شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من تاريخ الدراسات العربية والإسلامية في الغرب: إدموند بوزورث ووليد عرفات
كانت أحداث منطقة الشرق الأوسط تُلقي بظلالها على الجاليات العربية والمسلمة في عواصم الغرب، وشهدت بريطانيا خصوصًا مع بروز الثورة الإسلامية في إيران وصعود البعث الجديد في العراق، وكان ذلك في أوائل الثمانينيات الميلادية ـ شهدت هجرة كبيرة من هذين البلدين، ولقد حمل العرب والمسلمون كثيرًا من خلافاتهم إلى هذه البلدان، فكانت بعض الملحقيات الثقافية والتي تتحرك ضمن مشهد حر وديمقراطي تحاول اختراق الجمعيات التي تتبع نقابات الطلاب في الجامعات البريطانية، فكانت الجمعيات العربية مثلاً موضع استقطاب بين تيار البعث من جهة والتيار الآخر المناوئ إيديولوجياً له، والذي وجد في اليسار الغربي متكأً له وسندًا من جهة أخرى، كما كان الاتحاد العالمي للشباب المسلم يسعى هو الآخر لكسب أرضية من خلال فروعه المؤهلة والمؤدلجة في الوقت نفسه، وأعتقد جازمًا أن تأسيس نادي الطلاب السعوديين في بريطانيا في بداية الثمانينيات الميلادية يعد خطوة إيجابية، وبالمناسبة كان يُدعى صندوق الطلاب؛ فلقد كانت كلمة (نادي) في تلك الحقبة تستدعي صوراً سلبية في أذهان المسؤولين، ويمكن للمرء أن يقارن بين المشهدين أو الحالتين بعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمن.
ذكرت في مناسبة سابقة دور الزملاء الكرام الدكاترة مرزوق بن تنباك، وعبدالرزاق سلطان، وعبدالرحمن المطرودي، وغيرهم في تأسيس هذا النادي بعد موافقة الجهات المسؤولة. ولقد استطاع النادي أن يجذب أعداداً كبيرة من الطلاب، وكنت واحدًا من هؤلاء الذين وجدوا في النادي فسحة تبعدهم عن عمليات الاستقطاب التي كانت تمارسها الجمعيات تحت مسميات عدة، وكان الموقف الذي شاهدته في المركز الإسلامي التابع لمسجد ريجينت بارك، حيث رأيت للمرة الأولى مُغني الروك السابق الإنجليزي يوسف إسلام أو (كات ستيفنز) كما كان يدعى في السابق يتعرّض لهجمة شرسة من الحرس القديم في المركز، وكان الداعية الإسلامي دكتور درش -رحمه الله- حاضرًا ذلك اللقاء العاصف، والذي اتهم فيه البعض يوسف إسلام بأنه يحمل داخله مشاعر سلبية إزاء المسلمين، وهي في نظرهم من تركة قديمة أو إرث متجذر في النفس الغربية، وكان الرجل يقابل ذلك الهجوم بابتسامة هادئة، وبعد مرور حوالي ثلاثين عامًا على اعتناق يوسف إسلام للدين الإسلامي يواجه الرجل حملة شرسة من بني قومه حتى إنه منع قبل حوالي سنتين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية بذريعة أنه شخص متشدد.. نعم لقد كان مشهد الهجوم المتجني على يوسف إسلام آنذاك من بعض العرب إضافة إلى موقف درامي آخر رأيته بعيني؛ فلقد كُنا نؤدي صلاة الجمعة في مسجد ريجنت بارك وخرجت الجموع متدافعة بعد انتهاء الصلاة لنشاهد المواطن العربي مصطفى رمضان، والذي كان يتعاون مع محطة (B. B. C ) وهو ملقى على الأرض مضرجًا بدمائه، ويقف ابنه الصغير مع والدته في حالة ذعر وذهول شديدين؛ حيث أطلق النار عليه بعض من بني قومه.وكان من المحزن أن تقوم الجهات الأمنية في بريطانيا بعد هذا الحادث بمراقبة المسجد من خلال تطلعات تقوم بها طائرات مخصصة لهذا الغرض، وخرجت بعض الصحف البريطانية بتقارير مفصلة عن الخلاف داخل المركز الإسلامي بين المرحوم الدكتور زكي بدوي الذي كان يعد في نظر التيار الآخر المحافظ بأنه يحمل أفكارًا عصرية، ولقد قام زكي بدوي بدعوة الدكتور وليد عرفات لإلقاء محاضرة في لندن، وكان عرفات يحاول أن يجد أرضية مشتركة بين المعتدلين من جميع الأديان، وله بحث فريد في موضوع الرق في الإسلام ، كتب بلغة عصرية ملائمة للفكر الغربي برهن فيه عرفات بالأدلة والشواهد إلى سعي الإسلام في جوهر تعاليمه إلى تفكيك هذه المؤسسة التي كانت موجودة من العصور القديمة، وأن الإسلام من أكثر الأديان التي نبذت الأفكار العنصرية البغيضة، وكان رجال مثل بلال، وصهيب، وعمار بن ياسر، وزيد بن حارثة، وسلمان الفارسي، رضي الله عنهم من الصفوة التي حظيت بالقرب والرعاية من النبي الخاتم سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، بل إن الإسلام كان من أكثر الأديان انفتاحًا على أهل الديانات الأخرى، ويكفي في هذا الحديث النبوي المعروف الوارد في سنن أبي داود "ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ شيئًا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة".
لقد كانت المواقف التي رأيتها وخبرتها عن قرب تمثّل انعطافة هامة في حياتي الفكرية بضرورة الابتعاد عن الأفكار المتشددة أو المؤدلجة، وكما لقي الفتى عنتًا في أواخر الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميلادية) وفي المرحلة الثانوية تحديدًا من إخوة وزملاء اشتطوا في تبني الأفكار التي تنظر إلى المجتمع نظرة شك وريبة؛ فلقد وقعوا للأسف تحت تأثير ما عرف بجاهلية المجتمع المسلم، وهي بضاعة قادمة من مجتمعات أخرى ولا أعرف كما يقول المثل العامي "كيف يباع الماء في حارة السقايين"، ولكن بعض أخوة الأمس تنبهوا إلى خطورة هذه الأفكار وكيف أنها تسببت في أن يستحل المسلم دم أخيه بغير حق.
فلقد لقي الفتى أيضًا عنتًا مشابهًا في ديار الغرب، ولكنني أعود إلى القول بأن ولاء الإنسان لوطنه ووحدته يجب أن يكون مقدمًا على ولاءاته الحزبية أو الفكرية، ويفترض أن تعمل الممثليات الثقافية في عواصم الغرب على تنبيه الشباب من خطورة الأفكار المتشددة سيان إن كان منبعها أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
في لانكستر Lancaster حظيت بزمالة أخوة كرام أعرفهم من قبل وهم الزملاء الدكاترة: محمّد نصيف، ورشاد مفتي، وزهير دمنهوري، وطارق بيومي وإخوة من بلدان عربية أخرى مثل الدكتور عبدالرحمن فايد، والدكتور أنور وقيع الله، وكلاهما عمل بعد تخرجه في جامعة الملك عبدالعزيز، واستضاف قسم الدراسات العربية بالجامعة حلقة علمية عن دراسات الشرق الأوسط وسعدت فيها برؤية أستاذين كريمين هما الأستاذ الدكتور محمّد الهدلق، خريج جامعة أدنبرة، والدكتور محمّد السديس، وشارك في اللقاء البروفسور إدموند بوزورث C. B. Bosworth رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة مانشستر فكتوريا، وفي تلك المناسبة أومأ البروفسور بوزورث أنه بإمكاني الانتقال إلى جامعة مانشستر، وأنه سوف يكون مسرورًا بوجودي معه على خلفية أن جامعة "لانكستر" تنوي إقفال القسم، ولمحني أستاذي عرفات أتحدث مع بوزورث، فلما لقيته بعد انتهاء تلك الحلقة العلمية التي كانت تستضيفها كل عام إحدى الجامعات المهتمة بالدراسات العربية والإسلامية، فإذا "بعرفات" يقول في شيء من الحزن: "إن العلماء والأساتذة عرفوا منذ القدم بسرقة أو اصطياد طلاب نظرائهم، وانصرفت من مكتب أستاذي عرفات وأنا أردد مقاطع من قصيدة الشاعر الإنجليزي ويليام شكسبير، والتي يستهلها قائلاً:
When in disgrace with fortune and men, seyes
وكان عرفات قد ترجمها إلى اللغة العربية وتختلط الأمور عليك عند قراءتها باللغتين الإنجليزية والعربية، ترى من هو قائلها شكسبير الإنجليزي أم عرفات العربي، ولم أقرأ حتى الآن مِنَ الباحثين الذين ترجموا أشعارًا غربية وفي مقدمتها الأرض اليباب لـ :ت . س. إليوت T. S. Eliot مِن استطاع أنْ يترجم الشعر الغربي ويلبسه ثوبًا عربيًّا أصيلاً دون إخلال بالمعاني الأصلية المترجمة عنها تلك النصوص، يقول عرفات وهو يبدع النص الشكسبيري مرة أخرى:
عندما ابتلى من الحظ سخطا
وألاقي من أعين شذرا
فأواري عن أعين الناس دمعي
باكياً وحشتي وأندب سرا
عبثًا أسمع الناس صراخي
إنَّ أذنها عن السمع وقرا
وإذا ما رأيت حالي وحظي
فتوالت مني الشتائم تترى
وتمنيتني كمن هو أغنى
أملاً ضاحكًا وأسعد دهرا
وتمنيت مثل ما نال حسنًا
ومن الصحب مثل ما نال وفرا
وإذا قل باللذيذ رضائي
بعدما سر فصار الأمرا
فتشهيت تارة علم هذا
وتمنيت حذق ذلك أخرى
ثم هانت نفسي وكدت أراها وسط
هذه الأفكار أحقر قدرا
ربما جئت خاطرًا في فؤادي فإذا
جئت بدل العسر يسرا
فأغني كالطير طارت صباحاً نحو
باب السماء تشبع شكرا
إنه ذكر حبك العذب كلما
جاء أفضى من نعمة الله مجرى
فأراني ولست أرضي بحالي
عرض قارون أو ممالك كسرى
 
واليوم بعد أن جاءتني كلمات الصديق ديفيد ونز Wains David عبر الهاتف حزينة عن زميله عرفات، لقد انتقل في سلام؛ تذكرت رثائية فووت Foot في مثاله الذي ما فتئ يتذكره كلما وقف خطيبًا وفي عباراته الوفية لأستاذه Aneurin Bevan حيث أنصت له ذات يوم يقول وهو يجهش متقطع الأنفاس: "إنه يرقد في أمان وسلام في ضريح".. تذكرت أن كلمة سلام لم ترد كتاباً سماوياً كما وردت في القرآن، وبينما كانت مقدرة الآخرين على استخدامها ونشرها بحق أو غير وجه حق، في إبداعاتهم الفكرية والأدبية، بل وفلسفة خطابهم اليوم، أخفقنا نحن أمة الإسلام والسلام والرحمة والشفقة والتسامح.
نعم.. لقد أخفقنا في تعزيز مفاهيمنا الجلية بيننا واستبدلنا ذلك كله بقاموس من العبارات البدعية المستحدثة ورشقنا بها بعضنا البعض، فدميت منا أوجه وشفاه، وأثمت منا قلوب ونوايا، ويسلم من قسوتها وتجهمها أموات وأحياء، ترى متى نفيق ونصحو؟ ومتى نحسن مع بعضنا البعض قبل أن نذهب إلى موائد الآخرين عارضين فكرًا أحسن الأجداد في تطبيقه؛ فكان الحب والوئام، وأساء بعض الأتباع حمله كإرث وأمانة؛ فكانت جنايتهم الأشد والأنكى لأنهم أفلحوا في نشر ثقافة البغض والكراهية.. فاللّهم رحمتك وعفوك وغفرانك.
 
 
طباعة
 القراءات :237  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 100
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.