شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شباب أنيق.. ولكن..!!
في إحدى الفنادق الفخمة وفي الصالون الكبير وفي زحمة الجمع الغفير من النفوس المرحة، اجتمعت لمزايدة خيرية، وبين الضحكات العالية والنكات الظريفة والنشوى في التسابق إلى الخير بالزيادة على السلع المعروضة، وقفت أتأمل وأعجب من النفوس المندفعة نحو الخير، وكان يزيد جمال ذلك المنظر الأحاسيس الصادقة المرتسمة على وجوههم من القفشات المرحة التي كانوا يشعلون بها حماس المتزايدين. ورغم ارتفاع حرارة الجو بسبب ضغط أنفاس المزدحمين في هذه الغرفة الخاصة بهم، فإنهم لم يحسوا بالضيق والحرج بل كانت أصواتهم تجأر وضحكاتهم تتعالى وأكفهم تصفق كلما نزل إلى الميدان مزايد جديد!
وأنا في غمرة هذه التأملات إذ مر بي شاب أنيق، مر وهو يحملق فيّ وفي عينيه تردد وفيهما تساؤل، ثم توقف فجأة وهو يقول ((إذا لم يخطىء ذكائي فأنا أتشرف بالتحدث إلى السيد… وذكر اسمي)) وودتُ لو أني أنكرت نفسي وأجبت بالنفي إذ أرهبتني طريقة تفرسه في ملامح وجهي، ولكن هل يستطيع أحد أن ينكر ما لا يمكن إنكاره؟ هل يستطيع الإنسان أن ينكر نفسه؟ وأجبت بالإيجاب فواصل حديثه (( أرجو أن لا يزعجك تطفلي فقد قرأت جميع مؤلفاتك)).
وارتاحت نفسي، فقد كانت بداية الحديث - بعد الحملقة والتفرس بداية عادية مألوفة سمعتها كثيراً من قرائي الأعزاء.. وأجبت بعد تنهيدة ارتياح وبكل تواضع ((شكراً وهذا لطف منكم!)) وقال وهو يقطب حاجبيه تقطيباً خفيفاً ((إنك تبذل جهداً كبيراً)). ولاحظت أنه إلى جانب أناقة ملبسه.. وهو أمر يدل على ذوقه الرفيع - ترتسم على وجهه الطيبة والعطف. وتابع حديثه وهو يقول: ((وإني لشديد الشوق إلى التحدث إليك بل لقد بدا لي في الأيام الأخيرة أنه يجب أن أتحدث إليك في شأنها، فإنك تعالج في مؤلفاتك الاجتماعية أحوال الناس وترشدهم إلى الطرق المثالية لإصلاح النفس واستغلال كفاءاتها والوصول بها إلى مرتبة الكمال، إنك تعالج كل هذه المواضيع بسلام ووضوح. إن أبحاثك هذه تستهويني فأدرسها درساً عميقاً وأقتنع بكل نظرياتها بل أؤمن بها، ولكن ويا لخيبة أملي! أفشل فشلاً ذريعاً عندما أضع ما فيها من تجارب موضع العمل. وأنهى حديثه بابتسامة خفيفة حائرة ارتسمت على شفتيه - وأطرقت وقلت في نفسي ((لا يا رجل ليس هذا حديثاً عادياً مألوفاً كما توهمت)) ثم رفعت رأسي وقلت ((آسف أيها العزيز! ولكنه من الواضح أن الكتب لا تستطيع أن تحقق عملياً ما تحتويه من تجارب ما لم تضع هذه التجارب موضع العمل في حياتك الحقيقية)) وأجاب على الفور..
هذه هي النقطة التي أردت أن أتحدث إليك بها، فقد عجزت عن التطبيق، فكلما بدأت التطبيق أخفقت، ينقصني العزم والتصميم لا أستطيع أن أحصر ذهني وأضغط على نفسي لأبدأ عملياً، وقد أغالب نفسي وأبدأ فعلاً ولكن لا يمضي يوم أو يومان حتى أفشل وأعود إلى سيرتي الأولى وأغالب مرة أخرى ثم أفشل.. وهكذا تمضي الأيام والسنون وأنا كما أنا أتقدم خطوة واحدة، إنني في حيرة من أمري، لا تلمني فلا فائدة من اللوم فقد لمت نفسي وأنبتها كثيراً على هذا القصور ولكن لم استطع التغلب عليها!
إني أريد وأشتهي ولكن لا أستطيع إدراك ما أريد وقلت ((ولكن ما الذي تريده بالتحديد))؟ فقال ((أريد أن ارتفع بمستواي الثقافي إلى أقصى حد، أريد أن أكون إنساناً كاملاً أريد أن أكون ناجحاً أريد أن أستفيد من كل ملكاتي، لا أريد أن تضيع أوقاتي سدى. لقد نصحت في مؤلفاتك أن يجمع الإنسان أمره وأن يكون صلباً عزوماً متمسكاً بمراده لا يكل من العمل للوصول إليه. وإني كما شرحت لك أفقد العزم في نفسي بل لا أجد لها أثراً فيه. ومع ذلك فإني شديد الرغبة في اتباع نصيحتك والعمل بها.
إنك لم تعالج في أبحاثك الكثيرة مثل هذه الحالة التي أعانيها - وماذا أريد أن أقول أيضاً؟! أعتقد أنها حالة شاذة لا تستطيع بحثها أو معالجتها فيما تعالج من المشاكل الاجتماعية، وأخيراً أرجو أن تغفر لي ولا تؤاخذني على ما أضعته من وقتك في هذه الدردشة الفارغة، ولكني مؤمن أنه يهمك أن تسمع مثل هذا الكلام من قرائك المعجبين بأبحاثك، فأنت كباحث اجتماعي تستهويك معرفة مشاكل المجتمع وحالات أفراده المختلفة.
وأخذتني الدهشة لهذه المحاضرة غير المنتظرة - ووقفت لحظة صامتاً مبهوراً وقبل أن أفيق من دهشتي كان قد انحنى انحناءة لطيفة واختفى بين الجموع، وجعلت أدور هنا وهناك مفتشاً باحثاً عنه ولكنه ضاع في الزحام ولم أتمكن من الاستمرار في متابعته، فإنه ليس من الأدب الجري وراء شخص في مثل هذا الجمع الحاشد وأسفت كثيراً فقد مضى ولم يعطني فرصة لأعرف من يكون هذا الشاب:
هل هو تلميذ شاب أو والد شاب أم باحث شاب؟ إني لم أستطع أن أعرف عنه سوى ذلك الوجه الذي عليه مسحة من الحزن تطل من عينيه دلائل النبل والتعطف. لقد كان لحديثه المشتمل على الرغبة والرهبة واللوم والتقريع أثر السهم المضطرب في أحشائي.
وقد مضى ولم يزل سهمه يضطرب بين جنبي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :643  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 101 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.