شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( الدكتور محمد أبو الأجفان ))
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه ثقتي ونستعين، وصلى الله على نبيه الكريم.
الحمد لله رب العالمين، الوهاب الكريم، ذي الفضل العظيم، والصلاة والسلام على نبيه المختار.
أيها الأخوة الأحبة الكرام، أيها الأخ المضياف الشيخ عبد المقصود خوجه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه ليلة من ليالي الأنس والحوار الثقافي والكرم الحاتمي التي يشهدها هذا المعلم الشامخ الذي يشع بأنوار الفوائد، والذي تسري فيه روح المودة مذكِّراً بمجالس العلم والأدب والحوار التي حفلت بها عهود حضارتنا الزاهرة، وأثمرت ما خلدته الدواوين المسطورة من رصيد هو مبعث اعتزازنا.
أيها الأخوة، إنني أشكر جزيل الشكر الأخوة الأفاضل الذين تحدثوا قبلي وصنعوا لي إكليلاً يشرفني لكنه فوق ما أستحق، وذلك بفضل حسن ظنهم ورغبتهم في تشجيعي على المضي في طريق بدأته وأسأل الله العون على المضي فيه، وأسأله تسديد الخطى في سلوكه، إنه سميع مجيب.
كلمتي سأحاول أن تكون مختصرة وسأحاول أن أجعلها في الإطار الذي حددته الاثنينية بأن تكون متعلقة ببعض التجارب الحياتية التي مررتُ بها، مع أني أشعر بصعوبة اختيار المواقف والومضات من حياة تمتد أكثر من ستة عقود كلها مليئة بالأحداث والمبشرات وحتى بالصعوبات.
سأتجشم إذاً هذه الصعوبة عسى أن أختار ما يناسب مجلسنا هذا ووقتنا المحدود..
الشيخ عبد المقصود خوجه: أرجو بالنسبة للضيف المحتفى به له كل الوقت، لأن هو عريس الليلة..
الدكتور محمد أبو الأجفان: لكن صبر إخواننا نراعي صبر إخواننا وقد تأخرنا، سأجعل إذاً عناصر حديثي متمثلة في ثلاثة:
1- المنعرجات والمحطات الكبرى.
2- ومضات من تجارب العمل العلمي.
3- أهم القيم التي ازددت يقيناً بجدواها.
فلنبدأ الحديث إذن عن المنعرجات التي مثلت في حياتي ظروفاً لها خصوصياتها وهي تجعلني أعاصر بعض التحولات في زماني وأكون فيها غالباً من الأوائل في أمر ما، وحديثي إليكم عنها كأنه حديث شاهد عصر، لكنه يقدم شهادته باختصار.
أنا من أسرة عربية تميمية محافظة أنجبت مدرسين وموثقين وشيوخ علم، وعندما مرت الأسرة بمنعرج انقطع به السند العلمي واشتغلت بالفلاحة في أرض القيروان التي عُرفت بشحها وقلة مياهها ولدت إذ ذاك في عهد الاستعمار الفرنسي الذي كان جاثماً على البلاد.. وعندما بدأت أعي كانت والدتي الأم الرؤوم تحدثني عن مشهد غريب فاجأها بعاصمة تونس وهي في زيارة لعمها بها، رأت جموعاً غفيرة من القسيسين والرهبان يحملون صلباناً ويملئون شوارع العاصمة، وهي تتألم لما ترى ولا تجد له تفسيراً، وكان ذلك قبل حملها بي بقليل.. ولما درست تاريخ تلك الفترة عرفت أن ذلك هو المؤتمر الإفخاريستي للاحتفال بمرور خمسين سنة على الاستعمار الذي كان يؤمل أن تستقر المسيحية ببلادنا ويمهد لذلك.
كنت أشاهد ألم الأم بذلك فيعتصر قلبي حزناً، وكانت أماً صالحة لا أشبهها إلا بوالدة شيخ الجماعة ابن غازي المكناسي الفاسي وقد لقنته الأدعية وعلمته القرآن، أما والدتي فقد علمتني الأدعية وتولت أختها الكبرى خالتي منى التي كانت تحفظ أجزاءً من القرآن، تولَّت تعليمي بعض السور وكانت تحرص على تعليمي هذه السور، ولم أكن أرَ في نساء بلدتنا في ذلك العصر من تحفظ جانباً من القرآن غير هذه الخالة.
دخلت الكتاب لمواصلة الحفظ وكان يكتظ بالطلبة كلما حلت عطلة الصيف، ولما هممت بالالتحاق بالمدرسة الابتدائية جاء منعرجٌ آخر وهو الحرب العالمية الثانية احتلت جنود المحور البلاد، واضطررنا للانتقال من المدينة إلى قرية من ضواحي القيروان تحت القصف.. وهول الحرب.. وأزيز الطائرات... وما زلت أذكر تلك الرحلة إلى هذه القرية حيث داهمتنا طائرات الأعداء وسقطنا على الأرض وكان ما كان.
لما وضعت الحرب أوزارها دخلت مدرسة الفتح القرآنية وهي ابتدائية هذه المدرسة أُسست بأموال المحسنين، أنا أعطي شهادة عن بعض الأمور في عصري، أراد المحسنون أن تكون هذه المدرسة تؤدي وظيفة نشر العربية والعلوم الإسلامية مع قليل من اللغة الفرنسية في هذه المدرسة التي هي من ضمن المدارس التي تأوي من لم تسعهم المدارس الفرنسية التي لا يدخلها إلا القليل ممن بلغوا سن الدراسة إذ ذاك، لأن هذه المدارس الفرنسية تؤثر بمقاعدها الفرنسيين واليهود والقليل القليل من المحظوظين من المسلمين. كان الاستعمار يريد لبلادنا استمرار الجهل واستمرار انتشار البدع وغير ذلك.
بعد الابتدائي اتجهت إلى الفرع الزيتوني بالقيروان فعاصرت منعرجاً آخر وهو الحركة الطلابية التي كانت تطالب بتطوير التعليم الزيتوني والحديث عن هذه الحركة يطول لكن أقول أنني ما أن أتممت مرحلة الدراسة في هذا الفرع وحصلت على شهادة إذ ذاك تسمى الأهلية حتى أخذت أتهيأ لمواصلة الدراسة الزيتونية بالعاصمة تونس، وإذ ذاك اندلعت الثورة الوطنية للمطالبة بالاستقلال وهذا منعرج آخر، استمرت هذه الثورة طيلة مرحلة دراستي بجامع الزيتونة بالعاصمة.
كنا ندرس في السنة الأولى من الدراسة الزيتونية بالعاصمة بمعهد فيه مقاعد خشبية ويعد ذلك تطوراً حصل بعد مطالبة الزيتونيين بتطوير التعليم، لكن ذلك لا يستمر إلا سنة واحدة ثم ننتقل بعد ذلك إلى جامع الزيتونة المعمور حيث نتلقى دروساً في حلقات على النموذج القديم، بعد سنتين في جامع الزيتونة خُتِمت هاتين السنتين بشهادة التحصيل وكنت ضمن آخر فوج يدرس بالجامع، الأفواج التي بعدنا أصبحت تدرس في معاهد عصرية، بتخرجي بشهادة تحصيل طلع فجر الاستقلال ودخلنا عهداً جديداً، وهذا منعرجٌ سعيد في ذلك العهد.
مما جاء به هذا العهد -عهد الاستقلال- في أوله سد باب الدخول للدراسة بجامع الزيتونة، انتهى الأمر، اقتصر الأمر على إتمام دراسة الأفواج التي بعدي تنهي دراستها حتى تحصل على شهادة التحصيل وتودع الدراسة الزيتونية التي أُغلقت أبوابها في العهد البورقيبي، والوزير إذ ذاك الذي قام بهذه المهمة... بماذا أصفها؟ مهمة سوداء في تاريخ البلاد التونسية الوزير المعروف الشهير الأديب محمود المسعدي، رحت بعد ذلك إلى العمل لدفع الحاجة ولا سبيل إلى مواصلة الدراسة لا إمكانيات تسمح.. لا أبواب مفتوحة.. لا إمكانية لمواصلة التعليم العالي، لكن بعد ست سنوات جاء الفرج من الله سبحانه وتعالى فَفُتِحت لأول مرة كلية للتعليم العالي الزيتوني تسمى الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين كان عميدها الذي سعى في تأسيسها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور –رحمه الله- فكنت من أوائل المسجلين بها بعد سنتين كنت أيضاً من أوائل الذين تخصصوا في شعبة الشريعة ولم يكن يتقدم إذا ذاك للشريعة إلا أربعة طلبة بعد فترة انسحب واحد منهم حيث ذهب إلى الحقوق وبقينا ثلاثة تخرجنا بعد سنتين من التخصص.
لكن إخواني كنت أحرص كل الحرص على حضور محاضرات شعبة أصول الدين التي لم أكن مسجلاً بها بصفة رسمية حرصاً على الاستفادة فكلما أمكنني الوقت فإنني أحضر محاضرات تلك الشعبة التي هي ليست شعبتي في الأصل وذلك لأني أومن بجدوى التوسع في أخذ العلوم وعدم الاقتصار على التخصص الضيق، وهذا شعرت أنه أفادني في مراحل حياتي الموالية، ثم كنت ضمن أول فوج يتخرج بالإجازة من هذه الكلية ونلت جائزة الرئيس في ذلك العهد.
واجهنا بعد ذلك منعرج آخر وهو قبولنا للتدريس بالمعاهد الثانوية، ندرس مادتي التربية الإسلامية والتربية الوطنية، وإذا لم يجدوا أستاذاً للعربية في معهد ما يأخذون من خريجي الكلية الزيتونية لتدريس العربية وهم يجيدون تدريسها، لأن خريجي الزيتونة كانوا على حذق تام للعربية وآدابها بالإضافة إلى العلوم الشرعية فكانت العناية بعلوم المقاصد وبعلوم الوسائل في آن واحد، هو في الواقع كان هناك جو من التشكيك في مقدرة هؤلاء الخريجين الذين يتخرجون من الكلية لأول مرة، كيف سيزول هذا التشكيك؟ الوزير رأى أن يُجري اختباراً يأخذ عينة من الخريجين تتمثل في أستاذ واحد ويحضر درسه وينقضه ويرى هل استطاع أن يدرس علوم الشريعة والتربية ما كان يسمى بالتربية الإسلامية أم لا؟ ولست أدري لعله من حسن الحظ أنه وقع الاختيار على درسي بمحض الصدفة لأنه جاء إلى المعهد الذي كان في القيروان وطلب منه مدير المعهد أن يدخل إلى أقسام اشتهر أساتذتها بالبراعة في تدريس العربية، وبعضهم من كلية الآداب وبعضهم من جامعات مشرقية، لكنه قال له أعطني من يدرس التربية من الخريجين الجدد من كلية الشريعة، فقاده إلى قسمي في يوم من أيام شهر مارس في الساعة الحادية عشرة وعشرة دقائق، دخل مع جماعته وحضروا الدرس وأذكر أنه كان يتعلق بالقياس المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامي.
وأعتز عندما أقول إن الدرس كان ناجحاً إلى أبعد حد، بعد ذلك جلسنا مع الوزير في حوار فسألني أين كنت قبل أن آتي إلى التدريس بالمعهد الثانوي؟ وأخبرته أني كنت أشرف على تكوين المعلمين في الابتدائي، فقال لي: إذن البراعة التي ظهرت في درسك نتيجة كونك كنت في الابتدائي تحسن البيداغوجيا، يعني لا فضل للزيتونة، وهو من طائفة من الناس لا يعتبرون للزيتونة قيمة، وكنا نسمع التألم من شيوخنا من هذه الظاهرة التي عايشناها وقت الاستعمار، فما أن علم الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عميد الكلية بهذه الحادثة حتى سُرَّ سروراً كبيراً واعتبر الامتحان ناجحاً ونوّه بذلك في خطابه لآخر السنة، وهو خطاب دوري يُلقى في آخر كل سنة.
بعد هذا لي وقفة مع منعرج آخر هو منعرج الدراسات العليا، التي كانت تتوق إليها نفوسنا ولا نجد طريقة للالتحاق بالدراسات العليا رغم طموحنا إليها، أسس في ذلك الوقت عميدنا الدكتور محمد الحبيب بن الخوجه نظام دراسات عليا بالكلية في اختصاصات مختلفة وذلك سنة 1973م، فكنت من أوائل المسجلين بها في اختصاص الفقه والسياسة الشرعية، أتممنا دراسة المنهجية واستمرت سنتين ثم سجلنا بحوثاً وأعددناها وأتممنا بحوثنا -الفوج الأول- أتمم بحوثه وكنا ننتظر أن نناقش قريباً فقالت الوزارة ليس لكم قانون أساسي، ليس لكم لائحة تنظم هذه الشهادة، فانتظروا حتى تصدر اللائحة، وانتظرنا سنوات، خلال هذه السنوات صادف أن كان الشيخ محمد الشاذلي ==== يجري اتصالات مع جامعة الإمام لتكوين صلة علمية بين الجامعتين، فاقترح عليهم أن يعفوني من السنة المنهجية وأن أسجل عندهم للماجستير في الفقه، فقبلوا وسُجلت وهذه المحادثات التي سينتج عنها علاقات ثقافية بين الجامعتين لم يُكتب لها النجاح وتكررت هذه المحاولة.. تكررت محاولة دعم الصلة بين الجامعتين ومع ذلك لم يُكتب النجاح لهذه المحاولات لأسباب ليس هذا مكان بسطها.
لما صدرت اللائحة التي تنظم الشهادة عندنا في سنة 1981م ناقشنا الأطروحات وكنت من أوائل الذين ناقشوا أطروحة دكتوراه الحلقة الثالثة، ثم بعد ذلك لم أُرِد أن أُحوِّل تسجيلي في الرياض إلى دكتوراه، بل تركتها ماجستير، ثم بعد ذلك وجدت صعوبة في تسجيل الدكتوراه في تونس، فسجلت في الرياض بالمعهد العالي للقضاء، ونُوقشت في شهادة الدكتوراه في سنة 1987م، الحقيقة أنني متأخر في الحصول على الدكتوراه نتيجة هذه المنعرجات وهذه الصعوبات وهذه الحالة التي هي من آثار الاستعمار أو من آثار أذناب الاستعمار أو من الظروف الاقتصادية القاسية أو غير ذلك.
ثم أقول كم من منعرج كنت أحسبه يمثل عقبة في حياتي فإذا به يمهد لمرحلة أهم، وإذا به يهيئ لمرحلة أحسن من التي سبقت، لا يفوتني هنا أن أُنوِّه بأثر أندلسي نفيس بالنسبة للذين لا يعرفون هذا الكتاب، أنا أحسب أني سأسمي لهم كتاباً مفيداً مهماً جداً جداً، هذا الأثر الأندلسي مؤلفه أبو يحيى ابن عاصم، الوزير الغرناطي الذي جعل موضوع كتابه ما يستهدف الإنسان من البلايا والمصائب في حياته، وما يجب أن يواجه به كل موقف في حياته، هذا الكتاب عنوانه "جنة الرضا في التسليم بما قدر الله وقضى"، المؤلف أبو يحيى ابن عاصم، ابن أبي بكر ابن عاصم صاحب التحفة، حققه صلاح الدين الجرار، ونشرته مؤسسة الرسالة في ثلاثة أجزاء، إن أردنا أن نُصنِّف هذا الكتاب نقول: إلى أي صنف يرجع هذا الكتاب؟ أنا أرى أنه يرجع إلى صنف الكتب التي تسمى بكتب الفرج بعد الشدة، وأخذ من كثير منها.
انتهيت إخواني من العنصر الأول، وأنتقل إلى الثاني، والكلام في الثاني والثالث، قصير إن شاء الله، وهذا العنصر الثاني فيه ومضات من تجربتي في مجال العمل، الومضة الأولى من مراحل التدريس وما استتبع التدريس من الإشراف على تكوين المدرسين ومن تقييم كتب الدراسة، وكتابة المذكرات البيداغوجية والإسهام في تأليف الكتب الدراسية، ومما واجهني في هذا الميدان أني كنت مرة مقيِّماً لكتاب مدرسي للتعليم الثانوي يتعلق موضوعه بأحكام الأسرة، وحتى يتعلق موضوعه بأسس النظام الإسلامي في الحكم، هذا البرنامج.. يعني هذا المنهج الذي يشمله هذا الكتاب يقع تطبيقه من أكثر من عقدين من الزمن، وأُلِّف فيه كتاب كنت من المقيِّمين له، وإذا بوزير للتربية يقرأ هذا الكتاب بعد أن قيَّمته وطُبع ويدرس به فيكتشفه أنه مخالف لكثير من اعتقاداته المخالف لما يتصوره من نظام الأسرة الذي ينبغي أن يكون نظاماً إفرنجياً ولا يكون نظاماً إسلامياً، وغير ذلك من الأشياء التي أودعها هذا الكتاب.
 
الملاحظ أن هذا الوزير أمره معروف، هو الآن من أكبر المعارضين للحكومة التونسية الحالية، حكومة التغيير، فهذا الرجل أساء في وقت ما إلى تعليمنا الديني والإسلامي وإلى الزيتونة، كما أساء المسعدي الذي حدثتكم عن إساءته للزيتونة، أنا أقول هذا ليس لأني زيتوني فقط، بل لأني أنتمي إلى هذه الحضارة الإسلامية التي يريد لها الرفعة والشموخ وهذا لا يتأتّى إلا إذا بنينا على أُسس صحيحة سليمة من قواعد الإسلام وقواعد ديننا. أنا أتذكر أننا في أول عهد الاستقلال في سنة 1956م كنا نحضر محاضرات للأستاذ عثمان الكعاك المؤرخ الشهير وكان يقول.. (أنا شاهد عصري في هذه الحكاية) كان يقول: ليتنا نتفطن أن بأيدينا سلاح مهم جداً للدخول إلى مجاهل إفريقيا ونصل ثقافتنا بإفريقيا، هذا لا يتأتّى إلا بمحافظتنا على تعليمنا الإسلامي وعلى أصالتنا ومحافظتنا على القلعة الكبرى التي ورثناها عن الأجيال السابقين أقصد جامع الزيتونة، لكن مات أخونا عثمان الكعاك ومات معه أمله.
 
الومضة الثانية، من الندوات العلمية والمؤتمرات الثقافية التي أسهمت فيها، ومن أطرف المواقف فيها ما حصل مع أستاذ في ندوة إسلامية وقعت بالقيروان، والقيروان كانت تعقد ندوات سنوية وما زالت في أيام المولد في إحدى الندوات جاء هذا الأستاذ من كلية الآداب من كبار أساتذتها وخاطب الحاضرين الذين كانوا من وعَّاظ المعتمديات والولايات، من خرِّيجي الزيتونة، يتولون مهمة الوعظ والإرشاد الديني، مهمتهم تقتصر على الإرشاد الديني والخطب المنبرية يوم الجمعة وتعليم الناس أحكام الدين من عبادات وغيرها، وهم بطبيعة الحال سيعتمدون على السنة النبوية، أعلن من على المنبر أن السنة لا يمكن الاعتماد عليها كمصدر من مصادر الأحكام الشرعية، وقال هذه السنة مليئة بالوضع، الوضَّاعون ملئوها بالأباطيل وملآنة بالإسرائيليات وما أشبه ذلك، حدث هذا في جلسة صباحية ولم أحضرها، والمقرر أنني أُلقي كلمتي في جلسة المساء.
لما حضرت في جلسة المساء وجدت الحاضرين في حيرة شديدة جداً، وواجهوني من الباب يقولون كيف العمل إذن الأحاديث التي نُقدِّمها ونغذي بها خطبنا ودروسنا هذه كلها باطلة، سمعنا اليوم كذا وكذا وكذا، قلت لهم: ندخل القاعة وأنا أتكلم كلمة في هذا الموضوع، قلت لهم: يا إخواني أريد أن أرجع بكم إلى الوراء بضع سنوات، أرجع بكم إلى سنة 1963م نحن كنا طلبة في الكلية وكان شيخنا الممتاز جداً -رحمه الله- أحمد بن ميلاد، هذا الشيخ دخل علينا في يوم من الأيام وأساريره تُبدي سروره الشديد وسعادته وفرحته قال لنا: هل علمتم بمن اتصلت اليوم؟ اتصلت اليوم بشاب من أبناءنا الذين كانوا يدرسون عندنا في الزيتونة وأخذ التحصيل و=== أن يذهب إلى كليات شرقية، راح إلى ألمانيا وتعلم اللغة الألمانية وواصل دراسته العليا بالألمانية، جاءني هذا الشاب اليوم يقول لي: إن بعض المدرسين الألمان في قسم التاريخ ينوهون كثيراً بالجهود التي بذلها المحدثون لتنقية السُنَّة، وإن مما يفخر به المسلمون أن السنة وُضعت لها ضوابط ومقاييس تجعلها لا يُقبل منها إلا الصحيح وما يعتمده هؤلاء المحدثون قد كانوا به سباقين بالنسبة للحضارة الإنسانية بصفة عامة.
أرأيتم يا إخواني كان يقول: يا مشايخ، أرأيتم يا مشايخ هذه شهادة من أعداءنا هذا ألماني يُعلن ذلك وقد نقل إليّ الخبر الطالب الفلاني، ثم بعد ذلك التفت إلى أبناءنا الحاضرين من الوعَّاظ أغلبهم من طلبتي قلت لهم: هل تعرفون من هو ذلك الشاب الذي نقل الخبر إلى الشيخ أحمد بن ميلاد قالوا من هو؟ قلت لهم: هو ذلك الأستاذ الذي تنكَّر في ذلك الوقت هو طالب والآن أصبح أستاذاً وتنكَّر لماضيه وأصالته، وربما ندم على أنه قضى فترة من حياته متمسكاً بأصالته فتعجب الجميع، قلت لهم: هل تسمعون كل ما يُلقى عليكم وتعملون به وتعتبرونه كلاماً يؤخذ ولا يُرد عليه؟ فإنه لا يؤخذ مسلَّماً إلا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأنتقل بكم إلى الإشتراك في الحوار في كثير من الندوات أقول: أكسبني خبرة ونمّى عندي المقدرة على الارتجال، أنا أتذكر أنه كان الحياء يغلبني، ولم أكن أستطيع أن أرتجل أو أن أناقش أو أن أحاور، لكن بهذه التجربة وبتعلم أدب المناظرة وكذلك تعلم علم المنطق، وقد كنا ندرسه في عهدنا كان أدب الجدل والمناظرة والمنطق من بين المواد التي ندرسها والآن زالت هذه المواد، وقد استفدنا ذلك واستفدنا دراسة الحكمة الإسلامية والفلسفة الإسلامية من كثير من العلماء، سأذكر لكم من بينهم: الشيخ عبد الحليم محمود، والفضل لشيخنا محمد الفضل بن عاشور الذي كان يدعو كبار العلماء كالشيخ عبد الحليم محمود والشيخ عبد الهادي أبو ريدة، لإلقاء محاضرات أو لإنجاز حتى مناهج في ما وضعه من مناهج.
في مجال الإذاعة والتلفزة كان أهم ما حاولت اجتنابه هو أسلوب الوعظ والإرشاد، في مجال التحقيق أذكر لكم أني أعتبر نفسي مكتشفاً باعتزاز لبعض الكتب المهمة منها: رحلة القلصادي منها برنامج المُجاري، كانت مشهولة وأعتبر أني انكببت على إبراز كتابٍ كثيرٍ ما وصفوه بأنه أحسن ما أُلف في المذهب المالكي، وهو كتاب ابن راشد في جزأين يصدر قبل رمضان كما وعدني المجمع الثقافي بأبو ظبي، وكذلك انكببت على الموسوعة المالكية في المناسك كتاب ابن فرحون أوسع ما كتب في المناسك في فن المناسك عند المالكية، وكذلك نفض الغبار عن جوانب كانت مجهولة في تراجم بعض الأعلام هذه تحدث عنها أخونا الحسين.
ومن أهم الأشياء التي تناولتها في أبحاثي ولم أسمع من تعرض لها، إبراز قيمة كتب الحسبة، وإبراز أهمية كتب الفتاوى، وكتب برامج الشيوخ، وكذلك الرد على بعض المستشرقين، تجدون الرد في مقدمة ابن رحّال ردّ على جاك بارك لأنه انتقد أسلوب العنعنة والسند في ثقافتنا وهو أسلوب نفخر به، رددت عليه في تلك المقدمة كما رددت على برانشفيك في مقدمة ابن قدّاح وفي مقدمة ابن راشد، ومن بين ما كان يقوله برانشفيك: إن الفقهاء المسلمين فالأمير الحفصي استشار الفقهاء ابن عرفة وأمثاله من طبقته، فقالوا يُعامل معاملة المحارب، فيعني يُسلط عليه عقوبة الحرابة، فقامت الدنيا وقعدت وقالوا هذا تعصب من المسلمين، إن المسلمين يتعصبون ويقسون في معاملة الذميين، ما أشبه الليلة بالبارحة! إذاً كذلك قضية التمييز بين التعصب والمناصرة ذكرها أخونا وحسب التجربة فإن ضمان النجاح في تحقيق مخطوط أن يكون المتصدي له مختصاً في موضوع الكتاب المخطوط يا ليت الوقت يسمح حتى أقدم إليكم مجموعة من الأمثلة لكن أكتفي بثلاثة أمثلة: كتاب ابن سهل لمّا حُقق وهو كتاب فقهي والذي حققه المؤرخ، عمد إلى كلمة "التدمية" فغيَّرها وصحَّفها وكتبها "التقدمة"، والموضوع يقوم على أساس "التدمية"، ولا يفهم هذا المصطلح "التدمية" إلا من له ضلع في الفقه، والذي حقق كتاباً في الجدل وقال: بنت لبون وابن لبون لم أجد ترجمة لهما -يا محمد تتذكر- هذا هو نفسه استنكر أن يكون في كتاب حققته عبارة "لحم الشاة الذكية" قال: كيف هذا المحقق يكتب الذكية عن الشاة، هل تكون الشاة ذكية؟ تكون مذكّاة بينما الذكية هي مستعملة عند فقهاء نادي هذا المعنى.
العنصر الثالث.. الأخير.. بيّنت فيه أن ما ازددت إيماناً به من القيم هو التالي بسرعة: الإخلاص، عدم الاقتصار على إطار الاختصاص كما قدمت، تنويع مصادر الاستفادة، الأمانة في توثيق المعلومات، التزود بالقدر المناسب من الثقافة الإسلامية، متابعة ما يصدر من البحوث والكتب، تشجيع أبنائنا وطلبتنا على سلوك طريق البحث العلمي، تجنب التعصب النقيض للرأي الشخصي أو المذهب، النظر إلى المستقبل بمنظار الأمل والتفاؤل.
وأخيراً أجدد شكري لصاحب الفضل في هذا اللقاء الودّي، وصاحب الكرم السخي والعشق الفياض لإنتاج العقول وثمار البحث، الشيخ عبد المقصود خوجه أدام الله بيته العامر منارة ثقافية في ربوع عالمنا الإسلامي الرحب. السلام عليكم ورحمة الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :787  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 147
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الشعرية والنثرية الكاملة للأستاذ محمد إسماعيل جوهرجي

[الجزء الخامس - التقطيع العروضي الحرفي للمعلقات العشر: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج