شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تعقيب الدكتور عبد الله الغذامي
على رد الأستاذ عبد الوهاب البياتي
ثم تقدم الدكتور عبد الله الغذامي ليعقب على رد الشاعر عبد الوهاب البياتي فقال:
- أبدأ حديثي بكلمة شاعرنا عبد الوهاب وهي: أنه جاء ليستمع ولم يأت ليتحدث، والحقيقة أن هذا الموقف هو موقفنا نحن.. نحن الذين كنا في رغبة إلى الاستماع ولكي نعطيه الفرصة ليتحدث. ولكن الذي دعاني للحديث والوقوف هذه الوقفة هو أنني وجدت الشاعر مضطراً لأن يدافع عن نفسه أو يدافع عن شعره فآثرت أن أقوم لأبين موقفاً أكثر مما أبرر موقفاً. فالشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي في حديثه حاول أن يبين نقطتين مهمتين، النقطة الأولى: مسألة الموت ودلالة الموت في الشعر. والنقطة الثانية: مسألة التأثر والتأثير. سأتناول الموت أولاً والدلالة الموجودة عند البياتي وعند شعراء آخرين غير البياتي في الشعر العربي.. وأقول مبتدئاً حديثي من كلمة شاعرنا الكبير عن المتنبي، وأستحضر بيت المتنبي المشهور الذي يقول:
تمنيتها لما تمنـيت أن تـرى
صديقاً فأعيا أو عدواً مداجياً
- المتنبي في هذا البيت تمنى الموت، تمنى المنية، فهو لم يتمن الفناء ولكنه كان يعلن الموت، يعلن الفناء، كان يعلن موقفه من الحياة التي لم تستطع أن تسعفه بصديق أو بعدو مداجٍ، عندئذٍ أعلن الموت، أعلن الموقف من هذه الحياة، فالموت عند المتنبي كان موقفاً، والموت اليوم عند شاعرنا المعاصر هو موقف من الحياة.. وإذا أردنا أن نبحث عن الموت عند الشاعر البياتي خاصة - لأنه موضوع حديثنا الليلة - فأرجو أن نستذكر كلمة قالها البارحة في حديثه، عندما قال: إن رسالته الشعرية هي في البحث عن المعنى في غير المعنى والبحث عن غير المعنى في المعنى. وهذه تفسر تماماً الموت في الحياة أو بصورة أخرى الحياة في الموت. وهذه هي المعضلة التي يعيشها الإِنسان اليوم منذ أن غرست جرثومة إسرائيل في جسدنا العربي، جرثومة الموت التي غرست في هذا الجسد كان لابد من كشف هذا الموت في الحياة، وفي الوقت الذي نكشف فيه عن الموت في هذه الحياة لابد أن يفضي بنا ذلك إلى الكشف عن الحياة في هذا الموت، لأنها هي بذرة النشء، بذرة الانبعاث، بذرة الانطلاق الذي لابد أن ننطلق منه.
- إذن دلالة الموت في شعر البياتي هي قيمة شاعرية عربية وجدت في الشعر الجاهلي واستمرت يعبر الشاعر من خلالها عن موقفه من الحياة، عن موقفه من الكائنات التي تدور من حوله ليستنهض فيها الإِحساس بالحياة داخل هذا الموقف البذرة التي من الممكن أن تنشأ وسط هذا الموات، وعندما يأتي الشاعر ليكون تعبيراً إنسانياً عن وجدان أمته من خلال قيمها الشعرية والإِنسانية والحياتية فإنه يكشف هذا الموقف، يضعهُ أمامنا ليجعلنا في مساءلة تاريخية مع أنفسنا. هذه القيمة التي تتعلق بمفهوم الموت عند شاعرنا.. وهي تفترق تماماً عن الموت عند اليوت، فقصيدة الأرض الخراب والموت الذي فيها إعلان عن الموت وليس موقفاً من الموت، هو إعلان عن حاسة الإِبداع التي بدأت تتلاشى في الحضارة الغربية ومهما كان من الظاهرة المادية في تقدمها التكنولوجي إلاَّ أن الحس الإِبداعي في الإِنسان الأوروبي بدأ يتلاشى، وهو بداية النهاية كما يعلن كل الفلاسفة الغربيين والشعراء الغربيين ويصرخون بذلك، وهي مذهب كبير في الحضارة الغربية اليوم منذ زمن ليس بالقصير. هذا فيما يتعلق بالموت.
- النقطة الأخرى تتعلق بالتأثر والتأثير.. وأنا أعرف أن الجلسة هنا جلسة نرغب في أن تكون جلسة تكريمية خفيفة، وأعتذر عن إرهاقها بأحاديث قد تكون نقدية أو تنظيرية، لكن الموقف يقتضي ذلك.
