شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمد حافظ بك إبراهيم
هو الشاعر الكبير محمد حافظ بن إبراهيم أفندي فهمي المولود سنة 1288هـ والمتوفى 1932م ولقب بشاعر النيل ولد بالقرب من ديروط ومات بالقاهرة. كان أبوه مهندساً وأمه سيدة تركية مات أبوه وهو في الرابعة فقضى حياةً مضطربة في كفالة خاله ولم يتلق تعليماً منتظماً ثم دخل المدرسة الحربية وعين ضابطاً في السودان، واشترك مع بعض زملائه في حركة تمرد على القواد الإنجليز فأحيل للاستيداع وعاد للقاهرة وبقي فترة طويلة بدون عمل وكان الجو الوطني حافلاً بالأحداث فاتصل بكثيرين من الزعماء وبخاصة الشيخ محمد عبده، وشارك مشاركة قوية في الأحداث السياسية معبراً عن مشاعر الطبقات الشعبية ثم عين في وظيفة بدار الكتب المصرية، وكان الاستعمار الإنجليزي يحرم على موظفي الدولة الاشتراك في السياسة فظل حافظ حذراً وقل إنتاجه وقد غلب عليه الطابع السياسي والاجتماعي، وأسلوبه فخم جزل دون تقيد أو مبالغة في المعاني فكانت له طريقة خاصة في إلقاء شعره في المحافل طبع ديوانه في ثلاثة أجزاء صغيرة سنة 1921هـ ثم طبع بعد وفاته شاملاً لكثير من شعره الذي لم ينشر في الطبعة الأولى وله روايات نثرية ـ ليالي سطيح على أسلوب المقامات، ورواية البؤساء المشهورة مترجمة عن الفرنسية حيث كان يجيد الفرنسية من المدرسة الحربية، لم يتنعم حافظ برغد المعيشة، وكان أكثر طعامه وهو في الكتبخانه سندويشات تناولها كفطور حتى يخرج إلى بيته يتناول ما تيسر من الطبيخ وهكذا قضى حياته بائساً محروماً من عطف والده الذي تركه يتيماً في كفالة أمه وخاله، ولم يترك مالاً ولا عقاراً ولم ينجب أولاداً يحيى ذكره إلا قصائده التي سارت في البلاد العربية تحيى ذكراه بعد موته، وقد رثاه صديقه وزميله أحمد شوقي بقصيدة مؤثرة فقد كان يظن أنه سيموت قبله ويرثيه حافظ ولكنه مات في حياته والقصيدة مثبتة في ديوان شوقي في باب المراثي ومطلعها:
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي
يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سلامةٍ
قدر وكل منيةٍ بقضاء
الحق نادى فاستجبت ولم تزل
بالحق تحفل عند كل نداء
ومنها:
وودت لو أني فداك من الردى
والكاذبون المرجفون فدائي
وانظر فأنت كأمس شأنك باذخ
في الشرق واسمك أرفع الأسماء
بالأمس قد حليتني بقصيدة
غراء تحفظ كاليد البيضاء
غيظ الحسود لها وقمت بشكرها
وكما علمت مودتي ووفائي
خلفت في الدنيا بياناً خالداً
وتركت أجيالاً من الأبناء
وغداً سيذكرك الزمان ولم يزل
للدهر إنصاف وحسن جزاء
وأراد شوقي بقوله بالأمس قد حليتني بقصيدة حافظ التي قالها في حفل تكريم شوقي في المهرجان العظيم الذي أقيم بالقاهرة وحضرت إليه وفود الأقطار العربية فظل سبعة أيام تكريماً لمبايعة شوقي بأمارة الشعر ومطلع القصيدة:
أمير القوافي قد أتيت مبايعاً
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
وفيها قال أحمد شوقي قصيدته المشهورة يصف ذلك المهرجان:
يا عكاظاً تألَّق الشرق فيه
من فلسطين إلى بغدانه
قد فقدنا الحجاز فيه فلم نعثر
على قسه ولا سبحانه
وكانت أجمل هدية مهداة لشوقي هي شمامة من اللؤلؤ المنضد من وفد شباب البحرين وهذه الشمامة بقيت بعد وفاته في متحفه في داره وكان يعتز بها رحم الله الشاعرين وهيهات أن يأتي الزمان بمثلهم فالشعراء كثر اليوم ولكن أين مثل شوقي وحافظ ومطران، لم تهتم الحكومة المصرية لموت حافظ ولم يبن له قبر ودفن في مقابر الإمام الشافعي شأنه شأن سائر الناس ويوم كنت بمصر صليت أحد الجمع في مسجد الإمام الشافعي وبعد الصلاة سألت عن قبر حافظ فلم يدلني عليه فقرأت الفاتحة على روحه وعسى الله أن يعوضه في جنان خلده بما يستحقه من مكرمات وحسنات. ومن شعره هذه الأبيات:
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي
في حب مصر كثيرة العشاق
إني لأحمل في هواك صبابةً
يا مصر قد خرجت عن الأطواق
لهفي عليك متى أراك طليقةً
يحمي كريم حماك شعب راقٍ
كلف بمحمود الخلال متيم
بالبذل بين يديك والإنفاق
إني لتطربني الخلال كريمة
طرب الغريب بأوبة وتلاق
ويهزني ذكر المروءة والندى
بين الشمائل هزة المشتاق
ما البابلية في صفاء مزاجها
والشرب بين تنافس وسباق
والشمس تبدو في الكؤوس وتختفي
والبدر يشرق من جبين الساق
بألذ من خلق كريم طاهر
قد مازجته سلامة الأذواق
فإذا رزقت خليقة محمودة
فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا
علم وذاك مكارم الأخلاق
والمال إن لم تدخره محصناً
بالعلم كان نهاية الإملاق
والعلم إن لم تكتنفه شمائل
تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده
ما لم يتوج ربه بخلاق
من لي بتربية النساء فإنها
في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا
بالريّ أورق أيما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
أنا لا أقول دعوا النساء سوافر
بين الرجال يجلن في الأسواق
يفعلن أفعال الرجال لواهيا
عن واجبات نواعس الأحداق
يدرجن حيث أردن لا من وازع
يخدرن رقبته ولا من واق
في دورهن شئونهن كثيرة
كشؤون رب السيف والمزراق
كلا ولا أدعوكمو أن تسرفوا
في الحجب والتضييق والإرهاق
ليست نساؤكمو حلاً وجواهرا
خوف الضياع تصان في الأحقاق
ليست نساؤكمو أثاثاً يُقتنى
في الدور بين مخادع وطباق
تتشعل الأزمان في أدوارها
دولاً وهن على الجمود بواق
فتوسطوا في الحالتين وانصفوا
فالشر في التقييد والإطلاق
ربّوا البنات على الفضيلة إنها
في الموقفين لهن خير وثاق
وعليكمو أن تسبين نساؤكم
نور الهدى وعلى الحياء الباقي
ومن قصيدة يهنىء أبناء وطنه بالعام الهجري:
أهلاً بنابغة البلاد ومرحبا
جددتمو العهد الذي قد أخفقا
لا تيأسوا كي تستردوا مجدكم
فلرب مغلوب هوى ثم ارتقا
مدت له الآمال في أفلاكها
خيط الرجاء إلى العلا فتسلقا
فتجشموا للمجد كل عظيمة
إني رأيت المجد صعب المرتقى
من رام وصل الشمس حاك خيوطها
سبباً إلى آماله وتعلقا
عار على ابن النيل سباق الورى
مهما تغلب دهره أن يسبقا
أو كلما قالوا تجمع شمله
لعب الخلاف بجمعنا فتفرقا
فتدفقوا حججاً وخوضوا نيلكم
فلكم أفاض عليكم وتدفقا
حملوا علينا بالزمان وصرفه
فتأنقوا في سلبنا وتأنقا
فتعلموا فالعلم مفتاح العلا
لم يبق باباً للسعادة مغلقا
ثم استمدوا منه كل قواكمو
إن القوى بكل أرض متقا
وابنوا حوالي حوضكم من يقظة
سوراً وخطوا من حذار خندقا
وزنوا الكلام وسددوه فإنهم
خبأوا لهم في كل حرف مزلقا
وامشوا على حذر فإن طريقكم
وعراً أطاف به الهلاك وحلقا
نصبوا لكم فيه الفخاخ وارصدوا
للسالكين بكل فج موبقا
الموت في غشيانه وطروقه
والموت كل الموت أن لا يطرقا
فتحينوا فرصُ الحياةِ كثيرة
وتعجلوها بالعزائم والرقى
أو فاخلقوها قادرين فإنما
فرص الحياة خليقة أن تخلقا
وقال من قصيدة في شكوى الزمان:
سعيت إلى أن كدت انتعل الدما
فأبت وما أعقبت إلا التندما
سلام على الدنيا سلام مودع
رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما
تبلغ بالصبر الجميل وبالأسى
زماناً وجادته المنى فتأدّما
أسرت بها الأولى فهام بأختها
وإن ساءت الأخرى فويلاه منهما
فهيّى رياح الموت نكباء وأطفىء
سراج حياتي قبل أن يتحطما
فما عصمتني من زماني فضائلي
ولكن رأيت الموت للحر عظما
فيا قلب لا تجزع إذا عضك
الأسى فإنك بعد اليوم لن تتألما
ويا عين قد آن الجمود لمدمعي
فلا سيل دمع تسكبين ولا دما
ويا يد ما كلفتك البسط مرة
لذي منة أولى الجميل وأنعما
فللَّه ما أحلاك في أنل البلى
وإن كنت أحلى في الطروس وأكرما
ويا قدمي ما سرتِ بي لمذلَّةٍ
ولم ترتق إلاَّ إلى المجد سلّما
فلا تبطئي سيراً إلى الموت واعلمي
بأن كريم القوم من مات مكرما
في هذه القصيدة يصوّر حافظ حالة الأديب الذي لم تعصمه فضائله التي يتحلى بها ويرى الموت للأحرار هو أولى من حياة الذل والهوان، وهو يريد نفسه أنه لم يبسط يده لصاحب منة وأحرى بأنامله أن تُبلى على فقره وإن كانت أكرم في السطور كما يقول أن قدمه ما سارت إلى مذلة ولم ترتق قدمه إلاَّ إلى المعالي وفي هذا المعنى قال المرحوم عبد الجليل برادة:
دنيا يعظمها أناس
وهي في عيني تقل
إن لم تصل أيدي لها
فلرفضها رجلي تصل
وقال بمثله:
أمطري جبال سرنديب لؤلؤاً
وفيض أبار تكرور تبرَا
أنا إن عشت لست أُعدم قوتاً
وإذا مت لست أُعدم قبرا
شيمتي شيمة الملوك ونفسي
نفس حرّ ترى المذلة كفرا
وللَّه در القاضي عبد العزيز الجرجاني إذ يقول في هذا المعنى أيضاً:
وما زلت منحازاً بعرضَي جانباً
من الذم اعتبر الصيانة مغنما
إذا قيل هذا منهل قلت فداري
ولكن نفس الحر تحتمّل الظما
واقبض خطوي عن أمور كثيرة
إذا لم أنلها وافر العرض مكرما
ولم تبذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه دلةً
إذاً فاتباعُ الجهل قد كان أحزما
ومن قصيدة له يمدح فيها المرحوم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية:
رأيتك والأبصار حولك خشع
فقلت أبو حفص ببرديك أم علي
وخفضت من حزني على مجدامة
تداركتها والخطب للخطب يعتلي
طلعت بها باليمن من خير مطلع
وكنت لها في الفوز قدح ابن مقبل
وجردت للفتيا حسام عزيمة
بحديه آيات الكتاب المنزّلِ
محوت به في الدين كل ضلالة
وأثبتَّ ما أثبتّ غير مضلّل
لئن ظفر الأفتاء منك بفاصل
لقد ظفر الإسلام فيك بأفضل
وقال من قصيدة يصف بها شعر فيكتور هوجو شاعر فرنسا لمرور مائة سنة على وفاته:
ما ثغور الزهر في أكمامها
ضاحكاتٍ من بكاء السحب
نظم لو سمى فيها لؤلؤاً
كثنايا الغيد أو كالحبب
عند من يقضي بأبها منظرٍ
من معانيه التي تلعب لحب
بسَمتْ للذهن فاستهوت نهى
مغرم الفضل وصب الأدب
وكان حافظ ملماً باللغة الإنجليزية ولم يصف شعر هوجو إلا لأدبه وشعره لا لدينه ومذهبه كما وأن أحمد شوقي رثا الكثيرين من شعراء وأدباء الغرب لعلمهم وأدبهم وفنهم وفي باب المراثي، من ديوانه الكثير من هذه القصائد.
ومن قصيدة يمدح فيها أحمد شوقي لما قدم من الأندلس:
ورد الكنانة عبقري زمانه
فتنظري يا مصر سحر بيانه
واذكر لنا الحمراء كيف رأيتها
والقصر ماذا كان من بنيانه
ماذا تحطم من ذراه وما الذي
أبقت صروف الدهر من أركانه
ولعلّ نكبته هناك تفرق
وتعدد قد كان في تيجانِه
عبرٌ رأيناها على أيامنا
قد خففت ما نابه من آنِه
وحوادث في الكون إثر حوادث
جاءت بهدم كيانِه
هذه القصيدة قالها حافظ لما رجع شوقي من رحلته للأندلس ونظم القصائد الرنانة في عظمة ما خلفه العرب من الآثار في العلم والصناعة والأدب ونعني تلك الآثار في قصيدته في قرطبة وغرناطة وخاصة في قصر الحمراء متأثراً من قصيدة البحتري في وصف إيوان كسرى بقوله:
وعظ البحتري إيوان كسرى
وشفني القصور من عبد شمس
وفي نعيه لقصر الحمراء يقول:
مشت الحادثات في غرف الحمراء
مشى النعي في دار عرس
وإذا الدار ما بها من أنيسٍ
وإذا القوم ما لهم من محس
ومن قصيدته عن اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتى
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجذع لقول عُداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي
رجالاً وأكفاءً وأدت بناتي
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
وسعت كتاب اللَّه لفظاً وغاية
وما ضقت من آي به وعظات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفنناً
فيا ليتكم تأتون بالكلمات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ينادي بوأدي في ربيع حياتي
سقى اللَّه في بطن الجزيرة أعظماً
يعز عليها أن تلين قناتي
حفظن ودادي في البلى وحفظنه
لهن بقلب دائم الحسرات
وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق
حياءً بتلك الأعظم النخرات
أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً
من القبر يدنيني بغير أناة
واسمع للكتاب في مصر ضجةً
فأعلم أن الصائحين نعاتي
ومن قصيدة يحيّي بها جمعية المرأة الجديدة ويخاطب مؤسسوها:
إليكن يهدي النيل ألف تحيةٍ
معطرِة في أسطرٍ عطرات
ويثني على أعمالكنّ موكلّي
بأطراءِ أهلِ البر والحسنات
أقمتن بالأمس الأساس مباركاً
وجئتن يوم الفتح مغتبطاتِ
صنعتن ما يعيي الرجال صنيعه
ففزتنَّ في الخيراتِ والبركاتِ
يقولونَ نصف الناسِ في الشرقِ عاطل
نساءٌ قضينَ العَمر في الحجراتِ
وهذي بناتُ النيل يعملن للنهي
ويغرسْنَ غرساً داني الثمراتِ
إلى أن يقول:
صفيةُ قادتكن للمجد والعلا
كما كان سعد قائد السروات
عرفنا لها في مجد سعد نصيبها
من الحزم والإقدام في الأزمات
يريد بذكر صفية، صفية هانم زغلول زوجة الزعيم الخالد سعد زغلول باشا وهي قادت نساء الجمعية في مظاهرة ضد المستعمر ولم تخش ولم يخشين من كان معها من نساء وبهذا الصنيع أصبحت من النساء الخالدات رحمها الله.
إلى هنا نكتفي بعيون القصائد التي أوردنا لحافظ إبراهيم وكلها تشهد له بعروبته وإسلاميته ووطنيته رحمة الله تعالى، ونختم محاضرتنا بشيء من دعاباته فقد كان مداعباً لطيفاً وصاحب نكات لاذعة وكانت بعض مداعباته مع أحمد شوقي وإمام العبد فمرة أتاهم أمام العبد وكان زنجياً يتصبب عرقاً وطلب من حافظ منديلاً ليمسح وجهه فأعطاه حافظ المنديل ولما أراد إمام أن يعيد إليه المنديل قال له حافظ يمكنك أن تحتفظ به باستعماله بعدك يسود الوجه، فضحكوا من هذه النكتة، ومرة ذهب حافظ مع زميله الشاعر مطران إلى لبنان وأقيمت على شرفهما عدة حفلات وكان في إحدى الحفلات أحد المطارنة وهو أديب يتذوق الشعر فتقدم من حافظ وخليل مطران وقبلا جبينه وما أن خرج الاثنان من الحفلة إلا أن سيادة المطران خص حافظ بقبلة وقبله على جبينه وقال حافظ المطران قبلني وأنا أقبل مطران وبذلك أصبحنا متعادلين، وفي الزمن السابق كانت الياقة تشتبك مع القميص بزر خاص لأنها كانت منفصلة عنه وكان حافظ يرتدي ثيابه للذهاب لإحدى الحفلات ولم يعثر على زر ياقته فأهداه صديق له زرٌّ من عنده ولما خرجا من الحفلة تقدم حافظ من أقرب دكان واشترى زرًّا وقدمه للصديق فاستغرب الصديق وسأله ما الذي دفعه لشراء زرّ وإعطائه له فأجاب حافظ لا أريد أن يكون جميلك في عنقي.
وأصيب حافظ بنظره وكان شاعراً معروفاً وصديقاً لحافظ وكان أُحيل للتقاعد وخصص له راتباً بسبب إصابته في بطنه وكان مرة يسير مع حافظ متأبطاً ذراعه فصادفهما متسول ومد يده مستعطياً وهو يقول للضرير حسنة لله الله ينوّر بصرك فزجره حافظ قائلاً هل تريد قطع رزقه يريد بقوله إذا رجع بصره رجع لوظيفته.
وكان حافظ في وليمة لدى أحد الأطباء وكانت الفاكهة من البرتقال على أنها برتقال ماوردي الرائحة ولما قشرها حافظ وجدها عادية فقال حافظ للطبيب أسرع يا دكتور هذه البرتقالة مصابة بفقر الدم.
ومرة كان حافظ يسير في الطريق فصادفه شاعر يعرفه ورأى وجهه ملفوف بالضمادات فقال له حافظ ما أصابك هل قرأت أشعاري على أحد.
وكان بين شوقي وحافظ كثير من الدعابات حتى القاسية منها فقيل إنهما كانا في أحد المجالس وضايق حافظ شوقي بدعاباته وقال:
يقولون إن الشوق نار ولوعة
فما لي أرى شوقي به اليوم باردا
فرد عليه شوقي ارتجالاً مخاطباً أحد الجلساء وقال:
وأودعت إنساناً وكلباً أمانةً
فضيعها الإنسان والكلب حافظ
وكانا مرة في وليمة يجلس أحدهما أمام الآخر وضع على المائدة طبق فيه عدد من البفتيك على عدد الموجودين على المائدة وأخذ كل واحد قطعته وبقيت قطعتين إحداها كبيرة والأخرى صغيرة فمد حافظ بشوكته قبل شوقي وأخذ الكبيرة فنظر إليه شوقي مؤنباً وقال له تعلم يا حافظ أنك ارتكبت خطأ اجتماعياً فقد أخذت الكبيرة وتركت لي الصغيرة وهذا يتنافى مع أدب المائدة فأجابه حافظ لو فرضنا أنك مددت يدك قبلي فأي قطعة كنت تأخذ؟ فقال شوقي من اللياقة أن آخذ الصغيرة فقال له حافظ:
ما الداعي إذاً لغضبك وقد وصلك حقك يعني بذلك القطعة الصغيرة، وبين الحشرات خنفس أسود يسمى الجعل يكره الرائحة الطيبة فإذا شمها يموت حتى قيل في المثل (إن طيب المسك مؤذٍ بالجعِل) وكان شوقي وحافظ يعرفان هذا المثل فكانا مرة في السوق فدخل شوقي دكاناً ليشتري زجاجة عطر فتبعه حافظ فقال له شوقي لا تدخل أخشى عليك الخطر فرد عليه حافظ قائلاً ما دمت معي فإذا أصبت بمكروه أنتعش بك يريد ذلك.
ونمي مرةً لحافظ بأن إمام العبد يقرظه ويدعى أنه يساعده في نظم الشعر حتى قال أنا الذي خلقته فاحتاج مرة أمام العبد أن يستدين من صاحبه حافظ ولما فاتحه بالأمر قال له حافظ: آسف فأنا ربي كما خلقتني.
ودعى مرة حافظ إلى وليمة قدم فيها طعام من الخضار المسلوق بمناسبة الصوم الكبير لدى الأقباط وكان حافظ يمني نفسه بطعام دسم ولحم سمين فقال له صاحب الدعوة معتذراً لم نستطع أن نقدم لكم لحماً يظهر على المائدة وبين المدعوين كما رأيتم عدد من رجال الدين، فقال حافظ وما كان يمنعكم لو جعلتم اللحم ملفوفاً بالبرشام، وسأله صاحب الدعوة هل تريد كوباً من الماء فقال له حافظ وهل طعامك يحتاج للشرب.
ومرة كان حافظ زائراً بأحد المدن فأتاه ثقيل يدعي الشعر وطلب من حفظه أن يسمعه بعض قصائده فسمع له حافظ وكان شعره سمج أثقل منه وأخيراً سأله الزائر كيف وجدت بلدتنا أجاب حافظ كلهم ممتازون فقال الثقيل ولكن بالبلد عدداً من الذين ينبغي أن يرحلوا عنها فأجابه حافظ: كن أنت قدوتهم وشجعهم يا أستاذ، ومرة كان الحديث يدور عن بعض السخفاء وتصرفاتهم فتضايق أحد الحاضرين وقال لحافظ ما لي أراكم تجعلون سمركم مقتصراً على السخفاء ليس لديكم موضوعاً آخر فأجابه حافظ لماذا؟ فنحن لا نقصدك بالذات فالبلد ملأى بالسخفاء.
ومن المعروف عن حافظ أنه لم يكن موسراً وبيته دائماً خالٍ من المآكل الدسمة وذات مرة كان في زيارة أحد الأثرياء في منزله ولما حان موعد العشاء أمر الثري بإعداد المائدة ولما جلسوا عليها وجدها حافظ لا تحوي إلاَّ على المآكل البسيطة الرخيصة وكان يمني نفسه بأكلة دسمة ولما فرغوا من الأكل قال له صاحب الدعوة أرجو إن كنت مسروراً بهذا الطعام فأجابه حافظ كنت أشعر كأني في بيتي يريد بأنه كان مثل طعامه في بيته خال من اللحم والدسم.
وشكا مرة إلى طبيب من أصحابه ألماً في الناحية اليسرى من بطنه وبطنه المصران الأعور والمصران الأعور لا يكون إلا في الناحية اليسرى من البطن ولكن حافظ رغم ألمه ضحك وقال للدكتور:
ربما يكون مصراني أعور من العين اليسرى.
وإلى هنا انتهينا من إيراد بعض دعاباته ونكاته والمؤسف حقاً أن يعيش هذا الشاعر كما قدمنا في الترجمة وحيداً مقتراً عليه في الرزق ويموت منسياً كآحاد الناس في مقابر الإمام الشافعي وكان حظ زميله وقرينه شوقي أوفر حظاً فقد اهتمت به الجمهورية وجعلت من بيته متحفاً يزوره الأدباء والشعراء وبذلك أحيت ذكره حيًّا وميتاً رحمهما الله رحمة واسعة والسلام عليكم.
وإليكم بعض ما كتبه الأستاذ حسن الزيات إذ قال في كلمته التحليلية التي ألقاها بمهرجان حافظ المنعقدة في 25 يوليو سنة 1957 بالإسكندرية برعاية المجلس الأعلى للفنون والآداب ما نصه:
ترى لو أن حافظ رحمه الله تأخر به الزمن سبعين سنة فظهر في أواسط هذا القرن الماضي أكان ذكره يرتفع هذا الارتفاع وذكراه يحتفل بها هذا الاحتفال؟ أغلب الظن أن حافظاً لو نشأ في هذا الجيل لكان له أمر غير هذا الأمر وتاريخ غير هذا التاريخ ذلك أن العبقري ابن إقليمه وبيئته وزمانه وظروفه وأحواله فهي تعده وتكيفه وتوجهه وتتيح له الفرص لينجح وتهيىء أسباب الأسباب ليمتاز وتركز عليه الضوء ليظهر على حسب عواملها المختلفة الأثر وحافظ لو تأخر إلى هذا الجيل لاختلف فيما كان عليه في نمط حياته ونوع ثقافته ولون تفكيره ـ وطبيعة قلمه ومدى نبوغه، كان لا يشتهر مثلاً بابتكار النكت وجمع الأحاديث وحفظ الأشعار فلا مجالس للسهر في قصور الملوك ولا محافل للأدب إلى أن يقول: ولعلّ حافظ كان اقرب إلى عواطف الناس من زميليه شوقي ومطران لأن نشأته المعيشية كانت أشد التصاقاً بطوائف الشعب العاملة فهو من يوم رأى النور إلى حين لفظ أنفاسه لم يبرح مع الجمهور العام في مراحه ومغداه، وكانت طفولة حافظ الأدبية مجهولة حتى كشف عنها اللثام المؤرخ الكبير عبد الوهاب النجار في مقال نشره بالعدد الخاص بذكرى حافظ من مجلة أبولو سنة 1933م حيث قال في صحيفة 1322: في صيف 1305هـ كنت طالباً في الجامع الأحمدي بطنطا وقد سافرت أيام العطلة إلى بلدنا القرشية ثم عدت في أواخر شعبان من تلك السنة إلى طنطا فإذا بإخواني وأصدقائي يلوذون بفتى غض الإهاب جديد الشباب وأسرعوا بتقديمي إليه وتقديمه إليّ باسم الأديب الشاعر محمد حافظ إبراهيم ولم تمر إلا عشية وضحاها ـ حتى أحسست من نفسي ميلاً إليه يجاذب الأدب الذي كابدنهم نفسي حتى آل ذلك إلى غرام بأدبه وما يشتمل عليه من ظرف ولطف مجاورة، وكان دأبنا في رمضان تلك السنة تصلي المغرب والعشاء والتراويح معاً ثم نلبث في سهر ممتع ومطارحة الشعر ومذاكرة دواوين الأدب إلى أن يأتي وقت السحور ثم نعود بعد السحور إلى ما كنا فيه إلى انبثاق الفجر فنؤدي الصلاة ثم نخرج إلى خارج المدينة ونعود وقد آذنت الشمس المغيب ثم نعود إلى مثل ذلك حتى إذا جنّ الليل ومما حصل لحافظ في ذلك العهد أن خاله أغلظ له القول في شأن من الشؤون وزجره فكتب لخاله يقول:
ثقلتْ عليك مؤونتي
إنّي أراها واهية
فأفرحْ فأنّي ذاهبٌ
متوجهٌ في داهية
إلى أن قال الأستاذ النجار: لم يتلق حافظ دراسة أدبية منظمة وكان يحضر دروس النحو والصرف في حلقات المعهد الأحمدي بطنطا ثم خلص إلى قراءة كتب الأدب القديم كالكامل والعقد الفريد غير أن كتاب الأغاني استبد بوقفه وعاطفته فعكف على مراجعة قصائده واستظهار قلائده وإليه يرجع كل محفوظه، وكان ذا حافظة قوية وقريحة ممتازة حتى في يده كتاب الوسيلة الأدبية للشيخ حسين المرصفي وفيه غير مباحثه العلمية مختارات من عيون الشعر كمختارات البارودي الذي جمع فيه أحسن أشعار الشعر الأقدمين، رحم الله حافظ وعوضه خلد جنانه وهذا مما لخصناه من مقالة محمد رجب البيومي المنشور في مجلة المنهل بصفحة 600 لشهري محرم وصفر سنة 1396 المدينة المنورة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :3378  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 111 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج