شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به العلاّمة الدكتور محمد سعيد رمضان ))
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله بجميع محامده كلها ما علمت منها وما لم أعلم، على جميع نعمه وآلائه كلها ما علمت منها وما لم أعلم، وأسأل الله سبحانه وتعالى ألا يجعل في ما قد أصغيت إليه من مدح وثناء فتنة لي في ديني وأسأله سبحانه وتعالى ألا يجعل من هذا الذي سمعته سكراً أو سبباً لنسيان ذل عبوديتي لله سبحانه وتعالى ومنتهى ضعفي وعجزي وأنا أدرى الناس بهما، وسبحان من يستر عن عباده جميعاً قبائح عبد أحبه، وينثر وينشر كالعبق دقائق وجزئيات ما قد يوفقه الله سبحانه وتعالى إليه من خير، وعندما أقول سبحان من يكرم بهذا من أحب، أذكر نفسي وأذكركم بأن محبة الله عز وجل للعبد أسبق من محبة العبد لله ألم نقرأ في هذا قول الله سبحانه تعالى [يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه] فالفضل في محبة الله عز وجل للعبد لله سبحانه وتعالى وليس الفضل في ذلك لعمل جناه العبد أو لتوفيق ابتدعه العبد..
وبعد:
فأنا أغبط وأهنئ أخي سماحة العالم الأديب الشيخ عبد المقصود خوجة على حبه وعشقه للعلم المقرب إلى الله سبحانه وتعالى، هذا الحب الذي تجسد في هذا السعي الطويل الذي لم يكل ولم يمل من التسيار في سبيله، وأنا على يقين أن إنساناً يبذل وقته وإمكاناته وداره في سبيل العلم وقد يتجسد العلم في علماء ولا شك أن عملاً من هذا لا يستمر بل لا ينبع إلا من حب لله سبحانه وتعالى.. وهل العلم أيها الأخوة إلا السلم الذي يرقى به العبد إلى الرب؟ أنا أهنئه وأغبطه على هذا النهج الذي انتهجه وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من هذه السقيا التي يكرّم بها العلم ينبوعاً لا ينقطع، وساقية تستمر وتستمر، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوج عمله هذا وعمل الأخوة المجندين معه في هذا النهج أن يتوج ذلك بالقبول.
أما أنا فأصدقكم إذ أقول إنني أعود إلى نفسي وقد حشرت بين قائمة المكرمين منذ سنوات إلى هذا اليوم، أجدني خجلاً من الله سبحانه وتعالى فأنا أدرى الناس أيها الأخوة بضعفي وتقصيري في جنب الله سبحانه وتعالى، ولكن الله سبحانه وتعالى ينشر وينثر من الخير عبقاً وإن كان صغيراً وضئيلاً وأسأل الله عز وجل أن يبقي علي كنف ستره في هذه الدنيا وأن يجعل منه رواقاً لا يبتعد عني إذا قام الناس غداً لرب العالمين.
أيها الأخوة محرج جداً بالنسبة إلي أن أتكلم عن نفسي ولا أظن أني وقفت مثل هذا الموقف لأتحدث لأخوة فضلاء أمثالكم عن نفسي، بل أظن أن في هذا مضيعة لوقتكم ربما، ولكن قد يأخذ الإنسان العبرة من كل شيء، فلاتجه بحديثي، وأرجو أن يكون مقتضباً، وجهة تجعلنا نقطف من هذا الحديث ثمار العبرة جميعاً، أيها الأخوة رُبِّيتُ كما قد سمعتم على يد والدي أولاً ثم الشيخ حسن حبنكة الميداني ثانياً ولكني أحب أن أقف بكم على عقدة العلاقة التي سرت بين والدي وبين الشيخ حسن بل على مفصل الصلة التي جعلتني أنتقل من ظل تربية والدي إلى ظل الشيخ حسن حبنكة الميداني، في يوم من الأيام لم أكن قد تجاوزت السادسة عشرة من عمري، أمسك بيدي ومضى بي إلى حيث لا أعلم وقال لي في الطريق يا بني لو علمت أن الطريق إلى الله عز وجل يكمن في كسح القمامة من الطريق، لجعلت منك زبالاً، ولكني نظرت فوجدت أن السبيل الوحيدة الموصلة إلى الله عز وجل هو العلم، وها أنذا أتجه بك إلى هذا النهج فهل تعدني أن تتعلم ما يقربك إلى الله ويعرفك عليه دون أن تجعل من هذا العلم مطية لدنيا عاجلة، أو لعرض من الدنيا قليل؟ قلت له: أعدك.. ولم أكن قد ذقت بعد طعم الدنيا، ولا طعم المال، ولا الوظائف، قلت أنا أعدك، وسرت على هذا النهج أيها الأخوة، ولا والله لم يكن الفضل في الاستقامة التي أكرمني الله بها على هذا النهج عائداً إلى مزية ميزت بها أو إلى قوة إرادة أكرمت بها ولكنه التوفيق الهابط من عند الله سبحانه وتعالى.
كان توجهي بادئ ذي بدء نحو الأدب ولعلكم سمعتم ما يدل على هذا، تعشقت الأدب أيها الأخوة، ولكن الأدب لم يجنح بي عن نهج الاستقامة قط، لا في فكر غرسته في ذهني، ولا في سلوك، بشكل من الأشكال، ولكني فيما بعد عرفت الحكمة الربانية من هذا الشيء الذي وجه الله سبحانه وتعالى فؤادي إليه، ما هي إلا فترة حتى تحولت من الأدب إلى دين الله عزّ وجلّ واتجهت هذه الوجهة بحماسة منقطعة النظير فعلاً، والتفت إلى الوراء فيما كان حبي للأدب؟ وعرفت أن الله عز وجل شاء لي أن أسخر الأدب مطية لدين الله عز وجل، عرفت أن الله عز وجل شاء أن أجعل من اللغة جسراً أخاطب به الناس، وأحاور به العقول وقد عرفت أن بضاعة الأدب إن استخدمت لدين الله عز وجل أثمرت ثمرات عظيمة ورائعة، وأحمد الله سبحانه وتعالى على ذلك، كان اختصاصي كما قد عرفتم، اختصاصي الدقيق كما يقولون، في أصول الشريعة الإسلامية، وفي فقهها أيضاً، وسرت أشواطاً في هذا الطريق من حيث الكتابة والتأليف وما إلى ذلك ولكني رأيت أيها الأخوة أن دين الله سبحانه وتعالى يحارب بسلاح مما يسمى بالعلم الحديث، الفلسفة المادية، المذاهب والأفكار الوافدة، متمثلة في الفلسفات المادية المتنوعة، متمثلة في الفلسفة الوجودية، والعلمانية وبريقها الكاذب، في المذاهب العلمية والفكرية كنظريات التطور ونحو ذلك، فاتجهت إلى خدمة دين الله عزّ وجلّ من هذا الجانب.
وإذا جاز لي أن أشكر إنساناً ما أظن أن له صلة بالدين لا وثيقة أو غير وثيقة، كان أستاذاً للتاريخ، إذا جاز لي أن أشكره لشكرته والله أعلم وأسأل الله أن يكون قد هداه، أشكره لأنه دفعني إلى هذا الذي سأقوله لكم، كنت قد التقيت معه في مجلس خاص، وسمعته يتحدث عن الوجودية ويصف مدى إعجابه بها، وقلت له إن الوجودية كلام باطل وأنها فلسفة شائنة تخالف دين الله سبحانه وتعالى، فنظر إلي من علٍ وقال لي ماذا تعرف من الوجودية؟ كأنما هذه الكلمة أيقظتني من سبات، قلت له لا أعلم شيئاً، كل ما أعلمه أنها باطل من القول، وأنا أعترف بأن يقيني هذا لا يصلح أداة نقاش بيني وبينك، وصمت وقطعت حبل الحديث، دفعتني هذه المحاورة إلى أن أشمر عن ساعد الجد، عكفت على دراسة الوجودية، المذهب الوجودي كما لو كنت والعياذ بالله وجودياً، ثم عكفت على دراسة الفلسفية المادية الماركسية وبعمق كما لو كنت أريد أن أتبنى هذه الفلسفة وغصت في أعماق نظريات التطور بدءً من اللامركية إلى الداروينية إلى الداروينية الحديثة، ودرست العلمانية وتاريخها وما إلى ذلك، ذلك لأنني رأيت أيها الأخوة أن دين الله عز وجل يحارب بسهام من هذه الأباطيل وأنا إن لم أكن بصيراً بهذه الأباطيل لا أستطيع أن أحطم هذه السهام قبل أن تصل إلى كبد الإسلام، وأنا في هذا مع شيخ الإسلام ابن تيمية ولكن في تطبيقه الفعلي لا في كلامه النظري، لقد أثبت أن الفلسفة هراء ما ينبغي أن تتصيد يقين الإنسان المسلم وعقائده لكنه متى وصل إلى هذه الحقيقة عندما أدرك سرابها من شرابها وعندما درس هذه الفلسفة وتبين فعلاً باطلها ونحن نعلم في هذا قول الشاعر:
عـرفت الـشر لا
للشر لـكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر
من الخير يقع فيـه
 
وأحمد الله عز وجل أن وفقني وأنا الإنسان الضعيف ولكنه توفيق من الله عز وجل وفقني لأقف على ثغرات شتى أحرس من خلالها دين الله سبحانه وتعالى.. أنني أحب أن أقول هنا بين قوسين أيها الأخوة كلمة، الإسلام الآن يحارب ولا تعني هذه الكلمة أن الإسلام مغلوب، أما أنه يحارب فنعم وأما أنه مغلوب فلا.. ولكن عندما نقول إنه يحارب فينبغي أن نهيئ جنداً من المجاهدين، ومن الواقفين في خندق الدفاع عن دين الله عز وجل، الفقه هو الميزان الذي ينبغي أن نهيأه جميعاً للمجتمع الإسلامي المنشود لا شك في هذا ولكن قبل أن يتحقق المجتمع الإنساني المنشود ينبغي أن نعبّد الطريق، ينبغي أن نهيء الساحة والواحة، ولن تتهيأ الساحة مطهرة إلا إذا عرفنا مثل هذه الأفكار الباطلة وصبرنا على دراستها ومعرفة أنها باطلة فعلاً.
أيها السادة، قدرٌ شاءَه الله إلى الدعاة إلى دين الله، وشرّفهم به، ينبغي أن نرفع الرأس به عالياً، عندما يكون الرجل طبيباً فيسأل عن التاريخ بوسعه أن يرفع الرأس عالياً وهو يعتذر قائلاً إنني لا أتخصص في التاريخ وإذا سئل عن الفلسفة بوسعه أن يعتذر ويقول إنني لست متخصصاً في الفلسفة ولن يضيمه هذا أبداً.. كذلكم المهندس، كذلكم السياسي، كذلكم المختص بعلم النفس أو الاجتماع، فإذا جاء دور الداعي إلى الله عز وجل، الذي حمل نفسه مهمة الدفاع عن دين الله عز وجل والدعوة إلى الله عز وجل، إذا جاء من يسأله عن مسألة تاريخية لا يعذر أبداً أن يقول إنني رجل دين ولست متخصصاً بالتاريخ، إن سئل عن مسألة فلسفية لا يعذر أبداً أن قال أنا غير متخصص في الفلسفة، إن جاء من يسأله عن شيء من التاريخ الطبيعي وقال يا أخي أنا لست متخصصاً في التاريخ الطبيعي لا يكون معذوراً، إن جاء من يسأله في مسألة عن علم الاجتماع أو علم الحياة أو أي علم من هذه العلوم الجديدة لا يعذر إطلاقاً إن قال إنني متخصص بالفقه والدعوة إلى الله ولست متخصصاً في شيء من هذا، ما السبب؟ السبب أن دين الله عز وجل يتصل بكل هذه المعارف فالإسلام هو دين الحياة، الإسلام يحكم على الفلسفة ويحكم على علم النفس، والإسلام يحكم على علم الاجتماع، والإسلام هو علم الحياة، وربما قال قائل وفيم أحمل كل هذا؟ والناس لا يحملون إلا اختصاصاً دقيقاً واحداً إلى جانب ثقافة عامة!! أقول: هذا قدر الإنسان المسلم الذي سار في طريق الدعوة إلى الله عز وجل.
وأخيراً فلعلكم تتساءلون عن منهجي في خدمة دين الله إن وفقت لهذا.. منهجي أيها الأخوة هو أولاً التركيز على قاعدة تسمى قاعدة سلم الأولويات في دين الله عز وجل، وأتصور أن الإنسان إذا لم يجعل من هذا السلم مقياساً في طريق سيره إلى الله ربما تعرض لأنواع كثيرة من التيه، سلم الأولويات يضعني أمام العقيدة أولاً، ثم أمام الضروريات من شريعة الله وأحكامه السلوكية ثانياً، ثم أمام الحاجيات ثالثاً، ثم أمام التحسينيات رابعاً، لا أخاصم في سبيل أمور تحسينية قبل أن أرسخ جذع الأمور الحاجية، ولا أخاصم في أمر حاجي قبل أن أضمن أن دعائم الأمور الضرورية قد ترسخت وهكذا، النقطة الثانية التي أسلكها أيها الأخوة في هذا المنهج هي الدعوة إلى الله عز وجل بسائق من الشفقة والحب، بسائق من الغيرة على عباد الله جميعاً وهذا يكلف الداعي إلى الله أن يطهر قلبه من الشحناء والبغضاء والحقد لعباد الله جميعاً، الداعي إلى الله طبيب أيها الأخوة، طبيب، أرأيتم إلى طبيب يعالج مريضاً، لا سيما الطبيب المختص بالأمور العصبية، يعالج إنساناً مريضاً، هذا الإنسان المريض أخذ يلكم، وأخذ يتحرك، وأخذ يؤذي بحركاته أو بلسانه، لو أن هذا الطبيب تحول فانتصر لنفسه، وأصبح يسدد بدل اللكمة الواحدة لكمات، وبدلاً من الكلمة كلمات، فمن الأفضل له أن يبحث عن وظيفة أخرى، هي الأنانية التي ينتصر هذا الإنسان من خلالها لنفسه، أنا إن كنت أدعي أنني طبيب وأعاهد الله أن أكون طبيباً ينبغي أن أعاهد الله أن أضحي بكرامتي وبذاتيتي وبكل ما يعود إلى شخصي أنا في سبيل الانتصار إلى دين الله عز وجل، ورأس مال الداعي إلى الله أو العالم بدين الله عز وجل قلب لا يعرف حقداً، قلب فاض حباً لله، وإخلاصاً لدين الله ومن ثم لا بد أن يفيض عطفاً وشفقة على عباد الله سبحانه وتعالى، هذا هو النهج الذي أرجو أن يجمع الله سبحانه وتعالى الدعاة في هذا العصر إليه، أنا ممن يؤمن أن العمل الإسلامي ينبغي أن يتلاقى على طريق واحد، وما ينبغي أن تتفرق بهم السبل أبداً، ذلك لأن النهج واحد والغاية واحدة فالمبتدأ واحد والمنتهى واحد ففيما تتعدد الطرق؟ لا سيما في هذا العصر.
لا أريد أن أطيل، ولعلي قد أطلت، مرة أخرى أحمد الله سبحانه وتعالى أن كرمني بهذا المجلس الذي دعاني إليه فضيلة الشيخ العالم الأديب عبد المقصود خوجة، وأسعدني برؤية هؤلاء الأخوة وبالإصغاء إلى هذه الكلمات التي أعلم يقيناً أنني لست أهلاً لها لكنني أسأل الله أن يجعلني يوماً ما أهلاً لها.. والحمد لله رب العالمين.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :596  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 72 من 139
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.