شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أمير دولة البيان
سيف الله الغالب عليّ بن أبي طالب (1)
كنت قد هممت أن أؤلف في "بلاغة الإمام" كتاباً، ثم صرفتني عن ذلك شواغل لم تستطع أن تقتل الفكرة أو تثني العزم، إذ كانت حوافز الفكرة، ودوافع البحث عن معالم هذه البلاغة وأسرارها أقوى من شواغل الحياة، حتى دعا "الهلال" إلى مشاركتي في تحرير عدد خاص عن بلاغة الشجعان، وشجاعة البلغاء، فكانت هذه العجالة عن شجاعة الإمام أو بلاغته، حتى يكون الكتاب الذي أسأل الله العون على إنجازه..
* * *
وما أحسب أن هاتين الصفتين اجتمعتا في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اجتمعتا في أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه وكرم وجهه، فقد لزمته شجاعته منذ كان حدثاً صبيا، ولم تلن قناته حتى لفظ آخر الأنفاس في حياته المباركة المجاهدة، ولم تفارقه شجاعة القول، وشجاعة الرأي، وشجاعة العمل، وشجاعة الجهاد في ساحات الوغى، وفي حومات القتال.
وتجلت آيات بلاغته في خطبه التي هز بها أعواد المنابر، وفي كتبه الملتهبة إلى من مال بهم الهوى، تفيض بالحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما تفيض بالرحمة، وخفض الجناح، ورقة الحاشية لأهل الحق والسابقة والجهاد..
كما تجلت فيما صحت نسبته إليه من عيون الشعر العربي، حتى كان في اللسن والفصاحة الإمام المقدَّم بعد سيد البشر عليه صلوات الله وسلامه الذي أوتي جوامع الكلم، وكان أفصح من نطق بالضاد.
وكذلك كانت بطولة الإمام وبسالته مضرب الأمثال في شجاعة القلب، ورباطة الجأش، وثبات الجنان..
وقد عرف ذلك منه أنصاره وأولياؤه، كما شهد به خصومه وأعداؤه.
وكان أول الشواهد على تمكن خلق الشجاعة في قلب الإمام إسلامه وتصديقه برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غلام يستقبل الحياة..
فقد أجمع مؤرخو البعثة النبوية ورواة السيرة على أن علياً كان أول المسلمين بعد السيدة خديجة رضي الله عنها، وإن كانوا يختلفون في تحديد السن التي أسلم بين عشر سنين وثمان عشرة سنة.
وأيا ما كان الأمر فإن هذا دليل على شجاعته التي برزت آثارها مبكرة، وهو يعلم خطر هذه المسارعة إلى قبول الدعوة عليه وعلى من آمن معه، ويعرف مغبة الخروج على المألوف من معتقدات قومه وتقاليدهم.
ويستوي في ذلك أن يكون الباعث على ذلك الإيمان المبكر هو اليقين بصدق الرسالة، وصدق صاحبها فيما بلغ به عن رب العالمين، أو أن يكون الباعث هو الاستجابة لداعي العصبية، وإن كان هنالك من شيوخ بني عبد المطلب وفتيانهم من هو أجدر بتلك الاستجابة لدواعي العصبية من عليّ بن أبي طالب.
ومن المعلوم أن أبا طالب نفسه، وهو أبوه، ظل على دين آبائه حتى مماته. وإن كانت تلك العصبية قد دفعته إلى أن يقف موقف العم الرفيق من محمد ابن أخيه، وأن يحتمل في سبيل ذلك كثيراً من العنت، ومن مقاطعة قومه المشركين المعاندين.
وأمره الرسول ليلة الهجرة أن ينام في فراشه، وقد رصد له الكفار على باب داره ليقتلوه، وقال له: نم على فراشي، وتسجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه. فلما انتبه القوم الذين رصدوا للرسول جعلوا ينتظرون علياً على الفراش، فلما رأوه جاءوا فقالوا له أين ابن عمك؟ قال: قلتم له اخرج عنا، فخرج عنكم !
فطلبوا أثره، فلم يقعوا عليه. . ثم بقي عليّ بعد ذلك بمكة ثلاثة أيام، حتى أدى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده، ولحق برسول الله، وهو بقباء، فنزل معه حيث نزل..
وتلك آية من آيات الشجاعة التي أودعها الله قلب الإمام، فإن نومه في فراش الرسول، وهو رابط الجأش، مطمئن القلب، يعلم أنه كان معرضاً لسيوف الأعداء تفتك به إما على سبيل الخطأ، باعتباره شخص النبي، وإما على سبيل العمد والانتقام بما ضيع عليهم من غاياتهم التي رصدوا لها.
مع السباقين إلى الجهاد:
قال عبد الله بن العباس رضي الله عنهما: لعليّ أربع خصال ليست لأحد غيره:
هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف.
وهو الذي صبر معه يوم فر عنه غيره.
وهو الذي غسّله وأدخله قبره.
وقال عليّ صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، لا يصلى معه غيري إلا خديجة.
وأجمع الصحابة على أنه صلى القبلتين: قبلة المسجد الأقصى، وقبلة البيت الحرام، وهاجر، وشهد بدراً والحديبية، وسائر المشاهد، وأنه أبلى ببدر وبأحد وبالخندق وبخيبر بلاء عظيماً، وأنه أغنى في تلك المشاهد، وقام فيها المقام الكريم، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في مواطن كثيرة..
وفي يوم بدر كان علي في طليعة صناديد المسلمين..
قال محمد بن إسحاق إن عليّ بن أبي طالب شهد بدراً وهو ابن خمس وعشرين سنة. وذكر غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع الراية يوم بدر إلى عليّ، وهو ابن عشرين سنة.
وخبر تلك المبارزة التي سبقت القتال يوم بدر بين المسلمين والمشركين يؤكد ما عرف من ضروب البسالة في مواطن القتال التي اشتهر بها الإمام. .
فقد خرج عتبة بن ربيعة مع أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة متحدين المسلمين، وداعين إياهم إلى المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، فقالوا:
أكفاء كرام، ومالنا بهم حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا، يعنون المهاجرين من قريش !
فنادى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من خاصة أهله، هم عمه الحمزة، وابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمه عليّ بن أبي طالب. وقال:
قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قم يا عليّ. . فقاموا ودنا بعضهم من بعض، فبارز عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليّ الوليد.
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وكذلك صنع عليّ بالوليد.
وأما عبيدة وعتبة فاختلفا ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه، وكر حمزة وعليّ فقتلا عتبة.
وهذا الخبر الصحيح - وإن سقناه شاهداً على شجاعة الإمام وبسالته - فيه دلالة على معنى آخر، وهو معنى كبير كريم، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين يديه كثير من الشجعان المسلمين، من الأنصار والمهاجرين، ولكنه آثر أن يكون الذين يدعوهم للتضحية ويقدمهم للفداء هم ذلك النفر من عشيرته الأقربين، وخاصة أهله الأدنين، حتى يضرب لجموع المسلمين أروع الأمثال في البدء في أمثال ذلك الموقف الرهيب بأقرب الناس منه، وأحبهم إليه.
وهكذا ينبغي أن يكون الأئمة الذين يقودون الناس، ويتولون أمورهم، فإنه لا يفت في أعضاد الشعوب، ولا يهبط بها إلى أحط المنازل سوى إيثار قادتها أنفسهم وأهليهم وأولياءهم بمنازل الترفيـه والدعة والتكريم، والسبق إلى المغانم، والنكول بهم عن مواطن الجد والعمل والتضحية والجهاد، حتى ييئس عامة الناس من العدالة، فيتواكلون ويتقاعسون عن الجد وصالح الأعمال.
وعندئذ تخمد جذوة الضمائر، وينطفئ سراج النور في حياة الأمم والشعوب.
وفي يوم أحد الذي امتحن فيه المؤمنون امتحانا شديداً كان الإمام عليّ من الذين أبلوا بلاء عظيماً في ذلك القتال الرهيب.. وهو الذي حمل اللواء بعد أن استشهد صاحبه مصعب بن عمير.
فقد كان رسول الله تحت راية الأنصار حين اشتد القتال، فأرسل إلى عليّ بن أبي طالب أن قدم الراية، فتقدم عليّ، وقال: أنا القصم، أي الدواهي.
فبرز له صاحب لواء المشركين، وقال لعليّ: هل لك في البراز من حاجة؟ فبرز بين الصفين، فاختلفا ضربتين، فضربه عليّ فصرعه..
وفي يوم الخندق، وقد حاصر المشركون المدينة ولم يكن بينهم وبين المسلمين قتال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن ود، وعكرمة بن أبي جهل خرجوا على خيلهم، حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة - حفر الخندق حول المدينة - ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فضربوا خيولهم فاقتحمت منه..
وعندئذ أسرع عليّ بن أبي طالب، فخرج في نفر من المسلمين، حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم، وأقبل عمرو بن عبد وَدّ هو وخيله، وقال: هل من مبارز؟ فبرز له عليّ فدعاه إلى الله ورسوله، فقال عمرو: لا حاجة لي بذلك ! فدعاه عليّ إلى النزال، فقال له:
- لم يا بن أخي ؟ فوالله ما أحب أن أقتلك !
فقال عليّ:
- ولكني والله أحب أن أقتلك !
فحمى عند ذلك عمرو، فاقتحم عن فرسه فعقره، وضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ، فتنازلا وتجاولا، فقتله عليّ !
وخرجت خيل المشركين منهزمة من الخندق هاربة، وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم مما رأى. وأقبل عليّ نحو النبي وهو متهلل..
* * *
ذلك عليّ بن أبي طالب، وذلك شيء قليل من صور بسالته ومضائه، وجهاده مع رسول الله في سبيل الدين، وإعلاء كلمة الحق، ورفع راية الإسلام، فكان سيف الله المسلول على رقاب الكفار والمشركين والمنافقين، وكان له المقام المشهود في كل ميدان، فارساً مجلياً، ومقاتلاً باسلاً، وضاربـاً في صدور أعداء الله، وأعداء الحق.. وكان على الاستشهاد في سبيل أحرص منه على حياة فانية، وأعرض زائلة.
وهو القائل: "إني لو قتلت في ذات الله وحييت، ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة، لم أرجع عن الشدة في ذات الله، والجهاد لأعداء الله " !
وما أصدقه في هذا المقال، فقد كان في طليعة السباقين إلى الجهاد، لم ينكص عن قتال، ولم يضن بدمه، ولم يتخلف عن مشهد شهده الرسول صلوات الله وسلامه عليه منذ قدم المدينة إلا تبوك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة وعلى عياله في غزوة تبوك، وقال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى. مشيراً إلى قوله تعالى: "وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين" (2) .
سئل عبد الله بن العباس: كيف كان عليّ؟
قال: كان قد مليء جوفه حكماً وعلماً وبأساً ونجدة، مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الشوري: "لله درهم إن ولوها الأصلع - يريد به عليا - كي يحملهم على الحق، ولو كان السيف على عنقه !
قال عبد الله بن عمر: فقلت له: أتعلم ذلك منه ولا توليه؟
قال عمر: إن لم أستخلف فأتركهم فقد تركهم من هو خير مني !
يريد بذلك أنه لم يستخلفه من بعده أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فارق الدنيا، ولم يستخلف من بعده أحداً لولاية المسلمين، حتى يختاروا منهم من يرونه أهلاً للخلافة.
اللسان العربي المبين:
وندع ذلك الحديث الشائق الصادق عن عليّ صاحب العزيمة الجبارة، والقلب الجريء، والسيف البتار.
نعم إنه صاحب "ذي الفقار" ذلك الحسام الذي أبلى في الجاهلية ما أبلى، حتى صار إلى النبي في يوم بدر، ثم صار إلى أمير المؤمنين، يضرب به رءوس الكفار والمنافقين، والخارجين عن حدود رب العالمين.
ندع هذا الحديث ونحن في أشد الحاجة إلى المضي فيه، وإلى الاستزادة منه، لأننا أحوج ما نكون إلى الإفاضة فيه، ولأن إخواننـا المجاهدين وأبناءنـا الرابضين علـى خطوط النار، يحمـون
الأوطان، ويذودون عن حياضنا ومقدساتنا في حاجة إلى المعرقة بجهاد علم من أرفع أعلام الإسلام في تاريخه المشرق المجيد، ليتخذوا من حميته وبطولته مثلاً يحتذى، وسراجاً يستضيئون بنوره الوهاج..
ندع هذا الحديث لنشير إلى طرف يسير من بيان الإمام وبلاغته، وهو صورة من البيان العربي المطبوع في أسمى صوره، وأروع مثله.
وبلاغة الإمام بلاغة تستقي من نبع فياض من لغة قريش وفصاحتها، وقد تمثل فيها اللسان العربي المبين، وأصبحت الخلاصة النقية للغات العرب ولهجاتها..
وقد فخر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أفصح العرب، وأكد هذه الفصاحة بأنه من قريش التي نزل بلسانها القرآن المجيد، فقال: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش "، وقد اتخذ العلماء من هذه المقالة الشريفة مثالاً من أمثلة تأكيد المدح.
والينبوع الثاني لهذه البلاغة العلوية هو القرآن الكريم، وأسلوبه الحكيم ومعانيه الفخام، وآدابه العالية في الترغيب والترهيب، وفي الوعد والوعيد، وفي التبشير والإنذار، وفيما تضمنه من أصول الاعتقاد، وأحكام الإسلام.
ولقد كان الإمام بطول صحبته لرسول الله، وملازمته إياه، واحداً من كتاب الوحي الذي يوحى به إلى الصادق الأمين، فحفظ كتاب الله، وتأدب بآدابه، فانطبعت في نفسه روح بلاغته، وأسرار فصاحته، فجرت آثارها على لسانه، وعلى أسلات قلمه..
وإنك لتقرأ ما حفظ الزمان من كلام الإمام، فترى فيه ذلك التأثر الواضح بأساليب القرآن ومعانيه، وتجد فيما آثر من خطبه وكتاباته قدرة فائقة على الاقتباس من آياته، ووضعها في المواضع التي تقتضيها وكأنه يرى في ذلك "الاقتباس" غناء عن كل محاولة للإبانة، وصلاحية لكل حال من الأحوال، وتذكيراً بالله وحكمته البالغة، ليكون لذلك أثره في رياضة النفوس وتهذيبها، والحمل على قبول الكلام بأغراضه ومعانيه التي تضمنتها خطبه ورسائله، إذ لا حجة بعد القرآن، ولا سبيل إلى تحريك النفوس وإقناع العقول يعدل سبيل القرآن الكريم.
وهاك نموذجا لما كان يكتب به إلى عماله إذا بلغه عن أحدهم خيانة:
".. قد جاءتكم موعظة من ربكم، فأوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ (3) . إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من أعمالنا، حتى نبعث إليك من يتسلمه منك"..
فإذا انتهى من هذه الكتابة رفع طرفه إلى السماء، ثم قال: "اللهم إنك تعلم أني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك" !
من روح الإسلام:
وأدب القرآن هو أدب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاق القرآن في الزهادة في عرض الحياة الدنيا، والرغبة فيما هو خير وأبقى عند الله، وفي عفة النفس، وطهارة القلب، والشجاعة والعدل والحكمة، وسائر الفضائل النفسية هي أخلاق النبي الذي أدبه ربه، فأحسن تأديبه، وهي أخلاق الإمام عليّ الذي كان معلمه وأستاذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن حكمته أخذ، ومن فضائله قبس، ومن بيانه نهل.
وجماع هذه الآداب العلوية يبدو في كتاب كتبه الإمام إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، وقد بلغه أن ابن حنيف دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فاستجاب لهذه الدعوة، ومضى إليها، فكتب إليه الإمام عليّ:
"أما بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان (4) ، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ (5) ، وغنيهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم (6) . فما اشتبه عليك علمه فألفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه..
"ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه. ألا وإن إمامكم قد اكتفي من دنياه بطمريه (7) ، ومن طعمه بقرصيه، ألأ وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم بثرا (8) ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثيابي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا..
"هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة.. أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثي، وأكباد حرَّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسْبكَ عاراً أن تبيتَ ببطنةٍ
وحولك أكبادٌ تحنَّ إلى القِدَّ (9)
"أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أسوة لهم في خشونة العيش، فما خُلِقْت ليشغلني أكلُ الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها (10) !..
وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشجعان !
"ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً".
* * *
تلك هي خصائص أسلوب الإمام - كما نراها في هذا الكتاب - في جزالة العبارة وقوتها، وفي توازن فقراتها، وفي بعض الأسجاع المطبوعة ذات الجرس الرائق من غير أن يحس قارئها بشيء من التعمل أو الاستكراه، وفي الاستشهاد بمأثور القول فيما يناسبه من المواطن.
وذلك بالإضافة إلى مراعاة مقتضيات الأحوال، وهي هنا تلك المعاني التي تتصل بأخلاق الحكام وولاة الأمور، وما ينبغي أن يكونوا عليه من مداومة التفقد لرعاياهم، ومشاركتهم في البأساء والضراء، والمحاسبة لولاتهم وعمالهم، وكبح جماح الأثرة والاستعلاء والاستغلال في نفوسهم، والركون إلى شهوات النفوس، وفتن الحياة الدنيا، وتذكير أولئك العمال بالله واليوم الآخر، ليتقوا الله في رعاياهم..
إلى غير ذلك من الآداب العالية، والحكم البالغة التي أفادها من روح الإسلام، ومن أدب القرآن.
من أدب الاستنفار:
وفي معرض واحد تجتمع فيه روعة البيان إلى شجاعة الفرسان، نعرض هذا النموذج من خطب الإمام:
فقد ذكروا أن عليا كرم الله وجهه انتهي إليه أن عاملاً من عماله يقال له حسّان بن حسّان أغار عليه الأعداء فقتلوه، فخرج الإمام مغضباً، واتبعه الناس، فرقى ربوة من الأرض، فحمد الله وأثني عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
"أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيم الخسف، وديث بالصغار.
"وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فوالذي نفسي بيده ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلّوا، فتخاذلتم وتواكلتم، وثقُل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريّاً، حتى شنّت عليكم الغارات..
"هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسّان بن حَسّان، ورجالاً كثيراً منهم ونساءً…
"والذي نفسي بيده إنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فتُنتزع أحجالهما ورعثهما، ثم انصرفوا موفورين، ما نال رجلاً منهم كَلْم، ولا أريق لهم دم.
فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً..
"يا عجبا كل العجب! عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضاً تُرمَوْن ولا تَرْمُون، ويُغار عليكم ولا تغيرون، ويُعصى الله عزّ وجلّ فيكم وترضَوْن..
"إذا قلت لكم اُغزوهم في الشتاء، قلتم هذا أوان ُقرّ وصِرّ، وإن قلت لكم اُغزوهم في الصيف قلتم هذه حمارَّة القيظ، انظرنا ينصرم الحَرُّ عنّا! فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون فأنتم من السيف أفرّ!
"يا أشباه الرجال، ولا رجال! ويا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال!
"والله لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظاً، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا رأي له في الحرب!
"لله أبوهم ! وهل أحد منهم أشدّ لها مراساً، وأقدم مقاماً منّي؟
فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين !
ولكن لا رأيَ لمن لا يطاع" !
أرأيت إلى هذه البلاغة في البيان؟
ثم أرأيت هذه الوحدة في البيان التي تجمع أطراف الكلام وتوحد بين أجزائه، فلم تخرج فيه كلمة عن موضوعها، ولم تجاوز عبارة الغرض الذي من أجله كان هذا الكلام ؟
ثم أرأيت إلى هذا التدرج في الخطاب، وفي استنفار الناس للقتال ؟
ثم أرأيت كيف يستثير الحمية في النفوس، ليخيف أصحابها للثأر من المعتدين ؟
* * *
لقد بدأ الإمام خطبته بذكر الجهاد، فبين أنه سبيل إلى الجنة، وطريق إلى السعادة الأبدية، وإلى العزة والكرامة في الحياة.. وأن من قعدت به همته عن الجهاد، وترك الأمور تجري كنا تشاء فراراً من التبعة، وخوفاً من المشقة كان خليقاً أن يغلب على أمره، ويتردى في هوة المذلة والمهانة، ويصبح وقد أفلت زمام الأمور من يده، فيضيع حقه، ويسقط قدره، واستحق ذلك الهوان بجبنه وتفريطه.
منطق البيان الثائر:
ويبدي الإمام عجبه لأولئك، الناكصين عن الجهاد، المتقاعسين عن نصرة الحق، وهم يعرفونه، مع تكرار الدعوة، واستثارة النخوة، وأمره بغزوهم قبل أن يشتد الخطب، ويعظم البلاء، ويستفحل خطر الأعداء، فلم يستجيبوا لأمر، ولم يصيخوا لنصح، حتى جرؤ عليهم العدو واستطال، فتوالت هجماته عليهم، وغزاهم في عقر دارهم.
ثم صور لهم ما فعل الغزاة بهم، وكيف استهانوا بحرماتهم. وتعمد الإمام أن يعرض للمرأة في هذا المجال، لما يعرف من حفاظ العرب على نسائهم، وافتدائهم أعراضهم بما غلا من دمائهم.
فذكر تعرض العدو لنسائهم، وسلبه حليهن، ووسائل زينتهن، حتى لم يسلم من عدوانه امرأة مسلمة أو معاهدة أعطي المسلمون أهلها عهداً بالذمة والحماية.
ويبدي الإمام أسفه وعجبه لاجتماع أمر الأعداء وتناصرهم واتحاد كلمتهم على باطلهم، وتقاعس أهل الحق عن حقهم، واختلافهم في أمورهم، ونكوصهم عن القتال تعللا بشدة الحر مرة، وبقسوة البرد مرة أخرى. ومن يحسب حساباً للحر، وحساباً للقر فليس يقوى على مصارعة خصم، أو مقاتلة عدو.
ويبلغ الغضب بالإمام مداه، فينفي عنهم الرجولة، ويذكر ما أفسدوا عليه من الخطط، بعصيانهم أوامره، وخذلانهم إياه، حتى ظنت قريش به الظنون، وهو فارسها، واتهموه ظالمين بعدم الحنكة، وقلة التجربة في ممارسة الحروب، وهم يعرفون أنه أنشأ في ظلال السيوف، وشب في هول الوقائع، وقد بلغ الستين، فأحكمه التجارب، وحنكته الصروف..
ولكن كيف السبيل لسداد الرأي مع العصيان؟ وما جدوى تجارب الحكماء مع تنازع الآراء، والاستسلام للأهواء.
ألا ما أجدر قادة المسلمين وشعوب الأمة العربية قاطبة في هذا الزمان أن يتدبروا هذا الكلام في هذه الخطبة الملتهبة، ليروا أمير المؤمنين، وقد استفزه الغضب، واستبد به الأسى. وكأنه واقف بيننا، يخطب فينا، ويلهب حماستنا بهذا البيان السائر، المنطق الأخاذ، يذكرنا بالجهاد، وبما صنع أعداء الإنسانية بشيوخنا وأبنائنا، وما داسوا من حرماتنا، وما وطئوا من مقدساتنا، باجتماعهم على البغي والعدوان، وتفرقنا على حقنا..
وكأنه يدفعنا إلى العمل والجهاد، نهزم به عدو الله وعدونا، ونسترجع به ما ضاع من أمجادنا. .
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :880  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الأول: خميس الكويت الدامي: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج