شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مَي غَصُوب.. صانعة التواصل الحضاري على ضفاف التميز ..
كنت أقطع الطريق في مدينة لندن من المتحف البريطاني حيث يرقد تراث عربي جلبه الإنجليز من بلاد الآخرين، أو جلبه لهم قوم من بني جلدتنا، متجهًا إلى "كوينز ويي"، في الطريق كان المذياع ينقل صوت الكاتب المسرحي البريطاني "جيم موليتمر Jim Molitimer يرد، حيث يجتمع الرفاق من حزب الطبقة العاملة، على نظرة مارجريت تاتشر الفوقية، الداعية إلى مجتمع القيم الفكتورية، "موليتمر" صوت الحرية في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم يرتفع بلغة لندنية راقية: إننا ـ يا صديقي ـ لا نفتخر بالماضي الاستعماري الذي صنعه أصحاب الياقات الزرقاء، في إشارة إلى زعماء الحزب المحافظ، بلدوين، تشمبرلين، تشرشل، مكميلان، إيدن، والذين كانت تاتشر تستحضر صنيعهم طوال عقد من الزمن أو أكثر.
وتحت زخات المطر، التي لم يكن للفتى عهد بشدتها، استوقفته مكتبة تعرض كتبًا عربية، توقف، في الداخل كانت سيدة عربية الملامح ترد على استفسارات القادمين إلى المكتبة، انتظر دوره وسألها عما يبحث عنه، طلبت منه، في أدب، الجلوس، حتى تمكنه من الحصول على كتب عز وجودها تحت سماء بلاد العروبة، فتوجه عشاق القراءة ليجدوها غير بعيدة عن "ويستمنستر" حيث تحترم الكلمة، وتعرف معاني الحرية.
لم تكن تلك السيدة المهذبة في ديار الغربة إلا الأخت مي غصوب، والتي نزحت من جحيم الحرب الأهلية في لبنان لتفتح مع رفاق لها دارًا للنشر بعيدًا عن العصبيات والعرقيات، وطوال السنين التي قضيتها بين (أدنبرة) و(لانكستر) و(مانشستر) كانت "دار الساقي" تهيئ لي باللغتين العربية والإنجليزية ما أحتاجه من كتب ودوريات، وبثت يومًا شكواها من سلوكيات بعض بني قومنا، الذين تسكنهم الأوهام والظنون عن المرأة شرقية كانت أم غربية.
وكنت أقصد الساقي مع زملاء عرفتهم في ديار الغرب مثل محمّد آل زلفة، وفواز الفواز، فكانت بطباعها العربية الأصيلة التي لم تفقدها، مثل البعض، عندما نزحت إلى هناك، كانت المثقفة والأديبة والفنانة "مي" تدعونا لشرب فنجان القهوة، ولم أسألها يومًا ما إلى أي فئات المجتمع اللبناني تنتسب، فلقد كانت تكفيني الإجابة أو بالأصح التطلع إلى معرفة هويتها بالقول إنها تنتمي إلى "لبنان" فقط، فلقد كانت واعية إلى حد كبير بمخاطر التقسيم الطائفي، وكأنها تستشرف الأفق بحسها الرفيع إلى حاضر تنزف فيه الأمة من هذا الداء العضال، الذي لم يسلم من جرثومته إلا القليل.
أضحت "دار الساقي" في لندن بجهود المبدعة "مي" معلمًا حضاريًا وثقافيًا، فهي لم تكتف بطبع الكتاب العربي شعرًا ورواية وسيرة، حيث تعز طباعة الإبداع عربيًا فيتوجه غربيًا، بل كانت "الساقي" تهيئ اللقاءات الفكرية للحوار والمناقشة إزاء قضايا تفاعل الآداب واللغات، وأضحى كثير من المستعربين يجدون في الساقي ما يمكنهم من الوقوف على التراث الحضاري والفكري والأدبي المكتوب بلغة الضاد، -والتي كانت يومًا لغة العلم والحضارة وفي الحقبة التي استطاع الإسلام بقيمه ومبادئه أن ينزع فيها عن العرب ثوب العصبية ويلبسهم عوضًا عنها وشاحًا من التسامح والمحبة والتواصل مع الآخر، في يوم كان يحل فيه العربي في أصقاع الأرض فيحمل بسلوكه أرفع معاني الحياة، وكان ذلك كافيًا ليدخل الناس في دين الله أفواجًا.
عندما تركت بريطانيا في منتصف ثمانينيات القرن الميلادي المنصرم وعدت إلى ارض الوطن، لم تنقطع صلتي بـ"الساقي"، وكانت "مي" تبعث للجميع بآخر إصدارات الدار ذات الملامح العربية التي وكأنها وُجدت – هناك- لتوحدهم في زمن عز فيه الالتقاء، وتبعثرت-بفعل التشدد يمينًا ويسارًا موائد للحب والصفاء، وما أقسى الحياة من دون حب، وما أشدها عندما يخترم سوء الظن القلوب فتغلي في داخلها ضروب أو سموم من الشحناء والبغضاء، وذلك ما جناه علينا قوم توهموا أنهم الأنقى في كل شيء، بينما نيران الحقد تضطرم من حولهم.
بعد عقدين من الزمن، وفي صيف عام 2005م، قصدت "الساقي" مع الابن السيد شرف أحمد زكي يماني، ودخلت المكتبة، ووجدتها كما تركتها ونزلت الأخت (مي) لترحب بنا، والغريب أنني لم اسألها عما أريد من الكتب، فوجدتها تتنقل بين أرجاء المكتبة لتزودني بما تعرف أنه يدخل في اهتماماتي، وتوجهت للابن (شرف) لتحمله سلامًا لوالده، ولتزوده بدعوة أخالها كانت عن ندوة عن الشاعر سعد الشيرازي، ولم أعلم أنني لن أقابل الأخت مي بعد ذلك، وأنني لن أسمع بعد ذلك صوت (سير مولتمير) الذي أضحى مقعدًا، وهو الذي كتب ورفاقه من أمثال مايكل فووت Michael Foot فصلاً جديدًا في تحرر بريطانيا من ماضيها الاستعماري، وكان صنيعهم في الستينيات والسبعينيات الميلادية من القرن الماضي هو ما دفع حركة تخليص الرقيق من الظهور علنًا -أخيرًا- والاعتراف للمقهورين عن أخطاء ارتكبها الأسلاف، فجاءت أجيال واعية لتعترف بحق الآخر في الحياة، وأننا نتطلع إلى يوم يعترف فيه الغرب بـ"الهولوكوست" الفلسطيني الذي ارتكب على يد ضحايا الأمس.
في يوم الجمعة الماضي 23 فبراير 2007م قرأت مقالاً حزينًا للأستاذ جهاد الخازن في صحيفة الحياة، يرثي فيه صانعة الالتقاء الحضاري (مي غصوب)، ولم أتمكن من كتابة هذا المقال إلا بعد أسبوع آخر من رثاء (الخازن)، و(وران)، و(الذيابي) وغيرهم لها، فلقد كانت (مي) من الإنسانية ما كان يحملنا جميعًا إلى الاعتقاد بأنها أخت لنا، ويكتسب الإخاء معاني أكبر وأعمق عندما يكون في ديار الغربة، فاللهم ارحمها برحمتك التي شملت كل شيء، وألهم روحها وأسرتها والمجتمع العربي المثقف في بريطانيا صبرًا جميلاً وسلوانًا.
طباعة
 القراءات :236  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 78 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج