شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة الدكتور سعيد يقطين))
شكراً جزيلاً، اسمحوا لي في البداية أن أعبر عن بالغ تأثري لهذا اللقاء، ولهذه الكلمات الصادقة والجميلة.
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سعادة السيد الفاضل المحترم الشيخ عبد المقصود خوجه حفظك الله ورعاك.
أيها الحضور الكريم.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
سررت كثيراً بالدعوة الكريمة، التي تلقيتها من "اثنينية" عبد المقصود خوجه بقصد تكريمي في هذا اليوم، كانت الدعوة في شهر يونيو 2013م، وظل التواصل قائماً حتى هذه اللحظة، كان مبعث السرور هو أن الدعوة جاءت من بلد عربي ومن شخصية مرموقة لتشجيع الفكر والأدب وفي تلك الدعوة وهذا التكريم تقدير للمجهودات التي بذلتها بتواضع واحتشام، والتي لا يمكن أن ترقى إلى هذا التكريم، فشكراً جزيلاً "لاثنينية" عبد المقصود خوجه على هذه الالتفاتة الطيبة، التي ستظل تطوقني بجليل صنيعها حتى أُقبر في لحدي، والشكر موصول للأخ الفاضل محمد الحسن على تواصله الدائم معي وعلى كل الساهرين على تنفيذ هذا التقليد النبيل، وأشكر الجمهور الكريم على حضوره لهذه “الاثنينية”، التي أعدّها مساهمة في الترحيب وفي التكريم، وأشكر أخيراً الزملاء والأساتذة كلهم الذين تفضلوا بإلقاء كلمات أعتبرها طوقاً سأظل أحمله أبداً.
ماذا يمكنني أن أقول أمام كل ما قيل؟ لقد عجز اللسان عن الحديث في هذه المناسبة الطيبة، وقلما تحدثت عن تجربتي لأن الانشغال بتطوير هذه التجربة حال من دون الحديث عنها، ولقد أتيحت لي مناسبات تكريمية في المغرب وفي القيروان لإلقاء كلمات تتحدث عن مساري وعن تجربتي، فبدأ هذا النوع من اللقاءات يدفعني إلى كتابة ما يمكن أن أسميه (سيرتي النقدية)، ولقد بدأت أفكر في هذا الموضوع ليس من باب التعبير عن أعمالي وعن منجزاتي ولكن للتفكير في العمل الذي قمت به بهدف تطويره والمشاركة فيه، وما سأقوله في هذه الجلسة التكريمية سيكون جزءاً من هذا التصور، الذي أسعى إلى طرحه في هذا الكتاب المشروح، جعلت عنوان ورقتي "في المسار السردي الواقع والطموح".
يتجاوز عمري الثقافي أربعين سنة، بدءاً من سنة 1974م. عندما كنت تلميذاً في الثانوي وبدأت أنشر في ملحق جريدة "العَلَم" دراسات تتحدث عن النقد الأدبي، وستكون هذه المقالات الأولى جزءاً من هذه المسيرة النقدية، يتوزع هذا العمل الذي أنجزته كما قلت بتواضعه إلى أربعة مجالات هي على الشكل التالي: المجال الأول هو: العمل الثقافي الجمعوي، حيث كنت في بداية حياتي منخرطاً في الجمعيات المسرحية والأندية السينمائية، ثم بعد حصولي على عضوية اتحاد كتّاب المغرب 1976م. صار كل نشاطي متمركزاً في هذه المؤسسة الوطنية الرائدة والطليعية، إلى أن صرت في المكتب المركزي لدورات عديدة، ثم بعد ذلك أسسنا رابطة الأدباء المغاربة.
المجال التالي الذي اشتغلت به هو: العمل التربوي والجامعي، فقد اشتغلت ثلاث سنوات في الإعدادي، وثلاث سنوات في الثانوي، والمسيرة كلها بعد ذلك في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء أولاً التي قضيت فيها ثلاث سنوات، ثم بعد ذلك تم استقدامي إلى الرباط حيث ما أزال إلى الآن، وفي هذا الجانب التربوي والعلمي إلى جانب التدريس أمارس الإشراف على الرسائل ومناقشتها وزيارة بعض الجامعات الأجنبية والعربية.
العمل الثالث أو المجال الثالث هو: العمل الأكاديمي المتصل بالنشر، ويتمثل في تحكيم مجلات مُحَكَّمة وفي لجان الجوائز وفي إعداد المشاريع مثل المشروع الذي أشار إليه الشيخ، وهو المكتبة الرقمية التي كلّفني بها مكتب المغرب العربي لليونسكو لإعداد مادة وتقديمها حول خمس مكتبات الكترونية، وهذه المكتبات موجودة ضمن موقع هذه المؤسسة العالمية.
المجال الرابع والأخير هو: مجال التأليف والنشر، سواء كان فردياً من خلال المؤلفات التي تم ذكرها في هذا المجلس الطيب، أو جماعية التي شاركت فيها سواء في المغرب أو في خارجه، هذه المجالات الأربعة كنت أشتغل فيها وبها بتصورٍ وبرؤيةٍ محددة، لم أنخرط فيها بالصدفة أو بالولاء أو بالانتماء، كنت متشبعاً بقيمٍ وأخلاقيات ما تزال تحدد عملي إلى الآن.
في المجال الأول كان يحدوني إلى المشاركة في العمل الثقافي الجمعوي إيماني بالعمل الجماعي وبالتطوع، لكن هذا العمل الجماعي في بُعده الفني والثقافي سرعان ما تخليت عنه آسفاً سواء في جمعيات محلية أو في مؤسسات وطنية، لأنني رأيت أن العمل الجماعي في تجربتنا تحدوه رغبات ومقاصد تتعارض مع تصوري للعمل الثقافي، ولذلك انسحبت من اتحاد كُتّاب المغرب، وأوقفت العمل في رابطة الأدباء المغاربة منذ سنة 2004م. إلى الآن، وحتى داخل الجامعة حاولت أن أفكر في مشاريع علمية وأكاديمية، ولكن ظهر لي أن الإيمان بالعمل الأكاديمي الحقيقي بعيد المنال لذلك كنت أسهم في تقديم مشاريع ولكني لم أكن قادراً على تحمل مسؤوليتها، لأن الطرق التي يتم الاشتغال بها في هذه المشاريع تتدخل فيها عناصر وسمات لا علاقة لها بالعمل الأكاديمي، لذلك لم أتحمل مسؤولية أي ماجستير باستثناء الدكتوراه كمنسق لمركز الدكتوراه في مدرسة الدكتوراه في كلية الآداب، وهو موقع لا يجعلني أتدخل في الأشياء التي يمكن أن تكون غير ذات قيمة، ولكن فقط عملي يقتصر على جانب إداري من دون أن يكون له أي تأثير.
الجانب التالي في العمل التربوي سواء في الإعدادي أو الثانوي أو الجامعي له البعد نفسه، إذ كان يحدوني فيه لأنني أعدّ نفسي معلماً وأحب هذا الاسم أن أكون معلماً لا أن أكون أستاذاً أو دكتوراً، وسأبين في نقطة لاحقة ما معنى المعلم وما علاقة المعلم بالناقد والدارس والباحث؟ كان يحدوني أنا المعلم أن أشجع التلاميذ والطلاب وهذا ديدنٌ سرتُ عليه وأنا ابن اثنين وعشرين سنة عندما انخرطت في سلك التعليم إلى الآن، من خلال التفاعل، ومن خلال التشجيع، ومن خلال التحفيز. وكانت الرؤية التي أنطلق منها في علاقتي بتلامذتي وطلبتي أيضاً هو أنه لا يمكننا أن نميز في الموضوع الذي نتعامل معه تربوياً وأكاديمياً بين الذكي والبليد، ولكن أميز بين الكسول وبين المجتهد، وبالتالي فذلك الكسول ينبغي أن نخلق له الشروط لكي يتحول من هذا الوضع إلى الوضع الذي يساعده على الانخراط في المجموعة، وهذا العمل سرت عليه في علاقتي بطلبتي إلى الآن، وعندما يأتيني طالب ليسألني عن موضوع الدكتوراه أقول له هل تريد أن تحصل على الشهادة أم تريد أن تكون باحثاً؟ إذا كنت تريد الحصول على الشهادة فالعدد غفير من الذين يقبلون هذا النوع من الأعمال، ولكن إذا كنت قادراً على تحمل مسؤولية أن يكون بحثك موضوعاً للتداول بين القراء فأهلاً وسهلاً بك، وفعلاً بالتشاور والتعاون مع مؤسسة دار الرؤية للنشر نشرت إلى الآن سبعة كتب، كانت في الأصل أطاريح أشرفت عليها أو كنت مساهماً في مناقشتها، وأعدّ هذه الدراسات امتداداً للعمل الذي أقوم به، ولي في هذا الجيل بعض العزاء مما نقاسيه ونعانيه من جيلنا.
ثالثاً في مجال التحكيم، ولجان الجوائز: كنت أؤمن إيماناً قوياً بضرورة الدفاع عن الجودة والموضوعية بغض النظر عن أي تحيزٍ لما هو فكري أو إيديولوجي أو إقليمي أو وطني، لذلك كنت أعمل جاهزاً جاداً على تغليب هذا المعيار في علاقتي بهذا الموضوع.
في المجال الرابع: كان عملي تحدوه كذلك رغبة في تجاوز الثنائيات التي استكان إليها فكرنا واستكانت إليه كذلك ثقافتنا منذ عصر النهضة إلى الآن، وهي ثنائية ما تزال متواصلة إلى الآن بين القديم والحديث، بين الأصالة وبين المعاصرة، بين التراث العربي والتراث الغربي، فكنت شديد الحرص على مد الجسور بين القديم وبين الحديث، بين العربي والفكر الغربي وبين كذلك الثقافة العالِمة والثقافة الشعبية، السبب الذي جعلني أنحو هذا المنحى في هذه المجالات الثلاثة هو قراءتي المتأنية لواقع الفكر العربي بصفة عامة منذ عصر النهضة إلى الآن، والذي جعلني أفكر في العوائق التي تحول من دون تطورنا، والتي تجعلنا في كل منعطف تاريخي وسياسيٍ جديد نعيد طرح الأسئلة القديمة، وبالتالي لا نعمل على التطور من أجل إيجاد السبل الكفيلة بتجاوزها.
في مجال التأليف والنشر: أذكر أن أول كتاب كما أشار الدكتور عبد المحسن هو القراءة والتجريب، الذي صدر سنة 1985م. كنت قد تبنيت فيه إطاراً محدداً وهو وليد القيم والأخلاقيات كلها، التي تحدثت عنها سابقاً وهي وضع العلم كمقابل للإيديولوجيا، يعاتبني كثير من الزملاء والأصدقاء على أنني أبالغ في الدفاع عن العلم، ولكني ما أزال إلى الآن متيقناً أن إيماننا بالعلم هو الذي يمكن أن يسهم في تطوير بحثنا الجامعي والأكاديمي، وإلا فإننا سنظل ننتج المثقفين العامين، الذين يحملون أفكاراً ولكنهم لا يحملون تصوراتٍ للتطور والتغير.
كان بحث الإجازة حول الشعر، وكانت بداياتي الأدبية مع الشعر، لقد نظمت الشعر الموزون المقفى وانتقلت بعده إلى قصيدة التفعيلة، ولما لم أجد في الدراسات النقدية ما يساعدني على تَمَثُل هذه التجربة الجديدة، بدأت أنطلق في قراءة الدراسات النقدية العربية حول الشعر الجديد وأنا تلميذ في الثانوي، ثم وجدتني أنخرط في هذا المجال، الذي كنت مقتنعاً بأن ما يقدمه إليَّ فيه من الدراسات التي لا تشفي الغليل ولا تسهم على طرح السؤال، لكنني فيما بعد في مجال انتقالي إلى دبلوم الدراسات العليا اخترت الرواية، وهنا لا بد من توقف سريع جداً على السرد، لأن السرد سنجده في كل شيء من الكلام في الحياة اليومية إلى الإبداعات التي تنتمي إلى الثقافة العالِمة، ويعدّ حقل الدراسات السردية الآن في أوروبا، في أمريكا، في أستراليا، في كندا متطوراً جداً بالمقارنة مع أي نوع من الأنواع الأخرى، بل إن السرد صار يشتغل به العلماء والمختصون في الاختصاصات كلها، وقد أشرت إلى هذه مسألة في كتابي الأخير الصادر سنة 2013م. "السرديات والتحليل السردي" إلى أن السرد صار موضوعاً يهتم به العلماء في العلوم السياسية، يهتمون به في العلوم النفسية، والعلوم الاجتماعية، والإعلاميات والدراسات اللغوية فضلاً عن الدراسات الأدبية، ومرد ذلك إلى أن السرد بعثورنا عليه أو بوصولنا إليه هو موجود في الخطابات كلها، ما دفع المختصون كلهم في هذه الاختصاصات كلها لأن يبحثوا عن كيف ينتج الإنسان السرد تماماً كما ينتج اللغة، وصرنا الآن نتحدث عن سرديات علاجية تهتم بعلاج المرضى، وصارت هناك سرديات حقوقية تُعنى بما يسرده المهاجرون، وما يسرده المرضى المتهمون، وبالتالي فمجال دراسة السرد صار أوسع مما كنا نتصوره أو كان يتصوره الدارسون في المرحلة البنيوية عندما نظروا إليه من خلال الرواية أو الملحمة أو الحكاية الشعبية، إلى درجة.. وهذا تصور كذلك فكرة صرت أؤمن بها وأدافع عنها إلى أن مفهوم الجنس الكلامي تَطَوّرَ بتَطوُّر الإنسان وبتطور الوسائط، وإذا كانت هذه الأجناس ثابتة بمعنى أنها متعالية على الزمان والمكان وهي توجد في أي مجتمع كيفما كان نوعه شريطة توفر الوسائط المناسبة لذلك اعتبرت في محاضرة قدمتها في النادي الثقافي بسلطنة عُمان في الفصل السابق في مثل هذا الوقت تحدثت فيها عن أننا انتقلنا من الشعر إلى الأدب إلى السرد، فالشعر ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالشفاه، أما الأدب كمفهوم جديد ظهر في القرن التاسع عشر وسيصل إلينا نحن هذا المفهوم كذلك في ثقافتنا ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالطباعة، في حين أن السرد سيرتبط ارتباطاً وثيقاً بظهور الوسائط الجماهيرية وتطورها، والآن مع ظهور الوسائط المتفاعلة أو الرقمية، وهذا هو السبب الذي جعل السرد يحضر في كل الخطابات كيفما كان نوعها وعدم الانتباه إليه يجعل أي دراسة أدبية أو ثقافية أو حتى في العلوم الإنسانية لا يمكنها ألا تركز على السرد، وإذا كانت المرحلة البنيوية قد ركزت على اللغة فإن مرحلة ما بعد البنيوية ركزت على عنصر أساسي يتحقق بوساطة اللغة وبغير اللغة وهو السرد، ولذلك، أعدّه من الجوانب الأساسية التي دفعتني إلى مواصلة هذا المشروع المتصل بالسرد والذي يمكننا أن نبحث عنه في الأدب، في النثر، في الشعر، في الصورة الثابتة والمتحركة، في اللغة اليومية في مجالات الحياة كلها.
إذاً، هذا التخصص هو الذي حاولت الاشتغال به في مختلف المجالات التالية: أولاً: (الرواية) وأُمثِّل لذلك بكتاب "القراءة والتجربة"، الذي كان بمثابة درج السفر، ثم تحليل الخطاب الروائي، الذي كان نقلة نوعية إلى تأثيث السرديات، ثم انفتاح النص الروائي الذي جعلته منفتحاً على السرديات الاجتماعية، ثم الرواية والتراث السردي الذي حاولت من خلالهما أن أنظر إلى كيفية تفاعل الروائي العربي مع التراث الذي سيحضر في العديد من النصوص، وهذا التراث سيظل حاضراً إلى الآن بأشكال وصور متعددة، وأخيراً كتاب قضايا الرواية العربية المعاصرة أو الجديدة، إذاً كان هذا هو المجال الأول أي أن الرواية كانت هي المنطلق.
لكنني انطلقت بعد ذلك وهذا المجال الثاني إلى السرد العربي القديم، لماذا؟ لأنه ظهر لي أن تطوير النظرية لا يمكنه أن يتم فقط بالاقتصار على النصوص الروائية، لا سيما وأن النصوص التي اشتغلت بها إلى غاية 88 ظلت تدور في فلك واحد وكان لا بد من انتظار الزمن لكي يتطور الإبداع الروائي، فقمت بالرجوع أو بالذهاب إلى الماضي من خلال السرد العربي وكان القديم وظهرت نتائج هذا العدد في مشاركات في ندوات عربية في كتاب "السرد العربي القديم مفاهيم وتجليات" ثم المجال الثالث وهو مرتبط بالسرد العربي القديم وهو مجال الثقافة الشعبية، وكان تركيزي على الصيغة الشعبية وأتفق مع الملاحظات كلها التي قالها الدكتور عاصم حول أثر السرد العربي بصفة عامة في الآداب الأوروبية منذ أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، بل إنه أدّى دوراً كبيراً جداً بشهادة الأجانب أنفسهم مبدعين ودارسين، في تطوير علاقتهم بالأدب وبانتقاله من الثقافة القديمة إلى ثقافة جديدة، وأنا أعدّ الثقافة الشعبية ليس كما يُنظر إليها عادة لدى بعض من ينتصر للثقافة العالِمة، الثقافة الشعبية هي جزء من ثقافتنا ولا خوف لا على اللغة العربية ولا على الإسلام من هيمنة هذه الثقافة، بل كلما تشبّع الإنسان - وهذه قناعة وقادر على الدفاع عنها من خلال نماذج- كلما تشجع المبدع والمثقف بالثقافة الشعبية وأنتج ثقافة عالِمة راقية، لأن الثقافة الشعبية تمثل الثقافة الحقيقية التي أسهم في إنتاجها الجميع وتشكلت عبر الزمن، وهي ستظل مستمرة ومتواصلة اعترفنا بها أم لم نعترف، ولذلك كنت منذ البداية حريصاً على إيجاد جسور بين الثقافة الشعبية وبين العربية العالِمة، وترى ذلك في كتاب "الكلام والخبر"، الذي سمح لي بإعادة النظر في نظرية الأجناس الأدبية، لأنني لم أنطلق من مفهوم الأدب كما نجده في الدراسات الأدبية العربية منذ جورجي زيدان إلى أدونيس، الذين أخذوا نظرية الأجناس كما هي موجودة في الغرب، وهي التي تقوم على ذلك التقسيم الثلاثي للأدب إلى أنه الملحمة والدراما والشعر الغنائي. ولما كانت الملحمة والدراما غير موجودتين في ثقافتنا اُعتُبِر شعرنا غنائياً، وبالبعد السردي الذي أدافع عنه صرت أرى أن شعرنا سردي بالدرجة الأولى والأخيرة، وتحت الرغبة وملاحظة الدكتور عبد المحسن الذي أعزه وأقدره كثيراً سأعمل إن شاء الله قريباً على إنجاز عمل يدور حول السرد والشعر.
ثالثاً، أو المجال الرابع الذي اشتغلت به هو: الثقافة الرقمية، وهذا الاهتمام أولاً جاءني من علاقتي بالنظرية وبالبعد العلمي في الثقافة الأدبية، لذلك عدد كبير من الزملاء والأصدقاء عندما رأوا كتابي الأول حول من النص إلى النص المترابط، اعتبروه تحولاً وتغيراً في مسيرتي النقدية أو في مساري السردي، وذلك لأنهم ظلوا دائماً يرون العديد من النقاد والباحثين يستطيعون بين عشية وضحاها أن يتنكروا لما كانوا يؤمنون به بالأمس ويعتنقون تصورات جديدة، فقلت في الرد على هؤلاء وأولئك إن اهتمامي بالثقافة الرقمية هو جزء من مشروعي السردي، لأنني وأنا أشتغل بالثقافة العالِمة وبعد ذلك بالثقافة الشعبية أرى أن الثقافة الرقمية هي رهان الثقافة في المستقبل شئنا ذلك أو أبينا، لأن الوسائط تتطور وبالتالي نحن العرب مطالبون بردم ما صرنا نتحدث عنه جميعاً تحت اسم الفجوة الرقمية، ولكنها ظلت مع ذلك فجوة. وفي سنة ألفين أنشأت لي موقعاً سميته "سرديات"، وكان هذا الموقع الذي وضعته آنذاك ببرمجيات بسيطة ومعقدة، لأن اللغة العربية آنذاك لم تكن في المستوى وكان هذا نموذجاً للكثير من الكتاب أو لبعض الكُتّاب والمثقفين، الذين صاروا يرتبطون بهذه الثقافة.
المجال الخامس وإن لم يكن يأخذ كل اهتمامي، كما ورد في كلمة الدكتورة فاطمة إلياس هو الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي، وهنا أحب الإشارة إلى جانب من تكويني ومسيرتي الثقافية وهو أنني كنت دائماً حائراً بين أن أسلك أحد السبيلين: إما الانخراط في المجتمع، لأنني اشتغلت في الصحافة، وارتبطت بجمعيات ثقافية وفكرية، أو الانخراط في العمل الأكاديمي. الانخراط في المجال الأول: لا يمكن أن يتولد عنه سوى السِّجال والدفاع عن الأطروحة، المجال الثاني هو: تأسيس لمشروع فكري جديد ينبني على أرضية علمية، وجدت نفسي أمام هاتين الضرورتين، لذلك حتى عندما كنت منخرطاً في العمل الثقافي الجمعوي كنت أنخرط فيه ولكن عندما أحس بأنه سيسلبني حريتي وقناعتي الداخلية كنت أتوقف عنه لأذهب إلى المجال الأكاديمي، وظل هذا ديدني إلى الآن، وفي هذا الإطار كتبت مقالات كثيرة.. ولكنها تظل تدور دائماً.. تتصل بالإيديولوجيا ولكني أتعامل مع الإيديولوجيا من منظور المفكر والباحث والمتسائل وليس من منظور المتحيز أو المدافع عن أطروحة ضد أطروحة أخرى، ولقد صدر لي في هذا الإطار كتاب سنة 2000م. بعنوان "الأدب والمؤسسة"، ثم طورته إلى "الأدب والمؤسسة والسلطة"، وحاولت البحث في المؤسسات الاجتماعية، المؤسسات الثقافية، الإعلام الثقافي، الجوائز، الجرائد، والملاحق الثقافية إلى آخره، حاولت أن أطرح مجموعة من القضايا المتصلة بالثقافة والمجتمع، وصدر لي سنة 2013م. كتاب حاولت أن أُدرج فيه مقالات جديدة سميته "المغرب مستقبل بلا سياسة" بصيغة السؤال، وفي هذا الكتاب تحدثت عن الثقافة والمجتمع والسياسة، وهذا الكتاب ليس خاصاً فقط بالمغرب ولكنه يعالج القضايا بكاملها على المستوى العربي.
أشار الدكتور كذلك عبد المحسن إلى الجانب الإبداعي، وإذا كنت قد قلت قبيل قليل إنني كتبت شعراً ونشرت بعض هذه القصائد في ملحق جريدة (العَلَم)، فإنني منذ سنة 1986م. شرعت في كتابة نص أسميته "القرميد الخضراء"، حاولت أن أتحدث فيه عمّا قاله الدكتور عبد المحسن عن جيلي الذي عاش في مدينة الدار البيضاء في الهامش، وهذا الكتاب لا يزال قيد الإنجاز وأخيراً انكببت عليه وسيكون جاهزاً. هناك كتاب آخر كنت قد وعدت به نادي مكة، وهو عبارة عن تجربة خاصة ما أزال بصدد التفكير فيها وجاءت نتيجة إتمامي لركن من أركان الإسلام وهو الحج وأسميت هذا الكتاب "الطريق... يا حاج"، وقلت في مقدمته إن الإنسان يرحل ويسافر دائماً لكن أحسن الرحلات هي التي عندما تبدأ من جديد، لذلك فأنا ما أزال في بداية هذه الرحلة، وسأعطي لهذا الكتاب فرصة لأن ينضج أكثر، لأنه تعبير عن ذاتي الأخرى. وهناك مشاريع سردية أخرى لا أحب أن أتحدث عنها حتى تتاح فرصة ظهورها لماذا؟ لأنه كما قلت قبيل قليل ارتباط الإنسان بالحياة، ارتباطه بالمجتمع، ارتباطه بالإنسان، يدفعه إلى أن يعبّر عنه بأشكال متعددة، قد تكون هذه الأشكال أحياناً في الإبداع أو في النقد.
إذاً، بصفة عامة يمكن أن أقول هذه بعض العناصر التي تتصل بما أسميته بالواقع، بالنسبة إلى الطموح هناك مشاريع كنت قد بدأت فيها منذ زمن بعيد وهي ما تزال تؤرقني وما أزال أشتغل بها وعلى نارٍ هادئة، ومن بينها: "معجم السرديات" لأنني أصر على أن هذا المعجم ينبغي أن نبذل فيه مجهوداً ليكون معجماً حقيقياً وليس مثل المعاجم الموجودة والمتداولة، وما دفعني كذلك إلى تأجيل هذا المشروع على الرغم من أن مادته جاهزة، وإحدى الطالبات حاولت أن تضع معجماً للسرديات كما أتمثلها فقط من خلال أعمالي، وقلت لا أريد أن نستخرج ما هو موجود في كتاباتي ونضعه معجماً، بل أريد أن أضع معجماً موسوعياً ومع تطور السرديات ما بعد الكلاسيكية وظهور السرديات الرقمية أردت كذلك أن أضرب بهذا المعجم عصفورين بحجر واحد، الأول: حول السرد، والتالي: حول الثقافة الرقمية.
هناك كذلك التحقيق لسيرة سيف التيجان وكتاب حول رواية الأسطورة الشخصية، وكتاب حول السرد والهوية ويتفق كذلك مرة أخرى مع ما قاله الدكتور عبد المحسن حول المصطلح، الذي يتعالق مع علاقة السرد بالهوية وهو ما يسمى بالهوية السردية، فنحن لا نحكي عن ذواتنا أو لا نحكي عن هوياتنا الشخصية ولكننا نخلق لنا هويات سردية، إلى جانب الحديث عن الأدب الرقمي، وهناك نص آخر أريد أن أشتغل به وأبحث فيه وهو القرآن الكريم والحديث النبوي، وأرى أن الاشتغال بهذين النصين العظيمين يتطلبان إلى جانب الدربة والخبرة، النضج في التعامل مع هذا النص، خصوصاً القرآن الكريم الذي في رأيي لا يمكن أن نقارن أي نص كيفما كان نوعه من النصوص التي أنتجتها البشرية مع خصوصيته وعلى المستويات كافة.
أخيراً: تحدثت عن القيم، عن الأخلاقيات، عن الواقع، عن الطموح، ما هي الأهداف التي كانت وراء هذه الطريقة في التعامل مع الإنسان، ومع الثقافة، ومع السرد ومع المجتمع؟ أولاً: أعدّ هذا مبدأً أساسياً بالنسبة إليّ هو الانحياز إلى العلم ضد الإيديولوجيا، ثقافتنا إيديولوجيا بالدرجة الأولى والأخيرة، ولذلك لا يمكننا أن نتكلم لغة واحدة، لأن كل واحد منا يريد أن يفرض لغته على الآخر، لكن بالنسبة إلى العلم إذا توافقنا يمكن على الأقل أن تكون عندنا مبادئ مشتركة يمكن أن ننطلق منها ولنختلف. أما الجانب التالي الذي أراه كذلك وراء هذا العمل هو تطوير القراءة، عندما تحدثت قبل قليل عن المعلم، وماذا يفعل المعلم؟ وقلت إنّه لا يعلم التلميذ كيف يكتب وكيف يقرأ! ولكنه يعلمه كيف يتعامل مع الحياة، وعندما توجهت إلى النقد الأدبي كان عندي هدف تربوي قبل أن يكون عندي أي هدف علمي آخر، وعلينا أن نرتقي بقراءتنا للنص، لأننا عندما نرتقي بوعينا وبقراءتنا للنص الأدبي سنرتقي بقراءتنا للإنسان، للصورة، للتاريخ، للمجتمع، ولكل شيء. إذاً، لم أكن فقط أكتب تحليلاً أو تمرينات كما يقول بعضهم عن النص الأدبي، ولكن كان الهدف هو أن نتعلم كيف نقرأ، وكان هذا الهدف بالنسبة إليّ رئيسياً، القراءة الأيديولوجية سهلة وبسيطة، فكثير من الناس يحكمون على نصوص لم يقرأوها كما أنهم يتخذون منها موقفاً وهم لا يعرفون عنها شيئاً، ويؤلونها وهم لم يروها، هذا هو النقد العربي، لكن أن نكلف أنفسنا قراءة هذه النصوص وفهمها وتفسيرها وتأويلها فهذا يتطلب مجهوداً، ويبدو لي أن إحدى أكبر المشاكل التي تعرفها كليات الآداب في العالم العربي هو أن ليست فيها علوم أدبية، نحن ندرّس طلابنا المواد، نقدم لهم المعلومات، لكن عندما نطلب منهم تحليل نصّ لا أحد يستطيع ذلك، يمكن أن يكتب لك الصفحات الكثيرة في الموضوعات العامة، ولكن إن أعطيته بيتين من الشعر، أو سطراً من النثر وطلبت منه أن يحللها سيكون أعجز الناس عن ذلك، لماذا؟ لأننا لم نعوّد تلامذتنا وطلبتنا كيف يقرأون؟ إننا نعلمهم كيف يحشون رؤوسهم بالمعلومات ولذلك لا نجد منهم من هو قادر على نقل ما تعلمه من آلية في القراءة للنص الأدبي أن ينقلها ليكون المواطن الناجح والمواطن المساهم في بلده.
البعد الثالث الذي أراه كذلك مهماً وأتقصد في مختلف كتاباتي أن أضعه في عين الاعتبار وهو تطوير اللغة العربية بجعلها منفتحة على العصر. إن كتاباتنا وهي تحاول الإفادة والتفاعل مع الكتابات الأخرى ليس الهدف منها نقل تلك الثقافة ولكن أرى أن من بين الأهداف الارتقاء بلغتنا إلى مستوى آخر. هذه الأهداف كلها عندما ننظر إليها نجدها تهدف إلى صناعة الإنسان، لكن أي إنسان؟ الإنسان الذي يسمع الخبر ويصدقه، أو الذي يسمع الخبر ويؤوله كما يشاء، نريد أن نصنع الإنسان القادر على تحمل المسؤولية، الإنسان المسؤول. هذا هو الإنسان الذي أدافع عنه وأعمل من أجل أن يكون وأنا أشتغل بالنص الأدبي، لأن هذا الإنسان عندما يكون مسؤولاً أمام نفسه سيكون قادراً على أن يكون مسؤولاً أمام مجتمعه، وأمام الله. شكراً جزيلاً لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عريف الحفل: شكراً لكم أنتم أيضاً سعادة الأستاذ الدكتور سعيد يقطين، وقد تحدثت إلينا من خلال مشوارك العلمي الذي نرجو له أن يزداد متانة وإبداعاً وإنجازاً إن شاء الله، ولو أننا زحفنا قليلاً على حصة الأسئلة المخصصة عادة في نهاية كل أمسية ولكن نرجو أن يسعفنا الوقت فيما تبقى من طرح العدد الأكبر من الأسئلة المتواجدة لدينا الآن، ونبدأ حصة الأسئلة من قسم السيدات للترحيب بضيفنا الكريم وليكن السؤال الأول معهن، أحيل لاقط الصوت للأستاذة نازك الإمام في قسم السيدات، تفضلي.
 
طباعة
 القراءات :235  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 151 من 216
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .