شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أحمد محمد جَمَال.. أديبًا ومُفكّرًا وفقيهًا (1343-1413هـ)
 
عندما كنا طلابًا في المراحل الإعدادية من الدراسة، كان اسم الأديب والكاتب أحمد محمد جمال يمثّل شيئًا كبيرًا بالنسبة لنا في تلك المرحلة من حياتنا، ولعلّه وثق علاقته مع الأجيال من خلال الزاوية التي كان يكتبها في صحيفة الندوة بداية ثم في صحيفة المدينة، وكان كتّاب من أمثال صالح وأحمد جمال، ومحمد عمر توفيق، وأحمد عبيدالمدني قد عرفوا بالجرأة في طرح الرأي، ودفع بعضهم بسبب هذه الجرأة ثمنًا غاليًا، ومع مرور الزمن تبوأ بعض الكتّاب والأدباء من أمثال عبدالعزيز الرفاعي وأحمد عبيد ومحمد عمر توفيق وسواهم، مراكز مرموقة في العمل الإداري، ولكن أحمد جمال ظل يحمل ملامح الأستاذ والمعلم ولعل نشأته الأولى في طلب العلم بالمسجد الحرام -فلقد كان هو ووصيفه الشاعر حسن عبدالله قرشي من أبرز من أنجبت مدرسة السيد علوي بن عباس المالكي الفقهية- كما تأثر عبدالعزيز الرفاعي بشيخه العلاّمة السيد محمد أمين كتبي، كما كان فضيلة الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان من أبرز طلاب حلقة الفقيه المالكي-المجتهد العلاّمة حسن المشاط، نعم: لقد كان لتلك النشأة في ظلال البيت الحرام حيث أجواء الروحانية التي تصبغ كل شيء حولها وحيث الرمز الذي تلتقي عنده جميع النفوس وتستجلب رحمات العلي القدير من زمزمه ومقامه وحطيمه، كان لهذا وسواه في البلد الذي شهد بدايات النهضة الأدبية والفكرية في بلادنا -أعني مكة المكرمة- شرفها الله، أثره البالغ في التوجه الفكري الذي عُرف به (أحمد جمال) ولم يحد عنه حتى انتقاله إلى جوار ربه في يوم مشهود -هو يوم عرفه-، فهو في شعره الذي مثله ديوان الأول والأخير (الطلائع) ينحو منحى الشعراء العذريين الذين أبدعوا أجمل ما قيل في الشعر العذري والعفيف وكان شعرهم يمثل مرحلة جديدة من مراحل تطور فنون الأدب العربي ومغايرًا لذلك الشعر الذي تغنى به الشعراء حسيًا إلى حدِّ التهتك في ما وصل إلينا من شعر امرئ القيس وسواه من أصحاب المعلقات ولكن الأستاذ جمال يهجر الشعر ويلتفت إلى ضروب أخرى من الكتابة الأدبية والتاريخية فكان كتابه الصغير في حجمه الكبير، في ما احتواه من مادة تدخل في فن التأريخ الأدبي وأعني به (ماذا في الحجار؟) وهذا المؤلف لا يقل قيمة في مادته عمّا دونه الرجل الذي ظلم في تاريخنا الأدبي وأعني به الأستاذ عبدالسلام طاهر الساسي، فكتبه القيمة من مثل (الشعراء الثلاثة) و(الأدب المقارن) و(شعراء الحجاز في العصر الحديث) و(الموسوعة الأدبية لأدباء وشعراء المملكة السعودية) هذه وسواها ويضاف إليها ما كتبه الأستاذ عبدالله بن خميس في (شعراء نجد المعاصرون) والأستاذ الرائد محمد بن أحمد العقيلي في كتابه عن أدباء جازان وشعرائها- تكملة لما بدأه من أعماله الموسوعية عن المخلاف السليماني وغير هؤلاء من دارسي الأدب أو المؤرخين له.
فهذه الكتب تعد مصادر أولى عن أدبنا في حقبته الحديثة والتي استهلها الأستاذ والأديب محمد حسن عوَّاد بكتابه (خواطر مصرحة) والذي أصدره الرائد والمصلح الاجتماعي العوّاد قبل حوالي ثمانين عاماً سنة 1345هـ إلى الدائرة العربية والإسلامية بكتاباته التي وضع لها عنوانًا هاماً، وهو (التفسير والمفسرون) وهي حصيلة هامة لمطالعاته في كتب قدامى المفسرين والمعاصرين منهم، عن آيات الذكر الحكيم، وإذا ما عرفنا أن المرحوم جمال كان من الجيل الذي حفظ القرآن وانكب عليه قارئًا ومتدبرًا ومؤملاً وهو يذكرني في هذا المنحى بما كتبه عن (مائدة القرآن) بما وعته ذاكرة شيخنا المحدث والفقيه محمد الأمين الجكني الشنقيطي، فأخرج لنا موسوعة في تفسير القرآن وعلومه والتي دعاها -رحمه الله- بأضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، كما يبدو الدكتور الفقيه (محمد عبدالله دراز) متميزًا في دراسته القيمة التي حملت اسم (النبأ العظيم) إضافة إلى ما كتبه من دراسات بالفرنسية عن الدين، وهي دراسات عميقة وتعطينا دليلاً على أن ذلك الجيل الذي درس في فرنسا من مثل الدكتور (دراز) وفضيلة الشيخ عبدالحليم محمود أو أولئك الذين اختاروا الجامعات البريطانية للدراسة فيها من أمثال العالم الدكتور عبدالله الطيب، صاحب (المرشد إلى فهم أشعار العرب) ومحمد الطيباوي في مؤلفاته القيمة عن التربية الإسلامية وخصوصًا عن الإمام أبي حامد الغزالي وآرائه التربوية التي تمثلت في كتابه القيم (أيها الولد) وكذلك الدكتور وليد عرفات في اهتماماته بالأدب العربي القديم ودراساته المعتمدة عن الانتحال في الشعر الجاهلي، وكان اطلاع عرفات والذي عرفته عن قرب في جامعة (لانكستر) البريطانية. نعم لقد كان اطلاعه على الأدب الذي كتب باللغة اللاتينية، لا يقل عمقًا ودراية عن معرفته بالشعر العربي قديمه وجديده، وإن أهم دراستين خرجتا عن الأدب العربي الحديث والتي كتبها كل من س: موريه، وسلمى الجيوسي، كانت بإشراف عرفات في مدرسة الدراسات العربية والأفريقية بجامعة لندن، هذا كله يعطينا دليلاً على أن هذه الشخصيات أخذت من حضارة الغرب ما هو مفيد وإيجابي دون أن تفقد هويتها الثقافية والقارية.
ولقد ذكر الأستاذ عبدالرحمن بن عقيل الظاهري قبل أكثر من ربع قرن من الزمن بأن قلة من أدباء ومفكري هذا البلد عرفوا عربيًا وإسلاميًّا وأن الأستاذ أحمد جمال من هذه القلة التي فرضت وجودها بما انتجته من أدب رصين، وفكر عميق على الساحتين المحلية والعربية كما أشار إلى هذا المنحى أيضًا أستاذنا الدكتور مصطفى عبدالواحد.
لم يحمل أحمد جمال لقبًا من الألقاب العلمية المعروفة، ولكنه كان أكبر من هذه الألقاب العلمية، فهو وبعض خريجي جامعة البلد الحرام دردوم، وعبدالوهاب أبو سليمان، قد أفادوا من حلقات العلم والتي كانت تمثل نموذجًا للفكر الإسلامي الوسط باتجاهاتها الفقهية المختلفة، وكان طالب العلم يتنقل بين حلقات العلم دون وصاية من أحد، ودون أن يشعر بأن أحدًا يحاسبه على رأيه في هذه المسألة العلمية أو تلك، وكان علماء تلك الحلقات في مكة المكرمة والمدينة يقدرون بعضهم البعض ويحتفظ كل واحد منهم لنظيره بمساحة كبيرة من الاحترام، والقبول للرأي ونقيضه والمسألة وخلافها في علوم الدين والعربية على حد سواء بعلمه الموسوعي دخل أحمد جمال رحاب جامعة الملك عبدالعزيز عند نشأتها في منتصف الثمانينيات الهجرية، الستينيات الميلادية، دخلها مدرسًا لمادة الثقافة الإسلامية، وعندما بدأنا دراستنا الجامعية في مكة المكرمة في بداية التسعينيات الهجرية كان اسم أحمد جمال يأتي في مقدمة مَن أكرمنا الله بأخذ العلم عنهم، كان يشرح مادته ويلقي درسه دون أن ينظر في كتاب ولكأنه يستوحي في ذلك صورة شيخه المحدث البليغ السيد علوي المالكي في رحاب بيت الله الحرام، ولقد كان كما أعرف شخصيًا من أبرع المتحدثين الذين سمعتهم في حياتي وكان صوت السيد علوي ينطلق عبر المذياع كل يوم جمعة في خشوع وتبتل وهو نتاج ما أخذ به ذلك الجيل نفسه عليه من الجد في طلب العلم والعبادة والذكر فصفت نفوسهم وخشعت جوارحهم وصدقت أفعالهم، ولهذا كانت تأتي مواعظهم مؤثرة وبليغة وبارك الله لهم في العلم الشرعي المجرد الذي ابتغوا به وجه الله، وفي هذا السياق فإن التأثير الذي تركه أحمد جمال سواء في عالم الكلمة والصحافة أو في علوم الشريعة والفكر الإسلامي، كان من أسباب ذيوعه هو سلوكيات الأستاذ "جمال"، فلقد كان زاهدًا في التكفف على الأبواب ولم يكن لتجذبه إغراءات موائد الشهرة والسمعة والثراء.
ولقد حدثني أستاذنا الفاضل محمد صلاح الدين نقلاً عن الشيخ الشاعر أحمد إبراهيم الغزاوي -رحمه الله- والذي كان نائبًا لمجلس الشورى الأول الذي أُنشأ في عهد الملك عبدالعزيز، ودخله أحمد جمال شابًا يافعًا كما دخله من قبل مشائخ وأدباء من أمثال حسن المشاط وأحمد العربي، وسليمان الصنيع، ومحمود عارف، وعبدالقدوس الأنصاري، ومحمد المغيري فتح، والسيد عبيد عبدالله مدني، -رحمهم الله جميعًا-، وحدث أن جاء كما تقول الرواية الموثقة مسؤول إداري ليناقش مع أعضاء المجلس قضية ما، وكأنه اشتط في حديثه معهم، فلما أنهى مداخلته انبرى له الأستاذ أحمد جمال وكانت بداية مداخلته القوية عليه التي لم يكن ليقوى عليها سوى رجل من طراز أحمد جمال، كانت مداخلته البيت الشعري المعروف:
جاء شقيق عارضًا رمحه
إن بني عمك فيهم رماح
لقد أحب الأستاذ أحمد جمال منذ يفاعته مصر، وكان كثير التردد عليها، ولعله قضى في حقبة الستينيات الميلادية زمنًا فيها، وفي شهر ذي الحجة من عام 1413هـ، سافر مع بعض أفراد أسرته ليقضي وقتًا في ربوع القاهرة، فشاءت القدرة الإلهية أن يأتيه الأجل في يوم التاسع من شهر ذي الحجة، أي في يوم "عرفة"، وتلك خاتمة حسنة وبشرى للمؤمن الصادق الذي قضى حياته منافحًا عن كلمة الإيمان والحق، في أدب وتواضع وأخلاق رفيعة طبع عليها المرحوم أحمد جمال منذ نشأته الأولى في رحاب البلد الذي شهدت وديانه وجباله مولد سيد الكائنات عليه صلاة الله وسلامه، وتنزل آيات الوحي العظيم الذي جاء ليخرج العرب من جاهليتهم ونزعاتهم العرقية وتفاخرهم بالأحساب والأنساب ليكونوا أمة الكلمة التي انطلقت من غار حراء مدوية في قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم (العلق: 1-5).
 
 
طباعة
 القراءات :230  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 95 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.