- الحديث عن التأثر والتأثير لا يمس الشاعر البياتي وحده وإنما يمس حضارتنا جميعها. فنحن نعلن دائماً النعي على حضارتنا عندما نشاهد مظهراً غير عربي فيها، وننسب كل حالة لم نعتد عليها ولم تكن سائرة فينا.. ننسبها إلى غيرها، وكأننا نطعن على أنفسنا في أننا قوم عاجزون في أن نقدم شيئاً لم يقدمه أسلافنا.. بينما أسلافنا كانوا يأخذون من العالم أفضل ما عنده ويضيفون إليه ما عندهم امتثالاً للآية الكريمة التي تصف المؤمنين بأنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. مجرد أن تأتي صفة لأفعل التفضيل، هنا أحسن تعني: أن هناك الحسن وهناك الأحسن وهناك ما هو أقل وأقل من ذلك. إذن نحن ننظر في الأمور ونأخذ أحسنها ونتبناه، وبمثل ما نرى من تأثيرات في أدبنا وفي حضارتنا وتفكيرنا.. فإن الغربيين فيهم أيضاً هذه التأثيرات.
- وما دامت قصيدة الأرض الخراب ذكرت في هذه الجلسة فإنني أذكر كل العارفين بها: أن الأرض الخراب تتضمن ما لا يقل عن سبعة عشرة اقتباساً من لغات أجنبية من سبع عشرة لغة أجنبية ذكرت بنصوصها الأصلية بما فيها سانسكريتيه، ولم يتقدم أحد لليوت بأنه صنيعة للهنود أو صنيعة للعرب أو للإِغريق أو الرومان.. إلى آخر الناس الذين ظهرت حضاراتهم داخل قصيدته، وهي قصيدة واحدة.
- وأذكركم ببحث كتبه الدكتور عبد الله الطيب وأشار فيه إلى تأثيرات مباشرة على اليوت من العرب، ومن المعلقات العربية في الشعر العربي الذي ترجمه آربوري ونشر في جامعة كمبردج في مجموعة شعرية مترجمة من العربية إلى الإِنجليزية، ونسب كثيراً من التأثيرات على آربوري من أساتذته في جامعة كمبردج وفي أكسفورد أنه قد تأثر بها ودخلت إلى قصيدته.
- أتحفظ هنا وأقول إنني لا أتفق مع الدكتور عبد الله الطيب في ذلك المدخل، لأنني لو قبلت مدخله إلى اليوت فسأقبل مدخل الآخرين على شعرائنا، لأن المبدأ هنا في التأثر والتأثير أنه فعلٌ إنساني حضاري، والإِنسان يتمثل كل الموروث الإِنساني - مهما كان هذا الموروث - ويدخل من خلاله. ولو افترضنا أن الشاعر لا يتأثر فنحن إذاً نتهمه بأنه جماد لا يستطيع أن يحس بالعالم من حوله. التأثر شيء ضروري، ولا يمكن لشاعر أن يصنع من لا شيء، لا بد أن ينطلق من الشيء القادم ويصنع من الشيء القادم ويضيف إليه. وكما يقول ألان بارت: إنني أكتب لأنني نسيت، فالإِنسان من خلال كل ما يقرؤه يشعر أن كل الكتابات الإِنسانية لم تستطع أن تعبر عما لديه، ويريد أن يضيف من خلال تعبيره ذلك النقص الذي وجد في الكتابات التي من قبله. ولكن لو أحسّ الكاتب أو المبدع أن الإِنسان الذي سبقه قد عبر عما يريد فهو عندئذٍ لن يكتب. إذن الكتابة هي إكمال للنقص الإِنساني، وسيستمر هذا النقص مع الإِنسان في حال تطوره وفي حال نشأته، وستأتي الأجيال تتعاقب لتكمل هذا النقص.
- فقط أردت أن أركز على مفهوم القيمة في الدلالة الشعرية. ودلالة الموت عند شعرائنا هي نابعة من الموروث العربي أكثر من التصاقها بالموروث الأجنبي. وأردت أيضاً أن أشير إلى قضية التأثر والتأثير، وفي أنها ظاهرة يجب أن نرحب بها ويجب أن نفهمها، والشاعر بالدرجة الأولى هو صانع كلمة والكلمة لا تُصنع من المعنى كما اتفق. وأنا أتكلم الآن وأمامي أستاذنا جميعاً الدكتور لطفي عبد البديع، أستاذ المعنى، أستاذ الدلالة الذي دربنا وتدربنا معه منذ زمن الجاحظ بأن المعنى مطروح على الطريق.. يعرفه البدوي والحضري، وإنما العبرة باللفظ الحسن. المعنى متفق عليه ولا يمكن للبياتي ولا عمر أبي ريشة ولا عبد الله بلخير ولا حسين سراج، ولا أي شاعر من شعرائنا - شاباً أو شيخاً - أن يقول معنى لم نسمع به.. ستظل المعاني معروفة وقائمة في كل الفكر الإِنساني، لكن الشيء الجديد في الأمر هو قلب هذا المعنى، هو إخراج غير المعنى من المعنى ثم إخراج المعنى من غير المعنى.
- هذه هي اللعبة اللغوية الخطرة والهامة، وهي التي تبرر الإِبداع.. وتجعل الإِبداع مشروعاً وضرورياً.
- شكراً على استماعكم، وآسف على الإِثقال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :565  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 41 من 61
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج