شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صفحات من تاريخ السيد محمد علوي المالكي
خدين العلم.. حفيد العلماء
لن أنسى ذلك اليوم الذي كنت أجلس فيه أسفل "الصفة" أو ما يعرف بـ"دكة الأغوات" في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك من عام 1391هـ، ومر رجل طويل القامة، مضيء الوجه، وقد لبس ذلك الضرب من اللباس المعروف المسمى بـ"الجبة" وهو رداء العلماء في الحرمين الشريفين على مدى عصور طويلة، فنهضت لأسلم عليه فإذا هو يحييني تحية شعرت معها بالحب والدفء والحنان، في أدب جم أمسك بيدي وسألني عن اسمي، فلما أجبته أجابني: أنا أقرأ لك ما تكتبه في صحيفة المدينة، ولقد كانت مرحلة البدايات في الكتابة الفكرية والأدبية، ولكن الرجل أراد تشجيعي بصورة لا يبدو فيها شيء من التصنع مما تنفر منه الأذواق السليمة وتكرهه النفوس التي جبلت على الصدق والصراحة.
انتهت تلك اللحظات المؤثرة التي لازلت أتذكر تفاصيلها ودقائق أحوالها، وهي تفاصيل تعبق بأجواء الروحانية التي تشع من ذلك المكان الطاهر الذي حوى حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، ومحرابه ومنبره الشريف، وحيث نزل الوحي والتقت الأرض بالسماء، ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساحات المسجد هو وصحابته، رضي الله عنهم، والذين كانوا متأدبين في حضرته ويتفانون في حبه، ويأتمرون بأمره، الذي هو من شرع الله، الذي ارتضاه لعباده منهجاً وسلوكاً حياتياً.
 
في مكة المكرمة
وتشاء الأقدار أن أنتقل إلى مكة المكرمة دارساً بين عامي 1392/ 1393هـ في كلية عريقة هي كلية الشريعة، وكان لي فيها من الأصدقاء رجال كرام من أمثال الشيخ عبدالوهاب خياط، أحد وجوه القوم في حي الشامية، وكان قارئاً نهماً لكتب الأدب والتاريخ، وكان الحرم يعج بحلقات العلم المتعددة، ومنها حلقات المشايخ حسن المشاط، عبدالله بن حميد، محمد نور سيف، محمد مراد، عبدالله اللحجي، اسماعيل الزين.
وفي باب السلام بالحرم المكي الشريف حل السيد محمد علوي مكان والده، ولم تشغله الرؤوس العلمية التي كان يعقدها في أوقات متباينة من وقت الفجر إلى ما بعد العشاء، لم يشغله هذا عن مواصلة طلب العلم في الأزهر الشريف، فحصل على درجة الماجستير ثم درجة الدكتوراه في فقه إمام دار الهجرة مالك بن أنس -رحمه الله- وكان عنوان أطروحته: "موطأ مالك.. الاعتراضات والردود عليها"، وكان من أوائل ما أخرجه السيد المالكي من مؤلفات هو كتابه عن سيرة السيدة خديجة الكبرى ودورها المؤثر والكبير في حياة نبي الأمة وهاديها عليه الصلاة والسلام، وأزعم أنه من تواضعه الجم أطلعني على مسودة هذا الكتاب، وقال وهو يخفي رأسه حياءً: من عادتي أن آخذ برأي أحبابي في ما أكتب"، ولقد عرفت في ما بعد أنه كتب هذه السيرة لأنه وجد بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، فكان تأليفه هذا له مغزاه ودلالته في سعي السيد المالكي -رحمه الله- إلى تأصيل المنهج العلمي في كتابة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته وآل بيته رضوان الله عليهم، واستمر في هذا النهج إلى أخريات حياته.
