شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من مذكرات محامي
قال لي ابني الأكبر العقيد عبد العزيز النقشبندي: لقد عملت يا والدي في المحاماة سنين عدة أولاً كمحامي شرعي ثم أخيراً محامي وزارة المالية ولم تكتب ولو مرة من ذكرياتك عنها كما أتحفتنا الكثير من ذكرياتك، قلت له: إني لم أشأ الكتابة عنها عمداً الآن لأن المشتغلين بالمحاماة ينظر إليهم القضاة بعين الريبة باعتبار أنهم أناس لا يقصدون من مهنتهم غير الكسب لا إظهاراً للحق، وأنا لم أعمل في المحاماة إلاّ انتصاراً للمظلومين وكنت لا أقبل القضيّة إلا التي أرى فيها الحق ظاهراً لموكلي وسماع شهوده طبق دعواه إن كانت الدعوى تحتاج إلى إثبات، فكان أكثرهم لا يرجع لعدم عثوره على شاهدين عدلين يشهدون طبق دعواه. وفي مباشرتي لأحد قضايا الزوجية كانت الزوجة متضررة من زوجها الذي كان لا يعاشرها بالمعروف ورغبت التخلص منه ولو بالافتداء منه بالمخالعة، وكانت الدعوى موجهة على زوجها فحضر في الجلسة وتليت عليه الدعوى وقبل أخذ الجواب منه التفت إلى القاضي مؤنباً هكذا أنتم يا وكلاء تدخلون بين الزوجين للتفريق بينهما قلت له يا مولانا حاشا إنني لم أتوكل لهذه الغاية بل توكلت لاقتناعي بتظلم الزوجة فقال لي أحضرها في الجلسة الآتية فحضرت وحضر زوجها فسألها عن صحة دعواها فأجابت بصحتها، وعندئذ سأل زوجها ألا يعاشرها بالمعروف كما ادعت؟ أجاب هذه دعواها قال له وما تريد منها قال تفتدي نفسها برد صداقي وما خسرته في زواجها حيث هي طلبت المخالعة كما ادعت، قالت إني مستعدة لأرد له صداقه، قال لها أحضريه في الجلسة الآتية فحضرت في الجلسة وأتت بالصداق وسلمته للقاضي فسلمه للزوج وخالعها منه وانتهت الجلسة بالمخالعة وحرر به صك للمدعية، وبعدها تزوجت المذكورة من زوج آخر وأنجبت منه أولاداً ولم تنجب من الأول وما زال والدها يشكرني كلما رآني على صنيعي لابنته وأصبح مولانا القاضي يتوخى الصدق في قضيتي. وفي قضية أخرى باشرتها بعد التأكد من صحة دعوى موكلي بموجب حجة شرعية صادرة من المحكمة وكانت دعواه بأن المدعى عليه وضع يده على قسم من أرضه واقتضى الأمر لوقوف القاضي على نفس الأرض لتطبيق حدودها كما هو محرر بالحجة وطلب من الشاهدين اللذين أحضرهما المدعي ليشهدا طبق ما هو محرر بالحجة المذكورة فحضر الشاهدان وبعد تلاوة الدعوى على أن المدعى عليه سأله القاضي عن قطعة الأرض الذي وضع يده عليها فأشار عليها وذكر حدودها وأنها تقع شرق أرض المدعي وتفصل بينها سكة الحديد فطلب القاضي من الشاهدين أن يتلوا شهادتهما فشهدا بما يناقض دعوى المدعى بأن أرضه يحدها من الشرق سكة الحديد والقطعة التي وضع المدعى عليه يده. عليها وهكذا انقلبت الدعوى على موكلي وأصبحت في صالح المدعى عليه فأخذ موكلي يعتب على الشاهدين على شهادتهما فقالا: ما شهدنا إلا بما علمنا وحكم القاضي بعدم الالتفات لدعوى موكلي. وهناك قضايا كثيرة منها أن ماء المطر كان يقع في حفرة خارج السور السلطاني فيكون ما يشبه الغدير فاتخذه بعض المنسية ليكون مقهى على جوانبه فيأتيه الناس بعد العصر لتناول الشاي والقهوة ونسبه الناس لصاحب المقهى فكانوا يقولون هي مقهى فلان. ومات الرجل، واشتهر الغدير باسمه ومرت سنون عدة وجاء رجل مدعياً أن الغدير ملك فلان وأن والدته هي الوارثة الوحيدة وطلب حجة استحكام للغدير وبعد إثبات وراثة أمه سمع القاضي شهادة الشهود على مكان الغدير فشهدوا على أنه لفلان الواضع يده عليه مدة طويلة وصدرت للمدعي حجة الاستحكام ليتصرف في البيع.
وقضية رابعة أذكرها وهي أن بعض الناس طلب حجة استحكام أيضاً لأرض واضع يده عليها وأنه متصرف فيها بحفر بئر وزرعها لأنها أرض بوار ولزم الأمر لوقوف حاكم القضية عليها وسماع شهوده فشهدا شهيدين بموجب مدعاه وأنه متصرف في الأرض وذكروا حدود الأرض من جهتها الأربع وحدها الشمالي أرض بوار أيضاً وطلب من القاضي أن يأتيه بمقدار طولها وعرضها بالمتر في الجلسة الآتية فجاء المدعي بمقدار طولها بالمتر بيد أنه زاد في طولها من الشمال ضعف ما كان قد ادعاه وصدرت حجة الاستحكام فباع نصف القسم الشمالي ومن حجته وكان ذلك كسباً له من عمله هذا الذي لم يتنبه له فضيلة القاضي، بيد أن استدار ودار الزمان وأصبح القضاة يقدرون المحامين الطيبين ذوي الذمم لأنهم يساعدون في تصحيح الدعاوى.
يقول الأستاذ الرافعي نقيب المحامين بمصر: إن رسالة القضاء هي إقامة العدل بين الناس وهي مهمة قدسية تستمد وجودها نيابة عن المجتمع الإنساني في إعطاء كل ذي حق حقه والانتباه للضعيف والمظلوم وهي المهمة الأولى للدولة قال تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ (ص: 26). وهي مهمة القضاء العادل الذي يطمئن الناس في ظله على أرواحهم وحقوقهم وحرياتهم وأموالهم. ومنذ أن وجد القضاء في المجتمعات المتحضرة وجدت المحاماة أي وجد الدفاع عن أصحاب الحقوق أمام القضاء فليس ممكناً للقاضي أن يتبين وجه الحق إلاّ إذا وجد مساعدة من المحامي، فالمحاماة عون القضاء في الوصول إلى الحكم العدل والعدل أساس الملك، ومن أجل ذلك قام التعاون بين القضاء والمحاماة ووجدت الصلة الروحية التي تجمع بينهما، والقضاء لا يستطيع أن يؤدي رسالته بغير المحاماة وأوجبت الشرائع وكالة المحامي عن صاحب الحق في الدعاوى ذات القيمة، وأوجبت ألاّ يحاكم متهم في قضية جنائية إلا إذا دافع عنه محام، فإذا لم يكن له محام ندبت له المحكمة محامياً يدافع عنه وتبطل المحاكمة إذا لم يحضر عنه محام فللقضاء دستوره وتقاليده، وللمحاماة دستورها وتقاليدها، فإذا أدى كل منهما واجبه استقام ميزان العدل واطمأن الناس على حقوقهم.
يقول أحد القضاة المرموقين في إيطاليا وكان أبوه محامياً يقول: لقد أفضى إليّ والدي في آخر أيامه بهذه العبارة: ثق بأن أحكام المحاكم عادلة دائماً إنني لم أجد سبباً للشكوى خلال اثنتين وخمسين سنة من ممارستي للمحاماة من انعدام العدالة فما كسبت قضية إلا وأنا مؤمن بأن الحق كان إلى جانبي وما خسرت قضية إلا وأنا مؤمن بأن الحق كان في جانب خصومي وأنا بدوري يا ابني قضيت خمساً وثلاثين سنة في اشتغالي بالمحاماة وأعتقد كذلك.
أجابني عبد العزيز إذاً قد جاء اليوم يا والدي الذي تعتز فيه بالمحاماة قلت ولكن انتهيت فليبارك الله في المحامين الشباب الصالحين. وإلى هنا كتبت هذه الحلقة الأولى من مذكرات محامي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :614  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 63 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .