شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
دفاع عن أدب مصر
ولقد عز عليّ وأنا في سَوْرة شبابي وفي عمق مَحبتي وإيماني لمصر وجهابذة علمائها ومفكريها وكتابها وشعرائها أن يسلقوا بمثل تلك المقالات الملتهبة، التي تدَّعي أن بعض أولئك الكتاب المصريين كانوا يسطون على بعض مقالات الأدباء الإفرنسيين وينسبونها إلى أنفسهم. وكانت "المكشوف" تتبنى هذه الحملة وتدعو إليها وتؤلب بها الشباب الطالع على عمالقة مصر، فقلت: لا بد لي من زيارة المكشوف والتعرف على أصحابها والمناقشة مع كتابها، لأنني لم أتصور أن ما يرمون به النهضة الثقافية في مصر وأصحابها هو صحيح، ووصلت إلى دار المكشوف وهي تقع في نفس العمارة التي تقع فيها جريدة بيروت أمام مسرح "التياترو" الكبير.
ولا أزال أتذكر كيف رقيت سلم مدخل العمارة العالي أقطعه وثباً، فيما رأيت على يميني باب غرفة كتب عليه "دار المكشوف"، فدخلته هادئاً متحمساً مسلماً على الرجل الذي كان جالساً على مكتبة الذي يتناثر على جوانبه مجموعة من زواره وهو في استقبال ضيوفه، فسألت عن الأستاذ فؤاد حبيش، فرفع إليّ رأسه وهو يقول: أنا، فعرفته بنفسي، فسألني: أنت عراقي؟ فقلت: لا من الحجاز، فاهتز لكلمة الحجاز لقلة من يرى منهم بين زواره، أو لعلني كنت الأول يومئذ ممن ينتسبون للحجاز يدخل مكتبه، فرحب الأستاذ حبيش بي مبتسماً وأشار إلى كرسي بجانبه وهو يقول: تفضل. فحييته تحية صادقة وعرفته بأنني طالب في الكلية الثانوية من الجامعة الأمريكية، وقلت له: إنني من قراء المكشوف والمتعلقين بها، ولقد أحبب أن أتعرف عليك وأن أستفسر منك عن هذه السلسلة من المقالات الجارحة التي يوجهها لفيف من الكتاب اللبنانيين إلى لفيف من عمالقة الكتاب المصريين.
فابتسم بهدوء وقال لي: هل لك مأخذ على ما قرأت؟ قلت له: لا مأخذ لي، بل أريد أن أتعرف على صحة هذه الدعاوى من أن ذلك اللفيف المصري كان بعضهم يختلس من الآداب الإفرنسية وينشرها في مصر على أنها من إنتاجه الفكري، قال: لقد كفيناك المؤونة حينما وضعنا النصوص الإفرنسية بحروفها الإفرنجية وأشرنا إلى مصادرها، ووضعنا إلى جانبها ترجمتها العربية المطابقة لها، وأشرنا إلى الكاتب المصري الذي يدَّعي أنها له وهي ليست له، وإنما لكاتب إفرنسي. فقلت له: ألا ترى أن هذه الحملة مبالغ فيها، وأن من كتبها لا يقصد التصحيح بقدر ما يقصد التشهير والتجريح، وأن يحيط ذلك النفر من رواد الحركة الأدبية بمصر بضباب يعتم به على إشراق وبيان هذه النهضة العربية في مصر وعلى ريادتها للأمة العربية بأسرها.
فابتسم الأستاذ حبيش وهو يقول لي: هل تتحمسون في الحجاز بمثل هذا الحماس لكتاب مصر؟ قلت له: نعم، لأننا تلاميذ لأدباء وعلماء مصر، ومريدون لهم، ونعتبر مصر ومن انتسب إليها أو وجد بها معقل العروبة. قال لي: وهل يقر المصريون بالعروبة التي تنسبونها لهم، فقلت له: هذا أمر لا يختلف فيه اثنان، قال لي: ألا تعلم بالحركة الفرعونية التي ينتمي إليها رواد الأدب المصري والثقافة العربية في مصر، قلت له: لعلهم قد تأثروا بـ "الفيروس" المعدي الذي جاءهم من لبنان عن "الفينيقية"، فتكونون أنتم الذين أثرتم مثل هذه الزوابع في مصر وسوريا ولبنان. أشرق وجه الأستاذ عندما أثرت هذه النقطة وقال لي: صدقني يا أخي إن كبار الأدباء في مصر لا يؤمنون بالعروبة التي تؤمنون أنتم بها في خارج مصر، فقلت له: وهل تؤمنون أنتم بالعروبة التي لا يعترف بها بعض المصريين؟!
فقال لي: في لبنان تجد لدينا نهضة عربية لا ينكرها على لبنان وسوريا منكر، والحركة الفينيقية التي لدينا هي حركة صحيحة انبعثت من شواطىء البحر الأبيض المتوسط، فنحن ننتسب إليها، ونشيد بها، فقلت له: وقبل أن تظهر على شواطىء البحر الأبيض أين كانت؟! قال: ما الذي تقصد؟، قلت له: إن من المسلم به تماماً أن الفينيقيين هم سكان شرق الجزيرة العربية وجنوبها، لا يختلف في ذلك مختلف فهي إذن حركة عربية وتجريد الفينيقية من عروبتها ومنابعها ولباسها، ما يحاول بعضهم أن يبعد بها عن جزيرة العرب إلى البحر الأبيض حتى أقصاه، هو أيضاً مما نأخذه عليكم، ونرى فيه ما نرى في فرعونية من يحاربكم وهو شطط مقصود منكم ومنهم.
فإذن كان الفينيقيون هم عرباً من جزيرة العرب في شواطىء الخليج ومن جنوب الجزيرة بالذات من اليمن وحضرموت وعمان، خرجت موجاتهم في عصور متباينة ومتباعدة ومختلفة يتلو إحداها الأخرى إلى ما وراء جزيرتهم، حتى استقرت في شواطىء الشام الكبرى، بعد أن مرت بالشام وبالأماكن الشمالية والجنوبية إلى ما وراء بوابة جبل طارق، بل وإلى ما خلفه من الشمال الغربي وفي تونس "قرطاج" واليونان بصفة خاصة.
ومشى بحثنا ووقفنا حول هذا الموضوع ساعة طويلة من الزمن، كان بعض إخواننا الأدباء قد جاءوا كعادتهم للسلام على الأستاذ حبيش، ويعلم الله أن الأستاذ فؤاد حبيش كان قرير العين بزيارتي له وجدلي معه، وكان فرحاً بسماعه ما سمع مما لا يخفى عليه، ولهذا كان يعرفني على من يجيء ويشركه معنا في المناقشة، ولم تنته هذه الزيارة حتى أصبحت لي علاقة بعدد من أولئك الكتاب بمجلة "المكشوف"، ثم تطورت حتى قال لي الأستاذ: يا أخي لماذا لا تكتب لنا تعريفاً شاملاً عن الحركة الأدبية في الجزيرة العربية، وأنت أول من جاءنا منها ولا نعرف شيئاً عنها؟ فقلت: إنني أعدك بهذا وسأكتب لعدد من إخواني الشباب في الجزيرة ليوافوا مجلة المكشوف بما نأمل أن يلقي أضواء على بوادر حركة متواضعة بدأت الآن تومض بين جبال الجزيرة العربية وعلى سهولها وشواطئها.
فرحت بذلك فرحاً صادقاً، وعدت إلى الكلية فكتبت كتاباً من صفحات ثلاث أو أربع جعلته باسم طلائع كتابنا من أصدقائي، وبعثته إليهم في مكة بواسطة صديقي الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود، ورجوته حملهم على الكتابة في "المكشوف"، وكان بينهم الأساتذة محمد حسن عواد، وعبد الوهاب آشي، ومحمد سعيد عبد المقصود، ومحمد سرور، وحمزة شحاتة، وأحمد قنديل، وحسين سرحان، ومحمد سعيد العامودي، ومحمد حسن الكتبي، وأحمد إبراهيم الغزاوي، وحامد محمد الكعكي، ومحمد خليل العناني، وأحمد السباعي، وعزيز ضياء، وعدد آخر لا تحضرني أسماؤهم. وقلت في كتابي إليهم: إن الناس لا يعرفون عنكم شيئاً في أنحاء العالم العربي بأسره، وذكرت لهم الحركة الأدبية في لبنان وأكثرهم يعرف الكثير عنها، إلا أنني فصلت ما يجب أن يكون ملتقىً مشتركاً بين أدب الجزيرة العربية وبين أدباء لبنان ثم سوريا وفلسطين والأردن بعد ذلك، على أن هناك جسراً آخر كان ممدوداً بين مصر وبين الحجاز يجب أن يقوى وتتضافر الجهود لنقله من العزلة إلى الهواء البراح الذي يحيط بنا من وطننا العربي الكبير.
وطلبت من كل واحد من أولئك الإخوان بواسطة الصديق محمد سعيد عبد المقصود أن يكتب مقالاً أو تعريفاً بنفسه وتعريفاً بالأدب في الحجاز، وشدَّدت في طلبي وقلت: إني قد وعدت مجلة "المكشوف" بذلك ومجلة المعرض فأرجو ألا "تفشلوني" فيما أحاول أن نخرج به لمواكبة النهضة العربية التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى في كل مكان من الوطن العربي الكبير.
وذهب الكتاب، ومرت الأسابيع والشهور ولم أحصل على جواب منهم إلا من الأخ محمد عبد المقصود، وآخر من عبد الوهاب آشي، وثالث من السيد محمد حسن كتبي أحتفظ بين أوراقي بها. وكان أكثرها تجاوباً من الأستاذ محمد حسن الكتبي وآمل أن أنشره، بنصه في مناسبة أخرى، وفيه وفي كتاب الآشي وعبد المقصود خيبة أمل كبيرة في أن "الجماعة" هنا غير جادين في الخروج من قوقعاتهم، وتخطي الحواجز إلى تلك الأماكن التي أشرت إليها.
ويقول محمد سعيد: إنني قد دعوت أكثر الجماعة، وقرأت لهم كتابك وتباحثنا فيما يجب أن يلبى به الطلب، فوعد كل منهم بأنه سيفعل، ثم يقول: وأنا أعتقد أنه لن يفعل لأنك أنت أعلم بالحال بما لا يحتاج إلى شرح وتطويل. الأستاذ عبد الوهاب آشي قال لي في جوابه مثل ما قال لي أبو عبد المقصود، والأستاذ محمد حسن كتبي كتب لي مع جوابه المطول مقالين أدبيين عن حركة الأدب في الحجاز، فرحت بهما وسلمتهما لرئيس وصاحب مجلة "المكشوف" ففرح بهما ونشرهما.
وفي الوقت الذي كنت على اتصال بإخواننا الأدباء في مكة وجدة كنت أتعاون مع زميلي في الجامعة الأمريكية يومئذ، الأستاذ أحمد عبد الجبار في التعرف على أدباء لبنان، والتعريف بالحركة الأدبية الحجازية، فكان الأخ أحمد على صلة فيما بعد بأدباء مجلة "الأديب" عند صدورها واستقطابها لعدد من أدباء سوريا ولبنان أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسهم صاحبها النابغة الأديب الصديق المكافح ألبير أديب، ولقد كتب الأستاذ أحمد مجموعة من المقالات بعنوان "ويسألونك عن الأدب في الحجاز"، نشرت في مجلة المكشوف وأخرى في مجلة (الأديب). وكنت أنا جاداً في التجوال بين دور الصحف في بيروت ودمشق وفي الأندية والجمعيات الأدبية في الجامعة الأمريكية، أختلط بالأدباء والشعراء وأفرح بلقائهم ويفرحون هم بلقائي.
كانت أهداف الشباب العربي يومئذ صافية ولهجاتهم صادقة وقلوبهم مفعمة بالمحبة والإخاء والصدق، وكنا نتعاون على كل ما يرفع شأن العروبة والتعريف بها.. وفي جمعية العروة الوثقى بالجامعة العليا، وفي جمعية (الشباب العربي)، وفي الكلية الثانوية العامة بها، يوم كنا نتحلق في اجتماعات وندوات وسهرات، وكنا من شتى الأقطار العربية كلها، لا همَّ لنا إلا العمل على مكافحة الاستعمار في الوطن العربي الواسع من الخليج إلى أقصى المحيط من المغرب الأقصى – كان الأستاذ قسطنطين زريق رائداً من رواد شباب "العروة الوثقى" بالجامعة ومستشاراً لها، وكان معه عدد من المؤمنين بهذه الدعوة والمبشرين بها، وأتذكر بين الدعاة الكثيرين من الأساتذة والطلاب في أواخر الثلاثينيات الميلادية بينهم من ذكرته، وبينهم الأستاذ الموسوعي العبقري الكبير الصديق منير بعلبكي، صاحب موسوعة (المورد)، كان مستشاراً لجمعية الشباب العربي يوم كنت رئيساً لها.
فكنا نتعاون في بث الروح العربية بين جماهير تلك الكتلة، وكنا منتسبين أيضاً إلى الجمعية الكبيرة (العروة الوثقى) التي انتسبت إليها، واشترك في عضويتها جماعات عربية كبيرة كانت النخبة الواعية في الحركات العربية الاستقلالية والمحاربة للاستعمار بأسره. وأتذكر الأصدقاء: رشدي المعلوف، والأستاذ عيسى العيسى من كبار موظفي الإذاعة البريطانية العربية، والأستاذ نصري المعلوف، وفؤاد مفرج، وحسيب وعبد الحميد سراج ابني دولة الشيخ عبد الله سراج من الطائف، والدكتور أمجد غنيمة من الأردن، والأستاذ أحمد عبد الجبار، والوزير عبد المنعم الرفاعي، ومحمد كنعان الخطيب، والسيد فخري الشيخ من العراق، والمهندس عارف العارف.
هذه أسماء لذلك النفر من الشباب العرب كانت في الحقبة المتداولة بين عامي 1925 و 1941م، يوم كنت أنا بينهم في الكلية الثانوية أعمل في ذلك المجال، ولقد سبقنا قبل ذلك عدد كبير جداً من عباقرة مثقفي الشباب من أساتذة وطلاب.
ثم جاء بعدنا مئات تخرجوا من الجامعة الأمريكية، وعادوا إلى بلدانهم فتسلموا مقاليد القيادة والريادة من الأردن وفلسطين وسورية، والعراق.. وعلى الخصوص ألوف من هؤلاء كانوا ظاهرة استلفتت الأنظار في مؤتمر سان فرانسيسكو، عندما أسست المؤسسة العالمية الكبرى (هيئة الأمم المتحدة) فيها عام 1945م، فكان خريجو الجامعة الأمريكية والمنتسبون إليها نخبة قيادية بارزة. أتذكر طليعتهم الدكاترة والأساتذة: فارس الخوري، وشارل مالك، وفاضل الجمالي، وناظم القدسي، ثم تجيء نخبة الشباب الذين التفوا حولهم، وشاركوا معهم وهم كثيرون (1) .
أسرد هذه الخواطر العابرة. والذكريات المبعثرة الآن، مترجماً عن ذلك العهد الذي عشناه ونشأنا فيه، واضطربنا في مجالاته، يغمرنا كلنا الصفاء والحب والإخلاص ولا شيء غيره. لم تكن العداوة الشرسة، والحقد الدفين، والبغضاء والفتنة قد غمرت قلوب الشباب العربي بعد. ولم تكن لنا قضايا توحدنا وتجمعنا إلا العمل سراً وعلناً على إخراج الاستعمار الغربي من أقطارنا العربية كلها، لا نفرق بين أحد منهم، ولا نعمل لقطر عربي غير الأقطار العربية الشقيقة كلها، أو كأننا:
... من الشام لبغدان
ومن مصر إلى يمن إلى نجد وتطوان
كما قال صاحب هذا النشيد صديقنا وشيخنا وزعيم الشباب العربي بأسره المجاهد فخري البارودي رحمه الله، وهنأه الله بانتقاله إلى رحمة الله قبل أن يشاهد ما نحن فيه. لم نكن نعرف، ولا يوجد بيننا التقدمي ولا الرجعي، ولا الذيلي ولا العميل، ولا الرأسمالي ولا المسحوق، ولا الأذناب، ولا الخوارج ولا المنحرفون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :766  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.