شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الشافعي.. الأديب
نثره وَشعره
أدب الشافعي.. نثره وشعره:
تقدم لنا كثير من الشواهد على فصاحة الشافعي وبلاغته، وسنورد في ما يلي بعض الشواهد والنماذج المؤيدة لذلك:
قال ابن هشام: ((جالست الشافعي زماناً فما سمعته تكلم بكلمة إلا إذا اعتبرها المعتبر، لا يجد كلمة في العربية أحسن منها)) وعن الزعفراني أنه قال: ((كان قوم من أهل العربية يختلفون (أي يترددون) إلى مجلس الشافعي معنا، ويجلسون ناحية، فقلت لرجل من رؤسائهم: إنكم لا تتعاطون العلم، فلم تختلفون معنا؟ قالوا: نسمع لغة الشافعي، أي إنهم يحضرون مجالس الشافعي ودروسه لسماع لغته، إعجاباً بفصاحته)).
ولقد وصف الشيخ أبو زهرة فصاحة الشافعي وبلاغته قلماً ولساناً وصفاً دقيقاً جامعاً نقتبس منه الفقرات الآتية: ((كان الشافعي قوي البيان، واضح التعبير، بيّن الإلقاء، أوتي مع فصاحة لسانه وبلاغة بيانه، وقوة جنانه، صوتاً عميق التأثير، يعبر بنبراته، كما يوضح بعباراته...)). وقد روي عن بعض تلاميذه أنه قال: ما رأيت أحداً إلا وكتبه أكبر من مشاهدته، إلا الشافعي، فإن لسانه أكبر من كتبه، وإذا كانت كتب الشافعي على أحسن ما تكون عليه الكتب من جودة تعبير وحسن تصوير للفكرة، فكيف تكون حال مشاهدته؟ وهي أقوى أداء، وأكمل إشارة، وأحلى عبارة. ولقد بلغ من إجادته للبيان أنه قال فيه إسحاق بن راهويه: (إنه خطيب العلماء).
ولقد كان ميدان المناظرات من أقوى الميادين التي ظهرت فيها بلاغة الشافعي وسحر بيانه، وقوة منطقه والتفوق على خصومه. فقد يكون من المستحسن أن نذكر إحدى مناظراته الشهيرة كنموذج لهذا اللون من الجدل والحوار، وما يتجلى فيه من قوة الحجة وبراعة الاستدلال نذكرها ملخصة من معجم الأدباء لياقوت:
تناظر الشافعي وإسحاق بن راهويه الخراساني، وكان أحد العلماء المبرزين في الفقه والمناظرة وكان موضوع المناظرة كراء بيوت أهل مكة، وكان إسحاق يميل إلى الرأي القائل بجواز سكنى بيوت مكة بدون كراء، فانبرى له الشافعي في هذه المناظرة يحاوره ويجادله بقوة المنطق وحسن البيان وإقامة الدليل من كتاب الله وسنة رسوله: استهل الشافعي مناظرته بقوله: قال الله عزَّ وجل: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ نسب الدار إلى المالكين أو إلى غير المالكين. قال إسحاق: إلى المالكين. قال الشافعي: قوله عز وجل أصدق الأقاويل. وقد قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن أنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدار إلى مالك أو إلى غير مالك؟ قال إسحاق: إلى مالك. فقال الشافعي وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وذكر له جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتروا دور مكة، وجماعة باعوها. قال إسحاق: قال الله عز وجل: سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ (الحج: 25) فقال الشافعي: اقرأ أول الآية: فقال: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ (الحج: 25) قال الشافعي: والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى قوله تعالى: لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ (البقرة: 125) والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى قوله عز وجل: وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ (البقرة: 187) فدل ذلك أن قوله عز وجل: سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ (الحج: 25) في المسجد خاص، فأما من ملك شيئاً فله أن يكري وأن يبيع.
وهكذا استطاع الشافعي أن يفحم خصمه بقوة الحجة وحسن البيان.
وإن الشواهد من آثار الشافعي وأقواله على فصاحته وبلاغته أكثر من أن نحيط بها في هذا السياق، وحسبنا من تلك الأقوال والحكم المنثورة في كتب الأدب وأسفار البيان أن نقتبس منها الشذرات التالية بالإضافة إلى ما تقدم منها:
وعظ الشافعي بعض إخوانه فقال: ((يا أخي إن الدنيا دحض مزلة، ودار مذلة، عمرانها إلى خراب صائر، وساكنها للقبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار. فافزع إلى الله، وأرض يرزق الله تعالى، ولا تستلف من دار بقائك، في دار فنائك، فإن عيشك فيىء زائل، وجدار مائل. أكثر من عملك، وقصر من أملك)).
وقال له رجل أوصني، فقال: ((إن الله تعالى خلقك حراً، فكن حراً كما خلقك)).
وقال: ((عاشر كرام الناس تعش كريماً، ولا تعاشر اللئام فتنسب إلى اللؤم)).
وقال: ((لا تبذل وجهك إلى من يهون عليه ردك)). وقال: ((يا ربيع: لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها)).
وقال: ((التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام)).
وقال: ((أربعة أشياء قليلها كثير، العلة والفقر والعداوة والنار)).
وقال: ((الآمال قطعت أعناق الرجال، كالسراب خان من رآه وأخلف من رجاه)).
وقال: ((غضب الأشراف يظهر في أفعالها، وغضب السفهاء يظهر في ألسنتها)).
وقال: ((من صدق الله نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرت عيناه بما يراه من ثواب الله تعالى غداً)).
نكتفي بهذا القدر من روائع حكم الشافعي وأقواله المأثورة، لننتقل إلى الحديث عن شعره.
شعر الشافعي:
لئن كان الشعر مرآة ما تنطوي عليه نفس الشاعر من مشاعر وأحاسيس، وصدى لما يختلج بين جوانحه من خلجات وعواطف، فلقد وجد الشافعي، المطلبي القرشي، الناشىء في مضارب البادية، وتحت سمائها الضاحية، المغتذي ببيان لغتها الصافية، المتضلع من رحيق أدبها الأصيل، وجد ذلك الفتى العبقري الملهم، في آفاق الشعر متنفساً لمشاعره وأحاسيسه المرهفة، استطاع أن يعرض في إطاره طائفة من عرائس أفكاره وأبكار خياله، وأن يغرد في ظلال الخمائل الندية ألحاناً رائعة شجية حفظت لنا كتب الأدب منها طاقة شذية برغم عزوف الشافعي عن قول الشعر عندما نضجت ملكاته العلمية، وتصدّر للتدريس والفتوى ونشر العلم على أرفع مستوى. ولقد عبر عن هذا الاتجاه بقوله:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليومَ أشعرَ من لبيدِ
على أن هذا البيت يشير إلى اعتزاز الشافعي بموهبته الشعرية الجديرة بأن تؤهله للتفوق على فحول الشعراء. وسيمر بنا في ما نورده من نماذج لشعره. مزيداً من اعتزازه بشاعريته. وإذا رجعنا إلى ما حفظته لنا بعض كتب الأدب من شعر الشافعي، نجد أن غالبيته تدور في إطار الحكم والحض على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، كما نجد له مقطوعات أخرى في أكثر أغراض الشعر التي كانت معروضة لعهده كالغزل والفخر والعتاب والرثاء، والشكوى من هموم الحياة وسوء معاشرة بعض الناس، وسنذكر نماذج قصيرة لكل ذلك في ما يأتي، بادئين بما نظمه في سمط الحكم، مستهلين ذلك بقصيدته الذائعة الشهرة التي تمثل هذا اللون من شعر الشافعي، والتي جرت بعض أبياتها مجرى الأمثال:
دع الأيام تفعل ما تشاءُ
وطب نفساً إذا حكم القضاءُ
ولا تجزع لحادثة الليالي
فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلاً على الأهوال جلداً
وشيمتك السماحة والعطاء
يُفطى بالسماحة كل عيب
وكم عيبٍ يغطيه السخاء
ولا حزن يدوم ولا سرورٌ
ولا عسر عليك ولا رخاء
ولا تُري الأعادي قط ذلا
فإن شماتة الأعدا بلاء
ولا ترجُ السماحة من بخيل
فما في النار للظمآن ماء
ورزقك ليس ينقصه التأني
وليس يزيد في الرزق العناء
إذا ما كنت ذا قلب قنوع
فأنت ومالك الدنيا سواء
ومن نزلت بساحته المنايا
فلا أرضٌ تقيه ولا سماء
وأرض الله واسعة ولكن
إذا نزل القضا ضاق الفضاء
ومن روائع الشعر المنسوب إلى الشافعي في الحكم قوله:
إن الذي رزق اليسار ولم يصب
حمداً ولا أجراً لغير موفقِِ
الجد يدني كل أمر شاسع
والجد يفتح كل باب مغلق
وإذا سمعت بأن محروماً أتى
ماءً ليشربه فغاض فحقق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
بنجوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق
وأحق خلق اللَّه بالهم امرؤ
ذو همة يبلى بعيش ضيق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمقِِ
ومن طرائف الشعر المعزو إلى الشافعي، المعرب عن بعض طموحه وعلو همته، وضيقه بما يعترض طريقه إلى المجد من عقبات، المعبر عن اعتزازه بامتلاكه لصولجان الشعر والبيان، وأنه الحائز لدرره ويواقيته، وصاحب تاجه وإكليله، المنوه بخطر الشاعر وسلطان الشعر على القلوب.. قوله:
ماذا يخبر ضيف بيتك أهله
إن سيل كيف معاده ومعاجُهُ؟
أيقول جاوزت الفرات ولم أنلْ
رياً لديه وقد طغت أمواجه
ورقيت في درج العلا فتضايقت
عما أريد شعابه وفجاجه
ولتخبرن خصاصتي بتملق
والماء يخبر عن قذاه زجاجه
عندي يواقيت القريض ودره
وعليَّ إكليل الكلام وتاجه
تربى على روض الربى أزهاره
ويرق في نادي الندى ديباجه
والشاعر المنطيق أسود سالخ
والشعر منه لعابه ومجاجه
وعداوة الشعراء داء معضل
ولقد يهون على الكريم علاجه
ومن أبيات الشافعي التي يعتز فيها بما منحه الله من ألمعية وفصاحة لسان وشخصية فذة، قوله وقد سئل يوماً عن مسألة عويصة فأجاب فيها الجواب الشافي ثم قال:
إذا المشكلات تصدين لي
كشفت حقائقها بالنظر
لسان كشقشقة الأرحبي
أو كالحسام اليماني الذكر
ولست بأمّعةٍ في الرجا
ل، أسائل هذا وذا ما الخبر؟
ولكنني مدره الأصغرين
جلاب خير وفراج شر
ومن شعره الدال على شدة اهتمامه بنشر العلم وبذر بذوره في التربة الصالحة لنمائه وثماره، وصونه عمن لا يأبه به من غير أهله، الأبيات الآتية:
وقد أخبر الربيع بن سليمان عن الباعث عليها بقوله: لما دخل الشافعي مصر أول قدومه إليها جفاه الناس، فلم يجلس إليه أحد، فقال له بعض من قدم معه: لو قلت شيئاً يجتمع إليك الناس، فقال: إليك عني، وأنشأ يقول:
أأنثر درًّا بين سارحة البَهَم
وأنظم منثوراً لراعية الغنم
لعمري لئن ضُيعت في شر بلدة
فلست مضيعاً فيهمو غرر الكلم
لئن سهل اللَّه العزيز بلطفه
وصادفت أهلاً للعلوم وللحكم
بثثت مفيداً واستفدت ودادهم
وإلا فمكنون لدي ومكتتم
ومن منح الجهال علماً أضاعه
ومن منع المستوجهين فقد ظلم
ولئن صح أن هذه الأبيات نظمها أول قدومه لمصر، فقد استجاب اللَّه دعاءه، وسهل له في مصر من حمل علومه وحكمه إلى مشارق الأرض ومغاربها وقد طاب له بها المقام وقضى فيها بقية حياته في حقبة خصبة حافلة بالإنتاج وأينع الثمار.
ومن الأبيات التي رواها الربيع بن سليمان عن الشافعي التي تعبر عن رأيه في ما يجب للصديق على صديقه كما تعبر عن ألمه لفقدانه إخوان الثقة والوفاء، قوله:
صديق ليس ينفع يوم باسِ
قريب من عدو في القياسِ
وما يبغي الصديق بكل عصر
ولا الإخوان إلا للتآسي
عمرت الدهر ملتمساً بجهدي
لضائقة فأكداه التماسي
تنكرت البلاد علي حتى
كأنّ أناسها ليسوا بناس
وعلى هذا القياس الذي اعتمده الشافعي في تقدير حقوق الإخوة بعضهم على بعض، نجده يعاتب أحدهم عتاباً لا يخلو من قسوة ومرارة، ونحن ننقل عن ابن عبد البر الكلمة التي مهد بها عن الباعث لهذا العتاب قال:
(... وفد محمد بن إدريس الشافعي على رجل من قومه باليمن كان بها أميراً، فأقام عنده أياماً ثم سأله الرجوع إلى داره وموضعه، فكتب إليه معتذراً - لعلَّه اعتذر إليه عن تزويده بما يحتاج إليه في سفره - وعرض عليه شيئاً يسيراً. فكتب إليه الشافعي أبياتاً في ظهر رقعته قال فيها:
أتاني عذر منك في غير كنهه
كأنك عن بري بذاك تحيدُ
لسانك هش بالنوال وما أرى
يمينك إن جاد اللسان تجود
فإن قلت لي بيت وسيط وسيطة
وأسلاف صدق قد مضوا وجدود
صدقت ولكن أنت خربت ما بنوا
ونال الذي يهوى لديك بعيد
تفرق عنك الأقربون لشأنهم
وأشفقت أن تبقى وأنت وحيد
وأصبحت بين الحمد والذم واقفاً
فيا ليت شعري أي ذاك تريد؟
فكتب إليه الأمير - (بل أريد منك الحمد بأبي أنت وأمي، وقد وجهت إليك خمسمائة دينار لنفقتك وعشرة أثواب من حبرات اليمن وبختيان والسلام).
وهكذا استطاع الشافعي بذكائه وفصاحته، أن يضع هذا الأمير بين شقي الرحى بين الحمد والذم، فلم يجد الأمير بداً من تدارك غلطته وإنقاذ سمعته، بتلبية حاجة الشافعي، وتفادى مذمته.
وإذا كان في هذه الأبيات ما يشير إلى طلب الشافعي للمال، فإنه لم يكن يطلبه لينفقه على متعه وملذاته، وإنما كان يطلبه لقضاء ما عليه من حقوق وواجبات. وقد مر بنا الحديث عن سخائه، أنه عاد من اليمن ومعه عشرة آلاف دينار، فضرب له خباء خارج مكة ولم يدخل إليها إلا بعد أن فرق الدنانير كلها. وإن في البيتين التاليين لدليلاً على تلهفه على بذل المعروف لكل من يقصده:
يا لهف نفسي على مال أفرقه
على المقلين من أهل المروءاتِ
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني
ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات
وإذا كانت نفسه ومروءته تأبيان عليه إمساك المال والاعتذار عن البذل والعطاء، فلا غرابة في أن يحمل على الذين يكنزون المال، ويتباهون بجمعه وإدخاره ولا تتحرك بين جوانحهم عواطف الشفقة والرحمة، فيقول في ذلك:
وأنطقتِ الدراهم بعد صمت
أناساً بعد أن كانوا سكوتاً
فما عطفوا على أحد بفضل
ولا عرفوا لمكرمة بيوتاً
وإذا كنا لم نعثر للشافعي على شعر في المديح، فإنا كذلك لم نعثر في التعزية إلا على هذين البيتين:
إني أعزيك لا إني على طمع
من الخلود ولكن سنة الدينِ
فما المعزي بباق بعد صاحبه
ولا المعزى وإن عاشا إلى حين
كذلك لم نعثر على شئ في الهجاء، وهذا هو المتوقع من مثل الشافعي؛ إلا أن ذلك لا ينافي إظهار الضيق والتألم من مجاورة من لا يشاركه، أو من معاشرة معشر جهلوا حق الأديب، فاستوى في نظرهم الصفر والذهب الإبريز، والحطب وعود الطيب، على ما بينهما من تفاضل يدركه أولو الألباب، فقال في الأولى:
وأنزلني طول النوى دار غربة
يجاورني من ليس مثلي يشاكله
أحامقه حتى يقال سجية
ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
وقال في الحال الثانية:
أصبحت طرحاً في معشر جهلوا
حق الأديب فباعوا الرأس بالذنبِ
والناس يجمعهم شمل وبينهمو
في العقل فرق وفي الآداب والحسب
كمثل ما الذهب الإبريز يشركه
في لونه الصفر، والتفضيل للذهب
والعود لو لم تطب منه روائحه
لم يفرق الناس بين العود والحطب
أما الغزل فقد جاء في طبقات الشافعية الكبرى عن أحد أصحاب الشافعي، أنه قال له: ((قد قلت في الزهد، فهل لك في الغزل شيء؟)) فأنشد الشافعي:
يا كاحل العين بعد النوم بالسهرِ
ما كان كحلك بالمنعوت للبصرِ
لو أن عيني إليك الدهر ناظرة
جاءت وفاتي ولم أشبع من النظر
سقياً لدهر مضى ما كان أطيبه
لولا التفرق والتنغيص بالسفر
إن الرسول الذي يأتي بلا عدة
مثل السحاب الذي يأتي بلا مطر
ومن الطرائف الشعرية التي رواها عن الشافعي بعض الأدباء، كصاحب معجم الأدباء، وصاحب طبقات الشافعية الكبرى وغيرهما، الطرف الآتية:
كان لابن عبد الله الشافعي زوجة يحبها وكانت تصد عنه فقال في ذلك:
ومن البلية أن تحب
ولا يحبك من تحبه
ويصدُّ عنك بوجهه
وتلجُّ أنت فلا تغبه
ومنها الطرفة التالية:
قال الربيع بن سليمان: ((كنت عند الشافعي إذ جاءه رجل برقعة فقرأها ووقع فيها فمضى الرجل فتبعته إلى باب المسجد، فقلت والله لا تفوتني فتيا الشافعي، فأخذت الرقعة من يده فإذا فيها:
سل المفتي المكي هل في تزوار
وضمّة مشتاق الفؤاد جناح
فوجدت قد وقع الشافعي:
فقلت معاذ الله أن يذهب التقى
تلاصق أكباد بهن جراح
قال الربيع: فأنكرت على الشافعي أن يفتي لحدث بمثل هذا، فقلت: يا أبا عبد الله، تفتي بمثل هذا لمثل هذا الشاب؟ فقال لي: يا أبا محمد، هذا رجل هاشمي قد عرس في هذا الشهر يعني شهر رمضان، وهو حدث السن، فسأل هل عليه جناح، أن يقبل أو يضم.. فافتيه بهذا)).
ومنها الطرفة التالية:
روى أن رجلاً جاءه برقعة فيها:
سل المفتي المكي من آل هاشم
إذا اشتد وجد بامرىء كيف يصنع؟
قال: فكتب الشافعي تحته:
يداوي هواه ثم يكتم وجده
ويصبر في كل الأمور ويخضع
فأخذها صاحبها وذهب بها ثم جاءه وقد كتب تحت بيت الشافعي:
فكيف يداوي والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم غصة بتجرع؟
فكتب الشافعي رحمه الله:
فإن هو لم يصبر على ما أصابه
فليس له شيء سوى الموت أنفع
ومن الأبيات الحكمية المروية عن الشافعي والتي جرت مجرى الأمثال قوله:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وقوله:
ما طار طير وارتفع
إلا كما طار وقع
وقوله:
لا تأس في الدنيا على فائت
وعندك الإسلام والعافيه
وقوله:
أكل العقاب بقوة جيف الفلا
وجنى الذباب الشهد وهو ضعيف
ومن المقطوعات الشعرية الرائعة المنسوبة إلى الإمام الشافعي رضي الله، عنه المقطوعات والأبيات التالية، وهي وإن لم نستطع الجزم بصحة نسبتها كلها إليه فإن إيرادها في سياق شعر الشافعي لا يخلو من متعة وفائدة ولا سيما أن الكثير منها جرى مجرى الأمثال، وبعضها يكاد تتواتر نسبتها إليه ويكاد يلمس فيها القارىء روح الشافعي وهمته وطموحه: من ذلك قوله في الحث على الارتحال في طلب المجد والرفعة:
ما في المقام لذي علم وذي أدب
من راحة فدع الأوطانَ واغتربِ
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الأرض ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة
لملها الناس من عجم ومن عرب
والتبر كالترب ملقى في أماكنه
والعود في أرضه نوع من الحطب
فإن تقرب هذا عز مطلبه
وإن تغرب ذاك عزّ كالذهب
وقوله في علو الهمة والقناعة:
أمطري لؤلؤاً جبال سردنيـ
ـب وفيضي آبار تكرور تبرا
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً
وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي
نفس حر ترى المذلة كفرا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري
فلماذا أزور زيداً وعمرا؟
وقال في صيانة النفس والحث على الصبر والتجمل:
صن النفس واحملها على ما يزينها
تعش سالماً والقول فيك جميلُ
ولا تولين الناس إلا تجملا
نبا بك دهر أو جفاك خليل
وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد
عسى نكبات الدهر عنك تزول
ولا خير في ود امرىء متلونٍ
إذا الريح مالت مال حيث تميل
وما أكثر الإخوان حين تعدهم
ولكنهم في النائبات قليل
وقال في الفرج بعد الشدة:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرجُ
وقال في عاقبة البغي:
تحكموا فاستطالوا في تحكمهم
وعما قليل كان الأمر لم يكنِ
لو أنصفوا أُنصفوا لكن بغوا فبغى
عليهم الدهر بالأحزان والمحن
فأصبحوا ولسان الحال ينشدهم
هذا بذاك ولا عتب على الزمن
وقال في تبرئة الزمان مما يرميه به الناس من العيب:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب
ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
وقال في ذم المن والتنفير منه:
لا تحملن لمن يمن
من الأنام عليك منّه
واختر لنفسك حظها
واصبر فإن الصبر جنه
منن الرجال على القلو
ب أشد من وقع الأسنه
وقال في الحث على تجنب الهم والثقة برحمة الله ولطفه:
سهرت أعين ونامت عيون
لأمور تكون أو لا تكون
فادرأ الهم ما استطعت عن النفـ
ـس فحملانك الهموم جنون
إن رباً كفاك بالأمس ما كا
ن سيكفيك في غد ما يكون
ولعلّ خير ما نختم به هذا الفصل من شعر الشافعي الأبيات الآتية وإن تقدمت:
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت رجائي نحو عفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجود وتعفو منّةً وتكرما
ونحن إذ نكرر مع الشافعي رحمه الله تعالى، هذه الأبيات، نسأل الله لنا وله العفو والغفران ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :3575  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 100 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.