شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبدالمحسن حلّيت .. رائد القصيدة الكلاسيكية الجديدة في الجزيرة العربية
نزحت من المدينة المنورة قبل ما يقرب من أربعين عامًا للدراسة في مكة المكرمة ثم إلى بريطانيا وخلفت ورائي في بلد العلم والأدب والشعر عددًا ضئيلاً من الشعراء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، وكان في مقدمتهم عبيد مدني وحسن الصيرفي، ومحمّد هاشم رشيد وعبدالسلام هاشم حافظ، ومحمّد العيد الخطراوي ، ومحمّد كامل خجا، وكان من جملة الأسئلة المقلقة داخل نفسي من هم الذين سيخلفون جيل أسرة الوادي المبارك ونادي الحقل الأدبي في طيبة الطيبة، حيث تأسس الأخلاق في الخمسينيات الهجرية من القرن المنصرم، بينما تأسست أسرة وادي العقيق في السبعينيات الهجرية، وجاءتني الإجابة في بلاد الغربة، وإن لم تخني الذاكرة في مدينة أدنبرة الاسكتلندية، فلقد كانت صحيفة المدينة تصلني بانتظام فإذا أنا أمام قصيدة غزل تذكرني بالشعر العذري الذي شهدت انبثاقته بادية الحجاز وقلب الجزيرة العربية في القرن الأول الهجري، وكان اسم الشاعر الذي تدل أبيات قصيدته بأنه يتغزل بفتاة فارسية الأصل لم يكن اسمه غريبًا على مسمعي فهو من أسرة مدنية ويجمعنا حي واحد، وهو "قباء"؛ حيث استقبل الأنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرحبين ومنشدين على إيقاع الدف الذي اختفى هو الآخر في زمن التشدد والانغلاق بعد أن كان علامة من علامات فسحة الروح التي وهبنا إياها الدين الخاتم.
كانت هذه هي القصيدة الأولى أقرأها للشاعر الشاب آنذاك عبدالمحسن حليت مسلم، ولكنها ليست مثل البدايات الأخرى فلقد كانت قوية وخصوصًا لجهة بنائها الفني، وعدت إلى الوطن مع نهاية عام 1406 هـ وكان يقوم على تحرير الأربعاء الزميلان الكريمان علي محمّد حسون ومحمّد صادق دياب، وفي مكتب الأستاذ الحسون التقيت عبدالمحسن للمرة الأولى وكان اللقاء الذي رسخ أواصر المحبة والألفة على مدى ما يقرب من ربع قرن من الزمن، ولاحظت أن الشاعر الحليت، الذي ولد متكاملاً، لا يلهث خلف النشر والشهرة والذيوع، ولاحظت أن القصيدة عنده معقولة ومهذبة وهو الأمر الذي ذكرني بشعراء الحوليات في العصر الجاهلي من أمثال زهير بن أبي سلمى، وكان لا يقول الشعر في المجالس إلا عندما يحس أن هناك باعثًا قويًا لقوله، ودعوته يومًا لمناسبة كان فيها عدد من الأكاديميين والأدباء، ولا أعرف كيف استثار أحدهم شاعرية الحليت فقرأ قصيدته المشهورة "معلقة على باب البيت الأبيض" فذهل الحاضرون ليس فقط لموضوع القصيدة وهو شأن وطني وعروبي محض، وليس لبنائها المتماسك والقوي؛ ولكن أيضًا لقدرة صاحبها على إلقاء الشعر في بلاغة وفصاحة لا يجاريه فيهما إلا القليل من الشعراء السعوديين، وكان حسن عبدالله القرشي واحداً من هذه القلة، وتوالت المناسبات وكان زميلي الأستاذ الدكتور محمّد خضر عريف يقول الشعر وتنبه لأمر هام وهو الحافظة القوية التي يتمتع بها الحليت؛ فهو يحفظ من الشعر القديم والحديث مئات الأبيات وكان الحاضرون ينصتون له عندما يروي شعر الآخرين وخصوصًا قصائد شاعره المفضل عمر أبو ريشة أو عندما يعرّج على شيء من شعره الوطني الذي يعكس ملامح شخصيته الحقيقية، ومع حلول الثمانينيات الميلادية تولدت حركة أدبية جديدة اتخذت مسمى غربيًا ظهر مع الشاعر الأمريكي الأصل البريطاني الجنسية "ت. س. إليوت"، ثم تسلل إلى المجتمعات العربية بداية في مجلة شعر اللبنانية ثم إلى المجتمعات الأخرى وكنا نحن آخر من تلقفها دون أن نحسن الاستفادة المرجوة منها، وكان بعض منظري هذا التيار يراهنون على موت القصيدة التقليدية الموزونة والمقفاة، والتي إنصافًا للتاريخ لم تكن في أحسن حالاتها في بلادنا فلقد أدى جيل الرواد من أمثال: العوّاد، وشحاتة، ومحمّد عمر عرب، ومحمّد حسن فقي، وأحمد قنديل، وضياء الدين رجب، وحسين سرحان، وحسين عرب، وماجد أسعد الحسيني، ومحمّد علي السنوسي، وأدوا دورهم قبل ما يقرب من نصف قرن من الزمن، ونحن نتحدث هنا عن بدايات القرن الخامس عشر الهجري، ولكن هذه المراهنة اصطدمت بجدار الواقع وكان هناك بضعة شعراء شباب اتخذوا القصيدة التقليدية مركبًا لمشاعرهم وأحاسيسهم وكان الحليت في مقدمة هذا المركب بل إنه ليمسك بقوة على الزمام في تحد صارخ لمقولة موت القصيدة التقليدية أو الكلاسيكية الجديدة، أو الإحيائية، فوجدوا فيه منافسًا قويًا فناصبه بعضهم العداء، وخصوصًا أن الحليت، وهذه شهادة للتاريخ أدونها وأنا أقف بحمد الله على مشارف العقد السادس من عمري إن لم أكن قد تجاوزته بقليل. نعم لقد كان الحليت لا يؤمن بالشللية والفئوية ولئن كانت قسمات وجهه تشي بسمات العزة والأنفة والكرامة ولكن نفسه تنطوي على حب إنساني عميق تلقاه في طفولته في المدينة المنورة حيث كان والده أحد حفظة القرآن الكريم وممن يبذلون جاههم في سخاء للآخرين وكان على دراية كأنداده في طيبة الطيبة بالأدب وشجونه، ولعلنا اليوم ونحن نحاول إنصاف جميع التيارات الأدبية بعد حقبة من الصراع الفكري والأدبي، نلحظ أن منظري حركة الحداثة آنذاك قد فات عليهم أن الحليت يلتقي معهم في بعض ما يدعون إليه من تجديد وانفتاح وإيمان بحرية الإنسان وكرامته ولكن الانحياز للرأي الواحد وقف بينهم وبين استثمار ما لدى الآخرين من قيم ومبادئ مشتركة عن السير في طريق واحد قوامه السعي لبعث حياة أدبية جديدة شبيهة بتلك التي انتدب العواد نفسه لها في خواطره المصرحة، وشحاتة في محاضرته الشهيرة "الرجولة عماد الخلق الفاضل"، ومحمّد سرور الصبان في "أدب الحجاز"، وعبدالله بن إدريس في "شعراء نجد المعاصرون".
وللتأريخ؛ فإذا كان يحسب دون مجاملة لمحمّد الثبيتي -شافاه الله- موهبته القوية في فتح آفاق جديدة أمام قصيدة التفعيلة التي سبقه إلى ريادتها محمّد العلي، وغازي القصيبي، وسعد المحيدين وسواهم فإنه يحسب للحليت بعثه للحياة من جديد في القصيدة التقليدية ولولا الحليت مع بضعة أنفار من أمثال العشماوي وفاروق بنجر، وحسين العروي، لكانت هذه القصيدة قبل ما يقرب من قرن ونصف من مجيء الرسالة الخالدة واستمرت في العصر الأموي مع العرجي وجرير والأخطل والفرزدق، ثم مع بشار بن برد، وأبي تمام والبحتري والمتنبي، وأبي العلاء المعري والشريف الرضي في العصر العباسي، ثم ينهض بها محمود سامي البارودي وإسماعيل صبري، وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، والزهاوي والرصافي وأحمد الصافي النجفي والأخطل الصغير وإبراهيم ناجي، وأبي القاسم الشابي، والبشير التجاني، وغازي القصيبي، وأسامة عبدالرحمن في العصر الحديث الذي يمتد لما يقرب من قرن من الزمن.
نعم؛ لولا ريادة الحليت وبعض رفاقه لكانت هذه القصيدة التي أنشدها المنشدون وتغنى بها المبدعون لعصور طويلة وحقب متتابعة في بلادنا على وجه الخصوص لكان مصيرها الموت البطيء والذبول، ولكن الحليت كان يتمتع بقدرات المبدع الذي يستطيع أن يجترح الجديد ليس في الشعر وحده ولكن في النثر أيضًا، ولعله يصدق عليه قول أديب العربية الكبير محمّد صادق الرافعي في أمير البيان شكيب أرسلان "لو لم يكن شاعرًا مجيدًا لكان كاتبًا مجيدًا"، ولكن القصور وفقدان الحظوة جعلا من الحليت غير ما يستحق، ولكن الأجيال سوف تظل تردد إبداعاته وحتى إن أوصدت أمامها أبواب النشر والذيوع وذلك لعمري ضرب من ضروب التضحية العديدة التي قدمها الحليت في حياته كإنسان ومبدع وربما كان ذلك من قدر المبدعين المخلصين لمبادئهم ورؤاهم.
 
طباعة
 القراءات :271  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 105 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج