شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المقَالة الثَامنَة
جاء البهاء زهير من مكة مع والده إلى (قوص) وكان والده من أهل الصلاح والتقوى وكانت (قوص) حينذاك منبع العلم والعلماء، ويقول صاحب كتاب "الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد" وهو كمال الدين أبو الفضل جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي المتوفى سنة 747هـ - (1347م) أن بـقوص ستة عشر مكاناً للتدريس. فكان لاختيار والده هذا المكان أثر بعيد في تجاوب نفسه مع عهد تلك المدينة الزاهر وهو على صلاحه وتقواه، وقد وجد البهاء زهير في هذه المدينة مجالاً خصباً لتألق شاعريته، فقد كان بها ستة عشر مكاناً للتدريس، كما يقول الأدفوي و (قوص) يومئذٍ هي أكبر مدن الصعيد وليس بأرض مصر بعد الفسطاط مدينة أعظم منها، وهي باب مكة واليمن والنوبة وسواكن، حفلة الأسواق متسعة المرافق، وفيها النزل الفاخرة، والحمامات والمدارس والبساتين، ويسكنها أرباب الصنائع والفنون والتجار والعلماء والأغنياء، وكانت ملتقى الحجاج المغاربة والمصريين ومن يتصل بهم، منها يذهبون إلى (جدة) وإليها انقلابهم في صدورهم من الحج.
فكان اختيار والد البهاء زهير هذه المدينة موفقاً عند انتقاله من مكة إليها، ووجد فيها البهاء زهير ما يصبو إليه من تجاوب وتألق وازدهار.
ولما تولى الأمير مجد الدين إسماعيل بن اللمطي أعمال القوصية واتصل البهاء زهير بخدمته هنأه شاعرنا الحجازي سنة 607هـ بقصيدة مطلعها:
تمليته يا لابس العز ملبسا
وهنئته يا غارس الجود مغرسا
ومنها:
به أصبحت قوص إذا هي فاخرت
أعزَّ قبيل في الأنام وأنفسا
إلى أن قال:
لقد شرفت منه الصعيد ولاية
وأصبح واديه به قد تقدسا
وهنا تلمس أن الشعر الحجازي شق طريقه إلى مجلس الأمير، وأن شاعرنا الحجازي بز شعراء تلك المدينة الزاهرة بالعلم والعلماء وتبوأ مكانه المرموق بينهم بعد أن نال خدمة الأمير اللمطي، أليس في هذا الطبع الحجازي والشعر الحجازي من الروعة والجلال ما يرفع بصاحبه إلى القمة، وينفذ إلى القلوب فيؤثر عليها ويملك إعجابها؟.
وهو إذا تغنى بمصر وأشاد بحب مصر فلم يكن بدعا في الشعراء فقد ترنم الشعراء بمواطن الجمال وأشادوا بها وقد قال حافظ إبراهيم:
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي
في حب مصر كثيرة العشاق
ولم لا يكون البهاء زهير من عشاق مصر وعشاقها كثير؟ ومنهم من اختار الإِقامة بها حتى أدركته الوفاة كالإِمام الشافعي وغيره من النازحين من ديارهم إلى مصر، وما زالت مصر تحظى بروادها وطلابها حتى اليوم وما زال الشعراء يتغنون بمباهجها ومفاتنها حتى اليوم، كما تغنى بها من قبل البهاء زهير حتى إنه قال في حبه لمصر:
هـات زدني من الحديث عن النـ
ـيل ودعني من دجلة وفرات
ولياليَّ في الجزيرة والجيـ
ـزة فيما اشتهيت من ذات
بـين روض حكـى ظهور الطواويـ
ـس وجو حكى بطون البزاة
حيـث مجـرى الخليج كالحية الرقـ
ـطاء بين الرياض والجنات
وكثير من تلك الترانيم بحب مصر جاشت بها خواطر البهاء زهير وهو لا يود مفارقتها ولا يطيب له الابتعاد عنها فقد شغف حباً بها وبطيب نعيمها وهو القائل:
أأرحل عن مصر وطيب نعيمها
وأي مكان بعدها لي شائق
وأترك أوطاناً ثراها لناشق
هو الطيب لا ما ضمنته المفارق
بـلاد تـروق العين والقلب بهجة
وتجمع ما يهوى تقي وفاسق
وهو الذي يقول أيضاً:
بلاد مـتى مـا جئتها جئت جنة
لعينك منها كلما شئت رضوان
تمثل لي الأشواق أن ترابها
وحصباءها مسك يفوح وعقيان
فيا ساكني مصـر تراكـم علمتم
بأني مالي عنكم الدهر سلوان
وما في فؤادي موضع لسواكم
ومن أين فيه وهو بالشوق ملآن
عسى الله يطوي شقة البعد بيننا
فتهدا أحشاء وترقأ أجفان
علي لذاك اليوم صوم نذرته
وعندي على رأي التصوف شكران
وقد يكون تعلقه بساكني مصر هو الدافع لحبه مصر كما يبدو من أقواله على مذهب القائل:
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وإن الجانب الإِنساني لشاعرنا البهاء زهير يتجلى فيما أجمع المترجمون له على أنه كان ذا مروءة ولطف ومكارم أخلاق، وقد كان متمكناً من صاحبه الملك الصالح ولا يتوسط عنده إلا بالخير، ونفع خلقاً كثيراً، وبلغ من الرفعة ما لم يبلغه غيره. ومع هذه المكانة العالية فإن البهاء زهيراً مات فقيراً. وفي آخر عمره، كما في تاريخ أبي الفداء وتاريخ ابن الوردي، انكشف حاله حتى باع موجوده وكتبه وأقام في بيته بالقاهرة حتى أدركه أجله.
ويبدو وفاؤه لمن يؤثرهم في الصعيد في قوله:
أحن إليكم كل يوم وليلة
وأهذي بكم في يقظتي ومنامي
فلا تنكروا طيب النسيم إذا سرى
إليكم فذاك الطيب فيه سلامي
فهل عائد منكم رسولي بفرحة
كفرحة حبلى بشرت بغلام
ويرتاح قلبي للصعيد وأهله
وعيش مضى لي عندكم ومقام
وأهوى ورود النيل من أجل أنه
يمر على قوم لدي كرام
أما أغاريد الحب وأنغام الغزل فهي شائعة شاعرنا البهاء زهير، وتكاد تكون في أكثر أشعاره، وهي تبدو صريحة تفصح عن حب عميق، فيه من الثورة وفيه من الرضا وفيه من الغضب وفيه من العتب والتلطف.
وإذا كان الغزليون من شعراء الحجاز أبرزوا لنا روائع شهد بخلودها المترجمون لهم في الأدب الحديث فإن البهاء زهيراً اقتفى أثرهم وأبرز من الروائع ما استحق بها الوقوف إلى جانبهم في ابتكار وحسن إبداع وسنعرض لهذا ونوفيه حقه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1005  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 21
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[حياته وآثاره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج