد الرقعة التي كان يرفرف عليها علم الخلافة العثمانية من حدود تركيا الطبيعية، إلى مشارف المحيط الاطلنطي.. كان اغتيال الأرشيدوق، وزوجته في ساراجيفو (وهي اليوم إحدى مدن يوغوسلافيا) الحادث الذي فتح شهية امبراطور المانيا (غليوم الثاني) لتصفية حساباته، في البلقان، ومع روسيا، التي كانت ولعلها ماتزال العدو التقليدي لألمانيا.. لأن امبراطور النمسا والمجر (والد الأرشيدوق الذي اغتيل في ساراجيفو) قد استنجد به، وكانت طبيعة العلاقة بين النمسا والمانيا والمجر، تحتم أن يرحب القيصر الالماني، بالوقوف إلى جانب النمسا دون تردد أو إبطاء.
وليس في هذه اللمحة عن حادث اغتيال الأرشيدوق وزوجته، التي أشعل نيران الحرب العالمية الاولى مجال، لذكر التفاصيل الكثيرة التي ظلت تتلاحق، ليس فقط في منطقة الحادثة وانما في أوروبا كلها، ومعها انجلترا وروسيا، ولكن يمكن القول، ان دعم المانيا للنمسا، في اعلانها الحرب على صربيا، واحساس بقية الدول الاوروبية بخطر انتصار المانيا على مصالحها الاستعمارية في العالم، وعلى مصالح وهيبة روسيا في البلقان من جهة وتطلعها إلى المياه الدافئة، عبر مضايق الدردنيل والبوسفور من جهة أخرى.. خصوصا وأن فرنسا بالذات لم تنس، حرب السبعين التي انتصرت فيها المانيا انتصارها الساحق المهين بقيادة عبقري القيادة والتخطيط الحربي (بسمارك).. يمكن القول، ان ذلك كان من أهم ـ أو أهم ـ الأسباب التي أشعلت نيران تلك الحرب الضروس.
وخلال الاسابيع القليلة التي قضيتها في فيينا، كنت أتطلع إلى أن أتزود بمعلومات عن حادث اغتيال الأرشيدوق وزوجته، لأني كنت قد التزمت أن أكتب قصة حياتي، وأن تنشر على حلقات في هذه المجلة، ورئيس تحريرها الدكتور عبدالله منّاع، صديق يصعب ارضاؤه أحيانا إلا إذا كان الوفاء بالالتزام يصل إلى حد إفراغ كل ما في الجعبة، وكان ما في الجعبة هو لمحة من التارخ، تعطي قراء المجلة ما لعله قد أصبح نسيا منسيا من أسباب وبواعث الحرب العالمية التي أكتب قصة حياتي معها، وهذه اللمحة متاحة، أو ينبغي أن تكون متاحة في بلد الأرشيدوق القتيل... في عاصمة امبراطوريته التي نسفتها تلك الحرب ثم الحرب العالمية الثانية، التي نعلم انها قد غيرت خريطة العالم السياسية، كما غيرت ملامح الحضارة التي كانت تتمركز أو تترسخ في قصور الاباطرة والقياصرة والملوك بكل ما توفر لها من الأبهة والجمال والجلال، ومنه (ليالي الأنس) التي يبدو انها توارت اليوم خلف الأسدال والنجف، التي لم تعد تقع عليها إلا عيون الخواء والعفاء، في هذا القصر أو ذاك من القصور التي أصبحت متاحف يغشاها الجمهور، بعد أن كانت مسارح للعرائس والحور.
ولم أجد في فيينا من يزودني بالكفاية من هذه المعلومات، بل ولا بالنذر اليسير منها لأن لغة القوم هي اللغة الالمانية، والألمان، والنمساويون منهم، درجوا على أن يلتزموا التعصب للغتهم، إلى حد يصر معه الواحد منهم على التخاطب باللغة الالمانية، وحتى ولو كان يجيد اللغة الانجليزية أو الفرنسية مثلا، أما الكتب، فلم استطع أن أبحث عنها في المكتبات، لأني كنت مع الاسرة والاولاد في فندق بعيد عن أسواق المدينة، من جهة، ولأني لا أستطيع الوقوف طويلا، أمام أرفف المكاتب ـ كما كانت عادتي في أيام الشباب ـ من جهة أخرى.
ولكن لا شك عندي اليوم، وأنا أستأنف كتابة الجزء الثاني من قصة حياتي مع الجوع والحب والحرب [ان حظ الدكتور عبدالله مناع، أو حظ قراء مجلة (اقرأ) ينطبق عليه وصف (بومب).. إذ لا أدري أي صدفة سعيدة جعلت الصديق الأستاذ (سيف الدين عاشور) يمن علي بزيارة في ذات مساء منذ أسابيع، وأن يهديني كتابا باللغة الانجليزية عنوانه (ضحايا ساراجيفو) (VICTIMS AT SARAJEVO)، يصفه الكاتب (جوردون بروك شيبرد) بأنه (قصة حب، ومأساة فرانز فرديناند وصوفي).. وأنا أزعم أنها صدفة فقط، لأن الأستاذ سيف الدين عاشور، خالي الذهن تماما، من حكايتي، في فيينا، وبحثي فيها عن تفاصيل قصة اغتيال (الأرشيدوق) القتيل بل هو خالي الذهن أيضا، من رغبتي في إعطاء قراء القصة هذه اللمحة من التاريخ].
ويقول (جوردون بروك)، انه يقدم في كتابه معلومات، وتفاصيل عن حياة الأرشيدوق وزوجته (صوفي) وعن حادث اغتيالهما، لم يسبق أن عرفت أو نشرت من قبل، فاذا لم ننس، أن الكتاب يصدر وينشر لأول مرة في عام 1984 عن أحداث وقعت في عام 1914 فأن لنا أن نتساءل عن الوف أو ملايين الاسرار التي يغمرها، أو يهيل عليها التراب هذا الذي نسميه تاريخا، ونزعم أن ما تقدمه لنا كتبه، حقائق، أو كل الحقائق وراء الأحداث.
وليس مما يهم القراء، ان أحداثهم، عن الأرشيدوق، القتيل، وقصة حبه لصوفي التي لم يرض والده الامبراطور عن زواجه منها، لأنها لم تكن من اللائي يجري في عروقهن الدم الملكي (الأزرق)، بل لم تكن أكثر من (وصيفة) منحت لقب (كونتيسة) لأنها خصصت لخدمة (الامبراطورة) والدة الأرشيدوق.. ولكن الأرشيدوق، كان شابا عنيدا قوي الشكيمة، وكان حبّه لصوفي أقوى منه، ومن الامبراطور نفسه الذي رفض، وظل على رفضه حتى بعد أن تزوج الأرشيدوق من حبيبته.. بلغ من غضب الامبراطور، علي الزواج، وعلى ابنه وهو ولي عهد أن أصدر مرسوما يحرم أبناء الأرشيدوق من صوفي من ولاية العهد.. وهذا كان يعني أن ينتقل التاج بعد الأرشيدوق، إلى أخيه، وليس إلى أحد أبنائه.
بل ليس مما يهم القراء أن يعلموا وهم يتابعون قصة (حياتي) شخصيا، مع الجوع والحب والحرب ان ابنة الأرشيدوق القتيل ماتزال حية ترزق، وأن الكاتب قد وجد عندها تلك التفاصيل عن قصة الحب، وقصة الاغتيال، التي ينشرها لأول مرة في عام 1984 وهو يقول: انه لو قدر لفرانس فرديناند، وصوفي أن يعيشا، وأن تتجاوزهما يد القدر، لاستطاعا أن يحتفظا بتماسك امبراطورية النمسا، وأن يعملا على صيانة السلام في أوروبا، جيلا آخر. وليس أن يجنّبا العالم تلك الحرب العظمى الضروس فحسب، وإنما كنتيجة يتجنّب الثورة الماركسية أيضا.
ولكن ما أعتقد ان القارئ لا يجد ما يمنع أن يلم به، عن ساراجيفو، هذه المدينة التي اغتيل فيها الأرشيدوق وزوجته صوفى، هي العاصمة الادارية لولاية (بوسنة والهرسك) من ولايات الخلافة العثمانية في البلقان، وإذا لاحظنا أنها كانت تتاخم أو تجاور النمسا بل على الحدود مباشرة، وأنها من وجهة نظر قانونية بحتة، كانت تعتبر تابعة للدولة العثمانية، بل أن أكثر من ثلث سكان المدينة، مسلمون، أتراك ويتكلمون التركية، ولذلك فان من العوامل التي حفزت النمسا بالذات، على التخطيط، للوثبة على (صربيا) من جهة، والتي حرّكت حوافز انتفاض صربيا على النمسا والتصميم على مقاومة أطماعها من جهة أخرى، ثورة (تركيا الفتاة) عام 1908، التي أعلنت الدستور، والبرلمان أو (مجلس المبعوثان) وفيه حق شعب البوسنة والهرسك (وهو من رعايا الدولة العثمانية) في أن يمثل في هذا البرلمان.. كان هذا في تقدير امبراطورية النمسا، ان هؤلاء الأتراك، الذين سبق لهم أن دقوا أسوار النمسا مرة، والذين ظلو يحكمون أراضي (صربيا) وشعبها طوال أربعة قرون متوالية، بل ويتاخمون بحكمهم (صربية)، النمسا دون فاصل وحاجز طبيعي، ونظام الحكم عندهم متخلف كتخلفهم في الصناعة والثقافة وعلوم العصر، بحيث أصبحوا يوصفون بأنهم (الرجل المريض).. ما الذي يمكن أن تتمخض عنه الاحداث على المدى الطويل، حين يظهر عندهم حزب سمّى نفسه (تركيا الفتاة).. بدأ انتفاضته على التخلف، باعلان الدستور والحكم النيابي؟؟ أقل ما يجب أن تتحسّب له النمسا والمجر، هو هذا التطور، فليس أقل من الاستيلاء على (صربيا) كلها، لتظل الحاجز الطبيعي بين الامبراطورية، وبين الاتراك.
ولكن ما أعجب سخرية القدر، وما أشد ما خيبت ثورة 1908 الظنون والتوقعات، وما أكثر وأبشع، بل وأفظع ما تمخضت عنه هذه الثورة.. وماذا أفظع لعمري.. وأشد هولا من أن تأتي نهاية الحكم والخلافة العثمانية بكل أمجادها، وشموخ تاريخها، على أيدي أبناء (تركيا الفتاة).. أبناء ثورة 1908، التي حسبت لها كل الدول الأوروبية ألف حساب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :991  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج