شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كامل مروة يتدخّل
قال الدكتور المنجد، اتّصلت بمستشفى الجامعة مرة أخرى بقسم الاستعلامات وقلت للممرضة المناوبة: أعطيني المسؤول في هذا القسم، فأعطتني المسؤول، فقلت له: اسمع، فخري بك البارودي، الزعيم العربي المجاهد مريض ومعه نوبة حادة، وعندي الدكتور فلان ينصح بنقله حالاً إلى المستشفى عندكم في غرفة من غرفه لإسعافه، فسكت لحظة ثم قال لي: إنني آسف أن لا توجد في هذه الليلة غرفة خالية، وقفل الخط.
قال الدكتور صلاح: كنت من أوّل هذه المحاورات أعلم أن الأستاذ كامل مروّة هو خير من يقوم بالنجدة لما له ولجريدته "الحياة" من مكانة، ولكني لم أرد أن أزعجه بخبر صديقه وضيفه، خصوصاً والأستاذ مروّة، في منزله ببلدة "بيت مري" وخشيت بعد إزعاجه بالخبر أن يهبط من هناك مستعجلاً بسيارته والمسافة تحتاج إلى أكثر من ساعة، ولكنني مضطر بعدما سمعت، أن أوقظه وأخبره بما جرى، ليتصرّف بما يرى، وأيقظت الأستاذ كامل من نومه وأخبرته بالقصة وقال لي: أعطني خمس دقائق، وسأطلبك بعدها لأخبرك أن غرفة محترمة قد حجزت له في مستشفى الجامعة، لتخبر الدكتور المعالج إذا كان بالإمكان نقله في المساء أو تركه للصباح الذي لم تبق عليه إلاّ ساعات، وقفل الهاتف، ومرّت الدقائق الخمس، فإذا به يفتح هاتفاً عليّ ويقول لي: لقد تمّ حجز الغرفة فما الذي رأى الدكتور، وكان الدكتور المعالج قد أخبرني عندما أخبرته بمسعى الأستاذ كامل لحجز غرفة في المستشفى بعد خمس دقائق، أن فخري بك بعد إعطائه الإبرة المستعجلة قد غفا واستسلم للنوم، ولعلّ من المصلحة تركه حتى الساعة السابعة صباحاً، وحينئذ ننقله إلى المستشفى، فأخبرت الأخ كامل برأي الطبيب، فوافق عليه، وقال لي: أنا سأكون في تلك الساعة عنده، وسأتولّى نقله وإدخاله المستشفى، قال الدكتور المنجد، عندما أخبرت الطبيب بذلك شكرته، وكأني أشير بأن المسألة قد فرجت، استرخى على كرسيه وقال لي: وأنا سأنام في هذا الكرسي كما ستنام أنت على الكرسي الآخر، وسننتظر معاً إلى أن يحين الوقت المحدّد وسأصحبه من هنا حتى يرقد في سريره في المستشفى، وأصرّ على ذلك ودارت بي الدنيا، والكلام للدكتور المنجد أيضاً، أفكّر في هذه النجدة الإنسانية من طبيب غير عربي تظهر عجمته في كلامه، ولكن سمع برجل من رجالات العرب، وشاهد مرضه، أبى أن يفارقه عندما لم يستجب أحد من الأطباء العرب لنجدة (من ضيّع في الأوهام عمره!). قال الدكتور صلاح: وبقيت مع الطبيب نتهامس لئلا نزعج فخري بك وهو مستسلم لنوم عميق نحو أربع ساعات، كما ننتهز فيها التهويم الطارئ المتقطع فنغمض أجفاننا ونستسلم لاسترخاء غير مريح، وقمنا في الوقت المحدّد وجاء كامل من "بيت مري" وكان فخري بك قد أفاق، وخرجنا نحن الثلاثة: الطبيب، وكامل وأنا، نحفّ بالرجل، وحملناه إلى المستشفى فوجدنا الغرفة كما وعدوا بها الأستاذ كامل، فهو صاحب جريدة "الحياة" والدنيا مظاهر ومصالح وكأنما لسان حال "فخري البارودي" محمولاً يقول:
يا أيها الرجل المرخي عمامته
هذا زمانك إني قد مضى زمني
ولا عمامة لكامل، ولكنها هيبة الصحافة ورجالها.
وبقي فخري بك نحو أسبوعين في المستشفى، وكتبت "الحياة" في اليوم التالي خبر دخوله إليه، وهو ما أشرت إليه، فجئت في من جاء من أصدقائه وعارفي مقامه نزوره، وعلمت بعد ذلك من الدكتور المنجد ومن الأخ كامل أنه قد تخطّى الأزمة التي مرّ بها، وقدر أطباء الجامعة أنه يستطيع مغادرة المستشفى، إلاّ أنهم ينصحون بأن ينتقل إلى مكان هادئ وجوّ جاف لا رطوبة فيه، وكان الأستاذ كامل يريد أن يصحبه إلى بيته في "بيت مري" وينزله ضيفاً عليه كما كان ضيفاً عليه في الفندق، ولكن الطبيب قال له: أقترح أن يكون في "شتورا" فجوّها نقي وصحي لا رطوبة فيه ولا ندى، وهو ما يحتاج إليه فخري بك.
وذهب "كامل" والدكتور "المنجد" وأعدّ له نُزُلاً في "شتورا" ونقل إلى هناك، وبقيا يتردّدان لزيارته، وقد استجمّ وانتعش وعادت له حيويته ونكاته وطرفه وملحه، وبدأ يدندن ويغنّي في الصباح الباكر إذا ما أطلّ من نافذة غرفته على ذلك السهل الفسيح، الذي يحيط بمنزله مع عصافير الصباح، وصحبت الأستاذ كامل في مرة من المرّات لزيارته، ودخلنا عليه فوجدناه كالقمري المغرّد، ولم يكن يرانا حتى قال: (تَعُوا) لأخبركم بالمفاجأة فقد (اكتمل النّقْرُ بالزَعْرور)! فقد جاءتني البارحة لزيارتي سيدة تحمل سلة مملوءة بالفواكه وسلة أخرى مملوءة بما لذّ وطاب من أنواع الأجبان المختلفة والزيتون والحلويات تحملها بيديها، وعندما دخلت غرفتي أطلقت ترحيبة مصلصلة وهي تقول لي: يا صباح الخير يا زعيم الشباب! فرددت عليها التحية، وأخذت أتفرّس في ملامح وجهها عسى أن تسعفني الذاكرة بمعرفتها، فقالت لي: ألم تعرفني؟ قلت لها: (يا تقبريني) بعد بضع دقائق سأخبرك باسمك، على أمل أن أستنجد بذاكرتي، فقالت لي: لا حاجة إلى التذكّر، فأنا "بديعة مصابني" ولعلك قد سمعت بأني قد أقمت مزرعة للدواجن ومتجراً لأنواع الطيور والفواكه والحلويات والأجبان في "شتورا"، وأنا في خدمتك فأنت في ضيافتي، وكل شيء أملكه تحت أمرك! واغرورقت عينا فخري بك وهو يصل إلى هذه الجملة، وقال لنا: انظروا لا يزال في الدنيا خير، فالأطباء العرب اعتذروا في ليلة مرضي عن إسعافي ونجدتي وهرع إليّ طبيب لم يدخل بلاده الأصلية بين الأقطار التي تغنّيت بها في:
(بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن
إلى مصر فتطوان)
وهو بعيد... بعيد العروق والجذور عن هذه البلدان العربية لا يمتّ إليها بصلة، واليوم، تجيئني مضيفة جديدة بسلّتين من أفخم ما أنتجته مزارعها التي جمعت ثمنها بعرقها من مسرحها في مصر، ورقصاتها وراقصاتها هناك، وهكذا كيف انتهى بنا الحال!
ثم خاطبني: ألا تزال على رأيك يا عبد الله في عدم تغيير أسماء أبنائك يعرب، وقحطان، وبلقيس وسبأ بأسماء غيرها! فضحكنا وقلت له: يا مولانا! هذه أزمات عربية مارّة ولا نريد أن نصل إلى هذه الدرجة من التشاؤم أو القنوط، فقال لي كلمة شامية مستملحة يقولها للناس ولا تقبل إلاّ منه ولا مجال لذكرها، وانفجرنا نضحك!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :490  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 149 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.