شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
القَصيْــدَة الأربَــــــعُون
في إحدى الحكايات الشفاهية. يروى أن أميراً نبيلاً طيب القلب، ماتت زوجته وله منها بنت واحدة هي كل ما أنجب. ولم يتزوج ونذر حياته لتعليم البنت وتهذيبها. ونشأت على محبة القرآن والشعر وما امتلكه العصر من الثقافة.
بلغت الأميرة الصغيرة سن النضج. وآن لها أن يكون لها بعل كباقي النساء. وتقدم منها كبار الإمارة فلم يخفق قلبها لأحد. لكن حب الشعر أودع في أحشائها محبة شاعر وسيم ملك عليها عواطفها. ولأن الشعر كان كل ممتلكات الشاعر، والأميرة تعرف ذلك. رضيت أن يكون صداقها عدداً من القصائد الجياد ينشدها الشاعر العاشق المعشوق على سمعها بدون أن يراها. وهي التي حددت العدد الأربعين للقصائد.
وهام الشاعر الوسيم في وديان عبقر يتصيد الصور من مقالعها. وينشد أميرته قصيدة كل مساء من وراء نافذة قصرها. والأميرة توقد الشموع بأعداد القصائد.
ودنا موعد اللقاء بين القلبين الشابين. ولم يبق إلا القصيدة الأخيرة ورقمها أربعون. لكن الشاعر اختفى في الليلة الأربعين ذاتها وقبل أن يُسمع الأميرة قريضه. هكذا بصورة غامضة. ولم تملك الأميرة الحسناء إلا أن تقتل نفسها حزناً على الشاعر المفقود. وكأنها وفت وعدها ولم تحنث عهدها. وكتبتُ من وحي ذلك الحدث قصيدتي التي أسميتها القصيدة الأربعين.
ولم أتوقف عند القصيدة. بل أنشأت حكاية شعرية أسميتها حكاية الأميرة جنان. نشرت في دار طلاس بدمشق عام 1985 اعتبرها النقاد أول عمل من جنسه في تاريخ الشعر العربي. ثم أنشأت من الحكاية ذاتها مسرحية شعرية اسمها: جنان.
ولئن كانت الحكاية جوهر المبدعات الثلاث. ظلت الأعمال الثلاثة متباعدة بصياغتها وجزئياتها ولغتها ليحمل كل عمل منها مشروع وجوده.
1981
(1)
منحتْكَ بَوْحَ قوامِها الْعُذْريِّ إلهاماً
وقامَتَها اللَّيانْ
وتخَيَّرَتْكَ وأنتَ تَرسمُها بباقَةِ أُقْحُوانْ
أَسْكَنْتَ حُبَّكَ عبقريَّ الشِّعرِ
مُخْتاراً كرائِمَهُ الْهِجانْ
ونَجحْتَ في نَسْجِ الليالي الأَرْبعينَ
وليسَ إلاَّ عُرْوُتانْ
ودَنا الْقِطافُ
وبينَ قلبكَ والْحَبيبةِ خَفْقَتانْ
والشِّعْرُ أَرْهَفَ سَمْعَهُ شَوْقاً
وَوَشْوشَهُ افْتِنانْ
قُلْ لِلْقَصيدِ الأَربعينَ: ألا انْتَهَيْتَ؟
الْوقتُ حانْ
وشقائِقُ النُّعْمانِ أَنْداها الْبَيانْ
ومَزارعُ الْكافورِ جاذَبَها الْهَوى
فأَتتْ إليكَ يَدَيْ حَنانْ
وَقِبابُ ضوءٍ أوقِدَتْ والصَّعْبُ لانْ
والكبرياءُ ترجَّلَتْ وجَوادُها صَعْبُ الْمِرانْ
لِتُزَفَّ عاشِقَةُ الْقريضِ على قَصائِدها الْحِسانْ
(2)
وتَفقَّدَتْكَ.. فَقيلَ: ثَمَّةَ لَحْظتانْ
لِيَجيءَ فارِسُكِ الْحَبيبُ إليكِ
ثم تُحَلِّقانْ
فبأَيِّ آلاءِ الْهوى سَتُسَبِّحانْ؟
وبأيِّ مَجْنونِ الْخُمورِ سَتَسْكَران؟
ما دامَ مَهْرُكِ أُكْمِلَتْ أَشْراطُهُ
وكِتابُ حُبِّكِ غُصَّ بالْقُبَلِ الْحَوانْ
تيهي بثَوْبِ زَفافِكِ الْوَرْديِّ
زَهْرَةَ بَيْلَسانْ
وتَفَتَّحي
فَالْياسَمينُ على جُفونكِ باقَتانْ
وسأَلْتِ ثانِيَةً
فَقيلَ: دَقيقَتانْ
ويتم إقفال الستار عليكما
لِتَنامَ في حِضْنِ الْمَحَبَّةِ مُهْجَتانْ
لا تَجْزَعي
إنَّ الْمُتَيَّمَ قادِمٌ
شَفَتاهُ في أَلَقِ الْقَصيدِ الأَربعينَ غَريقَتانْ
لا تَقْلَقي.. فالعُرْسُ دانْ
(3)
لكنَّ جِسْرَ الانْتظارِ امْتَدَّ.. ضاقَ الْمِحْجَرانْ
وتَخَلَّعَ الصَّبْرُ الصَّدِيُّ مِنَ الضُّلوعِ
وفاحَ مِثْلَ الزَّعْفَرانْ
أَيَكونُ هذا اللَّيْلُ مَجْنوناً؟
وأُفْلِتَ مِنْ مُراقَبَةِ الزِّمانْ؟
أَمْ أَنَّ شاعِرَها
أَضَلَّ الدَّرْبَ. أَمْ ضَلَّ اللِّسانْ
وتَنهَّدَتْ عِطْراً
وأَطْلَقَ قَلْبُها لِلظَّنِّ مَلْجومَ الْعَنانْ
وتَنَفَّسَتْ خَمْراً تَخَزَّنَ رُبْعَ قَرْنٍ
في مَجانيها اللِّدانْ
وتَدحْرجَتْ مِنْ بينِ إِسْبالِ الْجُفونِ
على حَياءٍ دَمْعَتانْ
قالتْ وَصيفَتُها:
عَشِقْتِ الشاعِرَ الْعُذْرِيَّ سَيِّدَتي الْحَصانْ
فَتَرقْرَقَ الْخَجَلُ النَّبيلُ على الْجُفونِ
وفَتَّحَتْ في وَجْنَتَيْها وَرْدَتانْ
واسْتَسْلَمَتْ للدَّمْعِ تَنْثُرهُ
بِلَهْفَةِ مَنْ تَغَشَّاها امْتِهانْ
قالَتْ وَصيفَتُها: فديتُك
خَفِّفي هذي الشُّفوفَ
ليَغْسِلَ اللَّيْلُ الْجُمانْ
وتَخَلَّصي مِنْ كُلِّ ما فَطَمَ الْجَمالَ عَنِ الْهَوى
لِيَلينَ جيدُ الْعُنْفُوانْ
فَالأَرْبَعونَ قَصيدَةً
نَهَكَتْ حَبيبَكِ حَيْثُ كانْ
(4)
فكَّتْ خُيوطَ الْمِئْزَرِ الْمَذْعورِ
فانْسَدَلَ الْحَريرُ على الْحَررِ
وجُنَّ بالْحُسْنِ الْمَكانْ
سَكِرَتْ شُموعُ الْحُجْرَةِ الْمِعْطارِ
واخْتَنَقَ الرَّفيفُ على الزَّيانْ
والطُّهْرُ بارَكَهُ الدُّجى
في جِسْمِ راعِشَةِ الْكِيانْ
قالتْ وَصيفَتُها: فَدَيْتُكِ
أَيُّ تَصْويرٍ أَبانْ
عَبْرَ الْقَصائِدِ لَيْلَ هذا الْهُنْدُوانْ؟
وهَلِ اسْتَطاعَتْ أَبْجَدِيَّةُ شاعِرٍ
رَسْمَ الْقُطوفِ؟
وكُلُّ دائِرةٍ جِنانْ؟
حَقْلٌ مِنَ الأَبانوسِ شَعْرُكِ
نازَعَتْهُ جَديلَتانْ
والْجيدُ زَفَّةُ أَنْجُمِ سُكِبَتْ بغابَةِ خَيْزُرانْ
والْخَصْرُ مِثْلُ الْجَدْوَلِ الْمَخْنوقِ
تَسْبَحُ في نِهايَتِهِ الْوَضيئَةِ بَطَّتانْ
وعلى امْتِدادِ اللَّوْحةِ الْبَيْضاءِ
تَنْعَسُ مَوْجَتانْ
مِثْلَ الْقرارِ انْصَبَّ في أَلَقِ الضُّحى
مَنْحوتَتانْ
(5)
دخَلَ الصَّباحُ مُحَمِّلاً صَبَواتِهِ
مِنْ دونِ إِذنٍ أَوْ أَذانْ
وجَثا يُداعِبُ ما تَوَهَّجَ مِنْ قِبابِ الْوَرْدِ
مَخْلــوعَ الْجَـنـانْ
شَهَقَتْ وأَجْفَلَها الصَّباحُ فَخاصَمَتْـهُ
ولم يكُنْ لِلصُّبْحِ في حـرْبِ سِنـانْ
َنزَعَتْ مَفاِتنَ حُسْنِها مِـنْ ضَوئـهِ
فاخْتَلَّ عَرْشُ الصُّبْح
واحْتَملَ الْهَزيمَةَ صَوْلَجانْ
فَبَكى الصَّباحُ مُبَعْثِراً دَمْعَ النَّدى
حَبَباً على كَتِفَيْ جِنانْ
وتَبلَّجَ الْقَدُّ الْوَضيءُ تَكَبُّراً
وسُكوتُ طَلَّتهِ أَغانْ
قالَ الصَّباحُ لها: اسْمَعي
إني وشاعِرُكِ الْغَريبُ لَخاسِرانْ
إنَّ الْحَبيبَ
انْسَلَّ في غَلَسٍ وَبانْ
ذابَتْ أَصابعُهُ
بِحِبْرِ الأَرْبعينَ قَصيدَةً
وكَبا برِحْلَتِهِ الْحِصانْ
أَكلَتْ ذِئابُ الْغابِ مُهْجَتهُ
ونامَتْ في الْعَراءِ قَصيدَتانْ
فَهُما بصَحْراءِ الْغَرابَةِ غُرْبتانْ
كُفِّي جُموحَكِ عَنْ مُجاهَرَةِ الْعَيانْ
قالتْ: خَسِئْتَ مُبَشِّراً
اللَّيْلُ أَكْرَمُ منكَ مُرْتَقَباً
وإني والدُّجى مُتَآخِيانْ
وتَلفَّتتْ نحوَ الْوصيفَةِ:
اِسْمَعي
الشَّاعِرُ الْمَقْتولُ
هَلْ خَسِرَ الرِّهانْ؟
وأَنا أَأَحْيا لَوْ حَييتُ على الْهَوانْ؟
حاشا الطَّهارَةُ أَنْ يُلامِسَها جَبانْ
فأنا بقلبِ الشّاعرِ الْمَقْتولِ ساكِنَةٌ
وفي قَلبي اسْتَكانْ
قولي لمنْ يَأْتي بأني قد زُفِفْتُ إليهِ
مَهْري في يَدَيَّ
مُخَضَّبٌ بدمائِهِ
وأنا أُوَفِّي الْعَهْدَ حتى لا أُدانْ
(6)
صعَدتْ وأَلْقَتْ دونَما جَزَعٍ
بقامَتِها مِنَ الأَعْلى
كَشَلاَّلٍ تَحَدَّرَ بَعْدَ حَبْسٍ واحْتِقانْ
فَتحطَّمَ الْبِلَّوْرُ
وانْخَسَفَتْ سَماءُ الأُقْحُوانْ
وتناثَرتْ كُتَلُ الزُّجاجِ الدَّافِئاتُ
وخَمْرُها الْعُذْرِيَّ قانْ
والصُّبْحُ شاخِصَةٌ محاجِرُهُ
وعينُ الْموتِ دامِعَةٌ
وغابَ عَنِ الْوُجودِ الطَّاهِرانْ
(7)
هل أَنْتُما إلاَّ على طَرَفِ الْمجَرَّةِ نَجْمَتانْ
وغَمامَتانْ
هَطَّالَتانْ
في كُلِّ فَصْلٍ تُسْقِيانِ الْحُبِّ فيما تَسْقِيانْ
يَرْنو الْخلودُ إلَيْكُما
كالطِّفْلِ تَمْلأُ مُقْلَتَيْهِ حِكايَتانْ
طوبى لِمُغْتَرِبِ الْهَوى
ما مَسَّ غَيْرَ طَهارَةِ الرُّؤيا بأَطْرافِ الْبَنانْ
ما كنتَ تَعْلَمُ كَيفَ تَنْمو لِلْمَنِيَّةِ راحَتانْ
فَيَدٌ طَوَتْكَ على الطَّوى
فَهَوى الْهَوى
ويَدٌ سَرَتْ تَغْتالُ ضَوْءَ الشَّمْعَدانْ
لِيَكُفَّ مَوَّالُ الخُزامى
قَبْلَ بَدْءِ الْمِهْرَجـانْ
وتَفِرُّ عَيْنَيْكَ قَبْلَ الاِنْطِفاءِ حَمامَتانْ
(8)
وأنا.. لَمَسْتُ طَهارَةَ الرُّؤْيا بِأَطْرافِ الْبَنانْ
لكنَّ حُبِّي مُغْلَقٌ كَالسِّجْنِ مُنْذُ بِدايَةِ الرُّؤْيا
ومـاتَ التُّرْجُمـانْ
قَتَلَتْكَ مَنْ جاءَتْ لِتَقْتُلَني
كَأَنَّا تَوْأَمانْ
أنتَ انْتَهَيْتَ وأَنْتَ ظانّ
وأنا تَخَيَّرْتُ الْخَسارَةَ في الرِّهانْ
فكتبتَ أنتَ الأَرْبَعينَ قَصيدَةً
والْمُهْرُ ما بَلَغَ الأَمانْ
أَمَّا أنا فاجْتَزْتُها خَبَباً
ومُهْري ما يَزالُ على صَليبِ الاِفْتِتانْ
الْوَحْشُ يَنْهَشُهُ
ومَنْ صَلَبَتْهُ شامِخَةً كَجِذْعِ السِّنْدِيانْ
أَوَلَم أَقُلْ يا صاحِبي؟
أَوَلَمْ أَقُلْ؟
ما هَمَّ أَنْ تَتَفاوَتْ الْحَالاتُ
لكِنَّ الزَّمانَ هُوَ الزَّمانْ؟
1981
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :338  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 61
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.