شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
ما يجعلني أحياناً أستغرق في الضحك على نفسي، أني أفشل فشلاً ذريعاً في التخلص من إلحاح الرغبة، التي تبلغ حد ما اصطلحنا على تسميته أو تعريفه بالمسؤولية عن الكتابة حول مواضيع بعينها، مما يتراكم في الذهن من حصاد الأيام... والقراء قد لا يجهلون أني لست موظفاً في هذه الصحف التي تنشر لي ما أكتب، وليس بين أصحاب أو رؤساء تحرير هذه الصحف من يفرض عليّ الكتابة... لي أن أقول إني مسؤول أمام نفسي فقط... ولي مطلق الحرية في أن أعطي نفسي هذه إجازة، لعدة أيام أو أسابيع أو شهور... ولكن الذي يحدث، أني أشعر بالالتزام من جهة وبإلحاح الرغبة في الكتابة من جهة أخرى... ويسرف عليّ إحساسي بالالتزام والرغبة بحيث أضطر إلى الاعتذار عن أداء حق الأسرة عليّ، في زيارة أصدقاء طال غيابنا عنهم، أو عيادة مريض أُدخل المستشفى بعد منتصف الليل، مما يُلزم - في العادة - بسرعة العيادة والسؤال...
وقد ينبغي أن أعفي نفسي والقارىء، من محاولة التعليل، والتماس ما يطرأ على الذهن من قلق واضطراب، فأكتفي بمقولة، إنها (السن)... ومرحلة من العمر، أتوهم معها أني ملزم بملاحقة هذا الموضوع أو ذاك، قبل أن يتسرب إلى صومعة من هذه الصوامع، ليس ليُنسى ويهمل وإنما، لينتظر الحافزَ والرغبةَ. وقد يطول الانتظار.
ومن هذه المواضيع، التي أصبحت هاجساً يلاحقني أو ألاحقه، تلك الندوة الثقافية (الكبرى)، التي عقدت في المهرجان الوطني الثالث للتراث والثقافة - في الجنادرية - عن (الموروث الشعبي في العالم العربي، وعلاقته بالإبداع الفني والفكري).
منذ الليلة الأولى لانعقاد هذه الندوة، برئاسة الدكتور فهد العرابي الحارثي، وعضوية أولئك الأعلام من رجال الفكر والإبداع، في العالم العربي، وفي نفسي أن أفرغ لاستيعاب الكثير مما طرح من آراء أولئك الأعلام.... والاستيعاب المتأني هو الخطوة الأولى لمحاولة البحث الذي يمكن أن يعدَّه الدكتور الحارثي، إضافة إلى ما قيل ويقال. أو مجرد (مداخلة) يتيح لها - كما ظل يفعل - عدداً من الدقائق لا يزيد على ثلاث إلى خمس.
ولم يتح لي أن (أواظب) على حضور بقية الليالي التي ظلت الندوة منعقدة خلالها ولذلك، أمسيت ألاحق الصحف والمجلات، فأقرأ ما تنشره، من الآراء والطروحات، وعليّ أن أعترف، بأن الكثير مما قرأت، جعل يؤكد ملاحظة لي لا بأس بأن يفسح لها الدكتور الحارثي مجالاً، فيما قال إنه سوف يصدره مطبوعاً من الآراء، وهي بالنسبة لي (مقدمة) لبحث لا بد أن أكتبه، إذعانا لهذا الهاجس عن الندوة الذي يبدو أنه سيظل يلاحقني إلى أمد بعيد.
والملاحظة باختصار - تستلزمه طبيعة هذا المقال - هي في هذا العنوان الذي أعتقد أن فريق عمل برياسة الدكتور الحارثي، قد اختاره، واعتمده، وملأ به ما يصل إلى خمسة أمتار من صدر القاعة التي عقدت فيها الندوة... (الموروث الشعبي..) إذ إن كلمة (الشعبي) هنا صفة للموروث... وهي صفة تُميّز هذا الموروث عمّا يوهم بأن هناك موروثاً غير (شعبي)... ولقد قلبّت الملاحظة، والعنوان على أكثر من وجه، والتمست له أكثر من مفهوم أو مضمون فلم أجد أي احتمال لوجود موروث يتميّز بصفة أخرى غير كلمة (الشعبي) هذه... ومن هنا فإن الكلمة التي اختيرت صفة أو تمييزاً للموروث، تبدو قلقة أو مقحمة... ولا لزوم لها... إلا إذا قصد بها الإيحاء بأن المقصود هو ما اصطلحنا على أنه (شعر شعبي) وهو هذا النوع من الأداء الفني الذي يكتب أو يقال باللهجة العاميّة... وهو الذي نجده عند جميع الشعوب العربية وغير العربية... والأساتذة زملاء الدكتور الحارثي، يعلمون أن جميع الشعوب العربية تعيش روائع الأغاني التي تصدح بها حناجر أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وفيروز، وجميعها أبدعها شعراء من مصر ولبنان، وقد لا تختلف كلمات الأغاني التي نسمعها ونطرب لها من مطربينا، محمد عبده وطلال مداح، وبالفقيه... ولعلّنا نجد روائع مماثلة يغنّيها المطربون في المغرب والجزائر وتونس، ولا ينقصها ليتوافر لها الإعجاب والثناء إلا أن نفهم مفرداتها أو طريقة لفظ وإخراج المفردة من كلماتها... إذ قد يختلف لفظ وإخراج الكلمة نفسها من شعب إلى آخر.
فكلمة (شعبي) تمييزاً للموروث، إذ نجدها مقحمة، كما أسلفت، ما لم يقصد بها (اللهجة العاميّة) في كل إقليم، أو منطقة، نتساءل أين هو الموروث غير الشعبي؟؟ من وجهة نظري، على هذا الضوء، كل موروث لا بد أن يكون شعبياً، لأنه موروث... ويصعب أن نتصور موروثاً، عندنا في المملكة، منتزعاً من شعوب أخرى...
قال أحد من دار بيني وبينهم حوار حول الموضوع... (إن المقصود بالموروث الشعبي هو العادات، والتقاليد، ومرتكزات مماثلة توارثها الشعب، أو المجتمع، عبر مئات السنين ومنها هذا الشعر الذي يكتب أو يقال باللهجة العامية الخاصة بكل إقليم). ثم أضاف صاحبي: (إنهم يقصدون الفولكلور... الذي لا تخلو منه حياة أي أمة من أمم الأرض... أي إن الشعر واحد من هذه الموروثات... والندوة هدفت إلى بحث علاقة هذا الموروث، بالإبداع الفني والفكري).
فقلت: يبدو لي أن العلاقة واضحة، ومقررة، ومستغنية عن أن نبحث عنها في ندوة بهذا الحجم... إننا منذ قرون... وعلى التحديد منذ غُزيت اللغة العربية الفصحى نتيجة للفتوحات، والاختلاط بالأعاجم، نتفاهم بهذه اللهجة العامية، وأكثر من 90% من الأغاني - وهي إبداع فني - يكتب بغير الفصحى، ومثلها الكثير المتلاحق من الأعمال المسرحية يؤدى بهذه اللهجة، ويعتمد على خصائص المجتمع، ومرتكزات حياته اليومية وعاداته وتقاليده وكل ذلك إبداع فني وفكري دون شك... بعبارة أخرى، يمكن القول إن الإبداع، لم يتوقف قط... ولم تمنعه الفصحى، أن يعطي، وأن يصل إلى الجماهير... وقد لا نذهب بعيداً إذا قلنا إنه الأكثر قدرة على الوصول إلى هذه الجماهير، لأن الفصحى، لا تزال وسوف تظل ربما إلى الأبد، لغة المثقفين أو المتعلمين، ولا حرج في أن نقول إن نسبة الأمية في العالم العربي، لا تزال ترفض الهبوط عن السبعين في المئة... ولذلك فإن كل إبداع بالفصحى لا بد أن يلتمس عشاقه أو الذين يستقبلونه، عند هؤلاء المثقفين... أي عند القلة القليلة من جماهير الأمة العربية.. للأسف الشديد.
ولكن... ماذا في هذا؟؟؟ ما الذي يمنع أن يتم الإبداع، شعراً أو قصة، أو مسرحية أو معالجة سينمائية أو تليفزيونية، بهذه اللهجة، أو بغير الفصحى. إن الإبداع يستهدف في حد ذاته الإمتاع، أو التأثير، أو الإثارة، فما الذي يحتم أن يكون بالفصحى التي يتعذر فهمها على السبعين في المئة من الجماهير؟؟
وليست الأمة العربية بدعاً، أو شيئاً شاذاً في هذا.... وإني لن أنسى أني قرأت في لندن إعلاناً عن مسرحية، تعرض في مسرح معيَّن لكاتب أتعشق أدبه وفنه وهو (سومرست موم)... فاصطحبت أهلي، بعد أن حجزت العدد من المقاعد في المسرح.. وبدأ العرض.. وبدأ معه دوران الرؤوس... لأن المسرحية عرضت بلغة أو لهجة عوام لندن أو هم عوام الإنجليز.... ولقد كان موقفي بالغ السخف، وأنا أرى النظارة يتابعون فصول المسرحية... ويضحكون، وينفعلون بينما ظللت أنا ومن معي نلتزم صمت الأموات.... لأننا لم نفهم.... ولا يمكن أن نفهم لهجة هؤلاء العوام.
ولعل الدكتور الحارثي، قد عرف خلال السنين التي قضاها في باريس، أعمالاً فنية... مسرحيات، وأغاني... وقصصاً كتبت بلهجة أو لغة عوام الفرنسيين... وهي لهجة أو لغة تظل فرنسية دون شك، ولكنها ليست الفرنسية الفصحى.
عاش الإنسان، ولا يزال يعيش محنة سباق مع الزمن، لا أذكر إن كان هناك من عُني بتتبع مراحلها، وتحديد العلاقة بين هذه المراحل، وبين طبيعة حياة هذا المخلوق الذي نكاد نجده لم ينفلت قط، من عوامل الإغراء بالاستسلام لها، والحث اللاهث والدائم على تطوير وسائلها، أو هي وسائل تحقيق أقصى حد من تطلعه إلى السبق أو التفوق أو بلوغ الغاية التي ظلت دائماً مستحيلة المنال.
ولنا أن ننبش عن الراقد الغافي من ذكرياتنا، أو مخزون هذه الذاكرة من نماذج السباق، لنجد - على سبيل المثال - نموذج امرئ القيس، في تلك الأبيات من معلقته التي يعبّر فيها عن زهوه واعتزازه، بنموذجه من وسيلته لتحقيق الغاية من السبق وهي ذلك الجواد أو هو (الفرس) إذ يقول:
وقد اغتدي، والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر معاً
كجلمود صخر حطَّه السيلُ من عل
إلى أن يقول:
مِسَحٍّ إذا ما السابحات على الونى
أثرْنَ الغبارَ بالكديدِ المركل
ومن أوصافه أنه:
له أيطلا ظبي وساقا نعامةٍ
وإرخاء سرحانٍ وتقريبُ تَتْفل
ولا نحتاج أن نذكر أن غاية امرئ القيس، في السبق، كانت الصيد الذي يفرض عليه ليس فقط أن يغتدي والطير في وكناتها، وإنما أن يعود بصيده (بين ثور ونعجة) ليظلَّ طهاة اللحم من بين منضج، صفيف شواء أو قدير معجّل.
فإذا تركنا لخيالنا أن يتتبع حوافز ودوافع محنة السباق مع الزمن، فإننا نواجه ما لا يعد ولا يحصى من محاولات الوصول إلى الأفضل - وهو دائماً الأسرع - وعلى الأخص منذ اكتشاف طاقة البخار، واختراع القاطرة، والباخرة، ثم إلى ذلك اليوم الذي أصبحت تحلق فيه (الكونكورد) بين لندن ونيويورك، بتلك السرعة التي تختصر لا أدري كم من الساعات في الطيران بين المدينتين.. بل ما لي أقف عند الكونكورد، أو القطار الياباني الذي يسير بسرعة أربعمائة كيلومتر في الساعة، أو غيرهما، وتجاوز وسائل الاتصال، التي لم تعد تقف عند الهاتف الذي يتيح لنا أن نتصل بأقصى مدن العالم، في لحظات، وإنما ذهبت إلى حد نقل الرسائل، والوثائق والمستندات، كما هي، ودون أي خطأ حتى في الأدق من النقاط والخطوط، من جدة إلى طوكيو، في نفس اللحظة التي يلح عليك العمل أن ترسل ما لديك.... ولا أتحدث، أَوْ لا أريد أن أتحدث عن الصواريخ التي تحمل أو تدفع أو لا أدري ماذا تفعل، لتضع مركبات الفضاء، في هذا الفضاء، الذي سجل التاريخ لنا، أن منا.... ((من أبنائنا)) كان أول عربي مسلم، قد ارتاد هذا الفضاء... (وارتاد) هذه كلمة لا نجد غيرها للتعبير عن ذلك الاقتحام، أو المغامرة، التي كان بطلها سلطان بن سلمان بن عبد العزيز فارتفع هذا الشاب ليس في أطباق الفضاء، وفي مجاهليه الرهيبة فقط، وإنما في نفوسنا، وفي ضمير الأمة، وتاريخها، ليقتعد الذروة الشامخة ابناً لنا جميعاً، وليس فقط لأبيه العظيم، أو لأجداده من آل سعود.
ولا أجهل أن القارئ، بدأ يضيق، بهذه المقدمة، التي يتساءل عن علاقتها بحصاد هذا اليوم... إنه يدرك بطبيعة الحال، أن الحكاية هي عن محنة السباق مع الزمن، فما الذي وراء هذه المعلومات، التي لم يعد يجهلها أحد؟
والذي وراءها، هو المشكلة التي قدر لي أن أواجهها، أو أن أتورط في عقدتها الكبرى... وعقدتها هي الزمن.. أو السباق مع الزمن، إذا ما أردت الخروج من الورطة موفور الحظ من سجية الوفاء بالوعد الذي التزمت به، للصديق الشاعر الكبير الأستاذ السيد محمد حسن فقي.
وقراء هذه الجريدة، كقراء الكثير والعديد من صحفنا ومجلاتنا، يعرفون أن هذا الصديق الشاعر من شعراء العربية في القرن الرابع عشر كان - ولا يزال - وسوف يظل إنشاء الله (ظاهرة) نادرة المثال، للعطاء... بل للتدفق بهذا العطاء من الشعر حتى ليرجح عندي الظن أنه لا يستطيع - حتى لو أراد - أن يمنع أو يحول دون تدفقه، في كل لحظة من ليل أو نهار، وفي كل مكان أو بلد من بلدان هذا الكوكب، التي كثيراً ما انتجع مرابعها، وهام في رياضها وفراديسها.
ولقد التزمت للصديق الكريم، أن أفرغ لدراسة شعره، وبعبارة أخرى أن أكتب مقدمة ديوانه الذي قال لي - ونحن نشهد أول حفل رعاه خادم الحرمين الشريفين، لمنح جائزة الدولة التقديرية في الأدب - إنه يعتزم طباعته وإصداره... ولست محتاجاً أن أقول إن الطلب من جانبه، والالتزام من جانبي، كان ولا يزال تشريفاً يحق لي لو أني وفيت بالالتزام وكتبت هذه المقدمة - أن أعتز به، وأن أعده في الأعظم مما أتيح لي أن أنجزه من أعمال فكرية في مسيرة عمري كله.
ولكن، هل يصح أن أزعم أني لم أكن قط أتصور أني مع هذا العطاء بالغ الضخامة سوف أبحر في محيط لا أول له ولا آخر من عالم الشاعر العظيم؟؟؟ لا شك أني كنت أعرف أن هناك ديوانه الأول: (قدر ورجل) ثم: (رباعيته)، وإني نادراً ما تفوتني قراءة قصيدة له لا بد أن تكون منشورة في هذه الجريدة أو تلك من الجرائد الحفية بشعره دائماً طوال سنين.. ولكن يبدو أني كنت كالذي يتوهم أن البحر الذي يترامى أمام ناظريه ثم يتناهى عند دائرة الأفق، هو المحيط الذي تختلس الأرض منه هذه الشرائح التي تسمّى بحاراً، أو خلجاناً أو مضائق، ودع عنك البحيرات، وما إليها مما يزيّف معنى البحر. وهذا ما اكتشفت أني أواجهه فعلاً.. واكتشفت في نفس الوقت عقدة السباق مع الزمن.. فقد كان عزم الصديق الشاعر أن يطبع ديوانه خلال فترة عيّنها، والطباعة الأنيقة الدقيقة التي يتوخاها السيد الشاعر تستغرق بطبيعة حرصه على التصحيح والمراجعة، - ربما عدة مرات - زمناً لا يقل عن عام أو نحوه... فزعمت أني سأكتب المقدمة قبل نهاية العام. وكان طبيعياً أن أطلب من السيد تزويدي بنسخة خطية (على الآلة الكاتبة) من الديوان أفرغ لقراءته، مستمتعاً من جهة، ودارساً ومحللاً من جهة أخرى.
وجاءتني النسخة المطلوبة... فرأيت (المحيط) وجهاً لوجه... أكثر من عشرين مجلداً وفي كل مجلد مئات الصفحات... والقصائد تغطي مرحلة من عمر السيد الطويل إنشاء الله. منها ما أسميه مرحلة (ربيع العمر) وبداية تفتح البراعم والنوامي، وهذه يصعب تجاوزها بأية حال لأنها نفس المرحلة التي عشناها، نحن أبناء تلك الأيام - مع ذلك الإشعاع السحري يحتوينا في ألوانه، ويغمرنا بموسيقاه... إشعاع الحرف والكلمة، نترامى عليه، ونكاد لا نجد سبيلاً إلى الخلاص منه، أو حتى الابتعاد عنه.
أخذت أعايش هذه المرحلة، ثم ما بعدها واحدة إثر الأخرى، ولا يزال وهم القدرة على الوفاء بالالتزام يغريني بالمتابعة، بل ويستحثني على الصبر... ولا أخفي أني أخذت أدرك أني أمام محيط لا أول ولا آخر، وأن سبيلي إلى اجتيازه لا بد أن يستغرق أضعاف أضعاف الزمن الذي حددته... والعقدة أن هذا المحيط، ليس ككل محيط نعرفه... لا سبيل إلى اجتيازه بأي وسيلة من وسائل الاتصال المعروفة، وغير المعروفة.... وأنه لموقف تحد معجز... إذ من الذي يزعم أنه يستطيع أن يقرأ، وأن يدرس ويحلل، محيطاً زخاراً من المعاني، ومن سبائك الذهب والفضة تتبرج بها صياغة فنان ملهم؟....
وأعترف، أني واجهت العجز.... وواجهت مع هذا العجز الموقف السخيف الذي وجدت نفسي أقفه من التزام لصديق يعرف كم أعزّه، ويعرف كم أذكر له وفاءه، وعلى الأخص زياراته اليومية وتفقده، في الأيام التي قضيتها سجيناً، أباح له المرض أن يقضي أيام السجن في المستشفى اللبناني بجدة... ولعلها مناسبة أسجل فيها للصديق الكريم، أنه كان الوحيد تقريباً الذي يتفقد ويزور، ونقضي معاً وقتاً طويلاً في أجواء الشعر والفن، التي تبدد أجواء السجن، والمستشفى، وهي مناسبة أيضاً أذكر فيها للصديق الأستاذ عبد العزيز الرفاعي زيارته العابرة العاجلة التي أهداني معها كتاب (مثالب الوزيرين) لأبي حيان التوحيدي... وكان الكتاب أول كتاب لهذا الأديب العلامة من أعلام التراث بعد (الإمتاع والمؤانسة)... ولي أن أقول اليوم للأستاذ الرفاعي، إني استمتعت بقراءة الكتاب... واستمتعت أكثر، بما أراد أن يقوله الصديق، دون أن يقول.... وكان ذلك في حد ذاته وبمفهومه عندي عزاء رقيقاً وعميقاً لن أنساه.
وبعد... فقد كان السباق مع الزمن... أو عقدة الزمن التي عجزت عن التغلب عليها لقراءة وبالتالي لدراسة وتحليل ديوان الشاعر الصديق، هو أيضاً ما يجعلني شبه ضائع في دوامة، أو عالم ضبابي، تغيم فيه المرائي والصور، وتشرب منه الالتزامات، التي كثيراً ما تكون ملحّة ولكن مما أعتبره نفحات الرحمة والغوث من الله سبحانه، أن أجد - أحياناً - ثغرة أتسلل منها إلى محاولة التواؤم، مع الواقع من جهة، والواجب من جهة أخرى.
وكانت النفحة، في هذه القصيدة، التي نشرتها جريدة الرياض الغراء يوم الخميس الرابع من شهر شعبان 1407، بعنوان (قصة)... وكالعادة، أخذت أقرأ القصيدة، فيما أقرأ، من المواد التي تنشر في الجريدة بعنوان ثقافة اليوم.
وأراني أقف إلى جانب الصديق ولكن متوارياً بطريقة ما، وهو يقول:
والتقينا... ولقد كنت خيالاً
حلماً... أمنية... من أزلي
وانطلقنا في زحام الدرب
تطوين الخطى في عجل
وأنا أسرع في الخطو
لألقى خيبتي أو أملي
والصورة التي يرسمها الشاعر عن اللقاء في هذه الأبيات الثلاثة من القصيدة، تحمل على التساؤل - أو هو الفضول -: كيف يتاح لمن يكون في مثل سني - مثلاً - أن يسرع الخطو بينما هي تطوي الخطى في عجل... تفاجئنا مرة أخرى عقدة السباق مع الزمن، أو هي عقدة العجز الذي يحتمه وهن القوى، وخور القدرة على الجري، وعلى الأخص، إذا كانت ((الشقية)) شابة لا يعجزها الركض، الذي لا بد أن أضيف أنه راقص مثير.
ولكن ما أسرع ما تمّحي صورة الملاحقة، لتحلّ محلها لحظات هادئة وادعة تشرق فيها ملامحها... فهي (نفح عطور وظلال)، وهي (لحون دافئات، وأغان راقصات، وأفانين جمال وجلال)... ومن الطبيعي - فيما يبدو عندئذٍ - أن يهنأ الشاعر (فتجثو روحه، بمغناها اغتباطاً وصلاة وابتهالاً)... ويستهويني المشهد، ويسرح بي خيالي إلى مشاهد، لها - في خيالنا - إغراؤها واستثارتها، ولكن سرعان ما يربد الجوّ، وتكفهر الآفاق، حين يرتوي الحبيبان من جدولهما... فإذا بهما روحاً وجسماً لم يستقيا أو لم يرتويا...
وبقدر ما أتمنى للشاعر، أن يعيش ويعايشني معه - متوارياً بالطبع - في آفاق فردوسه بقدر ما يطيب له - وهذا ما ألاحظ أنه يقع في الكثير من شعره - أن يقول:
(وأنا اليائس من حبي وبغضائي... ومن أهلي وربعي).
له أن يقول: (وما الذي يخوّلك أن تعايش هذا الواقع الذي أراه، ويصعب أن تراه، وأحسه وأشعر به، ولا ينتظر أن تحسه أنت أو تشعر به... لأنها تجربتي، ولكلٍ تجربته التي يندر أن تشبه تجارب الآخرين).
وهذا حق... ولكن لي، في نفس الوقت، أن أقول للصديق، إنه - فيما أرى - يعيش ملحمة يأس، ودراما أحزان، أعتقد أنها طالت أكثر مما ينبغي... ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتني أشعر بصعوبة اقتحام المحيط الزاخر من شعر الشاعر العظيم.
* * *
طيش الشباب؟؟؟؟
في انطباعات للأستاذ أحمد محمد الصايغ، أجد تساؤلاً عن السبب في تبرير ما كتبته في (التصفية) التي نشرت في مجلة الإذاعة السعودية منذ ربع قرن عن أدب الأستاذ محمد حسن عواد رحمه الله... إذ قرأ في لقاء نشرته جريدة المدينة، أني قلت إن ما كتبته عن العواد كان أيام الشباب بما فيه من عنفوان وطيش... ومع ذلك قلت في الحوار أو اللقاء (لم أكن متحاملاً ولم أتجاوز الحقيقة الخ...).
والأستاذ الصايغ، يقول إني يوم كتبت التصفية كنت في منتصف العقد الخامس من عمري... وليست هذه المرحلة مما ينطبق عليها وصف الشباب بما فيه من عنفوان وطيش...
إن الأستاذ الصايغ، لا يرى منتصف العقد الخامس مرحلة من مراحل الشباب، وفي هذا نختلف أو يجب أن نختلف، إذ إني لم أشعر بالشيخوخة، وبنهاية مرحلة الشباب بما فيه من عنفوان وطيش إلا بعد الستين... والذي أعنيه بالعنفوان والطيش، هو الاندفاع في الجهر بما يبدو لي أنه الحقيقة، دون محاولة اختيار اللهجة الرقيقة، والأسلوب الذي يلتمس عدم جرح المشاعر... إنها الحقيقة في الحالين... عنصرها الأساسي لا يتغير... ولكن طريقة أو أسلوب الإفضاء بها هو الذي يمكن أن يتغير.... لو أني كتبت أو أكتب التصفية في هذه الأيام، لما تجاوزت الحقائق التي جاءت في التصفية كعناصر أساسية.... ولكني أستبعد أن أغامر بأي كلمة تمس إحساس العواد رحمه الله.
ثم تلك مدرسة في النقد... لا يعترف بها أصحاب المدارس الأكاديمية الجديدة... وهم يدعون إلى مفاهيم في النقد ومصطلحاته، ربما تكون هي الأكثر قبولاً، في هذه الأيام.... وأنا أعكف على دراستها، ومحاولة فك أو حل رموزها وطلاسمها.... وربما كان هذا هو سبب التبرير بمرحلة الشباب، بما فيه من عنفوان وطيش....
رحم الله العواد... فإن الكلمة الأخيرة عن أدبه وفنه لا تزال تنتظر من يقولها من النقاد.
لو كان لي أن اقترح على المسؤولين عن تحرير صحفنا اليومية ومجلاتنا، أن يقوموا باستطلاع آراء القراء حول المادة، أو المواد، التي تنشرها هذه الصحف والمجلات، ومنها على الأخص، المادة الأدبية، بمختلف عناصرها، من شعر ونثر، ومختلف أغراض الشعر، واتجاهاته ولغته، وأسلوبه، إلى جانب مواضيع النثر وأجناسه، من نقد، وقصة، ومعالجة سياسية الخ... لو كان لي أن أقترح، ووجد الاقتراح سبيله، لدى بعضهم إلى التنفيذ، فإن الأرجح عندي - وربما عند رؤساء التحرير أيضاً - أن (المادة الأدبية) بكل عناصرها، وأغراضها في الشعر والنثر، سوف تأتي في آخر قائمة المواد الأكثر قبولاً، وبالتالي ((الأكثر قراءة))... وقد لا يجانبني الصواب، إذا زعمت أن (المادة الرياضية) سوف تكون الأولى والأهم والأكثر قبولاً وقراءة.
وقد لا يكلفني الذين يستنكرون هذا الترجيح من جانبي، أن أدلي بالأسباب، وأن ألتمس التعليل، وحتى إذا بدا لبعضهم أن يستدرجني، إلى شيء من ذلك، بنوع من تحد يحمل ضمناً تهمة الجهل أو الغيبوبة عن واقعنا الثقافي، ومن أشد الحقائق إشراقاً عنه، مئات أو ألوف حملة المؤهلات الأكاديمية، فإني سأظل أقاوم الاستدراج، مصراً على الترجيح الذي ذكرت، وخير ما يحسم الموقف، هو نتيجة الاستطلاع، إذا تطوّع للقيام به واحد من رؤساء التحرير.
وما يحملني على طرح هذه الفكرة، هذا الأسبوع، هو أني أجد، بين مواد الحصاد التي لا تزال تتراكم أمامي، ما هو أهم كثيراً من الحوار حول ما نشر على هذه الصفحة منذ أيام بعنوان (مرة أخرى إلى...) بقلم الأستاذ عابد خزندار. وليس الأهم عندي، أو عند (الأستاذ) عابد أن نصل إلى تصحيح المفاهيم التي اختلطت بيننا عن قصة (جيمس جويس) أو قصة (نابوكوف)، وإنما الأهم هو ما يأخذ مكانه في رأس قائمة المواد التي أضعها أو تضع هي نفسها بأسلوب آلي، في المخزون من الحصاد.
ولا شك قطعاً في أن مهرجان الجنادرية، ثم (الندوة الثقافية الكبرى عن الموروث الشعبي في العالم العربي، وعلاقته بالإبداع الفكري والفني) هو الموضوع الذي يأخذ مكانه من رأس القائمة ليس بين مواد الحصاد عندي وحدي، وإنما بين مواد التعامل مع الثقافة، عند العديد من شرائح المثقفين، في المملكة، ثم في مجموعة البلدان العربية التي شاركت بقادة الفكر فيها في الندوة، كما شاركت قبل ذلك في المهرجان.
ولكن بالنسبة لي شخصياً، أجد في رأس القائمة أيضاً، الصديق الأستاذ سعد الحميدين، الذي قرأت نعي والده في أكثر من صحيفة من الصحف التي تصدر في الرياض. وكان أبسط ما يجب وفاء للصديق، هو أن أسارع إلى الاتصال به، أو الشخوص إلى موقع المأتم في منزله أو منزل الوالد رحمه الله... وقد ظل هذا المطلب هاجساً، يذكرني بالواجب من جهة وبالتساؤل العاتب والممض عن السبب في التأخر عن أدائه من جهة أخرى. وتلك قضية قد لا أخطئ إذا زعمت أن إنسان اليوم يعيش تعقيداتها، ربما نتيجة محتومة لهذا التغير الذي طرأ على العلاقات الاجتماعية، فبعثر، وشتت بل وبدد بقسوة ما كان لها من حميمية هي التي كانت عنصر الحسم في مثل هذه المواقف. على أية حال، أرجو أن أجد لدى الأستاذ سعد نصيباً من عفوه الذي لا أشك أنه قد شمل الكثيرين من محبيه الذين وقعوا فيما وقعت فيه.
* * *
ومن الحصاد الذي استوقفني هذا الأسبوع (طابع بريد) قيمته (115) هللهُ، أصدرته وزارة البرق والبريد والهاتف، في (ذكرى مذابح صبرا وشاتيلا)... وكان طبيعياً أن يستوقفني هذا الطابع، ليس فقط بتصميمه الدقيق والجميل، وبموضوعه الذي يفتح عيوننا على أن المملكة، بين الدول العربية، تلتزم نمطاً من معايشة مأساة الفلسطينيين.... مأساة الأرض التي طردوا عنها، ولا يزالون يدفقون دماء أطفالهم ونسائهم وشيوخهم، بسخاء منقطع النظير، في سبيل العودة إليها، رغم ألوف الأطنان من قنابل القاذفات، وغير القاذفات، ورغم ألوف الخناجر، والحراب، التي شقّت بطون الحوامل، ومزقت أجساد الأطفال الأبرياء... تلتزم المملكة نمطاً من معايشة المأساة، إذا كانت وزارة البرق والبريد والهاتف قد عبّرت عنه بهذا الطابع، بمناسبة تلك الذكرى، فإن الدولة، تعبّر عنه بالجهود المتوالية التي لم تتوقف قط، منذ زرع الاستعمار إسفينه في قلب تلك الأرض وحتى اليوم... بل وحتى اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور.
ثم (ذكرى مذابح صبرا وشاتيلا)... تعود بالأذهان إلى تلك التي يجب أن تسمّى (الأولى) لأن هذه المذابح لم تتوقف حتى اليوم.. إن لم يكن في مخيمي صبرا وشاتيلا، ففي هذه المخيمات، التي نرى كل يوم، كيف يصرّ الحقد الأسود القذر والحقير، على استمرار عمليات الذبح، والتجويع، ونثر لحوم الجثث الممزقة في طريق الأمهات الباحثات عن جرعة اللبن للأطفال الذين لا يجد الحقد الأسود، ما يمنع أن تنتزعهم القنابل، وأصابع الديناميت من أحضان أمهاتهم، فتنثر لحومهم مزقاً تتزاحم عليها الغربان.
ذكرى مذابح صبرا وشاتيلا، كما لا يجهل وزير البرق والبريد والهاتف، الذي عبر بهذا الطابع عن إحساسه بالكارثة. وتفجعه من هولها، تتكرر يومياً، ويتكرر معها العبث الدولي، وقبله العربي، الذي لا يزال يؤكد أن المذابح على اختلاف أنواعها ومواقعها، وضحاياها، هي الطريقة المثلى للخلاص من هؤلاء الفلسطينيين... للخلاص من قضيتهم، وقضيتهم هي الأرض... فاللعبة، على هذا الضوء، ضياع الأرض... تركها للعدو، الذي ضمنوا له حق الوجود، كما ضمنوا له حق إفناء وإعدام الوجود الفلسطيني المطالب بهذه الأرض.
ولكن غاب عن العبث الدولي، والعربي، أن مذابح ومجازر صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، وغيرها من المخيمات، التي أصبحت تسبح في دماء القتلى، هي... هي التي تشق الأنفاق وتبني الجسور، إلى الأرض... وما أكثر ما استطاعت الجثث والأشلاء والدماء، أن تجد طريقها إلى الحق... إلى الأرض...
* * *
ولا يفوتني، بعد، أن الأستاذ عابد خزندار لن يتسامح في تجنُّب الحوار معه حول ما جاء في مقاله الطويل، وأخشى أن يفسر ذلك بالزهد، إن لم يكن بالهرب من الرد عليه، ولذلك، فإني لا أتردد في أن أؤكد له ولقرائه، أن الأسباب أو الحيثيات التي رشحته عندي لمقعد الحكم الترضى حكومته، في المواضيع التي يتزايد الهذر حولها، لا تزال قائمة، وإذا عاد إلى قراءة مقالي ذلك، وبأعصاب أكثر ميلاً إلى التؤدة، فسيجد أني لم أَكِلْ له مديحاً لا يستحقه، كما أني في المقال الذي ناقشته فيه حول ما ذكره عن (لوليتا)، ثم عن قصة (فينيجانز ويك) لجيمس جويس، لم أكل له التجريح، بل لم أكتب كلمة واحدة تحمل معنى التجريح، إلا إذا كان له هو مفهوم معيّن من قولي: (أسارع إلى تسجيل إعجابي به، بل وتهنئته على أن يكون في المملكة (واحد) من القلائل في العالم الذين فهموا جميع أعمال هذا الكاتب اللغز) فالحقيقة التي أحب أن يعيها الأستاذ عابد ومعه القراء، أن جيمس جويس لا يزال منذ أكثر من نصف قرن، يقرأ في جميع لغات العالم تقريباً، ويتهافت على قراءته الملايين، ومع ذلك فلا يزال هو اللغز الذي تجد مئات أو ألوفاً يقولون إنهم قد فهموه، إلى جانب مئات أو ألوفاً يؤكدون أنهم لم يفهموه. فإذا سجلت إعجابي بالأستاذ عابد، لأنه قرأ جميع أعمال جويس وفهمها، فإني لا أقصد تجريحه كما فهم، بقدر ما أقصد أنه واحد من الألوف الذين يقولون إنهم فهموه.
بقي أن أجد في مقال الأستاذ عابد نقطتين جديرتين بشيء من الإيضاح، أولاهما أنه يقول إني كتبت (Finnegan’s Wake) خطأ باستعمال الشولة... وليصدق الأستاذ عابد أني قد استهولت أن يقع من أعرف إجادته اللغة الإنجليزية في خطأ التصويب بهذا المستوى الذي لا يقع فيه من قرأ هذه القصة في اللغة الإنجليزية... واختصاراً يفرضه الحرص على البعد عن (الدردشة) أرجو الأستاذ عابد أن يعود إلى عنوان القصة ليجد أن ما سمّاه (شولة) هو في الواقع أداة تفيد الإضافة، ومكانها في أعلى الحرف الأخير من المضاف إليه. وذلك كما لو أردنا أن نقول (مقال الخزندار) فإننا نكتب المضاف والمضاف إليه هكذا: -
(MR. Rhizindar’s Essay) ولا توضع الشولة - على حد تسمية الأستاذ عابد - أسفل الحرف الأخير... كما توضع الفاصلة بين الجمل. وبالمناسبة، أرجو أن يفهم الأستاذ عابد أن الدكتور طه محمود طه لم يقع في الخطأ، تلك واحدة... والأخرى، وهي قوله إني اعتمدت على كتاب (The Oxford Companion English Literature) في اكتشاف مراجع كولن ويلسن وأن آخر طبعة نشرت لهذا الكتاب كانت في عام 1976. ويؤسفني أن معلومات الأستاذ عابد قديمة جداً، وهذا على الرغم من أنه صاحب أشهر مكتبة تستورد وتتاجر في الكتب الإنجليزية عندنا. وأحب له أن يعلم أن آخر طبعة لهذا الكتاب نشرت في عام 1985 وأعيد طبعها ونشرها في نفس العام مرة أخرى. وهي طبعة منقحة ومزيدة، وأنصح أن لا تخلو منها مكتبة الأستاذ عابد بالذات.
وبالمناسبة أحب أن يعلم الأستاذ عابد أن الدكتور طه محمود طه ربما يكون الوحيد الذي كتب موسوعة عن جيمس جويس وأعماله في اللغة العربية. ولا مانع عندي أن يطلع الأستاذ عابد على مراجع هذا الأستاذ. والعجيب أن موسوعته ظهرت في اللغة العربية، قبل أن يظهر كتاب يكاد يشبه الموسوعة العربية في كثير من أبوابه ومواضيع بحثه ((لريتشارد إيلمان))، الذي كان قد نشر كتابه لأول مرة في عام 1959. وليس لي أن أذهب إلى أن الدكتور طه محمود طه قد اعتمد على كتاب إيلمان أو نقله إلى العربية، ولكن التشابه الكبير، يجعلني أضع إشارة استفهام، يتعذر الإجابة عنها قبل الإطلاع الدقيق على الكتابين والمقارنة بينهما.
بقي أن الأستاذ عابد قد مارس نوعاً من الاحتدام، في كتابة مقاله، مما يجعلني أتساءل أين ذلك الهدوء الذي أعرفه فيه؟؟؟ ولعلّي أتساءل عن نفسي أيضاً لأقول أين ذلك التوتر الذي أعرفه في نفسي...؟؟؟ هل هو فارق السن؟
أترك ذلك للقراء. وإلى لقاء.
* * *
من الأسباب الكثيرة التي حملتني على الابتعاد - بقدر الإمكان - عن التفرغ للعمل النقدي الذي بدأته بما سمَّيته (تصفية)، وكان الأستاذ محمد حسن عواد رحمه الله، أول من تصديت لنقد عطائه الفكري أو الفني، أني أضيق بالاستغراق - أو هو التفرغ - لنوع واحد، أو جنس واحد من أجناس العمل الفكري... لأني واحد من الذين يشعرون أن الحياة من حولي فيها الكثير الذي يجب على الكاتب أن لا يغفله أو يتناساه أو يتجاهله، على حساب الأدب، نقداً، أو دراسة وتحليلاً عماده - عندي - التذوق والوقوع على مكامن الإبداع ، أو على بؤر الهلامية التافهة. لا أستطيع مثلاً أن أغضي أو أن أتجاوز الأحداث السياسية التي لا يزال الإنسان العربي لعبتها الرخيصة السهلة بين أيدي الكبار. ويصعب عليّ جداً أن ألتزم الصمت - مثلاً - تجاه ما ينبت لنا من مشاكل وقضايا، أشعر بإلحاحها على واقعنا الاجتماعي، منها - على سبيل المثال - قضية عمل المرأة، وقد لحقت بها - في هذه الأيام - قضية عمل الرجل، الذي أسمع أنه يقف في (الطابور) مع الألوف من الخريجين وحملة المؤهلات الجامعية، في انتظار (الوظيفة) التي إن وجدت، في مدينة صغيرة، أو في قرية نائية، فهي مستحيلة الوجود في المدن والحواضر الكبرى... وهذه المدن والحواضر تكدست فيها المغريات بالعيش، ومن المغريات الأهل والأسرة، بينما أقفرت المدينة الصغيرة أو القرية النائية من أسباب العيش الملائم أو المعقول أو حتى المقبول من أبناء الحاضرة... ويكفي لترسيخ الإحساس بالوحشة والغربة، أن يجد الشاب نفسه إذا وافق على المستحيل، وانتقل إلى المدينة الصغيرة، في مستوى حياة ومعيشة ما قبل خطط التنمية، وهو الإنسان الذي كان في السابعة من العمر، يوم بدأت الدولة تنفيذ الخطة الخماسية الأولى، وهو اليوم في الثانية والعشرين... تلك فترة استوعبت خمسة عشر عاماً من عمره، منها عشر سنوات للخطتين اللتين شهدنا فيها ما اصطلحنا على تسميته (سنوات الطفرة) بكل المذهل من عطائها... وليس في عطائها إلا الرغد والرفاه والترف في مستواه الأسطوري، فكيف ننتظر منه أن يتضاغط، مشاعرَ وأحساسيسَ وتطلعات، وطموحات، فيرضى بالعيش في المدينة الصغيرة التي لا تزال تنتظر - ولا يدري أحد إلى متى - أن تمتد إليها لمسات التنمية كما يعهدها سكان المدن والحواضر الكبرى.
ولا أدري الساعة، لم يخامرني إحساس بأني قد تورطت مع الأستاذ عابد خزندار، ومعه من صدرته للحكومة بينهم، وقلت إنه الحكم الترضى حكومته، للأسباب أو المبررات أو هي بلغة رجال القانون: (الحيثيات) التي ألمحت إليها، وهي (أنه: لا يصدر فيما أقرأ له من فراغ ويندر أن يأتي برأي من آراء الأعلام الذين يقرأ لهم في اللغتين الفرنسية والإنجليزية إلا وقد قرأ واستوعب وكوَّن رأيه الشخصي، موافقاً، أو رافضاً، أو موفّقاً بين رأيه ورأي العَلَم من الأعلام الذين يقرأ لهم. وإحساس بالورطة أو التورط يتنامى منذ قرأت له المقال الذي نشر له في هذه الجريدة يوم الخميس الثاني عشر من هذا الشهر. فهو إذ (يحكم) على نفسه أولاً بأنه يكثر من ذكر الكتب والمراجع، وأنه مضطر لذلك، تحت ضغط واجب الأمانة العلمية الذي يقتضيه أن يذكر أسماءهم، وتلبية لرغبة بعض القراء في متابعة البحث الخ... فإنه يقرر - ولا أقول يحكم - بأنه قد سبق أن كتب أن الحداثة (موضة قديمة) وأنها انحسرت في أوروبا قبل خمسين سنة، وقد انتقلت إلينا بعد أن تخلى عنها القوم في أوروبا. ثم أفاض في واقع انتقال هذه الموضة إلينا مما يحسن بالقارىء أن يرجع إليه في المقال.
ويعترف الأستاذ عابد خزندار بأنه هو أيضاً لا يفهم شيئاً من النصوص التي (لبست ثوباً جديداً من الغموض والإبهام، ودخلت في نوع من التجريب الشكلاني واللغوي أفقد النص كل محتوى ومعنى) وأنه (يصاب بالدوار الذي أُصاب به عندما أستمع إلى بعض شعرهم).... ثم يقفز الأستاذ عابد إلى تجربته مع (جيمس جويس) في روايته (Finnegan´s Wake)التي قال إنه لم يفهمها لأنها كتبت بست وثلاثين لغة. وهو لا يعرف إلا ثلاث لغات، وهو يقول إنه قد قرأ جميع أعمال (جويس) وفهمها باستثناء هذه التي كتبت بست وثلاثين لغة. وأقف، بل وأستوقف الأستاذ عابد عند قفزته المفاجئة، التي أجده يقول فيها إنه (قد فهم رواية من أكثر الروايات التي تستغلق على الفهم، وهي رواية ((لوليتا)) لنابوكوف، ويضيف مفاجأة أكثر إثارة للدهشة،حين يقول: (وهي - ((رواية لوليتا)) - لم يفهمها مجلس الوزراء البريطاني برمته واعتبرها رواية ((بورنوغرافية)) أو جنسية، مع أنها رواية لا تمتّ إلى الجنس بصلة. وهنا، لا يتردد الأستاذ عابد في أن يرمي المجلس برمته - بالغباء.... ومع ما أثاره من الدهشة بالمفاجأة، أضحكني حين قفز قفزة عالية لا يستلزمها اتهام المجلس بالغباء، في إضافته الناشزة في قوله (ويكفي أن نذكر في هذا الصدد حرب السويس)...
ورواية لوليتا لنابوكوف، لم تكن ولن تكون من الروايات أو الأعمال التي تستغلق على الفهم، كما يصفها الأستاذ عابد... ولا أدري من أي مصدر جاء بمقولة إن مجلس الوزراء البريطاني اعتبرها رواية من الأدب المكشوف (بورنوغرافية). هذه الرواية طبعت ونشرت في بريطانيا عام 1959، وأعيد طبعها في نفس العام، ثم أعيد طبعها مرتين في عام 1960. وليس فيما نشره عنها النقاد، في بريطانيا، وفي صحفها الكبرى ومنها (التايمز) والديلي ميل، والديلي إكسبرس، والمنشستر جارديَنْ، أية إشارة إلى أن (مجلس الوزراء) أبدى رأياً دل على فهمه أو عدم فهمه، فوصفها بأنها (بورنوغرافية). وكما قلت، لا أجد في لوليتا ما يجعلني أعتبرها من الأعمال التي يستغلق فهمها إلى الحد الذي يفسح للأستاذ عابد مجال نوع من (التباهي) بأنه قد فهمها رغم أنها من ((أكثر الروايات التي تستغلق على الفهم))، وتماماً كما فهم - على حد قوله - كل أعمال (جويس)... ولا أتردد في التسليم باستحالة فهم رواية جويس، بل وأكثر أعماله التي ينهمك المثقفون في أميركا وأوروبا، في دراستها وتحليلها والإعجاب بعد ذلك بها... فإذا كان الأستاذ قد فهمها كلها كما ذكر، فإني أسارع إلى تسجيل إعجابي به، بل وتهنئته على أن يكون في المملكة (واحد) من القلائل في العالم، الذين فهموا جميع أعمال هذا الكاتب ((اللغز)) أو الذي جعل من نفسه وجعلوا منه لغزاً، بلغ من غموضه أن وجد بين مثقفي العالم العربي من (يتعالم) بل ويتعالى بأنه قرأ (جويس) وفهمه. ولعلَّي أستثني أحدهم وهو الأستاذ الدكتور طه محمود، الذي ألَّف ما سمّاه: (موسوعة جيمس جويس). وهو كتاب يعتبر موسوعة بكل معيار، إذ تناول بالدرس والتحليل، بل وبالتفسير المتعمق، حياة جيمس جويس وفنه، ومنها هذه التي قال الأستاذ عابد إنه لم يفهمها لأنها مكتوبة بذلك العدد الكبير من اللغات، وأعني (فينجانز ويك) (Finnegan's Wake)، وقد ينبغي هنا أن أنقل عبارة الدكتور طه محمود عن حكاية اللغات التي أشار إليها الأستاذ عابد، إذ يقول: (ولغة القصة تعكس بوضوح هذا التغير المستمر وتتكون من لغة الألفباء - حروف الألف باء - التي تشتمل على ((تورية متدفقة)) ومقتسبات مهروسة مجروشة، وكلمات مخبوصة مختلطة. ويضطر جويس أحياناً إلى اختزال بعض الكلمات واعتصارها إلى مقامها المشترك فيفوح عطرها المرح، وتنفجر إيحاءاتها الفرويدية. ويضيف الدكتور طه محمود: (ونظراً لصعوبة أسلوب القصة، فقد ظهرت شروحات لها قبل أن تنشر كاملة عام 1939). وأتجنب أن أدعي أني قد فهمت الكثير من دراسة وتحليل الدكتور طه محمود، لهذه القصة بالذات، ولكن أستطيع أن أقول، إنه استطاع أن يقرّب موضوعاتها وفكرتها إلى الأذهان إذ يقول إن (فكرتها المحورية) تحدثنا عن الموت والبعث في آن واحد.. عن البداية والنهاية... فنحن ننتهي ثم نبدأ من جديد... ثم نكتشف، أو يكشف لنا الدكتور طه محمود، أن (فينيجان) هو اسم عامل بناء وأن كلمة (ويك Wake) تعني (المأتم الأيرلندي)... فكأن القصة بعنوانها تعني (مأتم فينيجان).
وليس في لوليتا، لنابوكوف شيء من هذا الذي يستعصي على الفهم، ومع أن الألوف أو الملايين الذين قرأوها، اعتبروها، وتزاحموا على قراءتها، لأنها تعطي انطباعات وصوراً تقترب من مفهوم الأدب المكشوف (بورنوغرافي) فإن كبار النقاد ارتفعوا بها عن هذا المستوى، إذ اعتبرها بعضهم (قصة حب) واعتبرها آخر (دراسة نفسية في قصة حب) مع إجماعهم على أنها عمل فني لا بد أن يعيش. ولنابوكوف الحق في أن يصعد بها إلى القمة كاتباً فناناً من أرفع طراز.. وفي سيرة حياة نابوكوف، أن قصة (لوليتا) كانت العمل الأدبي الذي أتاح له بما حقق من نجاح، ورواج، وسعة انتشار، أن يترك أو يتخلص من عمله مدرساً للأدب الروسي في جامعة (كورنل)، وأن يتفرغ تماماً للكتابة، وما هي إلا سنة واحدة بعد نشر (لوليتا) حتى انتقل في عام 1959 إلى مونترو في سويسرا، وفيها توفي في عام 1977. وبطبيعة الحال، يعلم الأستاذ عابد أن نابوكوف كتب (لوليتا) بالإنكليزية، ولم تكن العمل الأول الذي كتبه بهذه اللغة، إذ شرع يكتب جميع أعماله بها، كما عكف على ترجمة ما سبق أن كتبه بالروسية إلى الإنجليزية، والسبب طبعاً هو الرواج الذي يتحقق لعمل يكتب بلغة تكاد تكون عالمية. وأنا أذكر أو أتطرق إلى هذه النقطة، لأعبّر عن دهشتي، لاستغلاق أو صعوبة فهم لغة (نابوكوف) في رواية (لوليتا)... صحيح أنه يستعمل مفردات، تحتاج إلى استشارة القاموس لمعرفة معناها وهذا شأن كل من يكتب بلغة أجنبية غير لغته، إذ ربما يتحرى الدقة البالغة في التعبير فيضطر إلى استعمال مفردات غير مألوفة، ولكن تظل مفردات اللغة إنجليزية، ولا يصعب أن تجد معاني الكلمة في القاموس... وهذا لا يتوافر في أكثر أعمال جيمس جويس، لأنه يتعمد أن يسدل على الإنجليزية التي يكتب بها أعماله ستار الغموض، وينشر في أجواء العمل ضباباً يحمل القارىء على معاناة إحساس بالشك في المعنى الذي أراده الكاتب... وهو في هذه الممارسة لا يختلف كثيراً عن الفنان التشكيلي الذي يسدل نفس الستار وينشر نفس الضباب، ليقدم عملاً سيريالياً أو تجريدياً، أو رمزياً، ولكن بفارق هام جداً، وهو أن جويس يعرف اللغة التي يكتب بها معرفة أستاذ أو عالم، فإذا أسدل ستار الغموض، ونشر ذلك الضباب، فإنه يعمد إلى ذلك بدافع التمرد والثورة على المألوف، وفي حسبانه أن كتابة كلمة (من مئة حرف مثلاً)، سوف تحمل أو تحث علماء اللغة، أو اللغات، على أن يخرجوا اللغة من نفقها التاريخي أو التقليدي القديم. وبغض النظر عن أن يتحقق غرضه أو لا يتحقق، فإنها محاولة رائدة، حققت له تزاحم مثقفي العالم على دراسة أعماله، ومحاولة فهم ما كمن وراء الستار والضباب، وكما يقول الدكتور طه محمود طه، في مقدمته للموسوعة التي ألّفها عن جويس: (سيظل جويس كاتباً معاصراً بالرغم من مضي أكثر من ثلاثين عاماً على وفاته، فما زلنا نحاول أن نكون من معاصريه... لقد سبق جويس عصره بقرن من الزمان). وقد يذكر الأستاذ عابد خزندار أن العالم لا يزال يلهث وراء ما كمن وراء الستار والضباب، وآخر ما ظهر من الدراسات عنه، ذلك الكتاب الذي قالت الصحف الأمريكية، والإنجليزية منذ عام أو أكثر، إنه (النص) الذي صححه جويس نفسه لقصة (عوليس ULYSSES) التي بدأ يكتبها في عام 1914، ويُظن أنه فرغ من كتابتها في عام 1921 - 1922. والمذهل بعد ذلك، أن الناشر الأمريكي، لهذا النص، فرض له مئتي دولار سعراً عدا أجرة البريد... ولا أستبعد أبداً أنه قد وجد ألوف القراء الذين لا يزالون يلهثون وراء اكتشاف ما وراء الستار والضباب. وقد يدفعون أضعاف هذا السعر، وهذا في حد ذاته لغز آخر، إذ ماذا يمكن أن يكتشفوا؟؟؟ وما الذي يضيفه الاكتشاف إلى ثقافتهم، أو هي ثقافة العصر؟؟؟ أسئلة لا أزال أطرحها، وكم أتمنى أن أجد لها عند الأستاذ عابد خزندار جواباً أو أجوبة شافية مقنعة، ما دام قد قرأ جميع أعمال هذا اللغز وفهمها...
بقي أني قلت إني تورطت مع الأستاذ عابد، وللتورط علاقة بزهدي في التفرغ لنوع أو جنس واحد من أجناس العمل الفكري، لأني واحد من الذين يشعرون أن الحياة من حولي فيها الكثير الذي يجب على الكاتب أن لا يغفله أو يتناساه أو يتجاهله على حساب الأدب. وها أنذا أجد نفسي مستدرجاً لمناقشة الأستاذ عابد في هذه النقاط التي جاءت في مقاله، وليس موضوع استغلاق رواية (لوليتا) لنابوكوف على الفهم، أو موضوع فهم الأستاذ عابد لجميع أعمال جيمس جويس هو ما أجده يستدرجني للنقاش... هناك مفاجأة أخرى من مفاجآته في هذا المقال، وهي أقرب إلى مفهوم التناقض، بين أنه - كما قال - مثلي لا يفهم شيئاً من النصوص التي تصيبني بالدوار، وإنه يصاب هو أيضاً بهذا الدوار حين يقرأ هذه النصوص، وبين قوله: (على أن ما سبق لا يمنعني من القول بأن ثمة شعراء سعوديين تأثروا بالحداثة ولكنهم احتفظوا بطابعهم المحلي وبأصالتهم) ثم راح يذكر أسماء من حضرته أسماؤهم، مضيفاً إليهم ((غيرهم)) ممن لا تحضره أسماؤهم... ثم يضيف أسماء من وصفهم بأنهم (أصوات مبدعة) في مجال القصة... ويذهب بعد ذلك إلى مجال النقد فيذكر أسماء نقاد عرفتهم الساحة الأدبية، بمصطلحاتهم النقدية التي تثير هي أيضاً الكثير من الجدل والحوار، وينتهي إلى قوله (وهناك بالطبع أستاذنا الدكتور عبد الله الغذامي)... ترى هل نسي الأستاذ عابد أن ما وصفته بأنه غامض، أو من نوع تلك النصوص التي لا تفهم وتصيبني بالدوار، وهي نفسها التي اعترف بأنها تصيبه هو أيضاً بالدوار لاستغلاقها على الفهم، هو ما يكتبه الدكتور الغذامي ومعه الأستاذ سعيد السريحي... كيف يستطيع الأستاذ عابد أن يوفق بين أنه لم يفهم أو لا يفهم، وبين أنه يفهمهم إلى الحد الذي يجعله يصفهم بأنهم نقاد دارسون جادون... والأعجب في هذا التناقض، أنه ذهب مع موجة (التقدير) إلى حد إضافة أسماء لم يخطر لي قط أنه لا يتحرج من إضافتهم إلى المجموعة التي ذكراً أسماءها، ومنهم الأستاذ محمد عبد الله مليباري و(سهيلة زين العابدين حمّاد) و(أستاذنا يحيى المعلمي).
لشد ما يشعرني بالحرج، أو هو الأسف، أن أقول إن الأستاذ عابد - غفر الله له - قد استغل ترشيحه لمقعد (الحَكَم التُّرضى حكومته) في مقال يوم الخامس من رجب، نوعاً من الاستغلال، فيه انتهازية لم أكن أتوقع أن يمارسها بهذا التوسع، وهو من قدرت فيه استقلاله الفكري، وهذا الاستقلال، عند من يتمتع به، هو الذي تتوافر فيه القدرة على التجرد على أسلوب التحبب والاسترضاء، وهو ما لا أرتضيه لدارس متعمّق، يدرك جدّية الكلمة التي يقولها، ويُحسن وزنها حجماً وقيمة، بالنسبة لقضايا الفكر التي تطرح للنقاش، بغرض اعتصار الرحيق، واستخلاص الجوهر، والترفع الذكي الواعي عن الالتفات إلى الأصداف والتواقع الجوفاء.
أدرك أنه قد استرضى وأرضى هذا الفريق من الذين ذكر أسماءهم، ولكني أدرك - ومعي على الأرجح كثيرون - أن الحَكَم التُرضى حكومته، قد ذهب إلى أبعد مما يصح أن يتصف به الحكم النزيه... والنزاهة في هذا المجال، كالنزاهة في كل مجال يُطلبُ فيه التوازن والاعتدال والقدرة على تجنب المزالق والمنحدرات.
* * *
بدا لي، والبريد يحمل إليّ كل يوم، إضافة إلى الصحف والمجلات العربية، المواطنة والمهاجرة، شحنةً من كتب لمؤلفين - وأعني كتّاباً أدباء - لا يزالون يحسنون الظن بقدرتي على قراءة عطائهم، أو بقدرتي على أن أبدي رأياً - أياً كان - في هذا العطاء - بدا لي أن أتقدم بسؤال إلى مدير صوامع الغلال، عن الطريقة التي يعالجون بها ما يزيد من الإنتاج عن طاقة هذه الصوامع؟؟؟ أتراهم يشرعون في بناء صوامع جديدة؟؟؟ أم أن لهم طريقة في التخلص من المخزون القديم، ليحل محله الجديد؟؟؟ ولكن، هنا لنا أن نتساءل، أين يذهب المخزون القديم؟؟؟؟ أتراهم يحرقونه؟، أم يقدمونه علفاً للماشية، أم ماذا... خصوصاً إذا كان التخزين لم يفقده صلاحيته للاستعمال الآدمي؟؟
فيما يختص بالصوامع في دماغي، فإن شكاتي الدائمة، والتي تكاد تكون تقليدية قديمة هي أنها قد امتلأت وطفح المخزون فيها منذ أكثر من عشرين أو خمس وعشرين سنة.... والمشكلة التي لا أجد لها حلاً - وأستبعد أن يجد لها أحد يعاني مثلما أعاني أي حل - هي أن جميع هذا المخزون فيها يأخذ حالة الاستقرار، أو هو يأخذ راحته في الاستلقاء والتهويم وربما النعاس أيضاً، ولكنه يصر على أن يظل حيث استقر، والأعجب بعد ذلك، أنه لا يمانع أبداً في أن يزاحمه الجديد، الذي يتوافد عليه يوماً بعد يوم.. وأحياناً، ساعة بعد ساعة وعلى الأخص - من هذا الذي يتوافد - ما تُلعلع به إذاعاتٌ باللغة العربية، ومثلها بالإنجليزية. ولا ننسَ طبعاً ما تتبرج به وتتبختر شاشة التلفزيون، مما يرسل من البرامج، أو مما يعرض على هذه الشاشة الساحرة من أشرطة (الفيديو). والسؤال المطروح، هو كيف أتخلص - أنا على الأقل - من المخزون في الصوامع في دماغي، وماذا أفعل في الوافد، وقد أصبح في هذه الأيام كثيراً... بل أكثر من كثير؟
في حوار بيني وبين بعض أهلي عن هذه المشكلة، كان الرأي أن أتوقف عن القراءة، وعن الاستماع إلى الإذاعات، وكذلك عن مشاهدة تبرج الشاشة الصغيرة الساحرة، فوجدتني أكبت ضحكةً ساخرة... وأخفي ما كدت أقوله متوتراً، وهو: كيف؟؟؟ كيف يمكن أن يعيش إنسان حياة السوامّ، في دنيا اليوم... في دنيا أصبحت لا تتوقف لحظةً واحدة عن الكلام.... وإذا كانت الدنيا هي هذا الكوكب الذي نعمره، واسمه الأرض، تتكلم ما لا حصر له من اللغات... ولا أعني لغات البشر من سكانها، وإنما لغات لا تنطقها الشفاه، ولا تتحرك بمخارجها الحناجر والألسنة، مع أنها تستطيع دائماً أن تُبين، وأن تُفصح، وأن تقول لنا فيما يشبه الإنذار، أن نفسح في أذهاننا، وفي مكامن الإدراك من عقولنا، ألوف الألوف من الصوامع، إذا كنا نصر على أننا بشر ولسنا سائمة ذاهبة على وجهها في قفار منقطعة عن الحياة والأحياء.
وإلا، فإن ما لا بد أن نُعدَّ أنفسنا له، هو الانحدارُ أو هو ((السقوط)) في جوفِ الماضي... وهو هاوية سحيقة الغور، إذا كان يطيب لشرائح من البشر أن يعيشوا فيها عمرهم كله، فلأنهم - على الأرجح - لم يستوعبوا بعد حقيقة أن المستقبل، والمستقبل وحده، كان ولا يزال وسوف يظل أبداً، خصيصة حياة الإنسان المتطور، وأعني الإنسان الذي يتطلع إلى أن يضيف إلى معمار الحياة ما يؤكد أنه حي مع الأحياء من بني الإنسان.
ويحاصرني الزمن، كما تحاصرني المساحة التي ينبغي أن لا يتجاوزها هذا المقال، فيسدان عليّ مجال الاستطراد، لأضرب الأمثلة على ما تقوله هذه اللغات التي لا تنطقها الشفاه، ولا تتحرك بمخارجها الحناجر والألسنة، ولكن حسبي - وحسب القارئ - أن يدور بناظريه، حتى في الغرفة التي يحبس نفسه فيها، ليرى أو ليسمع أن كل ما تقع عليه عيناه يفضي إليه بما فعله أو يفعله مسار التطور والتطوير في حياتنا. ولا يكتفي بواقعه المشهود، بل يزيد على ذلك أنّه لن يتوقّف.. وأن المشهود اليوم سوف يكون غيره غداً.. وكل آت قريب.
وممّا حمله إليّ البريد أو هو (الشحن الجوي) منذ أسبوع، أربعون مجلّداً ضخماً لواحد وعشرين عاماً من مجلة الرسالة.. ما كاد يراها ((أحدهم)) من أحفادي، حتى صفع جبهته بيده وهو يقول: (يا إلهي.. متى تستطيع ((يا سيدو)) أن تقرأ كل هذه المجلدات؟).. ولأول وهلة بدا لي سؤاله معقولاً.. ولكن سرعان ما تذكرت أن هذه المجلة في مجلداتها الأربعين هي نفسها التي كنّا نسرع إلى شرائها من مكتبة الحلواني في أول حي القشاشية بمكة فنتأبطّها لحظات، ثم تغلبنا الرغبة في تصفّحها، فنشرع في قراءتها ونحن نمشي في الشارع.. يوم كانت الشوارع آمنة لا يزعج المشاة فيها إلاّ العربة (الكارو)، يجرها بغل، أو حمار، ويعرف قائدها كيف يتجنّب أمثالي من الذين يراهم عاكفين على قراءة ما بأيديهم من الكتب أو الصحف، أو يقطعون الشارع من أحد جانبيه إلى الآخر، ليصافح صديقاً، أو ليدخل أحد أبواب الحرم، وقد سمع الأذان لصلاة الظهر أو العصر.. تذكرت - واستهولت في نفس الوقت - أن أكون، ورصفائي من الشيوخ قد قرأنا فعلاً أكثر أعداد مجلة الرسالة هذه، ومعها الرواية، وقبلها (السياسة الأسبوعية) وبعدها (أبولّو).. ووجدت نفسي أقول: (ما دام الأمر كذلك.. فما الذي أغراني بأن أسرع إلى طلبها واستيرادها من الكويت، وأن أحتار في المكان الذي ينبغي أن أضعها فيه من أرفف مكتبتي، التي تكاد تضيق حتى بشخصي) ثم.. تساءلت، وأنا أحكُّ فروة رأسي، وأطرق بجُمع يدي، قحف جمجمتي: (ترى - وأنت تزعم -، أن الصوامع في دماغك طافحة بالمخزون من حصاد.. ترى هل تذكر شيئاً.. شيئاً لا على التعيين مما قرأته فيها. في تلك الأيام). وطال تفكيري، قبل أن أجيب: بأني أكذب لو زعمت أني أذكر شيئاً معيناً، أو غير معين، ولكن لا شك أبداً في أن المخزون في أذهاننا، والذي يتدفق أحاديث، ومقالات، وأبحاثاً، وجدلاً ومناظرات، هو مما قرأناه واختزنته الصوامع في تلك الأيّام، وإلاّ، فمن أين لنا هذا الذي يضفي علينا بُرْدة الثقافة، ويضع على رؤوس بعضنا أكاليل الغار؟..) والتفتّ ألتمس حفيدي، لأقول له شيئاً عن هذا الذي دار بذهني، فلم أجده.. وضحكت.. على نفسي، في موقفي، وفيما يدور بذهني، حين تذكرت لحظتها أن التلفزيون يبث مباراة بين منتخبين وأن الأحفاد، ومعهم الأبناء، بل والبنات أيضاً، لا بد أن يتهمّوني بالخَرَف، إن لم يكن بما هو ألعنُ وأضل وأخبث، إذا أمسكت بهم حولي لأقول لهم طرفاً من هذا الكلام بينما صوت مذيع المباراة يكاد يتمزّق، وهو يصرخ (جول).
ومما حمله إليّ البريد هذا الأسبوع أيضاً، أحد كتب الشاعر (نجيب سرور) بعنوان (لزوم ما يلزم).. وقبل أن أفتح الغلاف على صفحات الكتاب، عشت لحظات ضبابية غائمة إذ تذكرت رحيله عن الدنيا دون أن أستطيع تحديد السنة التي رحل فيها.. ويوم كتبوا عن رحيله نشروا له - ربما في الأهرام - مقطوعة من شعره.. وقفت عندها طويلاً، ليس فقط لما سطع فيها من شعاع الشاعرية التي لن تموت.. وإنما لأني أحسست أن الشعر الحديث قد شق طريقه فعلاً إلى الحياة، وإلى دنيا الفن رغم كل ما ظل يعترض سبيله من جلاميد المقاومة والإنكار أو الاستنكار والرفض.
ولم يتح لي في الواقع أن اطَّلع إلاّ على القليل جداً من عطاء نجيب سرور، ولكن ما أكثر ما قرأت عنه بعد رحيله، ومن ذلك أن له مسرحية بعنوان: (قولوا لعين الشمس..) .. والذين يستمعون إلى الإذاعة يذكرون دون شك ((الشادية)) (شادية) وهي تغني أغنيتها الحلوة:
(قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. لحسن حبيب القلب صابح ماشي)..
وأنا أذكر، لهذا الشعر قصة لن تنسى، فقد حكوا أن شاعراً مجهولاً - عندي على الأقل - كتب أبيات قصيدة باللغة الدارجة، لحّنها ملحّن في التو واللحظة، يرثيان بها الشاب الذي قتل (السردار الإنجليزي) وقد حكم عليه بالإعدام.. وتقرر تنفيذ الحكم في صبيحة يوم من الأيام بعد الحكم.. تقول الحكاية.. إن الجماهير في مصر، نساء ورجالاً وصبية أصبحوا يغنّون هذه الأغنية.. فكأن الشعب المصري، كلّه، عاش أحزانه على رحيل ذلك الذي نفّذ فيه الاستعمار الإنجليزي حكم الإعدام.
ولعلّ قراء حصاد هذا الأسبوع لا يكرهون أن يقرأوا نموذجاً للشعر الذي لا أرفض أن يسمّى حديثاً، أو من شعر الحداثة، الذي طال حوله النقار، وهذا مع أني أعلم سلفاً أن الدكتور عبد الله الغذامي، والأستاذ سعيد السريحي، سوف يرفضان هذا النموذج، وسوف يجدان فيه مفاهيم ومضامين كثيرة، واضحة لا يتعذّر أن يستوعبها المتلقّي، وذلك هو ما يُسقط في منطقهما، أو (مصطلحهما النقدي)، قيمة كل شعر تتضح فيه المفاهيم والمضامين:
يقول الشاعر نجيب سرور في ديوانه (لزوم ما يلزم) في قصيدة بعنوان (العودة):
المرفأ المنشود لاحْ
أفرغ شراعَك، يا غريبُ، من الرياحْ
لَمْلِمْه.. كم ودَّ الشراعُ لو استراحْ
لو استراحْ
ودّع طيورَ البحر: (صعبٌ يا رفاقْ)
(صعبٌ على القلبِ الفراقْ)
ودّع طيورَ البحر.. كم راحتْ إلى الأفق البعيد
تشتمّ ريح اليابسة
لتعود لاهثةً.. ترفرفُ يائسة
((لا شيء بعد الأفق، يا ملاَّحُ، غيرَ الأفق.. كلُّ الكون بحر)).
وتنام مُجهدةً على الصاري - طيورُ البحر - أن هجم المساءْ))
وتظلُّ أنتَ بلا رجاءْ
ومتى فقدت برحلةِ الهول الرجاءْ؟
لا.. أنت لم تيأسْ، وإن أمَّلتَ دهراً لو يئستْ،
لو لم تكن أقوى من اليأسِ، تُرى كيفَ وصلتْ
* * *
وقد لا يضيق القارئ بنموذج آخر من قصيدة بعنوان (هم يقولون الكثير)..
يا سيدي.. كم دوّخونا بالجدَل
قالوا بأن الشعر مثل الحلم، أضغاثُ بلا معنى.. رموز..
هذيان محمومٍ.. تعاويذٌ لساحر
ورؤى بدائيٍّ، يرى الأشياءَ من أحداقِ طفلْ
بحراً هيولياً يموجُ بغير شكلْ
فمعارك الطبقاتِ شأنُ الاجتماع
ومعارك الأحزابِ من شأنِ السياسة
والفكر والأفكار شأن الفلسفة
وهلمّ جرّا.. ثم جرَّا.. ثم جرّا
هل بينهم من قال: إني لستُ شاعر
حاشاكَ.. ليسوا يجرؤون
بل هم لذكرك يسجدون
ويزخرفون بك المقالاتِ الطويلة
في غير داعٍ - أغلبَ الأحيان - بل ويقدمونَك
واللَّهِ في ثَبْتِ المراجع والفهارس..
مهذبون
حسناً.. أراهم يفعلون
والآن قل لي: حاقدٌ أنت عليهم أم عليّ؟
ـ يا شيخُ صبرَك..
لم يعدْ في الطوق صبر
صنفان هم: لا يقرأون
أو يقرأون.. ولا يعون
الفارغون
فليقرأوا لي (المأدُبة)
أقرأتَها؟
لا والذي حرم الحميرَ الجنزبيل
إني طهوت بها صنوفَ المعرفة
ودعوت كل الجائعين
((خبزي (ويكفي للألوف)
ولديّ ما زال الكثير
هذا هو الضوء الجديد
هذي هي الشمس الجديدة
اليومَ تبزغُ للوجود
من حيث غابتْ في الدجى الشمسُ العجوز
لا.. لا يضار الشعرُ أن يصبحَ خبزاً للجياع
هيّا بنا..
ونزلت، والشيخُ، الجحيم
حتى وصلنا تاسعَ الأدوار.. فانعقدتْ على الوجه الوضيء
سحبٌ من الحزنِ العميق
ومن المرارةِ والغضب
((هذا مقر الخائنين))
كم كنت تكرهههم
كما تكره لصاً يسرق القريةَ في ليلِ الحريق
منكوبةٌ، كانت (فلورانسا) بهم.. بالخائنين
يا ليت كانت للخيانة..
رأسُ.. إذنْ لقطعتُها
اضربْ معي.. اضرب على هذي الرؤوس
دُسْ فوقَها بالنعلِ.. دُسْ فوق المجوس..
(فليلعنِ اللَّه الخيانةَ.. والقوافي..
لا بد من لفظٍ على وزن الرؤوس..)
رحنا ندوس..
ولزوم ما يلزم، هذا الديوان الصغير، يجمع من شعر الشاعر ما يتيح لقارئه أن يطوف معه فيقف على محطّات ثقافته الواسعة، ومنها أبو العلاء المعرّي، وسيرفانتس، بفارسه (كيخوتي) وشوبنهاور، وفولتير، وموليير، و (صاحب الكوميديا الإلهية) - دانتي و (صاحب الإلياذة) - هوميروس، و (بايرون) وهذا إلى جانب همومه، كشاعر مصري، يعايش هموم بلده، ويجد فيمن يخاطبهم، أو يتغنّى بأفكارهم، من أعلام الفكر والفن، أصداء هذه الهموم، يرددها قلب تشعر أنّه طافح بالحزن، ولكنّه مع ذلك لم يتخلّ أو يتراجع عن شجاعته وجرأته في أن يجعل من هذا القلب بوتقةً تصهر هذا الحزن، فيتوهَّج شعراً من الحياة، وللحياة.
* * *
يبدو أنه ليس هناك ما يلزمني بالتنازل أو الاستغناء عن (حصاد الأيام) عنواناً لهذه الفصول حين أرى أو أسمع الإعلانات والأحاديث عن كتاب ينشر ويصدر للأستاذ الشاعر الصديق محمود عارف، بنفس العنوان. ولا أدري حتى الآن، إن كان كتاب الأستاذ محمود ديوان شعر أم مجموعة مقالات، مما كتب ونشر في أيام خلت، ولكن الذي أدريه يقيناً أن الأستاذ لم ينظر إلى عنوان هذه الفصول، يوم نشرت الأول منها في جريدة عكاظ الغراء منذ أكثر من ثلاثة شهور. وعلى أية حال فهناك فرق لا بد من التنبيه إليه، وهو أن كتاب الأستاذ ينشر ويدفع إلى الأسواق - مع تمنيات الرواج والانتشار - وهو (شحنة) جاهزة للتداول، بينما الذي أكتبه أنا تحت هذا العنوان، أقوم بعمليات إخراجه من الصوامع التي قلت إنها قائمة في الدماغ.. وعملية الإخراج، وإن كانت في الواقع من مخزون هائل تراكم طوال عشرات السنين، ممّا يكاد لا يعد ولا يحصى من سلع الفكر والفن والإبداع، إلى جانب سلع شتى من ذكريات، ومشاهدات ومواقف، فإن العملية تظل تفتقر إلى جهد يبذل للاختيار والانتقاء، والمراجحة والمفاضلة، بين ما يطيب عرضه، وما لا يطيب، وبين ما تقبله معد بعض القراء وما لا تقبله وتفضل أن يذهب مع الصحيفة التي تنشره، إلى سلة النفايات.
وهناك في عملية الاختيار والانتقاء هذه مشكلة قلّما عنينا بالالتفات إلى ضرورة حلّها وهي أن الكثير من هذا المخزون في الصوامع، إن كانت لم تفقده الأيّام نكهته العريقة أو هي المعتقة التي ما أكثر ما يتزاحم عليها أمثالي من أصحاب العكاكيز، فقد لا تكون هي النكهة التي يتوخّاها، ويفضّلها متذوقو الأدب، أو عشاق الحرف من أبنائنا الذين أرجح أنهم - من جانبهم - يتزاحمون على ما تتحفهم به (ملاحق) صحفنا اليومية، ونوادينا الأدبية، من ألوان لها النكهة التي يحبونها، أو أصبحوا يجدون فيها ما يفتح شهيتهم للإقبال على الزاد المختار من الغذاء الفكري، ولكن - مع التزامي جانب الحياد، فإني لا أتحرج أن أقول إن الألوان التي يتذوقها الكثيرون منهم قد تجاوزت حدّ القبول، وانفلتت من إطار معناها، كحوار محوره الإبْداع، لتأخذ حد ما يسمّى (الشياط) فيما ينسى على النار من أكلات يعالجها الطهاة عادة بما يسمى (التسبيك).. والأكلة التي تشيط، نادراً ما تجد مكانها على المائدة، وغالباً ما يكون مصيرها إلى صفائح وبراميل (الزبالة) لأنها تفقد صلاحيتها للاستعمال.
وهنا، لا بد لي من الاعتراف بأني قد أصبحت أؤثر الامتناع عن متابعة غوغاء الديكة التي تفسح لها الصحف مجال المنازلة، وما يشبه المزايدة في التماس سبل البراعة في استعراض العضلات، وذلك - من جانب الصحف - لغرض ملء فراغ الصفحات، وتخفيفاً من نوبة الثوباء التي تستولي على القراء مللاً وسأماً من هذا الذي يتكرر في كل صحيفة من صحفنا اليومية، وعدد الصفحات في كل منها لا يقل عن أربع وعشرين صفحة بالتمام والكمال. وأرجّح أن المسؤول عن الملحق، أو الصفحات الأدبية في الصحيفة، يلتمس السبل الماكرة إلى ما يثير ثائرة الديكة المتصارعة، بالمانشيتات على أكثر من ثلاثة أعمدة، وربّما بالصور، مع إبراز كلمات هذا بخط متميز. وذلك بخط أكثر تميزاً.. بحيث لا يملك القارئ إلاّ أن يعكف على القراءة، حتى ولو لم تكن له أي علاقة بالموضوع.
وقد استعملت كلمة (غوغاء) لأصوات الديكة في صراعها واستعراضها للعضلات، وأحسب أن الأستاذ العلاّمة الشيخ أبا تراب الظاهري لا يرضى عن هذا التجاوز، إذ لعلّه يرى أن (زقاء) هو اللفظ الملائم أو الصحيح، ويلحق به من جنسه، (النقنقة) و (القوقأة) لجماعة الدجاج. ولا اعتراض على ما يراه أبو تراب، إذ هو في عصرنا، وفي حياتنا، معجم لغوي متحرّك، يندر أن تجد له ضريباً أو منافساً في طول العالم العربي وعرضه، باستثناء مدينتي (شنقيط)، و (تومبوكتو) في موريتانيا، اللتين أسمع أن جميعَ سكانهما، حتى الشداة في سن الصبا، معاجمُ حيةٌ للّغة العربية، ومجلداتٌ بكاملها لمطوّلات علوم النحو والصرف، والبلاغة، مع الشروح الموسّعة التي قد لا تتواجد إلاّ في كبريات المكتبات العالمية. ولا أدري في الواقع إن كان ما سمعت حقيقة أو هو مبالغة من المبالغات المتداولة، ولكن أرجح أن المسألة تستحق أن يعنى بتحقيقها أو التحقق منها علماؤنا الأجلاء، وعلى ضوء النتيجة يصح أن تستفيد جامعات العالم العربي من إخواننا أبناء شنقيط، وتومبوكتو، كمراجع حيّة تغني عن العكوف على المعاجم، كما تستفيد منهم دور الصحف والنشر، لتصحيح النصوص، لغوياً ونحواً وصرفاً، عسى أن يكون في ذلك ما يحفظ للغتنا حيويتها، وقدرتها على مواجهة موجة (المصطلح النقدي)، وما يتفجّر من مضامينه الحديثة، التي تمخضّت عن البنيوية والألسنية، والنصوصية والأسلوبية الخ.. مما لا أشك في أنه يحتاج إلى المعاجم من جهة، وإلى الأعلام من علماء اللغة، لمحاولة شرحه، وتقريبه إلى الأذهان من جهة أخرى.
ومن العلماء الذين أتمنّى أن يتصدّوا لهذه المضامين، وأعتقد أنهم الأقدر على حسم صراع الديكة، حول الحداثة من جهة وحول (المصطلح النقدي) من جهة أخرى، الأستاذ عابد خزندار.. وحين أعتبره من العلماء، وأعرض عليه هذه الأمنية، فإني أنتزع له هذه الصفة أو المكانة مما أقرأ له من مشاركات أنتقل بها من جريدة الشرق الأوسط إلى جريدة الرياض.. وقد لا يرضى الكثيرون من الذين تُصدِّرهم الملاحق الصحفية كمراجع للقول عن هذه المضامين، عن أن أضع الأستاذ عابد خزندار في (صنف) العلماء، وأن أتمنى عليه أن يتطوّع مشكوراً، لمحاولة الحسم هذه التي أصبحت ملحّة، إن لم يكن لإضاءة الساحة وتبديد ما أصبح يلفها من الضباب، فليتاح للكثيرين - ومنهم كاتب هذه السطور - أن يجدوا في الملاحق، وفي صفحات الثقافة والأدب، شيئاً أفضل من غوغاء الديكة حول ما يبدو لي تافهاً، مضيعاً للوقت، ومشوّهاً للانطباع الذي لا بد أن يترسّخ في الأذهان عن الحركة الأدبية عندنا.
والأستاذ عابد خزندار، فيما أقرأ له، يتميّز بأنه لا يصدر من فراغ، ويندر أن يأتي برأي من آراء الأعلام الذين يقرأ لهم في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، إلا وقد قرأ واستوعب، وكوّن رأيه الشخصي موافقاً، أو رافضاً، أو موفّقاً بين رأيه وبين رأي العلم من الأعلام الذين يقرأ لهم.
ولذلك فإني لا أشك في أنه جدير بأن يحتل مقعد الحكم التُّرضى حكومته، فيقول لنا، مثلاً، شيئاً عن حكاية (التجريب) التي لا أذكر الآن من الذي طرحها في إحدى الصحف وجعل منها مجالاً تستعرض فيه العضلات، مع أن المسألة كلّها ليست أكثر من أن كل عمل يمارسه الإنسان لأول مرة لا يستغني عن التجربة أو (التجريب).. ولكن الذين استعرضوا عضلاتهم أسبغوا على الموضوع ما جعله يبدو فلسفة، وأدباً وإبداعاً وما إلى ذلك مما يستطيع الأستاذ عابد أن يعود إليه إذا شاء.
ومع اقتناعي بأن الأستاذ عابد يملك الوقت الذي يتيح له أن يتفرّغ للموضوع، وأن مكتبته عامرة بالمصادر والمراجع التي يرجع إليها فيما سوف يحتج به من آراء تحسم الكثير مما (يتفصّح) أو (يتعالم) به هذا أو ذاك من الذين يملأون فراغ الصحف، فإني أحب أن أطرح عليه ملاحظة، لا أستبعد أنه سيحسن تبريرها، وهي أنّه أخذ يذكرني بالكاتب الذي اقتحم أذهان المثقفين عندنا وفي العالم العربي، بكتبه التي نقلت إلى العربية وتهافت عليها القراء، وأصبحوا (يتفصحون) و (يتعالمون) بالإسناد إلى أقواله.. وأعني (كولن ويلسن) وعلى الأخص في كتابه الذي ظهر في العربية باسم (اللامنتمي). يذكر الأستاذ عابد أن كل صفحة من أي كتاب لكولن ويلسن، كانت لا بد أن تسند رأياً إلى مجموعة من العلماء والكتّاب والشعراء.. بحيث عندما لفت نظري هذا الحشد الهائل من المراجع لأصحابها من العلماء والأدباء، عنيت بأن أجمع عددهم، لأجد أن الكاتب قد أعطى القارئ فكرة عن أنه اطّلع وقرأ واستوعب وفهم وهو يناقش في كتابه مئات من المراجع لمئات من مؤلّفيها.. وأعترف بأني شعرت بغيظ الحسود.. إذ كيف تسنّى لكاتب في عمره أن يقرأ كل هذا الحشد من المراجع لأصحابها. الزمن الذي يحتاجه لقراءة كتاب واحد، من الكتب التي يسند إليها، لا يقل - أو يجب أن لا يقل عن أسبوع مثلاً.. فبأي معجزة استطاع أن يقرأ ما يستغرق سنوات؟
ولكن، لم تمض إلاّ فترة قصيرة من معايشتي لحالة غيظ الحسود هذه، حتى (وجدتها).. وهي مراجع لا شك أن الأستاذ عابد يعرفها، تقدم للقارئ معلومات مركّزة وصحيحة ومستوعبة الكاتب، أو العالم، ليس في إنجلترا وحدها، وإنما في العالم من أقصاه إلى أقصاه.. ولا يعاب كولن ويلسن في أن يعتمد على مثل هذه المراجع، لأن هذا هو الطبيعي والمعقول فعلاً، ولكن قد يؤخذ عليه أنه لا يذكر أنّه اعتمد عليها، وأن يترك القارئ مع وهم أنه أمام قارئ أسطوري يندر أن يوجد له مثيل، إلا إذا صحّت النظرية القائلة إن نظرة العينين على الصفحة من كتاب تكفي لطبع كل كلمات الصفحة في الذهن، تماماً كما يتم طبع الصفحة في المطبعة.. وهو ما لم يظهر ما يثبته حتى الآن.
كلا.. لا أعني أن الأستاذ عابد خزندار يعتمد على هذه المراجع فيمن يسند إليهم من الكتّاب والأدباء في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، لأني أعرف من خلقه أولاً، ومن ثقافته القوية الواسعة ثانياً، ما يجعلني موقناً أن من يذكرهم قد قرأ لهم واستوعب وفهم منهم، ولكن الذي أعنيه أن معدة القارئ - عندنا - ليست دائماً قادرة على هضم كل هذا العلم.. فحبذا لو أنه - في مقعده للحكم - يقدر حال هذه المعدة فيترفق في الاستشهاد والإسناد وذكر ما يذكره من أسماء العلماء والأدباء، وكذلك من المصطلحات، في اللغتين.
وبعد.. فإن عابد خزندار.. وأمثاله إن وجدوا.. وأرجو أن يوجدوا، ثروة لنا أن نباهي بها.. وأن نفسح لها مجال العطاء، وبعيداً عن صراع الديكة الذي لا يزال يملأ الملاحق وصفحات الثقافة والأدب.
كان حريق المسجد الأقصى واحداً من أبشع الجرائم التي ارتكبتها، ولا تزال ترتكبها عناصر العدو الإسرائيلي، وكان أول مؤتمر قمة إسلامي الذي انعقد في الرباط عاصمة المغرب الشقيق، هو صيغة الإجماع الإسلامي على استنكار العمل الوحشي، كما كان البداية لمؤتمرات تلاحقت، وكان آخرها مؤتمر القمة الإسلامي الخامس في دولة الكويت الشقيق.
وأي مؤتمر قمة عربي إسلامي يظل تعبيراً عن مشاعر وطموح، وتطلعات الشعوب، التي يمثلها عضو هذه القمة من الملوك والرؤساء، وقد لا يتسع المجال في مثل هذا المقال لاستعراض النتائج التي حققتها هذه المؤتمرات، في مواجهة القضايا الكبرى، التي يفترض أن ينعقد المؤتمر، إن لم يكن للوصول إلى حلول لها، فللشروع - على الأقل - في التقدم نحو محاولة هذه الحلول، ولو على مراحل يمكن أن تمتد سنوات.. وقد لا يُقبل من أي كاتب أن يتجاهل أهمية القرارات، أو التوصيات، أو الاقتراحات، التي تطرح على أعضاء القمة، في اجتماعاتهم المفتوحة أو المغلقة، ولكن تظل بعض الحقائق تُمارس ما يُشبه الوقوف في (الطابور) في انتظار أن تتناولها الأقلام بالبحث، بعيداً عن النقد، ولكن في تواؤم مع أهمية انعقاد المؤتمر من جهة، ومع مشاعر وطموح وتطلعات شعوب الدول التي حضرت هذه القمة من جهة أخرى.
ومن هذا التواؤم - على سبيل المثال - التساؤل المنطقي عن الجهود التي بذلت وتبذل، لتنفيذ بعض القرارات، إن لم يكن بالنسبة لقضيةٍ كبرى وشديدة التعقيد، كقضية الحرب بين العراق وإيران، فبالنسبة لقضايا أخرى مطروحة على بساط البحث، بلغ من ضخامتها وتشعب مشاكلها وعُقَدها، أن أصبحت مألوفة، يقلُّ فيها عنصر الجدة، التي تستفز المشاعر وتستثير الرغبة في الحسم، ومنها (قضية عروبة القدس).. أو هي قضية القدس التي لم يلتفت العدو، ولم يبال، بكل صيحات الإدانة والاستنكار، بل وحتى بقرارات الأمم المتحدة، فأعلن اعتبارها عاصمةً له، وكخطوة تلاحقت بعدها خطوات، صريحة ومكشوفة بل ومعلنة على رؤوس الأشهاد، عن تغيير الكثير من معالمها، ومنها الأسواق العربية القديمة، والمواقع التي تحفظ للمدينة طابعها العربي الإسلامي العريق، بحيث يكاد من يرى القدس الآن لا يعرف الكثير من أحيائها التي نُسفت، بعد طردِ سكانها العرب عنها.. وهذا مع الاستمرار الذي لم يتوقّف قط، في الهدم والإزالة، وبناء الجديد من العمارات السكنية، التي سرعان ما تمتلئ بالسكان الصهاينة، وذلك - كما هو معلوم - تنفيذاً لسياسة (الأمر الواقع) الذي يخطط العدو، وبشكل سافر، لمواجهة أي محاولة تظل محتملة، لتخليص القدس من براثن الاحتلال، واستعادتها عربية، كما كانت أو كما يجب أن تكون، في مستقبلها المرتقب الممتد.
كان حريق المسجد الأقصى، في القدس، هو الباعث الأول لعقد أول مؤتمر قمة إسلامي وكان من مقررات ذلك المؤتمر - إضافة إلى الإدانة والاستنكار الخ.. - أن تصبح قضية فلسطين كلها قضية إسلامية، بمعنى أن تضطلع الدول الإسلامية كلها بمسؤولية العمل للقضية ككل، ومنها عروبة أو إسلامية القدس. وقد لا تخونني الذاكرة، إذا قلت إن من قرارات تلك القمة الدعوة إلى (الجهاد) بمفهومه في العقيدة والشريعة الإسلامية.. والدعوة إلى الجهاد في وقتها وجدت أصداءَها في بلدان إسلامية، وكان من الممكن - جداً - أن تتوافر أعداد هائلة من القوى البشرية المسلمة التي تناقلت الأخبار استعدادها للتطوع والانطلاق إلى ساحة الجهاد حيثما توجد، إذا اضطلعت الدول الإسلامية بمهام التسليح والتدريب، ثم النقل والمواصلات، والتموين الخ.. وأكثر من كل ذلك أن صدى الدعوة كان قوياً، على صعيد العالم، ومنه الغرب، وفي المقدمة منه الولايات المتحدة الأمريكية. والذين يحتفظون بمعلومات عن ردود الفعل في الصحافة الأمريكية والأوروبية يستطيعون أن يذكروا القراء بما جاء في هذه الصحف، وهو كثير أكد أن الدعوة إلى الجهاد كانت هزّة قويّة ربما حسبوا لها ألف حساب.. ولا أحتاج أن أقول إننا لم نستثمر تلك الدعوة، في استجابة الشعوب الإسلامية لها من جهة، وفي تحسّب الدول في الغرب والشرق لها من جهة أخرى.. وكان لا يزال السبب في التخاذل من متابعة الدعوة، واستثمار أثرها الفعّال في حينه، هو نفس أسباب التخاذل القائمة بين هذه الدولة وتلك، نتيجة للاختلافات الهامشية السخيفة، التي تغذّيها وتؤرّثها في الخفاء دول لم يعد مستوراً، ولا غائباً عن الإدراك، أن مصلحتها أو مصالحها الكبرى تتحقق ببقاء الوضع العربي، على الأخص، على ما هو عليه من تمزّق وتفتّت، وتباعد، رغم كل ما يتعالى من صيحات الدعوة إلى التضامن والإِخاء والوقوف صفاً واحداً، أمام ما أصبح (مجموعة من الأعداء) منها (إسرائيل).
والقدس جزء من قضية فلسطين، ولا شك بالطبع في أن تجزئة الحلول في هذه القضية مستحيل، وغير منطقي، وقد لا يفكر فيه أحد، بمعنى أننا لا نستطيع أن نتصور احتمال حل القضية الفلسطينية على مراحل، كتلك التي تم بها حل قضية شبه جزيرة سيناء في عودتها إلى مصر وإنهاء احتلالها. ولكن المشكلة في القدس أن لها تركيبة مختلفة.. إذ هي عربية من وجهة نظرنا، وكحقيقة تاريخية مسلَّم بها حتى على مستوى العالم، بينما هي ليست إسرائيلية وتزعم إسرائيل أنها عاصمتها، وقد شرعت في ترسيخ ادعائها منذ اللحظات التي كانت قواتها تهاجم القوات العربية التي تدافع عنها في حرب الخامس من يونيه عام 1967. وفي مقال لرئيس تحرير مجلة المستقبل، نجد أن أهل القدس، (يعتبرون أن لا شيء يحرر القدس إلاّ بقاؤهم فيها.. إلاّ صمودهم فيها..) ويضيف الأستاذ نبيل خوري: (من يموت فيها يكون قبره شاهداً على عروبة القدس.. ومن يولد فيها تكون ولادته شهادة على استمرار عروبة القدس..) ويتساءل: (ولكن إلى متى؟) ثم: (ماذا فعلنا نحن وقممنا - جمع قمة - ومؤتمراتنا لدعم صمود القدس وعرب القدس)؟.
وليس أشد إيلاماً ووخزاً للوجدان العربي، والإسلامي من قوله: (يكاد يصبح الاستجداء هو الشعار الذي سيرفعه أبطال القدس.. لم يبق مدير مستشفى أو ميتم أو مدرسة خاصة، إلا وحفيت قدماه وهو يتجوّل في عواصم العرب طالباً العون، والغوث والإغاثة، قبل أن نغلق أبوابنا).
ولا يفوت الأستاذ نبيل خوري أن يقول (مشكورة الحكومات التي تدفع.. ومشكورة الهيئات التي ترسل.. ومشكورة اللجان التي تشرف.. ومشكور كل شخص - وهم كثر- تبرّع لهذه الجامعة وذلك المستشفى أو الميتم).. ولكن:
ولكن ماذا عن الشعب العربي؟ أين هو الصندوق العربي الشعبي، الذي يتبرع له كل مواطن عربي، وبأي شيء لدعم الصمود في الضفة؟
والشعب العربي.. والصندوق العربي، فكرة عرضها الأستاذ نبيل خوري عرضاً مختصراً، كأنّه الخاطرة التي أملتها اللحظة التي كتب فيها المقال.. ولكنّها في الواقع الفكرة التي أشعر أنها جديرة بأن تسلّط عليها الأضواء، وأن يبذل في سبيل تحقيقها الكثير من الجهد المدروس، على جميع الأصعدة، في كل بلد عربي، وفي المقدمة من بلدان العالم العربي والإسلامي، المملكة العربية السعودية، وشعبها العربي المسلم، الذي يستطيع أن يأخذ زمام المبادرة، بإقامة الصندوق العربي السعودي، الذي يتبرع له كل مواطن بما يستطيع شهرياً أو سنوياً، وباستمرار، ودون انقطاع. ولنا أن نتصور المبالغ الضخمة التي تتجمّع في هذا الصندوق إذا فرضنا أن مليوناً من المواطنين في المملكة يتبرع كل منهم بخمسة ريالات فقط في الشهر.. هذه خمسة ملايين في الشهر الواحد.. وهي ستون مليوناً في السنة. فإذا وجد مثل هذا الصندوق في بلدان عربية وإسلامية أخرى، فإن ما يتجمّع لن يقل بحال عن مئات الملايين.. أجل مئات الملايين، التي لا شك في أنها سوف تحقق صمود أهل القدس، بل وجميع سكان الضفة الغربية وقطاع غزّة، أمام عمليات الطرد والتشريد التي يمارسها العدو، وبتبرعات وأموال بيوت المال الكبرى، ومعها أثرياء العالم، من اليهود وغير اليهود، لبناء المستوطنات الذي لم يتوقف قط، ولن يتوقف، ما دام الغرض المبيّت هو ابتلاع كل شبر من الأرض المحتلة ومحو كل أثر لإنسان عربي فيها قد يكون مصيره المحتوم هذا المحو والإفناء بالتشريد والطرد ما دام هذا حاله مع الشعب العربي، بل والشعوب الإسلامية، التي لا تزال لا تملك من العون والدعم إلاّ قرارات التنديد والإدانة والاستنكار.
* * *
وبمناسبة طرح فكرة (الصندوق العربي) لدعم صمود العرب والمسلمين من سكان القدس والأرض المحتلة من فلسطين.. يبدو لي أن شريحة من الذين أغدق الله عليهم من نعمه، وتوافرت لهم القدرة على عمل الخير، ينفقون مبالغ كبيرة وطائلة، في بناء المساجد التي يختارون لها المواقع المتميّزة، والتصاميم الهندسية الرائعة، بحيث يبدو المسجد تحفة جمالية، لا تنقصها الإضاءة المصمّمة بطريقة تظهر روعة التصميم والشكل الهندسي البديع في الليل.. وهذا عمل صالح لا شك أنه يستحق التقدير والشكر والعرفان.. وسوف يظل يحمل اسم الباني الذي يكتب الله له ثواب عمله الجليل في كل صلاة من الصلوات الخمس التي تقيمها جماعة المصلّين فيه.
لا شك أن عمارة المساجد طلباً للثواب من أعمال البر المطلوبة من القادر عليها والمشكورة في نفس الوقت.. ولكن، إلى جانب بناء المساجد، هناك أعمال بر أعتقد أن ثوابها عظيم، وأثرها في المجتمع عميق وهام إلى أبعد حد.. منها على سبيل المثال المشروع السكني الخيري في مكة المكرمة الذي يشرف عليه الأستاذ صالح التويجري، رئيس مجلس إدارة مدارس دار الحديث الخيرية.. الذي قال (إن المشروع تم إنشاؤه على نفقة المحسنين ويتكوّن من عمارتين، كل عمارة من عشرة أدوار تضم مائة وعشرين شقة مزوّدة بمصاعد كهربائية، فيما خصص الدور الأرضي لإقامة محال تجارية ينفق ريعها لصيانة المشروع).
ومن أعمال البر الكبيرة التي أتمنى أن أسمع عنها وأراها كما أرى المساجد التي انتشرت في مواقع رائعة من جدة.. من هذه الأعمال بناء المدارس للبنين والبنات وعلى الأخص في المناطق التي لم يأت الوقت أو الدور لتزويدها بالمباني المدرسية المعقولة.. صحيح أن التعليم بجميع مراحله مسؤولية وزارة المعارف، والرياسة العامة لتعليم البنات، ولكن هذا لا يمنع بأية حال أن يقوم الذين أغدق الله عليهم من نعمه ببناء المدارس وإهدائها إلى الدولة كمساهمة في جهدها المتواصل الكبير، للتعليم.. إن الذين ينتفعون من هذه المدارس الحكومية، أبناؤنا وبناتنا.. تتكفل الدولة بتعليمهم، ولكن ما الذي يمنع أن يتكفل القادرون من المواطنين على بناء المساجد، بإنشاء مباني المدارس، لمختلف مراحل التعليم، وتتكفل الدولة من جانبها بالمدرّسين، والخدمات الخ..؟
أسمع أحياناً من البعض شكاواهم من سوء حالة بعض مدارس البنين، والبنات، لأنها مبانٍ مستأجرة تنقصها الصيانة والملاحقة بالتجديد والإحلال، بل وتنقصها أبسط مستويات النظافة، وعلى الأخص في المراحيض، والمماشي، دع عنك أجهزة التكييف التي تتوقف لأسباب تافهة، ولا تحتاج إلا إلى القليل من الإصلاح والصيانة، ولكنها تترك واقفة، ولا تمتد إليها يد بالمعالجة، ولا بالاستبدال.. ويعيش الصغار، أو الشباب والشابات معركة الحر الشديد أو البرد القرص، ولا حياة لمن ينادون..
أفليس من الممكن أن يساهم أولياء أمور الأبناء والبنات، بالإنفاق على الصيانة والنظافة، والأحلال، بالنسبة للأجهزة الخربة، أو حتى الكراسي والمقاعد المهشمة.. أليس الأبناء والبنات أبناءنا وبناتنا الذين نسميهم فلذات أكبادنا؟
إلى متى؟ إلى متى يظل شعارنا أن الدولة هي المسؤولة، حتى عن تأمين لوح الزجاج الذي هشَّمه الهواء في يوم مطير؟
ترى من الذي رسّخ في عقولنا ووجداننا أن الدولة هي المسؤولة عن كل شيء، وليس علينا نحن المواطنين، إلاّ أن نأخذ.. وبتغول وشراهة وبلا حدود؟
تلك ظاهرة أعتقد أنه قد آن الآوان لمعالجتها.. ولا نعجز أبداً عن العلاج إذا توافر لنا القليل جداً من الوعي.
* * *
قرأت للأستاذة نورة خالد السعد، في جريدة الرياض، مقالاً عن الطفولة، ومهزلة القسوة، والاعتداء على الأطفال، ولعلّي لا أخطئ إذا قلت إن الأستاذة نورة كانت تنظر إلى مقال أو تحقيق نشر في السانداي تايمز، عن تلك الجمعية التي أقامت في لندن أو في بريطانيا ما سمّوه (خط الأطفال - Child-Line) وهو خط تليفوني يتصل عبره الأطفال بالجمعية لإبلاغ المسؤولين فيها عمّا وقع أو يقع عليهم من صنوف الاعتداء والقسوة، بل والتعذيب الرهيب.. والمفروض أن يخبر الطفل الجمعية عن اسمه وعنوانه، ليتاح على ضوء هذه المعلومات للمختصين في الجمعية، أن يتخذوا الإجراء الملائم، ومنه إشعار سلطات البوليس المختصة للتدخل بما يفرضه أو يسمح به القانون في مثل هذه الأحوال.. ولكن كانت المشكلة التي واجهتها الجمعية، أو واجهها (خط الأطفال) هذا، أن الأطفال يقصون شكواهم، ويصفون ما يلقونه ويتعرضون له من الاعتداء، والتعذيب، ولكنهم نادراً ما يجرؤون على ذكر أسمائهم أو عناوينهم، أو حتى أسماء الذين يمارسون الاعتداء والتعذيب عليهم.. والسبب الذي يذكره التحقيق، هو أن المساكين واقعون تحت حالة إرهاب تنذر بأضعافِ أضعافِ ما يجدون من عذاب إذا ما تورّطوا في الإفصاح عن اسم المجرم وعنوانه.. وبذلك تقف الجمعية مكتوفة اليدين، وتشرع في التماس السبل للوصول إلى المجرمين.
والأستاذة نورة خالد السعد تجنّبت تحديد نوع الجرائم، أو أنواع انتهاكات القسوة والتعذيب، وربما كان ذلك لأن الكلمة التي استعملتها كاتبة التحقيق في الجريدة، وهي: (Abuse) فضفاضة مائعة، يمكن أن تعني أبشع أنواع ومستويات الجريمة، كما يمكن أن تعني مستويات وأنواعاً أقل بشاعة.. ولكنها على أية حال جريمة اعتداء على أطفال أبرياء.
ولكن من الحقائق المذهلة التي تقشعر لها الأبدان، أن من هذه الجرائم وهي الأكثر شيوعاً، الاغتصاب الجنسي، يقع على الأطفال، إناثاً وذكوراً، وفي أقل من سن الخامسة.. وما لا يصدقه عقل، أن الذين يمارسون هذه الفعلة الشنيعة مع هؤلاء الأبرياء وفي هذه السن، هم أزواج الأمهات.. والأخوة البالغون، ولكن الأكثر بشاعة وقذارةً وخِسّة، أن من الذين يمارسون هذه الجرائم أيضاً الآباء.. بل والجد العجوز.
تقول محررة التحقيق - واسمها بالمناسبة، أسذير - إنها تلقّت رسالة لم تر ما يمنع أن تنشر نصّها الذي يزيح الستار عن حقائق، لا يكفي بأن توصف بأنها بشعة أو قذرة.. تقول كاتبة الرسالة: (أرجو يا عزيزتي أسذير، أن تقرأي هذه الرسالة وأن لا تلقيها بعيداً عنك.. إني أضطجع الآن على السرير، وأكتب بأقصى سرعة ممكنة توجساً من أن يجيء (أبي) فيضبطني أكتبها)، ثم تبدأ قصتها التي يضيق مجال هذا المقال عن سردها بما فيها من التفاصيل منذ كانت في السابعة من عمرها - وهي الآن في التاسعة عشرة - ولكنها تعترف بأنها لا تجد الشجاعة الكافية لتفضي بالحقائق. ومنها - وباختصار - أن أباها، في تلك السن، قد بدأ ممارسة العبث الجنسي معها وأنذرها بأن لا تخبر أحداً بما يقع منه: (وسافرت أمي لقضاء إجازتها في الخارج عندما بلغت الرابعة عشرة.. وعاود أبي اعتداءه عليّ، وأعفيكم من ذكر التفاصيل التي أخذت تتكرر كل يوم.. أحياناً كنت أصرخ متوسلة إليه أن يتركني.. فإذا تركني لحظتها، يعود ليقول: إنّه لا يملك القدرة على الامتناع عني.. ولا بد له أن يفعلها).
وتقول محررة التحقيق، في خط تليفون الأطفال هذا: ترى.. ما الذي يحملنا على أن نصدق قصة بنت بكل هذه البشاعة والنكر؟ وتجيب: لأننا تلقينا (3000) ثلاثة آلاف قصة، في كل منها صدى الألم والخطيئة، والاشمئزاز. وتضيف المحررة: (وفي عرض خاص، وجهنا إلى مشاهدي برامج الـ (B.B.C) تساؤلاً عن تجاربهم الشخصية وعن القسوة في مرحلة الطفولة، وأن يصفوا الحوادث، وكان 90% (تسعون في المائة) من هؤلاء يقصون علينا ما عانوه من ممارسة الجنس التي تعرّضوا لها من أعضاء الأسرة. وتضيف المحررة: (إن الطفلة التي مارس معها أبوها العبث الجنسي في تلك السن، تتعرّض لنفس العملية بعد ذلك مع أي قريب من الذكور).
ومن أشد المعلومات التي يقدمها التقرير بشاعة، أن مليوناً وخمسمائة ألف طفل يعانون الآن في بريطانيا مما يقع عليهم من القسوة، والعنف والإرهاب، ومن ممارسة العمل الجنسي، بل إن واحداً من كل عشرة أشخاص من السكان في بريطانيا، لم يفلت من هذا السلوك الوحشي في طفولته.. وليس هذا فحسب، وإنما الواقع في كل فصل مدرسي للأطفال - مكوّن من ثلاثين طفلاً - هناك ثلاثة يعانون من هذا الإجرام.
والتفاصيل كثيرة مقرفة ورهيبة، أعتقد أن الأستاذة نورة خالد السعد قد تجاوزت عنها حياء، أو اشمئزازاً، كما أجد نفسي مضطراً إلى تجاوزها أيضاً، لأضيف أن مجلة (تايم) الأمريكية، كانت منذ سنتين، إذا لم تخنّي الذاكرة قد نشرت تحقيقاً مطولاً، عن الجرائم التي يرتكبها الآباء، والأجداد، والأعمام، والأخوة الكبار، مع الأطفال في سن تقل عن الخامسة، وما فوقها، والأكثر بشاعة وتوحشاً أن في أميركا مدارس أو رياض أطفال، تتاجر في (دعارة) أطفالها، لقاء مبالغ مجزية تحسب من واردات ومصادر تمويل هذه الرياض. والأعجب بعد ذلك، أن الآباء والأمهات وأولياء الأمور، لا يصدقون شكاوى الأطفال، لأن إدارة الروضة تعرف كيف تتصرف، بالطرد والحرمان من العودة إلى الروضة.
وبعد.. فالقارئ، لا بد أن يسألني: ما هو الغرض من نشر هذه المعلومات، فأبادر إلى الرد في إيجاز.. لأقول: إن سنوات الطفرة في المملكة، قد أفرزت شريحة من المجتمع، لا أملك تقدير عددها، أصبحت قادرة على أن تجد سبيلاً للخلاص من عناء تربية أطفالها في المنزل، وفي أحضان (الأم المشغولة بالحفلات والزيارات والتليفونات). بأن تدخل الأطفال في رياض الأطفال، في إنجلترا، أو فرنسا أو أمريكا، وبحافز سخيف هو أن ينشأ الطفل بارعاً في اللغة الأجنبية، وبالسلوك الأرستقراطي الخ.. ويدخل في حساب هذه الشريحة أطفال أبنائنا الذين يدرسون أو يعملون في هذه البلدان، وتضطرهم ظروفهم إلى اللجوء إلى إدخال أطفالهم في رياض الأطفال، التي تجد من يثني أعطر الثناء على برامج التربية والتعليم فيها.. وليس لي أن أزعم أن جميع رياض الأطفال في الخارج مباءات لهذه الجرائم، ولكن من الذي يستطيع أن يزعم أن ما يسمع من الثناء على بعضها، لا يستر الكثر البشع من النوع الذي تضمّنه التحقيق؟.
* * *
والاعتداء على الأطفال في إنجلترا وأميركا ظاهرة تستفحل، وأبشع ما فيها أن أكثر حالات الاعتداء شيوعاً، هي اغتصاب الصغيرات جنسياً.. وبين يديَّ، خبر نشرته السانداي تايمز أيضاً عن مقتل بنتين إحداهما في العاشرة من عمرها والأخرى في التاسعة.. غابتا أكثر من 22 ساعة ليُعثرَ على جثتيهما في حديقة عامة. وقد قتلتا خنقاً، بعد اغتصابهما جنسياً.. وبطبيعة الحال كان دافع القتل، هو التخلص من الوقوع في قبضة الشرطة.. وكثيراً ما علّل علماء النفس لأمثال هذه الجرائم بأنها مرض نفسي، أو تشوّه سلوكي له أسبابه الكثيرة.. ولكن حين ترتفع نسبة المجرمين من هذا النوع، فإن الملاذ، للمقاومة الجادة، لا بد أن يكون الردع الحاسم والصارم، ولا أرى ردعاً أقل من الحكم بالإعدام، حتى ولو لم تُقتل الصغيرة التي يقع عليها الاغتصاب.
* * *
في أميركا عدد كبير جداً من الكتّاب، والأدباء والشعراء، الذين يعطوننا الوجه أو الواجهة الحضارية، التي تتقدّم، أو تحاذي على الأقل ما يبهرنا من التقدم العلمي والتقني في عشرات أو مئات المجالات.. من هؤلاء الكتّاب، اثنان هما: (ألفين.. وهيدي توفلر). يقول تحقيق موسّع نشرته السانداي تايمز عنهما، إنهما مؤلفا كتابين، أحدهما بعنوان (صدمة المستقبل) والآخر: (الموجة الثالثة).. وكتاب (صدمة المستقبل) نقل إلى اللغة العربية منذ عام 1974، وقدمه إلى قراء العربية الدكتور أحمد كمال أبو المجد الذي كان وزيراً للإعلام ولا أدري شيئاً عن مدى انتشاره بين المثقفين في العالم العربي. ولكني أميل إلى ترجيح أن عدد الذين عُنوا بقراءته ربما لا يزيد على مئات قليلة، وقد يكون السبب ارتفاع ثمنه. ولا أظن أن هناك من عُني بنقل الكتاب الآخر (الموجة الثالثة) إلى العربية.. مع أن التحقيق الذي نشرته السانداي تايمز يقول إن الكتابين قد نقلا إلى أكثر من ثلاثين لغة، وكان لهما تأثيرهما على أفكار ((قادة العالم))، من واشنطن إلى لندن، ومن باريس إلى بيكين.
وليس هذا هو المهم في التحقيق، وإنما المهم هو أن الكاتبين انضمّا إلى فريق من الكتّاب المستقبليين (Futurologists) والفنانين، والعلماء من جميع أنحاء العالم، انعقد اجتماع أو ندوة في آسيا الوسطى السوفيتية، دعا إليها الكاتب السوفيتي (جينكيز ايتماتوف) لبحث (دور المثقف) في عالم يدب نحو القرن الواحد والعشرين.
يقول التحقيق إن هذا التجمع الأكاديمي انتهى إلى دعوة مفاجئة وجَّهها (الكريملين) لحوار أو بحث موسّع مع ميكايل جورباتشوف نفسه.
ولكم كان مما يفيد قراء صحفنا اليومية ومجلاتنا التي لا أدري كم بلغ عددها مع المجلات التي تصدرها بعض الوزارات والمصالح والغرف التجارية، لو أنها عنيت بنقل الحوار بين هذا التجمع من الكتّاب، وبين جورباتشوف. ليس لنلمس نبض التغير الحذر في الاتحاد السوفياتي بقيادة تعتبر شابّة وأكثر حيوية وتفاعلاً من أولئك الذين ظلوا يهيمنون على نظام الحكم وعلى الحياة كلها، بما فيها العلاقات السياسية بالعالم، ومنه الرأسمالية الأمريكية والذين يدورون في فلكها، وإنما لنستوعب نموذجاً للعمل الصحفي الطموح الذي لا يجد ما يمنع أن يحاور ويناقش، ويسمع التفسير، ثم يفضي بما يناقضه أو يظهر ما فيه من انحراف، وما في هذا الانحراف من تأثير معوّق وضارّ على الجماهير، في المسيرة التي لا يزال يقودها أولئك الذين رقدوا في قبورهم منذ أكثر من نصف قرن من الزمان.
يقول الكاتبان في هذا التحقيق، إن جورباتشوف - كما رأياه - برهن في الحقيقة، على أنه كما ظلّت تصفه الصحافة في الغرب. ذكي.. ودود سريع الألفة مع المثقفين وبارع في تجنّب الحرج فيما يندفع إليه المحاورون من أسئلة. وإن وراء ما يبدو من ظرفه ولباقته تكمن الشخصية المؤثرة التي تعوّدت أن تقود وتأمر. وهما يعيدان إلى الأذهان ما وصفه به جروميكو الذي قال ذات مرة عنه: (أيها الرفاق.. لهذا الرجل ابتسامة لطيفة، ولكن له أنياب أسد).
وفي الحوار حول: (دور المثقف)، قال جورباتشوف، إنّه قرأ جميع أعمال ((جنكيز ايتماتوف)) وهو واحد من أعظم كتّاب الاتحاد السوفياتي. وإذْ كان (آرثر ميللر) بين أعضاء التجمّع، قال جورباتشوف إنه قرأ أعمال الكاتب المسرحي، ثم أضاف أنه قد سمع أيضاً عن كتاب (الموجة الثالثة - للكاتبين - التي يرى أن التنبؤات فيها كثيراً ما تعتبر خطيرة. فيعلق جنكيز ايتماتوف قائلاً: - ولذلك فإننا نحتاجها مبكّرة، بحيث نستطيع أن نواجه معضلاتنا. وأومأ جورباتشوف موافقاً، ثم عندما قال (آرثر ميللر) إن مسؤولية الشاعر أن يقول الحقيقة في مواجهة القوة.. علّق جورباتشوف قائلاً: (وإن مسؤولية المثقف أن يستفز الفكر).. ويعقب كاتب التحقيق: (وهذا ما لا ينطبق على الواقع في الكريملين الآن).
والتحقيق طويل يملأ صفحتين تقريباً ولا تزال له بقية لم تصلني بعد، ولا شك أن أهمّ ما يستحق التأمّل فيه هو ما يمكن أن يوصف بانفتاح على الفكر لم يسبق له مثيل في نظام الحكم الملتزم بأيديولوجيات مقررة أخذت حكم القواعد التي ترفض أي محاولة للتغيير.. صحيح أن الأساسيات في هذه الأيديولوجيات تظل تغلق الأبواب والنوافذ في وجه التيارات التي تهب، ليس من الغرب الرأسمالي فقط، وإنما من الشرق.. من قمقم الألف مليون من البشر الذي أكّدت المظاهرات الأخيرة، والتي تعتبر الأولى من نوعها بعد الثورة الثقافية أنه آخذ في الانفتاح ومقاومة ضغوط الاشباعية العمياء.. ولكن إذا لم يكن جورباتشوف من الدهاء وسعة الحيلة بحيث استطاع أن ينشر في آفاق الفكر السياسي الغربي نوعاً من السراب الذي يغري بالاطمئنان إلى أن المستقبل في الاتحاد السوفياتي سوف يكون قادراً على التكيّف، والتناغم مع تطلع الإنسان إلى حياة تتعايش فيها هرطقات ماركس ولينين مع نوع من الحرية التي ظلت شعوب الاتحاد السوفياتي محرومة منها، والغرض المبيّت هو الانتصار في اللعبة التي لم تنته أشواطها بعد، بينه وبين الرئيس ريجان، فإن احتمال التنفس في القمقم الروسي التقليدي قد أصبح وشيكاً ما لم يستطع أبالسة (البوليتبورو)، في الكرملين، أن يسقطوا أو يزيحوا جورباتشوف، كما سبق لهم أن فعلوا مع خروتشوف.
وللقارئ أن يتساءل، مرة أخرى، عن أهمية هذا الذي يحدث في الاتحاد السوفياتي أو الصين الحمراء، بالنسبة لنا؟.. فلا أملك إلاّ أن أضحك على نفسي، إذ أتوهم أن العالم قد أصبح من أقصى الشرق فيه إلى أقصى الغرب، ميدان الصراع، لن ينتهي، وتكتب فيه السلامة للنوع البشري - ونحن منه - إلاّ بأن تنال الآدمية حقّها الضائع من الحرية في التعامل مع الحياة.
* * *
المخزون المكدّس في صوامع الغلال من حصاد الأيام، حين أعالج نبشه، مع الرغبة الصادقة في إلقاء المهترئ منه في سلة المهملات، أفاجأ بقصاصات صغيرة، دونّت فيها فيما مضى من الزمان ملاحظات صغيرة.. أو هي فكرة عابرة.. وجدت اليوم منها أني قلت ودوّنت كلمة تقول: (إذا كتب الكاتب كلاماً تعذّر على قارئ، أو على عدد من القراء فهمه، فليس من الحق أن نتهم ذكاء القارئ بالعجز والقصور، أو البلاهة والسفه، وإنما الحق أن نقول إن الكاتب قد عجز عن التعبير عن الفكرة التي يحاول توصيلها إلى ذهن المتلقي.
وهذه هي الإشكالية القائمة في مسيرة الفكر العربي، منذ تفتّحت عليه أبواب التمرد على القديم، في محاولة لبناء الجديد.
واستوقفتني الكلمة، وحملتني على أن أعود بذاكرتي إلى مرحلة طويلة يعيشها الفكر العربي مع هذه الإشكالية.. وعندما أقول: (الفكر العربي) فإني أعني في الواقع، مجموعة متنوعة من عطاء هذا الفكر، منها الشعر، والقصة، والرواية، وبحوث ومطولات مقالات النقد، ومعها جميعاً عطاء الفن التشكيلي، وحتى الموسيقى، شمولية واسعة أعرف أن بعضهم يرفضها، وأستغرب الرفض من حيث هو، إذ كل هذا ليس إلا فكراً.. ترى ماذا يكون الفن بمواليده وفروعه وجداوله وأنهاره، إن لم يكن فكراً؟ لك بالطبع أن لا تستبعد عنه الفلسفة، والعلوم وحتى التكنولوجيا التي أصبحت تطحننا طحناً، وهي تستدرجنا في انطلاقها إلى المجهول المعلوم الذي ينتظرنا، متربّصاً متوثّباً، مع كل ثانية من الزمن، المنطلق بجنون صاروخ إلى المستقبل البعيد.
كنت منذ بضع سنوات، في إنجلترا، ومع حرارة الصيف في لندن، انتقلت إلى برايتون، واستراحت نفسي، حين وجدت على مسافة لا تزيد على نصف كيلومتر من الفندق، معرضاً لبيع لوحات قالت مديرة المعرض إن الفنانين الذين رسموها، ويعرضونها للبيع، فنانون مغمورون، ربما لم يسمع بهم أحد، وهم جميعاً، باستثناء واحد أو اثنين، يرفضون التمردّ لا يركبون موجة السيريالية أو الدالية أو الشاجالية.. وفلسفتهم أنهم يرسمون العمل الذي يهمهم أن يقول شيئاً.. أن يقول ما يريدون هم أن يقولوه.. وبسيط هذا الذي يريدون أن يقولوه.. ومنه كما أذكر، لوحة صغيرة، فيها طفلةٌ ربما لا يزيد عمرها على سنتين.. واقفة على رصيف شارع، وإلى جانبها أو أمامها كيس الزبالة الأسود، الذي يحرص الإنجليز على أن يضعوه أمام باب البيت على الرصيف، لينقله الموكّلون بالنظافة في سياراتهم كل صباح.. ونظرة الصغيرة على الكيس الأسود، فيها حسرة، أو ربّما لهفة.. وهناك في نهاية اللوحة، كلمة صغيرة: (لعبتها) (Her Doll).
وقفت عند اللوحة لحظات، ووقفت السيدة مديرة المعرض، تقول: (أجل.. إنها تستحق أن تتأمّلها.. فلعبة الصغيرة (عروستها) في هذا الكيس.. وهي متعلّقة بها.. تنتظر أن يخرجها لها العامل عندما يجيء لجمع الأكياس).
أضافت السيدة: قل لي.. كيف يمكن توصيل كل هذا الذي قالته اللوحة أو قاله الفنانون بالأسلوب السيريالي أو غيره ؟ ثم أضافت هل تشتريها يا سيدي؟
ولم أشترها، كما لم أشتر غيرها، إذ كانت شحنة (الكراكب) التي اجتمعت في حوزتنا والرغبة في شحنها على الطائرة إلى الحجاز.. أكبر من أن تتسع للمزيد.
وأرجو أن لا أفجع هذا الفريق الكبير المتماسك، من الذين يكتبون عن (البنيوية.. والألسنية.. والنصوصية، وعن قادة هذه المدارس أو هي النظريات) ومن الكاتبين الأستاذ عابد خزندار وفي طليعتهم الدكتور عبد الله الغذامي، يتابعهم المفتونون بالموجة وبريقها من عمان، كالأستاذ محمد أحمد عواد، ويلحقهم من يكتبون من بغداد، ومن القاهرة - وقد وجدوا عندنا الأبواب مفتوحة ترحب بهم، وتفسح لهم المجال بكثير من الحميمية والألفة.. أرجو أن لا أفجعهم إذا قلت - صادقاً -، إن الكاتب من هؤلاء قد عجز عن التعبير عن الفكرة التي يحاول توصيلها.. وأنا لا أرسل الحكم إرسالاً، ولا أتجنّى، فإن الأستاذ سعيد السريحي يعرف تماماً أني ربما كنت من الذين لا ينتصرون للحداثة، ولنظريات البنيوية وما إليها، ولكنهم لا يخاصمونها، ولا يضيقون بانتشارها، وتنامي عدد أنصارها.. ولا أدعي أبداً أني من طبقة الأذكياء بين القراء.. ولكني لا أتواضع فأضع نفسي بين الأغبياء.. فإذا قرأت ما يكتب هؤلاء.. وليس مرة بل عدداً من المرات، ولم أفهم ما يريدون أن يقولوه، فإني معذور إذا حكمت بأنهم يعجزون عن التعبير عن الفكرة التي يريدون توصيلها إلى المتلقي.. وهنا لا بد أن أتساءل.. لماذا يكتبون؟ أو لمن يكتبون؟
ومن المقالات التي احتل كاتبها الأستاذ محمد أحمد عواد من ((عمان)) معظم الصفحة السادسة من الأسبوع الثقافي في عكاظ، مقاله (بمانشيت عريض) بعنوان (نظرة في مكوّنات الخطاب الحداثي).. لقد قرأته أكثر من مرة، وخرجت أضرب كفاً بكف، متهماً نفسي أولاً بالغباء.. وفي نفس الوقت التمست للكاتب عذراً، في أنه يعالج موضوعاً (رفيع المستوى..) لم يكتب لأمثالي.. وإنما للصفوة من الذين أصبحنا لا نلحق بغبارهم.. وسلّمت.. ولكني توقفت عند قوله: (وهذا الأمر جعل هناك ثراءً فكرياً في الساحة الأدبية.. فمن يقرأ ((بارت)).. و ((لاكان)).. و ((غرامشي)) و.. و ((إليوت)).. وغيرهم لا يستطيع أن يمنع نفسه من الاستفادة من تلك الإنجازات التي حققت على مستوى العالم.. وهذا كما ترجم بصورة دقيقة في الخطاب الحداثي).
توقفت هنا لأسأل ومتحدياً: من هم بين الذين يركبون موجة (البنيوية ومواليدها) الذين قرأوا لهذه المجموعة من الأسماء التي أراها تتكرر، ويلوكها أكثر من كاتب، ويتحذلق بسرد رأي ينسبه إلى هذا أو ذاك من هؤلاء؟ كل هؤلاء كتّاب كتبوا بلغتهم - وهي الفرنسية على الأرجح باستثناء (ت ي. ا س. اليوت). وأستبعد أن تكون أعمال هؤلاء قد نقلت إلى اللغة العربية.. وقد لا أكون مجازفاً أو متجنّياً إذا قلت إن أكثر من 90% من الذين يتحذلقون بترديد هذه الأسماء، لا يعرفون أي لغة أجنبية.. فكيف أصدق أنهم قرأوا من يتحذلقون بترديد أسمائهم؟ وإذا كان لا بد أن أستثني، فليس هناك من يستثنى عندنا سوى الدكتور الغذامي، والأستاذ عابد خزندار والدكتور دميجان الرويلي، الذي قرأت له مقالاً ضافياً عن (البنيوية وما بعدها: موقف النصوصية) في جريدة الرياض في الأسبوع الماضي، وكان أول كاتب، في الموضوع، أحسست أنه لا يستعرض عضلات، ولا ينصب شراك الإيهام بالأستاذية فيما عالج، كما خالجني شعور بأني أقرأ كاتباً يريد ( أن يوصل) إلى المتلقّي نبذة مما يعلم أو علم، في موضوعه، مترفِّعاً عن الاستعلاء على حساب التحذلق الرخيص. وهو ما نتمنّى أن يعيه المبحرون وراء الزبد، إلى شواطئ الأوهام. وأرجو أن أعود إليه في الأسبوع القادم.
* * *
ومن حصاد الأسبوع، وفي جريدة الرياض الغراء، قصيدة (حُسْن) للشاعر الأستاذ حسين سرحان، التي نبّه إلى أنها (على نمط الشعر الجاهلي).. ولا أدري لم اختصها وحدها بهذا التنبيه؟ إذ عهدي بشعره، منذ قرأت له أوائل قصائده، أنّه يتعشّق الجزالة، ويختار لها، أو تختار هي له، ما يؤكد أنّه يعايش هذه الجزالة، ليس في الشعر الجاهلي فحسب، وإنما في شعر الفحول الكبار، في العصر الإسلامي وما بعده إلى العصر العباسي الأول. وتعشُّق الجزالة عند السرحان، ليس مطلباً مظهرياً، بقدر ما هو إيغال في عمق المفردة اللغوية، التي يشعر أنها وحدها القادرة على أن تحمل المعنى الذي يتلامح في ذهنه. ورغم ما حفلت به قصيدة (حُسْن) من ألفاظ، لا أشك في أن مثقفي القراء، والمعجبين بالسرحان منهم خاصة، قد اضطروا إلى مراجعة المعاجم، لفهم المعنى والمضمون، فإن أي قارئ لن يحتاج إلى أكثر من تأمّل بسيط، ليرى الصورة الجميلة في قوله عنها:
فقالت، وأسرابُ الدموع سوافحٌ
كما ارفضَّ من وُسطى فرائِده العقدُ
ثم.. من الذي لا تسطع في وجدانه مواكب من صور الحسن، وهو يقرأ:
وجاء على خدّيكِ وردٌ مُفَتّقٌ
إذا لم يجئْ إلاّ على وَعده الورْدُ
وللسرحان أن يعطينا، ونحن في أواخر القرن العشرين، صورة من ذلك الفارس الذي عرفناه في الشعر الجاهلي، أو فيما جاء على نسقه من شعر الفحول، في العصور التالية حين يقول:
وإني، ولمّا أقضِ منك لبانة
ولم أبتذل فيك الهوى وهو يشتد
لذو شيمةٍ قعساء ترمي بيَ الدجى
أريع بها البأْوَ الأثيلَ وأعتدّ
ولو زرت لاحمرَّت علينا غمامةً
من النقْع تستدني لها البيض والجرد
أمّا شرح معاني الألفاظ، فإني أنصح القارئ أن يجده في المعاجم أو أن يتصل بالشاعر الكبير، في منزله بمكة.. وعسى أن يسأله عن هذا الحُسْن.. هل هو ذكرى من ذكرياته في شبابه يستعيدها هذه الأيام؟ أم أنّه من نمط تلك الفتاة التي أحبّت الشاعر الألماني (جوته) عندما تجاوز الثمانين من العمر؟ كثيرون شككوا في أخبار هذا الحب، ولكن كثيرين أيضاً أكّدوا أنه كان حقيقة عاشها الشاعر الكبير، وكانت أيامه القليلة معها هي الأيّام التي أحسّ فيها (جوته) بدفء الربيع ونضرته، رغم الثلوج المتراكمة في شتاء العمر. ويكفينا على أية حال أن يشعر السرحان بشيء كهذا وهو يقول:
وكنتِ الصَّبا، والحُسْنَ، والحبَّ والمُنى
وكنت أنا المسطورُ في وجهه السعدُ
هوىً بهوى، والصدقُ يسفر بيننا
فلا أقفَرَ المغْنى، ولا أبْلَسَ الجهدُ
* * *
كانت مفاجأة أن ألبّي دعوة الجمعية الفيصلية الخيرية لحضور ندوة يديرها الأستاذ سعيد السريحي بعد الاستماع إلى قصائد من شعر أكثر من شاعرة لم تذكر لي أسماؤهن، في إحدى قاعات فندق (الهوليداي إن).. كانت مفاجأة أن أدخل القاعة الكبيرة الواسعة في الموعد فلا أجد فيها إلاّ الصديق الأستاذ محمد حسين زيدان، والأستاذ السريحي، وبعض موظفي الفندق. وعللت الظاهرة بأنهم - وأعني المدعوين - يتوافدون على مهلهم كما هي العادة في الغالب.. ولكن الذي ظل مفاجأة، ومؤسفة في نفس الوقت، أن الذين حضروا الندوة لم يتجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة، مع أن الأستاذ السريحي كان يظن، مثلي، أنهم كثيرون.
وبدأت الندوة بكلمة، لا أذكر اسم التي ألقتها، ولكني أذكر أنها كانت كلمة ضافية، واتفقت مع الأستاذ زيدان في الإعجاب بها موضوعاً وأداءً فيه تدفّق الثقة بالنفس، والاعتداد بالرأي في التنويه بالشعر والشاعرات، من منطلق المد الثقافي الذي تعايشه المرأة عندنا منذ ارتفعت لها صروح التعليم في جميع مراحله.
ثم أخذنا نسمع قصائد الشعر، للشاعرات، (خديجة الصبان).. (وأميمة) و (أشجان).. وقد ضايقني النظام الذي التزمه الأستاذ السريحي، في مناقشة الشاعرات أو التعليق على الشعر.. إذ كان من رأيه أن نسمع (كلَّ الشعر)، ثم نعلِّق أو نناقش.. و (كلُّ الشعر) هذا كميّة ضخمة، يصعب أن تُستوعب، وأن يُتاح التوقف عند معنى أو لفظ. ولكن هذا الذي تم فعلاً. واكتفى الأستاذ زيدان بتعليق جنّح فيه المجاملة، وطار بها في أجواء التاريخ، ثم اعتذر، وغادر ليترك الساحة للأستاذ السريحي، يعلّق فيها تعليق الناقد (الحَداثي) المتمكّن، والمصر في نفس الوقت على أن يرسل قذائفه بكل عنفها مما استلزم انفتاح باب الحوار بينه، وبين من أرجّح أنها تستطيع أن تربح الجولة، لو اتسع لها المجال.
* * *
كانت الأمسية خليقة بأن يعايشها المثقفون، لأنها تعطي صورة حيّة للمستوى الطيّب الذي بلغته المرأة.. ليس فقط في عطائها الأدبي، شعراً، ونقداً، واطلاعاً واسعاً، وإنما أيضاً في طموحها المتوثب، الذي أعتقد أنه يوشك أن يسبق الشباب في أكثر من مجال.
ومن الشواهد التي تؤكد هذا الطموح، وتعطي لمستوى الثقافة الذي بلغته المرأة صورة ناصعة رائعة، هذا البحث القيّم الذي قرأته في ثلاثة أعداد من جريدة الرياض الغرّاء من (مسرحة التراث في الأدب المسرحي السعودي)، للأستاذة الكاتبة (فاطمة عبد الله علي الوهيبي).. ولي أن أقول دون حرج، إن الذين جرّبوا، ويجربون، قدراتهم في نقد، أو دراسة الأعمال المسرحية التي كتبها عندنا كتّاب حُسبوا على المسرح والأعمال المسرحية، يحسن بهم أن يقرأوا بحث الأستاذة فاطمة، وأن يستزيدوها بحوثاً عن المسرح العربي، كما أعتقد أنها تراه، وتعرف، كيف ينبغي أن يكون المدخل إلى نقد هذه الأعمال، على ضوء علمي، ومن منطلق الإحساس بقيمة العمل المسرحي وأثره في مجتمع أصبح يعاني تغيّراً فرضته تطورات خطيرة، يستطيع العمل المسرحي أن يفتح للناس مغاليقها، وأن يريهم أين هم من هذه المتغيّرات.
والأستاذ حسين عبد الله سراج، لا بد أن يقرأ ما كتبته الأستاذة فاطمة الوهيبي، عن مسرحيته (غرام ولاّدة) التي كتبها منذ ثلاثين عاماً.. ولعلّي لا أضايقه إذا ذكّرته بأني كنت قد اقترحت عليه، عندما أفضل بإهدائها إليّ - في تلك الأيام - أن يتوسّع في قراءة تاريخ تلك الفترة من حياة ابن زيدون، والولاّدة بنت المستكفي، ليتاح له أن يبعث في المسرحية عنصر الحركة، ونبض الحياة المتفاعلة التي يزدحم بها تاريخ الأندلس في تلك الفترة.. ولكن لا سبيل إلى شيء من ذلك مع أي كاتب فيما فرغ منه من أعمال.. وقد ينبغي اليوم، وأنا أقرأ بحث الأستاذة فاطمة الوهيبي، أن أقول إن الأستاذ حسين سراج كان ممّن بهرتْهم أعمال شوقي المسرحية أو مسرحه الشعري، وما دام الأستاذ حسين لا تنقصه القدرة على ((النظم))، فلم يكن هناك ما يمنع أن يختار الولاّدة بنت المستكفي موضوعاً لمسرحية شعرية يقول بها للمبهورين بمسرحيات شوقي، إنّه ليس الوحيد، الذي يستطيع أن يكتب المسرحية الشعرية في تلك الأيام.
* * *
رصفائي من الشيوخ عاشوا يحصدون الكثير، وفي أذهانهم أو هي جماجمهم (صوامع غلال)، تكدّست فيها أصناف مما حصدوا طول العمر.. وهم يعيشون مشكلة شديدة التعقيد، وهي أنهم لا يكفون عن الحصاد، ولا يشبعون من التخزين في الصوامع.
* * *
ومن حسن حظهم، وهم في هذه السن العالية، التي تتوَّعر فيها عادةً عملية الحصاد لأنهم يمارسونها بأسلوب تغلب عليه الدقة والحذر والرغبة في الانتقاء، أن الأسابيع القليلة الماضية قد طاب فيها الحصاد، ربمّا كما لم يسبق أن طاب طوال سنين عديدة، وقد طاب عطاءً، كما طاب وفرةً وارتواءً بمعانٍٍٍٍ للأحداث، تسطع، وتتوهج، وتتلألأ وتقتحم حصون التاريخ وأبهاءه، لتضيف إلى معمار الحضارة صرحاً، سوف يظل واحداً من أعظم الصروح وأكثرها شموخاً، ليس بالكبرياء، والتعالي، أو الاستعلاء، وإنما بالرؤية النافذة التي توغل في صلب مفهوم الحكم والحاكم، وفي الأبعاد السحيقة للمستقبل الممتد، فتضع أعظم قاعدة لمسؤولية هذا الحكم، وهي خدمة مصالح الأمة، والسهر على كل ما يحقق لها الممكن من الرغد والرفاه، والدعة، وقبل كل ذلك الأمن والأمان والاستقرار، وهي عناصر يحرص الحكم على دعمها وإنمائها وتزويدها بكل ما يؤكد وينمِّي فعاليتها.. فالحاكم من هذا المنطلق، وفي هذا المسار يقرر ما لم يسبقه إليه ملك من قبل وهو التخلّي نهائياً ورسمياً عن لقب صاحب الجلالة وأن يحل محلّه (عبارة) (خادم الحرمين الشريفين).. وليس هذا فحسب، وإنما أضاف إلى ذلك (نَهْياً) صريحاً بعدم استعمال كلمة (المعظم) أو أي عبارة أخرى تدل على التبجيل والتعظيم.
وبهذا القرار، قال الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود للمواطنين من أبناء شعبه، إنّه في الصميم من معنى المواطنة الأسمى.. فهو منهم ولهم. كما قال لإخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إنّه قد أغلق - وإلى الأبد إن شاء الله - أبواب التعاظم والتفاخر بالألقاب وبعبارات التبجيل والتعظيم، فهو خادم الحرمين الشريفين، وهما مهبط الوحي، ومأرز الإيمان، ومهوى الأفئدة، وذلك هو الشرف الأسمى، والعزّة الشامخة تضعه في القلوب والضمائر، مثالاً للملك المؤمن، يقود مسيرة الجهاد، ويرفع رايته الخضراء عالية خفّاقة من الأرض التي انطلقت منها كلمة التوحيد، وفيالق الدعوة إلى الله، ومواكب المفاخر والأمجاد.
كثيرة جداً، وضخمة إلى أبعد حد، المسؤوليات الجسام التي أخذها على عاتقه عاهلنا العظيم بهذا القرار التاريخي الفريد.. ومن هنا كان على كل مواطن منذ اليوم أن يضع نفسه في موقع المسؤول عن الوقوف في ساحة الجهد والجهاد إلى جانب العاهل العظيم وتحت رايته التي أصبحت ترمز إلى مفهوم في معنى الحكم والمواطنة، قرره فهد ابن عبد العزيز آل سعود، سوف يظل نموذجاً يوحي بأننا أمّة كل مواطن فيها (سيدٌ) لا مولى له إلاّ الله، ولا جلالة إلاّ لله، ولا معظَّم، إلاّ ربُّ العزة والجلال.
* * *
والذين يحصدون في هذه الأيام، يواجهون مشكلة لا حل لها، إلاّ الاستعانة (بفريق) من السكرتيرين أو السكرتيرات.. لأن الحقول التي تنمو فيها ويستوي الحصاد أصبحت أكثر كثيراً مما يستطيعه الحاصد منفرداً ودون عون ونجدة. من جانبي، وقد أصبحت غارقاً إلى أذني في مسؤوليتي عن ملاحقة الحصاد، تنازلت عن (الفريق) من السكرتيرين، واكتفيت ولو بواحد فقط لا غير.. ولا أخفي أن التنازل كان لسببين هامّين، أولهما قلة المال الذي لا بد من الاستعداد به راتباً شهرياً لا يقلّ بحال عن ثلاثة آلاف من الريالات، ولوقت لا يزيد على أربع ساعات.. والسبب الثاني، في التنازل عن الفريق، هو (الندرة والقلة) في الراغبين في العمل الذين تتوافر فيهم مهارات أعتبرها طبيعية وضرورية في أي سكرتير أو سكرتيرة، وهي الكتابة على الآلة الكاتبة بسرعة لا تتجاوز أربعين كلمة في الدقيقة، ولكن مع شرط عدم الوقوع في الأخطاء الإملائية إذا كنت أملي النص أو الموضوع. وتجربتي المتكررة كانت إذا وجد كاتب الآلة وبتلك السرعة، فإن حكاية الإملاء عليه مشكلة يندر أن يوجد لها حل.. فهو قد اعتاد أن ينقل من نص مكتوب مسوّدة - مثلاً - ولا عهد له بمن يملي هذا النص إملاء. ولذلك فهو يخلي نفسه من مسؤولية أخطاء الإملاء. ويكلّفني أن أصحح.. ثم يعيد الكتابة.. وفي ذلك - بطبيعة الحال تبديد للوقت.. والوقت ثمين.. بمنطق الألوف الثلاثة التي لا بد أن تدفع في آخر الشهر.
أردت بهذا الكلام أن أقول، إني أبحث عمّن يتطوع للعمل معي، سكرتيراً كاتباً على الآلة الكاتبة العربية بسرعة لا تتجاوز أربعين كلمة في الدقيقة، لا يقع في الأخطاء الإملائية ولا يخلي نفسه من مسؤولية الوقوع فيها.. والعمل الذي أتمنى أن أفرغ له ومنه هو هذا الموجود في الصوامع من الحصاد، الذي اقترح أحدهم في الأسبوع الماضي أن نفرغ الصوامع، وأن نتخلص منه.. ولا خلاص إلاّ بكتابته، وطرحه كتباً، لا تعدم من يتورّط في قراءتها، إن لم يكن اليوم ففي مقبل الأيام.
وبالمناسبة، فأجدني أغبط صديقي الأستاذ العلاّمة الكبير، محمد حسين زيدان الذي أتساءل كلّما صافحتني أعماله.. مقالاته الضافية.. في الصحف والمجلات: ترى كيف وقع الأستاذ على السكرتير المثالي، الذي لا أشك في أنه يسدل على شخصه ستار الخفاء والكتمان.. وهو مثالي بمعنى الكلمة.. إذ لا شك في أن يساعد في عملية الحصاد التي يقوم بها الأستاذ.. وأي حصاد؟ ومن أي الحقول؟ حصاد يكاد يكون نادراً بنوعيته الخاصة من جهة، وبلغته التي يجنّحها الصديق الأستاذ، فإذا بالجملة تحلّق، لتستقر في مكانها من القلب المدرك المتلهّف على النابض بالحس والجمال.. ترى هل يبخل الأستاذ بأن يدلني على سكرتير من هذا النوع المتميز والممتاز.. أعرفه كريماً فيّاض الكف، وإني لا أستبعد أبداً أن أسمع منه بشرى وجود هذا السكرتير الأعجوبة.. ومن الله نلتمس العون على الراتب المطلوب.
قلت، إن الحقول التي ينمو ويستوي فيها الحصاد، أصبحت أكثر كثيراً مما يستطيعه الحاصد منفرداً ودون عون ونجدة.. والحقيقة أني لا أعني الكتب التي أجدها في مكتبتي، وأكاد لا أجد الوقت لقراءة الكثير منها، وإنما الذي أعنيه هو الصحف اليومية، وهي أكثر من ثمانٍ، كلّها تصدر في المملكة ومعها صحيفتان تصدران باللغة الإنجليزية، أستصعب أن أتجاوزهما. فإذا لم ننحِّ المجلات الأسبوعية وأهم اثنتين منها لا بد من العكوف على قراءتهما، إذ في كل منهما من عوامل الشد والجذب ما لن تملك إهماله بحال، وليس من هذه العوامل (حلوة الغلاف)، وغيرها مما تتبرج به المجلات الوافدة أو هي المهاجرة.. وإنما الذي يشد ويجذب هو المواضيع الساخنة، والقضايا المعاشة، والملحة، التي يؤكد عرضها الشيق والمدروس أن الإحساس بالقضية والرغبة في علاجها، هو دافع طرحها.. ثم إذا لم ننحّ جانباً ضرورة الاطلاع على أكثر من جريدة يومية من صحف البلدان العربية الشقيقة، وكذلك - وعلى الأقل - جريدة كالصانداي تايمس أو الهيرالد تريبيون، ومجلتي (تايم) و (نيوزويك) الأمريكيتين.. أتحدى أن يزعم أي قارئ، حتى لو كان رئيس تحرير صحيفة كبرى، أنه يستطيع أن يطلع على (الأهم) في كل هذا الذي تقذفنا به المطابع ودور النشر والتوزيع.. ثم كيف؟ كيف نجد السكرتير الذي يساعدنا على أن يحصر لنا ما يستحق الحصاد من جميع هذه الحقول.. ثم يقوم بكتابة ما نمليه عليه من تعليقات على الحصاد؟
مشكلة معقّدة.. قد لا يدري الكثيرون جداً أننا نعيشها طوال أعوام.. ولعلّها هي المسؤولة عن حالة القلب.. أو الكلية، أو الكبد.. أو حتى (المخ) إذا تعرّض في يوم ما لحالة (تخريب).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2066  التعليقات :0
 

صفحة 1 من 19
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.