كان السيد المالكي لا ينقطع عن زيارة مشايخه وفي مقدمتهم حسن المشاط، ومحمد نور سيف، وعبدالله اللحجي، وكان هذا الأخير من أقرب الناس إليه، وذكر لي مرة أن الشيخ اللحجي كان لزهده يسكن في أحد الأربطة بمكة، فكان السيد كثير التردد عليه إبان نشأته العلمية، وكان يعتبره فقيهاً شافعياً متمكناً، ومن وفاء السيد المالكي أن قام بطباعة بعض مؤلفات الشيخ اللحجي المخطوطة، وذلك بعد انتقال الشيخ اللحجي إلى الدار الآخرة، وقد أخذ السيد نفسه بالجد والمثابرة منذ صغره، وقد حكى لي أنه لازم المحدث العلاّمة السيد حسن بن سعيد يماني، والد السيد أحمد زكي يماني، ملازمة كاملة، وعندما قعد المرض بالسيد حسن في داره بأجياد -والتي كان الشيخ عبدالله دردوم رحمه الله في ما بعد يقوم بتدريس الطلاب فيها دروس النحو واللغة- لم ينقطع السيد المالكي عن شيخه السيد حسن، وسأله ذات يوم. كيف يا شيخنا أعثر على ترجمة لكم؟ وكان السيد حسن كجملة علماء عصره زاهداً في الشهرة، متعلقاً بنشر العلم وتدوين هذه العبارة، التي دأب مشايخنا على كتابتها في ذيل ما يسطرون وهي: كتبه خادم العلم بالحرم المكي الشريف، أو العبد الفقير إلى الله أو خادم طلبة العلم بالحرم المكي أو المدني، فكان رد السيد حسن على مريده المالكي ـ آنذاك ـ لعلك تجد شيئاً من هذا عند الشيخ زكريا بيلا، وكان الشيخ البيلا أحد علماء الشافعية بالحرم المكي الشريف، فتردد السيد المالكي على الشيخ البيلا ولكن دون جدوى.
فلما يئس المريد صارح شيخه بذلك فقال له اكتب ما ألقيه عليك، فكتب ترجمة وافية نشرها بعد وفاة السيد حسن يماني، التي وقعت كما أذكر عام 1390هـ، وكان ممن رثاه ـ أي الشيخ حسن ـ أستاذنا العلاّمة أحمد عبدالغفور عطار، وكانت مناسبة إعلامية من قبل السيد المالكي بما جرى بينه وبين شيخنا البيلا بأن هذا الأخير ـ رحمه الله ـ كان يسكن بالقرب من منزل الوالد عبدالله بصنوي، رحمه الله، حيث كنت أقيم في حي الشامية وفي ضيافة ذلك الرجل الشهم والنبيل، فأضحيت أتردد عليه، وكان مثل السيد حسن يماني يتكلم باللغة العربية الفصحى، ولا يأتي على كلمة عامية أو نابية في حديثه، ومثلهم أستاذنا المرحوم علي بكر الكنوي، أحد الطلبة المتقدمين عند الشيخ حسن المشاط، وطلبت منه -أي الشيخ البيلا- مرة ترجمة لمحدث الحرمين الشيخ عمر بن حمدان المحرسي، أحد أشهر علماء المالكية في عصره، ولربما كان نديداً لعالم شهير مثله وهو الشيخ علي مالكي، فقال الشيخ البيلا: يجب أن تثبت لنا قدرتك على الكتابة قبل كل شيء ثم نعطيك ما تريد، ولم يستطع أحد الاطلاع على ما كتبه الشيخ البيلا كما استطاع ذلك أستاذنا الفاضل الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان، وأخاله بصدد إخراج كتابه عن علماء مكة وسواهم المعروف بـ "الجواهر الحسان"، ويعتبر إضافة جيدة لما سبق أن كتبه الشيخ المحدث محمد ياسين الفاداني، في كتابه المخطوط عن الأسانيد، ويعتبره الدكتور أبوسليمان لا يقل قيمة علمية عن كتاب السيد الكتاني "فهرس الفهرس"، وكان الفاداني موضع احترام علماء العالمين العربي والإسلامي، لأسانيده العالية، خصوصاً تلك التي رواها عن الشيخ عمر حمدان المحرسي وأطلق عليه البعض لسعة علمه "مسند العصر".
 
تقديره لمشايخه
ولقد كان السيد المالكي حريصاً على إظهار احترامه لمشايخه على مرأى من طلابه في الحرم، فأتذكر أن الشيخ دردوم -رحمه الله- جاء مرة بعد صلاة العشاء لحلقة السيد المالكي، فقام السيد من مقعده وأجلسه في مكانه، وقال له: يا شيخ عبدالله يشرفني أن أكون واحداً من تلاميذك وإن كنت أقلهم، وهذا هو تواضع العلماء حقاً، فيزيدهم الله بهذا التواضع منزلة بين العباد، ويفتح لهم من أبواب العلم ما يقربهم إليه زلفى، لأنهم كانوا يسعون، وحبيبنا السيد المالكي واحد منهم، نعم إنهم يسعون لطلب العلم ابتغاء لوجه الله عز وجل، وكان السيد المالكي مأذوناً شرعياً في بداية حياته العلمية، فإذا ما أتى إليه بعضهم ممن يرغبون أن يقوم السيد بإجراء عقود زواجهم وتوثيقها حسب الشريعة الإسلامية، وعرف -رحمه الله- عن أحوالهم المعيشية، فكان يقوم بطريقته الخاصة والمؤدبة بر ما يعرضون عليه من الهدية الخاصة والمرتبطة بإجراء العقد، وفي بعض الأحيان كان يضيف إليها شيئاً من ماله الخاص.
ورأيته مرة في منزله بالعتيبية وهو يسأل الشيخ الدكتور الحسيني عبدالمجيد هاشم، أحد علماء الحديث في مصر، في مسائل فقهية ويقول له: إذا ما انتهيت من كتابة بحثي هذا فسوف أشير إلى الوسائل التي أخذتها عنك، فكان رد الشيخ الحسيني -رحمه الله- وابتسامة على وجهه المنير: يهوى الثناء مبرز ومقصر.
وكان من مشايخه فضيلة الشيخ السماحي -رحمه الله- أحد علماء الحديث المشهورين، ودعاه مع جملة من الأحباب لداره في العتيبية، وطلب من الشيخ السماحي الحديث فتحدث في مسائل علمية، ويبدو أن الشيخ استرسل في حديثه فقاطعه بعضهم من غير إذن من صاحب الدار ـ أي السيد محمد ـ فترك الشيخ السماحي الجلسة وخرج غاضباً لداره، ورأيت التأثر بادياً على وجه السيد محمد، وطلب من بعض طلاب العلم التوجه لدار الشيخ الذي كان يسكن في حي الغزة، كما أتذكر، وأن يطلبوا السماح من الشيخ السماحي، وبما أن الشيخ ترك الدار قبل أن يتناول طعام العشاء، فلقد حرص السيد -بنفسه- على تهيئة مائدة خاصة وإرسالها مع الطلاب أنفسهم، ولقد وقعت هذه الحادثة في بداية التسعينيات الهجرية.
وعامله مرة رئيس القسم الذي يعمل به في كلية الشرعية معاملة فظة، وكان من أبناء المدينة المنورة، وأظن أن المسألة تتعلق بعدد الساعات التي يدرسها السيد في القسم، وفاتح في هذا الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم علي، أحد أشهر مدرسي كلية الشريعة بمكة ووكيل جامعة أم القرى في ما بعد للدراسات العليا. فما كان من الدكتور محمد إبراهيم إلا أن قال للسيد: استشهد بي يا سيد، فإن نصيبي من العبء التدريسي لم يتغير فلماذا يضيفون إليك عبئاً جديداً؟ وكان السيد -آنذاك- مشغولاً بالتدريس في حلقته العلمية بباب السلام بالحرم المكي الشريف، إضافة إلى دروس خاصة في منزله، ورأى أن تلك الإضافة، والتي أتت من غير تنسيق معه، تلحق به حيفاً، وخصوصاً أن تلك الشخصية الإدارية المسؤولة نسقت مع الآخرين ولم تنسق معه، ورغبة من السيد في أخذ المسائل بيسر وسهولة، بعيداً عن الضوضاء والصخب، فلقد أسر لي بما حدث وعلق مبتسماً، وهذا من أحبابكم في المدينة المنورة، وأنتم جيران المصطفى صلى الله عليه وسلم ففهمت المعنى، وذهبت للرجل المقصود وتحدثت معه وقابلت صهره، وهو من القراء المشهورين، وذلك في أثناء إجازة عيد الأضحى بالمدينة، وحدثته أيضاً بالأمر، وذهب بعد ذلك الشخص المسؤول برغبة ذاتية وزار السيد في داره، ومن ثم زاره السيد في داره أيضاً وسوى الأرض بينهما.. وأتذكر أنه في إحدى زياراته السنوية للمدينة المنورة، اتصل به أستاذنا الفاضل محمد حميدة، وكان آنذاك نائباً لرئيس نادي المدينة الأدبي، في حقبة ورئاسة المرحوم الأديب عبدالعزيز الربيع للنادي، وطلب الأستاذ حميدة، الذي أدرك جملة من علماء البلد الحرام أثناء دراسته بمدرسة البعثات بمكة، مثل السيد علي مالكي والسيد علوي المالكي والسيد محمد أمين كتبي، إضافة إلى مربيه وزوج والدته محدث الحرمين الشريفين الشيخ عمر حمدان المحرسي، طلب من السيد محمد إلقاء محاضرة علمية في النادي فاعتذر السيد برفق وأدب، واتصل بي أستاذنا حميدة لأقنع السيد، فكان جوابه أنني أتيت للمدينة بقصد زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، عليه الصلاة والسلام، ومقام الأدب يقتضي أن أحصر نشاطي في ما أتيت من أجله لزيارة البلدة الطاهرة.
 
أسلوب تربوي
كان السيد المالكي -رحمه الله- صاحب أسلوب تربوي فريد، فلقد سمعني مرة ألقي قصيدة شعرية، ولما انتهيت منها أشار إليّ ووضع يده الكريمة على كتفي وهمس في أذني: هنا بيت به خلل عروضي - يا حبيبنا - في القصيدة التي ألقيت، وتصحيح البيت كالتالي، وأضاف كأنني أسمع كلماته الآن ـ على رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على هذه الحادثة، بالمناسبة أنا لا أعرف في فن الشعر فأرجو أن تسامحني، مع أن السيد عبدالله يماني، والد معالي الدكتور هاشم يماني وإخوته، وكان من المشتغلين بعلم الحديث، عندما أخرج أحد كتب الحديث قام السيد بتقريظ الكتاب بأبيات شعرية وهو في العشرينيات من عمره، أي في حياة والده، والذي كان يرتبط بالسيد اليماني بعلاقة علمية على نسق ما كان يقوم من علاقات علمية بين علماء وأدباء الحرمين الشريفين وغيرهم من علماء وأدباء العالمين العربي والإسلامي، وقد أخبرني السيد عبدالله يماني بتلك الأبيات في حانوته، الذي كان يقوم في باب المجيدي من الجهة الشمالية من المسجد النبوي الشريف، وقبل توسعة خادم الحرمين الشريفين الكبرى له.
ودعينا إلى مناسبة إخوانية في الطائف، فألقى أحدهم قصيدة، وكان من بين الحضور المرحوم الشيخ يوسف سرولة، أحد أعيان الطائف، ولكن جذورهم تعود إلى حي السليمانية بمكة، ولقد أخطأ الشاعر أثناء إلقائه للقصيدة، فنبهه الشيخ يوسف مباشرة، وعندما انتهت المناسبة سمعت السيد محمد يعاتب الشيخ السرولة على طريقته في التنبيه، وقال له: كان من الأجدى أن تنبهه لمثل هذا الأمر بعد انتهائه من إلقاء القصيدة.
وعاتبه مرة أحد الأثرياء من مدينة جدة بأنه لا يزوره في جدة كما يفعل معه الآخرون، وأتذكر أن الحادثة وقعت في الحرم المكي الشريف وبعد انقضاء صلاة الجمعة، وكان من عادة الرجل الثري زيارة مكة كل أسبوع، فلم يزد السيد في جوابه على القول بأن العلم يا حبيب يؤتى ولا يأتي.. وأشهد لله أن السيد محمد بقدر ما كان سباقاً لزيارة الفقراء والمساكين والاستجابة لدعواتهم أو مناسبات أفراحهم، بمقدار ما كان حذراً من مداخلة أصحاب الشأن وخصوصاً الأغنياء، وذلك ليجعل للعلم قيمة وللعالم مكانة، وكان إذا دخل إلى مجلس ووجد أحداً من أهل العلم وطلابه أعطاه حقه، قائلاً: اعطوا طلاب العلم حقهم في الجلوس ولا تتركوهم في مؤخرة المجلس، وكان يجل حفظة كتاب الله من أمثال المشايخ حسن الشاعر، وعبدالستار بخاري وزيني بويان ومحمد الكحيل وزكي داغستاني وعباس مقادمي وغيرهم، وكان يتفقدهم إذا ما غابوا عن المجالس والدروس العلمية.
 
مواصلة الناس:
وكان من سمات هذا العالم، أي السيد المالكي، حرصه على زيارة الرجال الذين أصبحوا في بيوتهم لأي سبب من الأسباب، ولا يفرق في هذا بين غني وفقير، ورئيس ومرؤوس، وكان يسأل عن الراوية عمر عيوني، وهو من الشخصيات الشعبية في مكة المكرمة، ويزوره برفقة أخيه السيد عباس وبعض طلاب العلم، ومعلوم أن الشيخ العيوني يسكن في أطراف مكة، ولكن حرص السيد على مواصلة الناس، انطلاقاً من المنهج الإسلامي الراشد، كان وراء هذا الحرص وتلك الرغبة في المواصلة حتى وإن تجشم في سبيلها ما تجشم من العناء أو التعب.
ولقد أخبرته مرة بأن الأستاذ الكبير عبدالله بلخير، وهو من تلاميذ والد السيد علوي في مدارس الفلاح بمكة والحرم المكي الشريف، أخبرته بأنه عاتب عليه لأنه لا يسأل عنه، فما كان منه إلا أن سأل عن منزل الأستاذ والشاعر والأديب بلخير في جدة وزاره، وأخبرني شخصياً بأنه فعل ذلك برغبة ذاتية ومواصلة لود أبيه، وأنه حصل له سرور كبير من تلك الزيارة لهذه الشخصية الأدبية والفكرية.
وكان رحمه الله من تعظيمه للحديث النبوي الشريف أنه يجيزه عند الكعبة المشرفة، ولقد ذكر فضيلة الشيخ علي جمعة، مفتي الديار المصرية، أنه استجاز السيد المالكي في رواية بعض الأحاديث النبوية فأجازه بها عند الحجر الأسود وفي صلاة الفجر، كما أنه لم يكن متعجلاً في الفتوى، ولقد سمعته يتحدث مع أحدهم بشدة لأنه كان يتساهل في العبارات ذات الصلة بالطلاق، وقال للشخص نفسه إن من يستسهل مثل هذه العبارات لهو في خطر عظيم، وأنه عند أتباع مدرسة الإمام مالك، إمام دار الهجرة، لا تقبل شهادته، ثم أفتى له بعد ذلك في المسألة التي جاء مستفسراً عنها أو باحثاً لمخرج شرعي فيها.
وكان شديداً وحازماً في مواقفه إزاء الذين يستهترون بشرع الله، فلقد حدث أن دعي لندوة تخصّ الشباب المسلم في بلد عربي، وقام مثقف عربي وقال إن حرية الرأي مكفولة حتى لأولئك الذين يريدون أن ينتقدوا الدين وما يتصل به من حرمات، فانتفض السيد محمد من مقعده وطلب الكلمة وردّ بموضوعية على ذلك المثقف وقال له ما معناه إنه ليس هناك حرية في ما يتصل بالنيل من الذات الإلهية أو شرع الله، ولعل أستاذنا معالي الدكتور عبدالله نصيف يتذكر هذا الموقف الحازم من السيد المالكي، وكان ذلك في بداية التسعينيات الهجرية.
وحضر مرة بترشيح من جامعة الملك عبدالعزيز، حيث كانت كلية الشريعة التي يدرس بها السيد المالكي تابعة للجامعة في جدة، حضر مؤتمراً للاقتصاد الإسلامي، وعندما أتى دوره قام بتوضيح عدد من القضايا الاقتصادية المهمة والشائكة، وكانت البنوك الإسلامية آنذاك في بداية عهدها ـ أي في التسعينيات الهجرية ـ لأن الذي رشحه لحضور المؤتمر هو معالي الدكتور محمد عمر الزبير، مدير جامعة الملك عبدالعزيز –آنذاك- فلما انتهى السيد من كلمته قام أحدهم وقال له: يا سيد اخلع هذه الجبة والعمامة فأنت عالم في الاقتصاد، فكان رد السيد كما ذكره لي شخصياً: لولا فضل الله على هذه الجبة والعمامة التي ألبسها لما فتح الله علي بما فتح في هذا الشأن وبمقدار ما كان ذلك اللباس الأبيض والذي سبق أن رأيته يشعّ بياضاً ونصاعة على مشايخنا حسن المشاط، وعلوي المالكي، ومحمد نور سيف، ومحمد أمين كتبي، وعبدالله اللحجي، والسيد أحمد مشهور الحداد والسيد عطاس حبشي، وإسماعيل الزين، وخليل طيبة، ومحمد عوض وسواهم بمقدار جاذبيته وخصوصيته، كان ذلك اللباس لا يرتديه رجال العلم إلا عندما يصلون إلى مرتبة كبيرة في العلم الشرعي، وقال لي السيد: لم ألبسه إلا من إشارة من شيخنا محمد العربي التباني -رحمه الله- وحمل هذه الإشارة الشيخ الصالح إسماعيل جمال حريري والد صديقنا الدكتور مهدي حريري وإخوانه.
 
تواضع العلماء:
لم تغيره الدرجات العلمية التي نالها السيد بدءاً من الماجستير ومروراً بالدكتوراه ثم درجة الأستاذية بترشيح من الأزهر الشريف، بل زادته تواضعاً وقرباً من الناس، خاصة مع طلاب العلم والفقراء والمساكين، وهذا نهج العلماء العاملين في كل العصور والأزمنة، وأتذكر أنه عندما نال درجة الدكتوراه حضر إلى موقع درسه في باب السلام فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وبرفقته أستاذنا الدكتور إبراهيم شعوط، أحد المتخصصين في التاريخ الإسلامي، ومعهم الشيخ الدكتور محمد قطب، فقال الشيخ الشعراوي موجهاً الكلام للشيخ قطب: لقد نال السيد درجة الدكتوراه من الأزهر، فسمعت الشيخ قطب يقول: هو يحملها بعلمه قبل أن ينالها درجة أو قريباً من هذا المعنى.
وحدثني مرة السيد بحديث أنصف فيه أستاذنا فضيلة الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان، عضو هيئة كبار العلماء، فقال لي: إن الشيخ أبا سليمان طلب العلم قبلنا عند مشايخ الحرم وفي مقدمتهم فضيلة الشيخ الزاهد حسن المشاط، رحمه الله، وهو أكثر مني علماً، أي يقصد السيد نفسه، في أمور الشريعة فقابلت الدكتور أبا سليمان ونقلت نصاً ما ذكره السيد المالكي عنه أمام طلابه في الدرس، فكان رد فضيلته أنني متخصص في فن واحد وهو في أصول الفقه، ولكن علم السيد المالكي يتعدى هذا الفن إلى فنون عدة.. وأضاف: أتمنى أن يكون عندي وقت بين المغرب والعشاء لأحضر درس السيد في الحديث مع جملة طلابه، وهذا دأب أهل العلم في تقدير بعضهم بعضاً، وليتنا نتعلم من مشايخنا الأفاضل، فلقد كان سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز منصفاً لبقية العلماء حتى وإن اختلف معهم، وأنقل عن أستاذنا الفاضل محمد حميدة: وكان قريباً من الشيخين عبدالعزيز بن صالح وعبدالعزيز بن باز -رحمهما الله- وغيرهما من علماء الحرم النبوي الشريف، لأنه كان مسؤولاً في فترة من الفترات عن الدروس العلمية في جامعة الإسلام الأولى.. نعم أنقل عنه ما نصه أن سماحة الشيخ ابن باز لم يصدر عنه تكفير لأي جماعة من الجماعات الإسلامية الموجودة في وقته، فلقد كان يختلف معهم ويناقشهم ولكنه يمسك لسانه عن الحديث في إخوانه من أتباع هذا الدين الذي اتسع مداه ليشمل جميع أصحاب الآراء المختلفة ما داموا يؤمنون بالله رباً وبمحمد بن عبدالله نبياً ورسولاً، وبالقرآن كتاباً ووحياً وتشريعاً من رب العزة والجلال.
ولقد رأيت الشيخ المحدث عمر محمد جاد فلاته، رحمه الله، وهو واحد من أصحاب أكثر الحلقات العلمية قدماً في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته يمشي في جنائز عامة الناس، ويدعو لهم ولأقاربهم عند التعزية، وبالمناسبة فالشيخ عمر هو تلميذ للعالم السلفي المعروف الشيخ عبدالرحمن الأفريقي، مؤسس مدرسة دار الحديث بالمدينة، وتسلم مسؤولية إدارتها من بعده الشيخ عمر نفسه ويتطلع الناس في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن يكون لأبنائه دور، وخصوصاً أن بعضهم من أهل العلم الشرعي، بأن يكون لهم ولأبناء فضيلة شيخنا المحدث محمد المختار الشنقيطي دور علمي في هذه المؤسسات الدينية العريقة، كما أننا نتطلع أن يكون لأبناء السيد محمد علوي المالكي وفي مقدمتهم ابنه الشيخ أحمد، وابن أخيه الشيخ علوي، دور يتناسب مع هذا العصر الذي تتكالب فيه قوى الشر والطغيان على شرع الله ودينه، وتطاولت القوى الصليبية والأفكار الإلحادية على أعز ما يملك الإنسان المسلم في دنياه، وهو إيمانه وعقيدته، وهو ما يحتاج لوقفة قوية وحازمة آخذة في حسبانها المتغيرات والوسائل الحديثة، وسالكة درباً وسطاً ومعتدلاً لا تضيع معه أوامر الله ونواهيه، ولكنها تتحقق بأساليب الرفق والمحبة، بعيداً عن كل غلظة وجفوة ترفضها الفطرة السليمة التي فطر الله عليها عباده.
 
طباعة
 القراءات :393  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 102 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء التاسع - رسائل تحية وإشادة بالإصدارات: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج