شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الصديق والغيبة
ـ ورأيت الصديق بعد غياب طويل، كأنه موكل بفضاء الله يذرعه:
ما آب من سفر إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالعزم يزمعه
كأنما هو في حل و مرتحل
موكل بفضاء اللَّه يذرعه
وفاجأني أن أراه.. فالغيبة إن لم تنس فإنها تبعد بالصديق أن يتذكر ما تناساه..؟
وتعانقنا ثم أبعد أشباراً يصعد نظره إلى أعلى ويسترخي به رويداً رويداً إلى تحت كأنما يقيسني طولاً وعرضاً، أو يروزني كماً وكيفاً.. ولا أدري ماذا غاب عنه مني.. أو ماذا جد علي.. فالمرء لا يعرف عن نفسه بعض ما تغير فيه إلا بالتذكير عن هذا التغيير.
فقلت له: لماذا أنت هكذا تقيس وتزن.. لعلّ شيئاً قد فاجأك قد استجد علي..؟
فقال: ليس هو الطول والقصر، ولا العرض والسمن، ولا الصحة والسقم.. وإنما هو الشيء أراه جديداً فيك.. فقد كنت تتعامل مع العبوس بعض الوقت، وتلتذ بالألم كل الوقت.. وتحاول أن تطرد الحزن العبوس.. كأنما التقطيب أصبح الكيف المعبر عن التعذيب.. فأراك اليوم تهش وتبش، لابتسامة عريضة فقد انمحت البسمة ((الأكليشة))، وحل محلها سرور يشعر بأن العذاب قد انصرف. وأن العذوبة قد بدأت تتعارف معك. لتغترف منها.. فما الذي جد حتى تغير حال السأم والعبوس.. إلى هذا الاكتناز والاعتزاز بالفرح والمسرة والضحكات المشرقة..؟
قلت: تلك الأيام التي خلت: كان بعض ما يكرب القليل في كمه. وغير المذل في كيفه أفلا تذكر يوم كنا نتعرض إلى مشكلة.. فنطردها بحل سريع أو نتقبلها بصبر شفيع.. فتمضي ترسم العبوس في وقت محدد كأنما أنا وأنت كنا نتوفر بتصنع الحزن ونتوفر على إشعار المشفقين أو الشاقين بأن ما نحن فيه عرضاً عابراً تنفع منه العبرة ولا تسيل منه العبرات.
أما اليوم فقد تكاثرت المزعجات وتناثرت المزعلات، وتراكمت الأحزان فلا تمر مأساة إلا وتلاحقها مأساة. إن لم تكن منصبة عليك أو علي، فإنها المصيبة على ما حولك ومن حولك. على هؤلاء الساكنين والمستكنين في أرضك العربية كلها وشعبك العربي كله.
كل هذا من الأحزان والمزعجات المزعلات قد أصابتنا بالتبلد وإن لم نكن من البلداء. فبعد أن كنا الأذكياء في تحمل آلام الجسد أصبحنا نتبلد نحمل ونتحمل كل الأرزاء تصاب بها النفوس، ويتخلل بها الوجدان فيصبح الإِنسان غير الإِنسان. كأنما ذلك الشاعر الذي قالوا إنه افتخر بهذا البيت.. لم يكن الفاخر وإنما أعلن تبلده وتحمله، فالوضع عندنا الآن هو كما قال:
لم نعد بعد ما لقينا نُبالي
بسهام رمى العدا أم نبالِ
أو كما قال الفيلسوف: وفي بلادة بعض الناس فلسفة.
ولكن نحمد الله أن وقع هذا لنا ونحن على عتبات القبور..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :651  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 431 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.