شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أسماء وآثار في دروب العلم والمعرفة بطيبة الطيبة..
كان للتو خارجاً من التيه، تقلبت به الأيام بين أماكن عدة لطلب العلم، كتاب الحلبي المحمّدية في حوش منصور، والعلوم الشرعية في باب المجيدي، والمنصورية في الهاشمية، ومتوسطة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسيل ثم في العوالي، وكان يتوق للمزيد من هذا التيه الذي لازمه كظله منذ النشأة وحتى سني الكهولة.
كان يومًا مشهودًا في حياته عندما وطئت قدماه مدرسة طيبة الثانوية في باب العنبرية، كان يسير من الزاهدية متأبطًا كتبه، هذه دروب (المغيسلة) ونزلة الحيور، وتلك (كاتبية السنوسي) وهذه (القشلة) والتي أضحت في ما بعد مقرًا للإمارة، تقف به أقدامه عند بناء المدرسة المؤسس على الحجر المنحوت من جبال المدينة، وكأن بينه وبين بناء محطة سكة الحديد ومسجدها ذي المنائر الحجرية الشاهقة صلة ونسبًا، وذكروا أن السلطان عبدالحميد ـ آخر سلاطين بني عثمان ـ كان قد أمر ببناء جامعة إسلامية في نفس المكان الذي أضحت المدرسة تحتله، ولكن تاريخ بني عثمان كان الزمن قد توقف به، فلقد كان الغرب ينهش في الجسد المريض ويُحولّه مزقًا.
في المدرسة سمع باسم المربي الأستاذ أحمد بوشناق، كان يدير المدرسة بدقة وانتظام، من خلف أبواب مكتبه، وكان قليل الخروج لفناء المدرسة، ولكن الفتى قاده فضوله يومًا؛ فطرق بابه ودخل، ووجده يمسك كتابًا باللغة الإنجليزية يقرأه، قالوا له في ما بعد إنه كان نهمًا للمعرفة، وكان يستهويه أسلوب القص عند الروائيين الإنجليز، وعندما سمع الفتى في مرحلة لاحقة الأديب والصحافي والسياسي المعروف (مايكل فووت) يخطب تحت قبة البرلمان، أدرك أن البلاغة والفصاحة ربما هجرت قومها ونزحت إلى -هناك- واستقرت فكانت قرينة الكلمة الحرة التي تردد صداها جنبات المجلس، وتلوح لها الأيدي إعجابًا بأوراق المساءلة والمصارحة، وهناك تذكر الفتى الأستاذ والمربي البوشناق الذي انفتح على ثقافة الآخر فنهل منها، وهو الذي شبع أيضًا من منابع الثقافة العربية والإسلامية فكان ذلك التمازج والتماهي الحضاري الفاعل، وتمر الأيام على الفتى في طيبة الثانوية يتعرف على وجوه جديدة من الزملاء، محمّد خشيم، وعبدالملك القين، وعلي غرارة، وأسامة ومحمّد عبدالحكيم عثمان، وخالد السيد محمّد أحمد بكري، ورضا غباشي، وحمزة أبوطربوش، وصبري عويضة، وأحمد كاتب، وعبدالله بخيت، مع وجوه أخرى عرفها في فناء الهاشمية من قبل: عبدالرحمن عبدالله يماني، وخالد عبدالفتاح كردي، وعلي دمياطي، وعبدالعزيز عباس صقر، وسعود حكيم، وكان خالد كردي الرفيق والنصير.
كانت طيبة الثانوية في حقبة الثمانينيات والتسعينيات الهجرية تحفل بأسماء كبيرة من أساتذة العلم والمعرفة في شتى الفنون، الأساتذة الكرام: محمّد سعيد دفتردار، وسالم الحامد، ومحمّد الرويثي -رحمه الله-, وصالح حبيب، وعبدالحميد الأصيل، ومدرسة لغة الإنجليز وأدبهم (إفتاب)، وخالد الجر، ومحمّد العيد الخطراوي، وحمدان الجهني، وضياء علوي، ورجل بصير يتقد ذكاء اسمه (الشيخ أبوسيف)، كان زميلاً لجيل الأستاذ (الدفتردار) في جامعة الأزهر، وكان في جدة ذكائه يشبه أستاذنا الراحل حسين الخطيب -رحمه الله-وفي الروضة الشريفة العامرة بالألسنة الطاهرة المرددة لذكر الله والصلاة على حبيبه ومصطفاه صلّى الله عليه وسلّم، قرأ الفتى على الأستاذ (الخطيب) سيرة ابن هشام، وكان أول من زجّ بالفتى في بعض علوم القوم مثل (الرعاية لحقوق الله) والتوهم في وصف الآخرة و(رسالة المسترشدين) للإمام الحارث المحاسبي، وكتاب آخر هام في علوم الأصول لشيخ الإسلام العز بن عبدالسلام والموسوم (قواعد الأحكام).
ولن ينسى الفتى وجيله ذلك الوجه المشرق الذي يرعى الطلاب عند دخولهم إلى المدرسة وخروجهم إلى فنائها الرحب، وأعني به الأستاذ محمّد علي اسكندراني، وإنني أنتمي لجيل لم يكن ليقوى أن يرفع بصره في أساتذته، أدبونا في البيوت فأرحناهم من عناء طفولتنا خارجها، قسوا علينا قسوة المحب والرحيم، فكان منا العصاميون الذين قرأوا العقاد، وطه حسين، ومحمّد محمّد حسين، والرافعي، ومصطفى السباعي، وأبي حامد الغزالي ـ حجة الإسلام ـ ومحمّد الغزالي السقا، وعبدالقادر عودة، وشحاتة عرب، والعواد، والسرحان، وماجد الحسيني، والسباعي، وأمين مدني، والأنصاري، والجاسر، وعبدالله بن خميس، وحسن الصيرفي.. وغيرهم، ولم نزل بعد في المرحلة الثانوية وجيل اليوم تسأله عن شحاتة والعواد والزمخشري وهو في المرحلة الجامعية فيجيبك ربما كانوا لاعبي كرة أو نجوم غناء هجين! ليس له صلة بإبداعات سيد درويش ومحمّد عبدالوهاب، ويتبرأ منه الغربيون لأن مقلدي فنهم من عرب وأفريقيين قد مسخوه أو صلبوه.
يدين جيل العلوم الشرعية وسواها وطيبة الثانوية ونظيرتها أحد والتي فتح لنا فيها رجال من أمثال المربي الأستاذ عبدالله خطيري صدورهم، وعطفوا علينا عطف الآباء على أبنائهم، ورفقوا بنا رفق الإخوة الكبار في كل شيء، بفتية لم يشتد عودهم بعد، ولم تصهرهم الحياة بتجاربها بعد، يدين لمدرسة الإسلام الأولى بكثير من ضروب العلم والسلوك والوسطية.
وجد جيلنا في طيبة الطيبة جامعة الحرم الشريف، بحلقاتها الشرعية واللغوية تشرع أبوابها منذ صلاة الفجر حتى صلاة العشاء الأخيرة، وكان الرأي والرأي الآخر متاحًا في تلك الحلقات، والفضل يعود في هذه الأجواء المنفتحة في جامعة الحرم المفتوحة بالمدينة المنورة لرجل مثل فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح ـ أسكنه الله فسيح جناته ـ والذي كان أول من تنبه، بعد التعدي على حرمة بيت الله الحرام ومبايعة مهدي العصر المزعومة، والتي تكررت صور منها أخيرا، لقد تنبه الشيخ ابن صالح فرفع صوته الجهوري والمؤثر من منبر مسجد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- محذرًا الصبيان من الانقياد وراء الفتاوى المتشددة، والنزعات التكفيرية، كما رعى فضيلة الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- في مكة المكرمة هو الآخر بفقهه الواسع وسماحته وانفتاحه وسعة صدره، رعى الشيخ ابن حميد ما يمكن أن نطلق عليه مائدة الحوار من خلال حلقات العلم المتعددة في مشاربها على مقربة من بيت الله، الذي خاطب فيه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يوم دخوله مكة المكرمة في عام الفتح القوم الذين أخرجوه، خاطبهم بخلقه العظيم الذي فطره عليه المولى، خاطبهم بلغة الحب والصفاء والعفو والتسامح بقوله: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وهذا أول بيان في التاريخ للنزعة الإنسانية التي جاءت بها ودعت إليها تعاليم الدين الخاتم.
هناك جيل سبقنا، علمنا كيف نقرأ، ويبرز في مقدمتهم اسم أستاذنا المربي والأديب محمّد حميدة، واسم الفيلسوف الزاهد عبدالله سلامة الجهني الذي عاش وحيدًا ومات وحيدًا وهو يتأبط الكتاب، ونثر مداد قلمه داعيًا إلى مكارم الأخلاق، وشمائل الإحسان، وكذلك كان صنيع ناشر المعرفة في بلد الحبيب -صلّى الله عليه وسلّم- عن طريق الكتاب المخطوط والمطبوع الشيخ جعفر بن إبراهيم فقيه، ورفيق دربه المؤرخ والشاعر والناقد السيد عبيد عبدالله مدني، فلقد كانت مكتبته المليئة بنفائس التراث العربي والإسلامي والإنساني متاحة للجميع، وكأنها الإضافة للمكتبات التي كانت تحيط بالمسجد النبوي الشريف مثل عارف حكمت، والمحمودية، والمكتبة العامة، ومكتبة رباط سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ومكتبة آل مظهر الفاروقي في حي الأغوات، ومكتبة السادة آل هاشم في حي الساحة الطيب الذكر، ومكتبة الشيخ العلاّمة أمين الطرابلسي التي بيعت نفائسها بحفنة من الدراهم بعد انتقاله إلى الدار الآخرة، فلقد ورث الطرابلسي العلم فلم يكن ليعبأ بحطام الدنيا الفاني، فلقد كانت أشواق الروح هي التي تستحثه في مسيرته العلمية المباركة، ولقد رأيت دمعة في عين الشيخ جعفر فقيه -رحمه الله- عندما امتدت حركة الهدم لحارة الأغوات، وجاء أحدهم إليه بأوراق متناثرة من كتب مخطوطة لم تفرق الآلة بينها وبين التراب الذي كان يتساقط في أزقة الحارة، ويغطي معه على الأثر والكتاب.
 
طباعة
 القراءات :229  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 90 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء التاسع - رسائل تحية وإشادة بالإصدارات: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج